123

ويتخير لنفسه فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة؛ قال الله لنبيه في محكم كتابه: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله؛ فإن كان مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله. ﴿وشاورهم في الأمر قال: يعني الاسختارة.

إلا أن هذه الرواية لم تدل على أن الغرض الأساس في المشورة في الآية الشريفة كان هو اكتشاف الأصح، فلا يمكن أن نثبت وجوب المشورة بالآية الكريمة كقاعدة عامة من باب الوصول الى ما ينبغي العمل به.

ثم ان هذه الرواية ضعيفة سنداً، لعدم معرفتنا بالرواة الذين كانوا الواسطة بين العياشي وأحمد بن محمد.

وإذ قد أثبتنا ـ الى هنا ـ عدم وجود دلالة على ان الشورى في الآية فإنما كانت للعمل برأي الأكثرية قلنا: ان هناك دلالة على خلاف ذلك تستفاد من قوله تعالى: ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله، فهذا يعني عدم وجوب العمل برأي المشاورين. فليس المفروض في مورد الآية التشاور لاتباع نتيجة رأيهم أياً كانت، وإنما طلبت منه (صلى الله عليه وآله) أن يشاورهم ثم يتخذ هو القرار النهائي، ويتوكل على الله.

ومن هنا، فليس من الصحيح ما جاء في تفسير المنار حيث فسر ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله بالعزم على امضاء ما ترجحه

124

الشورى(1)، لأن هذا الكلام إنما يتم لو كان صدر الآية ظاهراً في الإلزام باتباع رأي الأكثر، فيحمل عندئذ "فإذا عزمت" على امضاء ما ترجحه الشورى، أما مع عدم ظهور الصدر في ذلك فإن قوله تعالى "فإذا عزمت" محذوف المتعلق؛ أي لم يذكر العزم على ماذا، وهذا الحذف يصبح ظاهراً في أن متعلق العزم عبارة عما يرتئيه هو بنفسه(2). وتكون الآية ظاهرة في المحتمل الثالث من المحتملات التي ذكرناها في الشورى، وهو مجرد طلب الاسترشاد بآراء الآخرين بلا أي إلزام في البين.

الوجه الثاني:

أنه لا يمكن تفسير الآية الكريمة بفرض أي ولاية للمستشارين أو الأكثرية، فمن الواضح عدم وجود أي حاكمية أو ولاية لأي جهة في مورد الآية ـ وهو النبي (صلى الله عليه وآله) ـ إذ هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا قالوا: أن عمل النبي بالشورى كان لغرض تدريب الناس على الالتزام بهذا النظام وإن لم يكن بنفسه محتاجاً الى الشورى ولم تكن للمشاورين أي ولاية عليه.



(1) تفسير المنار ج4 ص205.

(2) أي أنه متى ما حذف متعلق العزم من دون قرينة على تعيين المحذوف كان ظاهره عرفاً ان متعلقه هو رأي نفس العازم.

125

قلنا: انه إذا لم نقبل وجود الولاية في المورد الذي صرحت الآية به، فكيف نقبل دلالتها على الولاية في غير موردها(1)؟!

البحث عن آية ﴿وأمرهم شورى بينهم

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم.

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: أنه لا إشكال في أن المفروض عادة في باب الاستشارة أن المستشير يعمل بعد الاستشارة برأي ما، فما هو الرأي الذي يعمل به في المقام، وهل يتعين أن يكون هو رأي المستشارين أو أكثريتهم مثلاً، أو لا يتعين ذلك، بل قد يطرح رأي المستشارين جميعاً ويعمل برأي نفسه لإقوائية أدلته، أو لأن كل واحد من المستشارين دله على نقاط ضعف كلام الآخر مثلاً، أو أن هناك ولياً آخر في المجتمع غير الأكثرية، أو من تعينه الأكثرية يتعين الأخذ برأيه، وإنما كانت الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الناس، فقد تؤثر أفكار الناس على الولي وتنير الدرب أمامه؟

فهذه فروض ثلاثة:

1 ـ فرض العمل برأي المستشارين.

2 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين، ثم يعمل المستشير بما يرتئيه هو.

