441

أحكام عامّة للصلوات اليوميّة

3

من ناحية العدد

 

 

○  الحاضر والحضر.

○  السفر الشرعي.

○  تفصيلات وتطبيقات للشروط العامّة.

 

 

443

(86) تقدّم أنّ عدد الركعات اليومية الواجبة سبع عشرة ركعةً ضمن خمس صلوات، وأنّ عدد الركعات اليومية المستحبّة أربع وثلاثون ركعةً ضمن ثماني عشرة صلاة.

وهذا العدد إنّما يجب على المكلّف الحاضر، وهو غير المسافر، والحاضر من كان متواجداً في بلدته ووطنه، فكلّ من كان في وطنه وبلدته وجب عليه أن يؤدّي الصلوات بأعدادها المتقدّمة، فيصلي الظهر والعصر والعشاء أربعاً، وتسمّى بالصلاة التامة، ويسمّى التكليف بإيقاع تلك الصلوات أربع ركعات: التكليف بالتمام، فإذا سافر سفراً شرعياً تناقص العدد المذكور من الركعات، وانخفضت الصلوات اليومية الواجبة التي كانت تتأ لّف من أربع ركعات وأصبحت ركعتين بدلا عن أربع، وسقط عدد من نوافل الصلوات اليومية.

وعلى هذا الأساس تكون صلاة الظهر من المسافر ركعتين كصلاة الصبح، وكذلك العصر والعشاء، وتسمّى صلاه القصر؛ لقوله تعالى: ﴿وَإذا ضَرَبْتُمْ في الأ رْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾(1).

 


(1) النساء: 101.
444

ومعنى قصر الصلاة هنا: ترك شيء منها، كما تقول: قصر من ثوبه أو من شعره. ويختصّ هذ القصر بالفرائض الرباعية اليومية، كما عرفت. وأمّا صلاة المغرب وصلاة الصبح فهما ثابتتان لا تتغيّران في السفر.

وفي ما يلي نتحدّث:

أوّلا: عن الحاضر الذي تجب عليه الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، فنعيّن من هو الحاضر ؟ وكيف يكون الإنسان حاضراً ؟

وثانياً: نتحدّث عن المسافر والسفر الشرعي الذي يوجب القصر وشروطه.

وثالثاً: عن تفاصيل ما ينشأ بسبب السفر الشرعي من أحكام بشأن قصر الصلاة.

445

الحاضر والحضر

 

(87) الحضر حالة مقابلة للسفر، ونريد به: التواجد في الوطن، فكلّ من تواجد في وطنه فهو مكلّف في صلاته بالتمام على ما تقدم.

ونقصد بالوطن: البلدة، أو القرية، أو الموضع الذي يخصّ الإنسان بأحد الأوجه التالية:

أقسام الوطن:

(88) أوّلا: البلدة التي هي وطنه تأريخياً، أي مسكن أبويه وعائلته، وتكون هي مسقط رأسه عادةً، وحينما يراد أن ينسب إلى بلدة عرفاً ينسب إليها فإنّ هذه البلدة تعتبر وطناً له شرعاً، ويجب عليه إذا صلّى فيها أن يصلّي الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، سواء كان ساكناً فيها فعلا، أو منتقلا إلى بلد آخر مادام يقدر أو يحتمل أنّه سيرجع بعد ذلك ـ إذا اُتيح له ـ إلى سكناها (1).

ومثال ذلك: إنسان بصريّ يسكن بحكم وظيفته في غير البصرة، ولكنّه يحتمل أنّه سيقرّر الرجوع إلى البصرة إذا اُعفي من الوظيفة، أو أنهى مدّة الخدمة، فهذا تُعتبر البصرة وطناً له.

وأمّا إذا كان قد قرّر عدم الرجوع إلى البصرة واستيطان بغداد بدلا عنها


(1) من باب رجوع من طرأ له الخروج من مسكنه إلى مسكنه، أمّا لو فرض أنّ مسكنه السابق أصبح عنده في عرض باقي البلاد كالموظّف الذي ستنتهي وظيفته في البلد الثاني وسينتقل إلى المكان الذي تنقل وظيفته الجديدة إليه ويحتمل أنّ الوظيفة الجديدة ستكون في المسكن السابق فهذا لا يصدق عرفاً على مسكنه القديم أنّه لا زال وطناً له لمجرّد احتماله الرجوع إليه، والخلاصة: أنّ المسألة عرفيّة.
446

في حالات من ذلك القبيل فلا تعود البصرة وطناً له وإن كانت بلد آبائه، أو كان له أملاك فيها، فإذا سافر إليها يوماً أو أكثر صلّى كما يصلّي المسافر الغريب تماماً.