3 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار المستشارين،



(1) يقول الأصوليون: ان خروج المورد من العام مستهجن عرفاً.

126

ثم الذي يصمم على رأي معين ويتبع الآخرون رأيه هو ولي المجتمع لا الأكثرية.

اما الفرض الأول فهو المقصود.

وأما الفرض الثاني، وهو أنه قد يأخذ المستشير برأي نفسه ويطرح رأي المستشارين فهذا يتوقف على المغايرة بين المستشير والمستشار، بينما نجد هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة التي أضافت الأمر الى ضمير راجع الى نفس المستشارين.

وأما الفرض الثالث، وهو افتراض وجود شخص ما غير تمام المستشارين أو أكثريتهم يجب الرجوع إليه، فهو وإن كان محتملاً في المقام، ولكنه خلاف الظاهر في الآية الشريفة، وكذا في رواية "أموركم شورى بينكم"، وذلك بنكتة عدم وجود أي إشارة في الكلام من قريب أو بعيد الى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه(1).

إذن فالمتعين هو الفرض الأول، وهو العمل برأي المستشارين أنفسهم أو أكثريتهم. وهذا يعني إعطاء الولاية للأمة أو الأكثرية؛ إما ولاية جزئية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب كما هو الحال في المحتمل الثاني من المحتملات الثلاثة التي عرضناها لأدلة الشورى، أو ولاية عامة تتم على أساسها إقامة الدولة كما هو الحال في المحتمل الأول من تلك المحتملات الثلاثة. وهذا هو المتعين



(1) راجع الملحق رقم (1).

127

بمقتضى إطلاق الدليل، فإن التقيد بتلك الدائرة الخاصة هو الذي يحتاج الى القرينة(1).

وقد يقال: انه لا يستفاد من الآية الشريفة وجوب الالتزام بالشورى، وذلك لأن سياق الآية يمنع عن الدلالة على الوجوب، قال الله تعالى: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون* والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، حيث نلاحظ أن جملة ﴿أمرهم شورى بينهم وقعت في سياق جمل عديدة تبين تعاليم اخلاقية للشريعة بعضها واجب وبعضها مستحب وبعضها يكون في بعض الفروض واجباً وفي بعض الفروض غير واجب، بل أحياناً غير صحيح، كالإنفاق مما رزقهم الله تعالى، وهذا السياق يكسر الدلالة على الوجوب.

إلا أن هذه المناقشة إنما تفيد في مقابل جعل الآية الشريفة دالة على الوجوب بعد تطبيقها على المحتمل الثالث من الشورى، فتكون الآية أمراً بالمشورة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين. وهكذا يتردد الأمر بين أن يكون هذا الأمر أمراً وجوبياً أو استحبابياً، وعندئذ



(1) راجع الملحق رقم (2).

128

يقال: إن السياق المذكور لا يدع الأمر دالاً على الوجوب.

أما إذا فسرنا الآية بتشاور المسلمين فيما بينهم في أمورهم واتباع رأي الأكثرية دون مجرد الاستضاءة بالأفكار والتجارب، فإن العرف لا يحتمل أن يكون الأمر أمراً استحبابياً، لأنه يتعلق بمبدأ هام لحل مشاكل المجتمع الاسلامي وإدارة شؤونه العامة. ومعه يقال: ان الشورى إما أن تنتج الولاية العامة التي تشكل أساس الحل الاجتماعي أولا، فإن لم تكن تنتج الولاية شرعاً لم تكن علاجاً للمشكلة الاجتماعية، فلا معنى للأمر بها سواء كان الأمر للوجوب أو للاستحباب. وإن كانت تؤدي الى ولاية شرعية عامة لمن ينتخب أو للأكثرية كي تنحل المشكلة بذلك اذن فالأمر للوجوب، فإن اتباع الولي أمر واجب، ولا معنى لجعله مستحباً، إذ الاتباع الاستحبابي وغير الإلزامي ليس أساساً لحل المشكلة الاجتماعية.

وهكذا بينا أقصى ما يمكن ذكره في تأكيد الاستدلال بالآية الكريمة على جعل الشورى أساساً لبناء الدولة الاسلامية.

والواقع أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم، فصحيح أن مورد الآية الكريمة يبعد جداً أن يفترض فيه كون المستشير شخصاً أهمه أمر فاحتاج الى شخص آخر كمستشار له، دون أن يكون لهذا الآخر أي رابطة بالأمر المذكور، وإنما كان الأمر في الآية مضافاً للمستشارين أنفسهم، إلا أن هناك في مورد الآية احتمالين:

129

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود اتخاذ رأي المستشارين أو الأكثرية منهم مرجعاً في تحديد المواقف في القضايا العامة.

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود هو الشورى بمحتملها الثالث، أي مجرد استعانة الناس بعضهم ببعض في الأفكار والخبرات، مع فرض وجود ولي للأمر هو الذي يقرر المواقف ويحسم الأمر فيها، مستفيداً من مشورته واطلاعه على آراء الأخصائيين في كل مورد يرتبط بهم.

والاحتمال الثاني هذا هو الظاهر من الآية.

أما ما ذكرناه في معرض تقوية الاستدلال من أن فرض الأخذ برأي ولي الأمر خلاف الظاهر لاحتياجه الى قرينة ومؤونة زائدة غير مذكورة في الآية، فإنه غير صحيح باعتبار

ان الظاهر من الآية الكريمة أنها تصف جماعة المؤمنين ببعض الأوصاف الحسنة، وهي عبارة عن أفعال وتروك ـ أي امتناعات عن أفعال ـ وصفات مرغوب فيها شرعاً في زمان نزول الآية على الأقل.

أما افتراض أن بعض هذه الصفات مما يرغب الالتزام به في زمان مستقبل فحسب، حيث لا يكون أمراً حسناً إلا في ظرف يتحقق فيما بعد زمان نزول الآية؛ هذا الافتراض خلاف ظاهر الآية.

ومن الواضح أن الولاية الالهية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) كانت له لا للشورى، وانه كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم،

130

وقد أمر بالمشورة وترك له الخيار بأن يعزم فيتوكل على الله في تنفيذ عزمه، اما تشاوره مع الناس فإما انه كان لجلب النفوس وتطييب القلوب، أو أنه كان من باب معرفة آراء الآخرين ـ أي المحتمل الثالث ـ على أشد تقدير.

إن ظهور الآية في أنها تصف أناساً مؤمنين نموذجيين تحسن منهم هذه الصفات في زمان صدور الآية لا في زمن متأخر فحسب، وكذلك وضوح وجود ولي الأمر للمسلمين ـ وقتئذ ـ هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن لا ولاية أخرى تثبت عن طريق الشورى. كل هذا يشكل دليلاً وقرينة تكاد تكون متصلة بالآية، كأنه قد صرح بها على الأخذ برأي ولي الأمر بعد المشورة وقتئذ.

صحيح ما قلناه سابقاً: من أن فرض الأخذ برأي ولي الأمر بعد المشورة دون رأي المستشارين خلاف ظاهر الآية لولا القرينة.. ولكن قد عرفنا أن القرينة موجودة بنحو تشبه التصريح بها أثناء نزول الآية لأنها واضحة في الأذهان وضوحاً تاماً.

وبهذا يظهر أن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على منح الشورى الولاية الشرعية العامة استدلال باطل.

آية: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير

وفي ختام هذا البحث نود أن نسجل عجبنا الشديد ممن استدل على نظام الشورى بآية كريمة أخرى، هي قوله تعالى:

﴿ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون

131

عن المنكر وأولئك هم المفلحون(1).

ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير المنار(2) وقحطان الدوري في كتاب (الشورى بين النظرية والتطبيق)(3).

ونحن لا ندري كيف يمكن الاستدلال على نظام الشورى بالأمر بالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وهل يدل ذلك على أن أسلوب تطبيق المعروف وافناء المنكر عبارة عن اتباع الشورى أو التصويت؟ وأنى يدل على كون الشورى مبدأً للولاية العامة التي تشكل هي أساساً شرعياً لإدارة شؤون الدولة دون غيرها؟!