(89) ثانياً: البلدة التي يتّخذها وطناً له ومقاماً مدى الحياة.

ومثال ذلك: البغدادي يبلغ سنّ التقاعد، فيقرّر الهجرة إلى النجف ومجاورة قبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مدى الحياة، فتعتبر النجف وطناً له باتّخاذه لها كذلك، وهو مكلف فيها بالتمام. وكما تكون وطناً له كذلك تكون وطناً لمن هو تابع له في حياته وسكناه، سواء اتّخذ التابع قراراً مماثلا بحكم تبعيّته كالزوجة بالنسبة إلى زوجها، أو كان دون السنّ والرشد الذي يؤهّله لاتخاذ مثل هذا القرار، كالأطفال والصبيان الذين يعيشون في كنف والدِهم.

(90) ثالثاً: البلدة التي يتّخذها مقرّاً له مدّةً مؤقّتةً من الزمن، ولكنّها طويلة نسبياً على نحو لا يعتبر تواجده فيها سفراً، كالتلميذ الجامعي الذي يتّخذ بغداد ـ مثلا ـ مقرّاً له مدّة أربع سنوات من أجل دراسته، فإنّ بغداد تعتبر بمثابة الوطن له، فيتمّ فيها صلاته خلال تلك المدّة التي قرّر فيها سكنى بغداد، وكذلك بالنسبة إلى مَن هو تابع له على ما تقدّم.

(91) رابعاً: من لا وطن له ـ بالمعنى المتقدّم في الحالات الثلاثة السابقة ـ إذا قرّر أن يتخذ له بيتاً في بلد ويسكن فيه أصبح ذلك البلد بمثابة الوطن بالنسبة إليه ـ وبالنسبة إلى من هو تابع له كما تقدّم ـ يتمّ فيه صلاته.

ومثاله: الموظّف الإداريّ الحلّي الأصل وقد أعرض عن سكنى الحلّة نهائياً، وهو الآن يسكن في أيّ بلد تفرض عليه وظيفته سكناها وهو لايعرف المدّة التي يقضيها في ذلك البلد، فقد ينقل بعد سنة وقد ينقل بعد مدّة أقلّ أو أكثر فهذا الشخص يعتبر ممّن لاوطن له؛ لأنّ وطنه الأصلي ـ وهو الحلّة ـ أعرض عنه فلم يعد وطناً له، ولم يتّخذ وطناً جديداً لسكناه مدى الحياة أو سنين عديدةً يستطيع أن يتحكّم في ظروفه، فهذا يعتبر البلد الذي فيه بيته وسكناه بمثابة الوطن له.

447

فالتواجد في الوطن بأحد هذه الأوجه والأنحاء يوجب التكليف بالتمام.

فإذا خرج وسافر من وطنه وجب عليه القصر، ولكن بشروط، وضمن تفصيلات تجدها في ما يأتي:

(92) ومن الجدير الإشارة إلى أنّ بالإمكان أن يكون لدى الإنسان وطنان، نذكر لذلك الصور التالية:

الاُولى: أن يتّخذ الشامي القاهرة مقرّاً له مدّة خمس سنوات للدراسة، ثمّ يعود بعد ذلك إلى بلده، فهذا له وطنان: أحدهما الشام، والآخر القاهرة.

الثانية: أن يتّخذ تاجر في بيروت مسكناً صيفياً له في « جباع » أو « كيفون » يسكنه خمسة أشهر في السنة، ويسكن في بيروت باقي شهور السنة، فيكون كلّ منهما وطناً له، ومتى وجد في أحدهما وأراد أن يصلّي فتكليفه التمام، حتّى ولو صلّى في كيفون شتاءً وفي بيروت صيفاً (1).

الثالثة: أن يكون له بلدان، يقيم في هذا البلد أيّاماً وفي ذلك البلد أيّاماً، كإنسان له زوجتان في بلدين يمكث عند هذه اُسبوعاً وعند تلك اُسبوعاً ما دام حيّاً، أو إلى أمد بعيد.

(93) وإذا كان للإنسان وطن على أحد الأوجه الأربعة المتقدّمة، ثمّ تردّد في مواصلة استيطانه وأخذ يفكّر في تركه فلايخرج عن كونه وطناً بمجرّد التردّد والتفكير.