وعلى أي… فإن الاستدلال بأي آية أو رواية ـ حتى لو سلمتا من الإشكال الخاص عليهما ـ مبتلى بالملاحظة العامة التي عرضناها في مطلع الحديث عن الشورى بالتفصيل، حيث رأينا بوضوح عدم اهتمام القائد الأعظم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيان نظم الشورى ومبادئها، وكذلك عدم ورود شيء من ذلك ـ لدى الشيعة ـ عن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) قبل الغيبة.

ولو فرضنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمة (عليهم السلام)



(1) سورة آل عمران الآية 104.

(2) لمحمد رشيد رضا نقلاً عن الشيخ محمد عبده ج4 ص 45.

(3) لقحطان عبد الرحمن الدوري ص26

132

كان مهتماً بهذه المسألة ـ التي ترتبط بجانب حياتي هام جداً لا يمكن ان يترك مبهماً ـ لوصلنا شيء من البيانات والنصوص الشرعية الموضحة ـ على أقل تقدير ـ ولكننا نلاحظ عدم وصول شيء على الإطلاق.

اللهم الا ان نحتمل أن قوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم ينظر الى مستقبل لم يحن بعد لحد الآن، وحينذاك ستبين شروط الشورى وحدودها ونظمها ولو من قبل الامام المهدي (عليه السلام) حين ظهوره. وإن كان هذا الاحتمال في الآية الشريفة خلاف ظهورها في أنه وصف فعلي مستحسن حين نزول الآية وليست تبين حكم نظام يجب تطبيقه في المستقبل البعيد.

وعلى أي حال، فإننا لا يمكننا أن نستفيد من الآية ولا من أي دليل آخر كون الشورى أساساً لنظام الحكم بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو في عصر الغيبة.

وبهذا يتضح أن نظام الشورى أيضاً كالنظام الديموقراطي لا يشكل أساساً منطقياً صحيحاً للدولة.

شورى الفقيه

يمكن أن يقال: اننا بالجمع العرفي بين أدلة ولاية الفقيه الآتية ـ لو تمت ـ والآية الشريفة ـ ﴿وأمرهم شورى بينهم بعد جعلها

133

ناظرة الى جانب الاستضاءة بآراء الآخرين والاسترشاد بتجاربهم ـ وهو المحتمل الثالث ـ بالجمع بينها نفهم وجوب قيام الفقيه بالتشاور في الأمور المختلفة والاستعانة بأفكار الآخرين. لا بمعنى العمل برأي الأكثرية مثلاً، بل لمجرد الاستضاءة والقرب من الحقيقة وتكثير الخبرات.

وحينئذ فلا ينبغي حمل الشورى على لزوم معرفة آراء جميع من يهمهم موضوع الشورى وكل من كان الأمر أمرهم، وإنما تجعل ناظرة لمبدأ عقلائي يدعو الى تجميع الخبرات المختلفة وملاحظة آراء الآخرين قبل الإقدام على العمل.

ومن الواضح أن هذا المبدأ العقلائي لم تلحظ فيه مسألة إحصاء آراء كل من له صلة بالموضوع المشاور عليه، فإن هذا هو مقتضى عقلية أنصار الديموقراطية التي تجعل لكل من يكون الأمر أمره الحق في إبداء رأيه وتقرير مصيره، لا عقلية السعي لمعرفة السبيل الأصلح والواقع عن طريق الاستنارة بالعقول والخبرات، إذ الاستشارة تتحقق ـ في كثير من الأحيان ـ ضمن المشورة المركزة والبحث وتبادل الآراء بين مجموعة خاصة، ولربما كانت فرص الوصول الى الواقع من خلال هذه المشورة الخاصة أكبر بكثير منها عند إحصاء الآراء، اللهم قد يتفق ترتب أثر على كون عدد الراغبين في الموضوع المشاور عليه أو نسبتهم المئوية عالية، وهذا أمر آخر.

134

وحاصل القول: أن الآية الشريفة بعد حملها على المعنى الثالث للشورى لا تكون ناظرة على المشورة مع الكل أو ما يقرب من الكل.

ولكن هل يتم هذا الجمع وتصح هذه النتيجة، ويكون من الواجب على الفقيه الوالي أو الفقهاء ـ التشاور في الأمور العامة مع الناس؟

ربما قيل بهذا الصدد: ان هذه الاستفادة والنتيجة غير صحيحة، لأنها متوقفة على أن تكون الآية دالة على وجوب الشورى، في حين أن حملها على المحتمل الثالث من محتملات الشورى يجعلها غير دالة على الوجوب بملاحظة سياقها ـ كما قدمنا ـ.

نعم، لم تكن تقبل الحمل على الاستحباب لو كنا حملنا الشورى على معنى الأخذ بآراء المستشارين. وعليه فالآية ـ من خلال سياقها ـ لا تدل على أكثر من أن الشورى أدب من آداب الاسلام قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يختلف وجوبه واستحبابه باختلاف الموارد والخصوصيات. إذن فلا يمكن إثبات وجوب المشورة على الفقيه الذي هو ولي الأمر بهذه الآية الشريفة.

نعم، سنرى فيما يأتي أن ولي الأمر إنما جعل ولياً لسد نقص المولّى عليه وإنما يجب عليه مراعاة مصالح المولّى عليه؛ فالفقيه لم يجعل ولياً على المجتمع كي يستبد عليهم بالآراء، وإنما جعل ولياً عليهم كي يخدمهم ويرعى مصالحهم. وحيئذ إذا رأى من المصلحة الملزمة أن يستشير في الأمور وجبت عليه الاستشارة، واذا

135

رأى أحياناً أن المصلحة تلزمه بالأخذ برأي الأكثرية مثلاً لا بمجرد المشورة وجب عليه ذلك.

هذا، وقد يلاحظ البعض أن الآية الشريفة ـ بعد أن كانت بصدد بيان أوصاف المسلمين النموذجيين ومنها الشورى ـ يستفاد منها أن المشورة هي في صالح الأمة دائماً، ولما كان من المفروض في الولي لزوم مراعاة مصالح المولى عليه فإنه يثبت وجوب المشورة على الفقيه في كل أمور المسلمين دائماً.

والحقيقة النهائية: هي أنه بعد أن حملنا الشورى على المعنى الثالث لا يمكن ان يستفاد من الآية الوجوب المطلق ـ حتى لو ضممنا اليها الملاحظة السابقة ـ فيقال: انها واجبة دائماً وفي كل أمر لأنها دائماً لصالح الأمة بلا استثناء ـ بل يحتمل أن يكون الأمر ناظراً الى المشورة العقلائية المرنة المختلف حكمها باختلاف الموارد، ذلك لوقوع هذه الجملة في الآية الشريفة في سياق الانفاق والمغفرة، ومن الواضح أنها امور تختلف أحكامها باختلاف الموارد؛ فقد تكون واجبة وقد تكون مستحبة وقد لا تكون مرغوباً فيها، فليست اذاً اموراً حدية ودائمة.

وهكذا نجد أنه لا يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة أكثر مما هو ثابت ـ بغض النظر عنها ـ وهو أنه يجب عادة وفي غالب الامور على ولي الامر ـ وهو الفقيه الجامع للشرائط ـ أن يعمد للشورى

136

لتنير له الطريق الأصوب.

ثم اننا ـ حتى لو غضضنا النظر عن سياق الآية ـ لا يمكن أن نستفيد منها وجوب المشورة المطلق، ذلك أننا بعد حملنا الشورى في الآية على المحتمل الثالث من محتملاتها ـ أي مجرد الاستضاءة ـ وهو ارتكاز عقلائي موجود عند كل العقلاء، يصبح هذا الارتكاز العقلائي بنفسه مؤثراً في فهم حدود الشورى ويجعل الآية مشيرة الى نفس القاعدة العقلائية المرنة غير الصارمة ولا تتعدى دائرتها المرنة هذه.

137

ولاية الفقيه

139

ولاية الفقيه

سبق أن قلنا: ان الحكومة الصالحة هي الحكومة التي تكون مؤسسة على أساسين:

الأول: الولاية المشروعة المستمدة من مبدأ صحيح.