(1) لو كانت الأيّام التي يقضيها في هذه البلاد المختلفة متساوية تساوياً عرفيّاً كما لو كان يسكن في جباع أو كيفون ستة أشهر، وفي بيروت ستة أشهر ولو تقريباً، فلا إشكال في المقام، وكذلك لو فرضنا مثلاً أنّه يسكن في كلّ من جباع وكيفون وبيروت ما يقارب أربعة أشهر، فتكون له أوطان ثلاثة.

أمّا فيما فرضه اُستاذنا الشهيد(قدس سره) من الفرق بين مقدار السكن، فيسكن في جباع أو كيفون خمسة أشهر، وفي بيروت سبعة أشهر، فالأحوط وجوباً أن يجمع في البلد الذي يكون سكناه فيه أقلّ من سكناه في البلد الآخر، بين القصر والتمام لو لم ينو الإقامة.

448

(94) وقد تسأل ـ على ضوء ما ذكرناه ـ وتقول: إنّ العديد من عباد الله يهاجرون من أوطانهم إلى بلاد نائية طلباً للرزق والكسب الحلال، كالذين يقصدون بلاد أفريقيا وغيرها، ومنهم من يهاجر من أجل العلم وطلبه، كالّذين يقصدون النجف الأشرف ونحوها، وكلّ من اُولئك وهؤلاء يمكثون في مهجرهم أمداً غير قصير فهل يجري عليهم حكم الوطن فيقيمون الصلاة تامّةً كاملةً ولا يسوغ فيه القصر بحال من الأحوال ؟

والجواب: إذا أعرض المهاجر عن وطنه الأصيل عازماً على عدم العودة إليه رتّب آثار الوطن على مهجره ما دام مهاجراً، ويتمّ فيه الصلاة، ولا فرق في هذا الفرض بين أن يكون قد قرّر البقاء مدّةً طويلةً في مهجره أو سنةً مثلا؛ إذ يعتبر المهجر وطناً له من القسم الرابع.

وإن لم يكن المهاجر معرضاً عن وطنه الأصيل ومنصرفاً عنه تماماً فالموقف يرتبط بالمدّة التي يعزم المهاجر على قضائها في مهجره، فإن كانت مدّةً من قبيل أربع سنوات أو أكثر اعتبر المهجر وطناً له، وأتمّ فيه الصلاة، ويكون من القسم الثالث من الوطن.

وإن كانت المدّة قصيرةً ـ كما إذا كان عازماً على البقاء سنةً أو سنتين ـ لم يكن المهجر وطناً، بل كان حكمه حكم أيّ بلد أجنبي، فيعتبر مكلّفاً بالتمام إذا كان سفره عملا له، بالمعنى الذي يأتي في الفقرة (170) وما بعدها من هذا الفصل، وإلّا فحكمه القصر (1).



(1) قد يشكّ في مبلغ من البقاء هل هو كاف لصدق الوطن أو لا، فيجمع بين القصر والتمام، أو يرجع إلى مطلقات التمام، وليس التحديد بأربع سنين أو عدم كفاية سنتين منه (رحمه الله)إلّا مجرّد استظهار عرفي له.

449

السفر الشرعي

 

خصائص السفر الشرعي:

ونريد بالسفر الشرعي: السفر الذي يترتّب عليه قصر الصلاة، ولا يترتّب قصر الصلاة على السفر إلّا إذا توفّرت في السفر الخصائص التالية:

(95) أوّلا: أن لاتقلّ المسافة التي تطوى في السفر عن ثمانية فراسخ شرعية، وهي تساوي ثلاثة وأربعين كيلومتراً وخمس الكيلومتر الواحد (1). ولا فرق بين أن تُطوى هذه المسافة كلّها في اتّجاه واحد أو في اتّجاهين، حتّى ولو وقع بعضها في حالة رجوع المسافر إلى بلده (2).

فمن طوى نصف هذه المسافة في سفره من بلده ـ مثلا ـ وطوى نصفها الآخر في رجوعه إلى بلده يعتبر سفراً شرعيّاً؛ لأنّه أكمل المسافة المحدّدة.

كما لا فرق بين أن تطوى في بضع دقائق، أو عدّة ساعات، أو خلال يوم أو أكثر، تبعاً لدرجة سرعة وسائط النقل. ويبدأ تقدير المسافة من آخر البلد عرفاً،


(1) هذا التحديد ليس مسلّماً، فهناك بعض التحديدات الاُخرى، إلّا أنّ أثر الفرق من الناحية العمليّة في واقع حياتنا المعاش نادر وشبه المعدوم.
ولو اتّفق ذلك فالفقيه في الشبهة المفهوميّة يرجع إلى مطلقات التمام، والعامي ما لم يحرز أنّ نفس شبهته موجودة لدى الفقيه وأنّه أفتى بالتمام يحتاط بالجمع بين القصر والتمام.
(2) الظاهر اشتراط أن لا يقلّ الذهاب عن أربعة فراسخ، فكأنّ السفر الشرعي مشروط بعمق معيّن وهو مقدار أربعة فراسخ، وفي الأقلّ من ذلك لا يعتبر الشخص مسافراً ولو كان لدى إضافة مسافة الرجوع يصل مبلغ سيره إلى ثمانية فراسخ أو أكثر.
450

كبيراً كان أم صغيراً.

ثانياً: (96) أن تكون هذه المسافة مقصودةً للمسافر بكاملها قصداً مستمرّاً إلى أن تطوى المسافة كاملة، فإذا سافر شخص بآخر وهو نائم أو مغمى عليه ولا يعلم عن السفر شيئاً فلا أثر شرعاً لهذا السفر بالنسبة للنائم أو المغمى عليه.

وكذلك إذا خرج الشخص من بلد قاصداً نقطةً تبعد نصف المسافة المحدّدة آنفاً، وحين وصلها تجدّدت له الرغبة في السير إلى نقطة اُخرى تبعد عن النقطة الاُولى بقدر نصف المسافة المحدّدة أيضاً فإنّه ما دامت المسافة بالكامل لم تكن مقصودةً له على هذا النحو، فلا أثر لسفره المذكور وإن طوى به فعلا المسافة بكاملها.

وكذلك أيضاً إذا خرج المسافر من بلده قاصداً المسافة المحدّدة بكاملها، ولكنّه بعد أن طوى نصفها تردّد وصار يقطع شيئاً فشيئاً من المسافة وهو متردّد في مواصلة السير فإنّ مثل هذا لا يقصِّر؛ حتى ولو أكمل المسافة في سيره المتردد هذا؛ لأنّ قصده للمسافة لم يستمر إلى النهاية. ونريد بالقصد معنى لايختص بحالات الرغبة والاختيار، وإنما هو الشعور المؤكد بأنّه سيطوي المسافة بكاملها، سواء كان هذا الشعور قائماً على اساس ارادته للسفر بملء اختياره، أو اكراه شخص له على ذلك، أو اضطراره لهذا السفر واستسلامه للأمر الواقع كما لو افلت زمام السفينة من يد البحّار وادرك أنّها ستطوي به المسافة المحددة قبل أن يتمكن من التحكم فيها.

ثالثاً: (97) أن تطوى هذه المسافة بصورة يعتبرها العرف سفراً ويقول الناس عمن طواها بأنه مسافر، وإما إذا طواها شخص ولم يطلق عليه أنّه مسافر عرفاً فلا أثر لها شرعاً، وذلك نظير من يبتعد عن بلده مائة متر ـ مثلا ـ ثمّ يدور

451

حوله على نحو تكون مسافة المحيط الذي يقطعه حول البلد () كيلومتراً ولكنه مع ذلك لا يعتبر مسافراً عرفاً ما دام يدور حول بلده على مقربة مائة متر« فالكورنيش » مثلا الذي يحيط بالبلد مهما كان محيطه واسعاً لا يعتبر قطعه وطيّه سفراً.

رابعاً: أن لا يحدث للمسافر قبل إكمال طيّ المسافة المحدّدة ـ أي قبل طيّ() كيلومتراً ـ أحد الاُمور التالية:

(98) الأول: المرور ببلده ووطنه، فإذا طوى المسافر ثلاثةً وأربعينكيلومتراً ـ مثلا ـ ولكنّه وصل في أثناء هذه المسافة وقبل إكمالها إلى نفس بلده الذي سافر منه أو إلى بلد آخر يعتبره وطناً له، كبلده الذي سافر منه (تقدم معنى الوطن في الفقرة « 87 » وما بعدها)، إذا اتّفق هذا فلا أثر لهذا السفر؛ لأنّه وقع في وسطه الحضر، وهو التواجد في الوطن.