والثاني: كونها كفيلة بإسعاد المجتمع ومحققة لمصالحه.

فهل أن ولاية الفقيه ـ وهي الشكل المنسجم مع المنهج الشيعي ـ واجدة لكلا الأساسين أو لا؟ هذا ما نهدف الى بحثه الآن:

ولاية الفقيه هي امتداد لولاية النبي والامام، ومبدأ الولاية عند المسلمين هو الله تعالى خالق كل شيء ومبدعه، وهو المولى الحقيقي، والناس عباد له يجب عليهم اتباع أوامره والانتهاء بنواهيه. وقد أعطى الله تبارك وتعالى ـ في رأي المسلمين ـ ولاية الناس بيد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فقال تعالى:

140

﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم(1)، ثم انتقلت الولاية في رأي الشيعة بعد النبي الى أوصيائه المعصومين (عليهم السلام) المنصوص عليهم تباعاً.

وليس بحثنا هنا بالطبع عن اثبات ولاية الله أو النبي (صلى الله عليه وآله) كما يقوله المسلمون، ولا عن ولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما تقوله الشيعة؛ فهذه الأبحاث لها كتبها العقائدية الاسلامية والشيعية، بل نتكلم هنا مبنياً على مباني الاسلام والتشيع كي نرى ما اذا كانت الادلة في اطار مذهب الشيعة كافية لاثبات ولاية الفقيه نابعة من مبدأ الاسلام والوحي.

ولكننا نشير الى أنه لو لم يصح ما ادعته الشيعة من تعيين النبي (صلى الله عليه وآله) لخليفته من بعده بالنص، فنظام الاسلام ـ الذي جاء به النبي لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة ـ سيكون لا محالة ناقصاً، وهذا النقص لا يخلو أمره عن أن يكون من الله تعالى أو من تقصير النبي في التبليغ ـ تعالى الله ورسوله عن ذلك علواً كبيراً ـ ذلك لما عرفنا بالتفصيل من أن الاسلام لم يفرض الشورى أساساً للحكومة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، بينما اسعاد البشرية من ناحية وتطبيق أحكام الاسلام من ناحية أخرى لا يكونان إلا عن طريق نظام الحكومة الاسلامية، ولم يأت الاسلام



(1) سورة الاحزاب، الآية6.

141

بأي أساس آخر للحكومة بعد الرسول غير أساسَي الشورى والنص، اذن فانكار النص يساوق اتهام الاسلام بالنقص أو اتهام مبلغه بالتقصير(1).

هذا، وترى الشيعة أن الامام الثاني عشر عين ـ على أساس غيبته ـ نواباً أربعة واحداً بعد آخر بالنص من قبله عليه السلام، وهم:

1 ـ عثمان بن سعيد العمري.

2 ـ محمد بن عثمان العمري.

3 ـ الحسين بن روح النوبختي.

4 ـ علي بن محمد السمري.

أما بعد انتهاء دورهؤلاء النواب الأربعة، فالمستفاد من الروايات المروية عند الشيعة هو اعطاء النيابة عن الامام والولاية العامة بيد الفقهاء الواجدين لمواصفات معينة سيأتي البحث عنها.

وليس المقصود من ثبوت الولاية العامة للفقهاء كونهم كالنبي والامام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فالولاية بمعنى الأولوية من النفس انما ثبتت للنبي والامام بالنص الصريح، أما المنصرف الى الذهن عرفاً(2) من ادلة الولاية ـ سواء في ولاية الأب على الأولاد أو



(1) راجع بهذا الصدد البحث القيم الرائع ـ على اختصاره ـ لسيدي الاستاذ سماحة آية الله العظمى السيد الصدر (ره) حول الولاية.

(2) بمناسبات الحكم والموضوع؛ أي بملاحظة نوعية الحكم وتناسبها عرفاً مع الموضوع والمحكوم عليه.

142

في ولاية الفقيه على المجتمع أو غير ذلك ـ فهو الولاية في حدود تكميل نقص المولّى عليه وعلاج قصوره.

مقاطع مما كتبه سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (دام ظله)

وقد أفتى عديد من علماء الشيعة بهذه الولاية العامة للفقيه الجامع لمواصفات معينة، أخص هنا بالذكر منهم سماحة آية الله العظمى الامام الحاج السيد روح الله الموسوي الخميني (دام ظله)، حيث أثبت الولاية العامة للفقيه وجعل نظام الحكومة الاسلامية مبتنياً على أساسها، وله كلام مفصل حول هذا الموضوع في كتابه الذي ألفه في (البيع)، أقتطع منه هنا بعض المقاطع، فقد قال سماحته:

"… فالاسلام أسس حكومة لا على نهج الاستبداد المحكّم فيه رأي الفرد وميوله النفسية على المجتمع ولا على نهج المشروطة(1) أو الجمهورية المؤسسة على القوانين البشرية التي تفرض تحكم آراء جماعة من البشر على المجتمع، بل حكومة تستوحي وتستمد في جميع مجالاتها من القانون الإلهي. وليس لأحد من الولاة الاستبداد برأيه، بل جميع ما يجري في الحكومة وشؤونها ولوازمها لابد وأن يكون على طبق القانون الإلهي حتى الطاعة لولاة الأمر.

نعم، للوالي أن يعمل في الموضوعات على طبق الصلاح للمسلمين أو لأهل حوزته، وليس ذلك استبداداً بالرأي، بل هو على طبق الصلاح، فرأيه تبع للصلاح كعمله…



(1) يقصد سماحته بهذه الكلمة الملكية الدستورية.

143

يبقى الكلام في شخص الوالي، ولا إشكال على المذهب الحق أن الأئمة والولاة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) سيد الوصيين أمير المؤمنين وأولاده المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين خلفاً بعد سلف الى زمان الغيبة، فهم ولاة الأمر ولهم ما للنبي (صلى الله عليه وآله) من الولاية العامة والخلافة الكلية الإلهية.

أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة وإن لم تجعل لشخص خاص لكن يجب بحسب العقل والنقل أن تبقيا بنحو آخر…

ان الحكومة الاسلامية لما كانت حكومة قانونية، بل حكومة القانون الإلهي فقط، وإنما جعلت لأجل إجراء القانون وبسط العدالة الإلهية بين الناس، لابد في الوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونية ولا يعقل تحققها إلا بهما: احداهما العلم بالقانون، وثانيتهما العدالة. ومسألة الكفاية داخلة في العلم بنطاقها الأوسع، ولا شبهة في لزومها في الحاكم أيضاً. وإن شئت قلت: هذا شرط ثالث من أسس الشروط …

يرجع أمر الولاية الى الفقيه العادل، وهو الذي يصلح لولاية المسلمين، إذ يجب أن يكون الوالي متصفاً بالفقه والعدل، فالقيام بالحكومة وتشكيل أساس الدولة الاسلامية من قبيل الواجب الكفائي على الفقهاء العدول.

فان وفق أحدهم بتشكيل الحكومة يجب على غيره الاتباع، وإن

144

لم يتيسر الا باجتماعهم يجب عليهم القيام اجتماعاً، ولو لم يمكن لهم ذلك أصلاً لم يسقط منصبهم وإن كانوا معذورين في تأسيس الحكومة. ومع ذلك كان لكل منهم الولاية على أمور المسلمين من بيت المال الى اجراء الحدود، بل على نفوس المسلمين اذا اقتضت الحكومة التصرف فيها، فيجب عليهم اجراء الحدود مع الامكان وأخذ الصدقات والخراج والأخماس والصرف في مصالح المسلمين وفقراء السادة وغيرهم وسائر حوائج المسلمين والاسلام، فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان لرسول الله والأئمة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين …

فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة (عليهم السلام) مما يرجع الى الحكومة والسياسة(1)"

هذه هي المقاطع التي اقتطفتها من عبارة سماحة الامام الخميني (دام ظله).