ومثاله: أن يسافر الإنسان من النجف إلى الكوفة، ومنها إلى كربلاء مارّاً بالنجف.

ومثال آخر: أن يكون كلّ من النجف والكوفة وطناً للإنسان، ويعيش في كلٍّ منهما شطراً من حياته في السنة، فيسافر من النجف إلى الكفل مارّاً بالكوفة،ففي كلٍّ من هذين المثالين يكون المسافر قد طوى المسافة () كيلومتراً، ولكن مرّ في أثنائها بوطنه فلا يعتبر حينئذ مسافراً شرعاً، إلّا إذا طوى بعد مرورهبوطنه المسافة المحدّدة بكاملها.

(99) الثاني: التوقّف أثناء الطريق في مكان معيّن شهراً قبل إكمال المسافةالمحدّدة ()، فلو سافر نجفي قاصداً المسافة المحدّدة، وكانت بلدة الشامية

452

تقع في وسطها، فمكث في الشامية شهراً، ثمّ استأنف السير حتّى أكمل المسافةفلا أثر لهذا السفر؛ لأنّه قد تخلّل في أثنائه المكث شهراً في مكان على الطريق. ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد عزم منذ وصول الشامية ـ مثلا ـ على المكث فيها شهراً، أو كان متردّداً يحاول السفر في كلّ يوم ثمّ يمدّد مكثه لسبب أو لآخر.

ونريد بالشهر هنا: ثلاثين يوماً، فالشهر القمريّ إذا كان أقلّ من ثلاثين يوماً لا يكفي.

(100) الثالث: إقامة عشرة أيام في مكان معيّن على الطريق قبل إكمال طيّ المسافة المحدّدة، ونريد بإقامة عشرة أيام: العزم على المكث عشرة أيام، بمعنى أن يقرّر حين وصوله إلى الشامية ـ في المثال السابق ـ المكث فيها مدّةً لا تقلّ عن عشرة أيام، فإنّ العزم على مكث عشرة أيام بهذا المعنى يعادل مكث ثلاثين يوماً بدون عزم وقصد.

وكلّ سفر يطوي المسافة المحدّدة وتقع في أثنائه إقامة عشرة أيام ـ بالمعنى الآنف الذكر ـ قبل أن تكمل المسافة، أنّ كلّ سفر من هذا القبيل ليس له أثر شرعاً.

وتسمّى هذه الاُمور الثلاثة ـ المرور بالوطن، ومكث ثلاثين يوماً، وإقامة عشرة أيام ـ في عرف الفقهاء بقواطع السفر، وعلى هذا يمكن القول بأنّ الرابع من خصائص السفر الشرعي: أن لا يقع أحد قواطع السفر في أثناء المسافة المحدّدة وقبل إكمالها.

هذه شروط أربعة كلّما توافرت وجب القصر في الصلاة. ويستثنى من ذلك بعض أقسام السفر، على ما يأتي في الفقرة (160) وما بعدها.

453

تفصيلات وتطبيقات للشروط العامّة

 

أوّلا: في ما يتعلّق بالشرط الأول:

(101) في ما يتعلق بالشرط الأول ـ وهو طيّ المسافة المحدّدة ـ قد تسأل: هل هناك فرق بين طيّها بصورة اُفقية كراكب السيارة يطوي المسافة برّاً، وبين طيّها بصورة عمودية، كراكب الطائرة إذا اُتيح له أن يرتفع جوّاً بقدر تكتمل به المسافة المحدّدة؟

والجواب: لا فرق بين الحالتين، شريطة أن لا يدخل في حساب المسافة الشرعية ذلك القدر من الارتفاع الذي يعتبر فيه المسافر لا يزال في جوّ بلدته وغير مغادر لها.

(102) وقد تسأل: إذا طويت المسافة اُفقياً ولكن على شكل دائريٍّ فهل يكفي ذلك، أو يتوقّف القصر على أن تكون المسافة في خطٍّ مستقيم بالقدرالمحدّد () كيلومتراً؟

والجواب: يكفي ذلك (1). ومثاله: أن يكون بلد المسافر واقعاً على محيطدائرة، ومحيطها ـ باستثناء ما تشغله بلدته من مسافة ـ يساوي المسافة المحدّدة، فإذا قصد المسافر قطع هذه المسافة بالسير على محيط تلك الدائرة كفى ذلك،


(1) بناءً على ما استظهرناه من شرط العمق بأن لا يقلّ الذهاب عن أربعة فراسخ لو تمّ العمق بين بلده وبين نقطة الانتهاء بمعونة التدوير وكان التدوير طريقاً سالكاً عرفاً بين البلدين وجب التقصير وإلّا فلا.
454

لاحظ الصورة التالية:

(103) وقد تسأل: إذا قطع المسافر المسافة المحدّدة وذلك بأن تحرّك ذاهباً آيباً إلى أن أكمل المسافة، فهل يقصر ؟ ومثال ذلك: أن يطوي خمسة كيلومترات ثم يرجع ويطويها ثانية حتى يصنع ذلك مراراً عديدة.