وعلى أي.. فلو تم الدليل ـ عند الشيعة ـ على ولاية الفقيه كأساس للدولة، كان هذا شاهداً آخر على حقانية التشيع، اذ في غير إطار التشيع لا نرى في أدلة الشريعة أي أساس لإقامة الدولة الاسلامية في زماننا ما عدا نظام الشورى الذي اتضح بطلانه، فيلزم من ذلك النقص في الاسلام أو التقصير في مبلّغه ـ عليه وعلى آله



(1) كتاب البيع للامام الخميني 2/461 ـ 467.

145

التحية والسلام ـ.

وبعد، فلننتقل الى أدلة ولاية الفقيه العامة:

إثبات ولاية الفقيه

ولإثبات هذه الولاية طريقان:

الطريق الأول: هو الأخذ بما هو المتيقن في البين

وتوضيح ذلك يكون بالالتفات الى أمرين:

الأمر الأول: بداهة وجوب اقامة الحكومة الاسلامية في زمن الغيبة ـ عند الامكان ـ كما يظهر ذلك بوضوح بأدنى تأمل في طبيعة الاسلام.

فالاسلام هو آخر الأديان السماوية الذي ختم به الله تعالى رسالة السماء، وهو خيرها وأكملها، صدع به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على حين فترة من الرسل، بعد أن أصبحت البشرية على مستوى مسؤولية هذه الرسالة العظيمة الكاملة، واكتملت عبر الزمان في القدرة على فهمها ووعيها وتحمل أعبائها، على أساس عدة عوامل من أهمها مرورها برسالات سماوية أخرى تمهيدية على أيدي أنبياء عظام صلوات الله عليهم أجمعين.

146

وقد جاء الاسلام بكل ما تحتاج اليه البشرية مما يسعدها ويرقيها وينميها روحاً ووعياً وعملاً، مما يرتبط بنظام البشرية وعلاقات الناس بالله تعالى وعلاقاتهم فيما بينهم وحقوق الفرد على نفسه.

وخير دليل على ذلك هو ملاحظة الأحكام الواردة في الكتاب والسنة وتصفحها لكي يعرف شمولها وسعتها وانبساطها على سائر الأبواب، وقد ورد النص على ذلك أيضاً في أحاديث كثيرة، منها:

1 ـ ما رواه في الكافي عن علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن جماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة(1).

2 ـ ما رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن ابن فضال عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة الا وقد نهيتكم عنه(2)

الى غير ذلك من الروايات.

وكل من الحديثين تام سنداً.



(1) أصول الكافي ج1 باب الرد الى الكتاب والسنة ح4 ص59.

(2) أصول الكافي ج2 باب الطاعة والتقوى ح2 ص74.

147

ومن البديهي أن ديناً جاء بهذا الشمول والسعة لينظم حياة الانسانية بكل جوانبها لا يمكنه أن يستغني عن حكومة تعمل على تطبيقه الكامل، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) رئيساً للدولة، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) مدة بسط يده كذلك، وكان الحسن (عليه السلام) قبل الصلح كذلك، وقام الحسين (عليه السلام) باسم اقامة الدولة الحقة، ولا ينافي ذلك فرض علمه (عليه السلام) بأنه سيقتل وأن في قتله نصرة الدين الحنيف. والامام صاحب الزمان أرواحنا له الفداء سوف يظهر لإقامة الدولة على أساس الاسلام.

اذن فواضح من طبيعة الاسلام وجوب اقامة الحكومة الاسلامية عند الامكان؛ قال سماحة الامام الخميني (دام ظله) في كتاب البيع:

"ما هو دليل الامامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر عجل الله فرجه الشريف، سيما مع هذه السنين المتمادية ولعلها تطول ـ والعياذ بالله ـ الى آلاف من السنين والعلم عند الله"(1).

الأمر الثاني: أن الحكومة ـ كما مضى عند البحث عن الديموقراطية ـ تبتنى على الولاية العامة، اذن فتوجد في الاسلام ـ الذي لا يمكن له قيادة الأمة الى شاطئ السعادة والصلاح الا عن طريق قيام الحكومة الاسلامية ـ ولاية عامة حتماً. وعند الشك في تحديد



(1) كتاب البيع للإمام الخميني2/461.