والجواب: أنّ هذا ليس سفراً شرعياً، ولا قصر فيه.

(104) وقد تسأل: إذا كان الطريق الممتدّ بين بلدتين يشتمل بطبيعته على ذهاب ورجوع تفادياً لمياه أو لصخور في الطريق تضطرّ الإنسان إلى السير في خطوط منكسرة كما في الصورة:

فهل تقدّر المسافة وفقاً لكلّ الخطوط التي سار عليها المسافر فعلا، أو تقدّر بافتراض خطٍّ مستقيم بين البلدتين وتقدير امتداده ؟

والجواب: بل تحسب تلك الخطوط، فالمقياس هو مقدار ما طوى المسافر فعلا من المسافة؛ ما دام طيّه لها جارياً حسب المألوف والمقرر عادةً فيالسفر.

(105) وقد تسأل: إذا كانت هناك قرية في قمّة جبل وقرية اُخرى في سفحه،

455

وكان الطريق من الاُولى إلى الثانية يتطلّب الدوران حول الجبل مراراً عديدةً إلى أن يصل الإنسان إلى القرية الثانية، على الرغم من أنّ المسافة بين القريتين إذا قدّرت بالنظر ومُدّ خطّ مباشر بينهما تكون قصيرةً، فما هو المعيار ؟

والجواب: المعيار هو المسافة التي يطويها الإنسان من خلال دورانه حول الجبل؛ ما دام هذا هو الطريق المألوف للوصول من إحدى القريتين إلى الاُخرى.

(106) وإذا كنت تريد السفر من بلدك إلى بلد آخر والرجوع منه وكانتالمسافة التي تطويها في الذهاب والرجوع () كيلومتراً وجب القصر؛ لأنّ الذهاب والإياب يعتبر سفراً واحداً ما لم يتخلّله في الأثناء أحد قواطع السفرالمتقدّمة في الفقرة (98) إلى (100)، فلو كنت تريد ـ مثلا ـ أن تبقى في البلد الآخر عشرة أيام ثمّ ترجع فلا قصر.

(107) وقد تسأل: إذا كان بين هذين البلدين طريقان: أحدهما أقرب؛ لأنّه يساوي ثلث المسافة المحدّدة، والآخر أبعد لأنّه يساوي ثلثي المسافة المحدّدة فما هو الحكم ؟

والجواب: إن قرّر أن يسلك الأبعد الذي يساوي ثلثي المسافة ذهاباً ورجوعاً، أو سلك الأبعد في إحدى المرّتين(1) ذهاباً ـ مثلا ـ وسلك الأقرب الذي يساوي ثلث المسافة في المرّة الاُخرى رجوعاً ـ مثلا ـ فيقصّر، وإن سلك هذا الأقرب ذهاباً ورجوعاً معاً فلا يقصّر.

وإذا سلك أحد الطريقين ولم يقرّر بعدُ نوعَ الطريق الذي سيختاره في


(1) بشرط حفظ العمق الذي أشرنا إليه في ذهابه بأن لا يقلّ عن أربعة فراسخ.
456

رجوعه فماذا يصنع ؟

والجواب: إذا كان قد سلك الطريق الأبعد فعلا في ذهابه فحكمه القصر ما دام ناوياً الرجوع من أحد الطريقين على أيّ حال. وإذا كان قد سلك الطريق الأقرب في ذهابه وهو متردّد في نوع الطريق الذي سيختاره في الرجوع فلا يقصّر؛ حتّى ولو تجدّد له عند الرجوع العزم على اختياره الطريق الأبعد.

(108) وقد تسأل: إذا كان أحد الطريقين يمثّل نصف المسافة المحدّدة والآخر يمثّل ربعها فما هو الحكم ؟

والجواب: إن سلك المسافر الطريق الأبعد الذي يمثّل النصف ذهاباً ورجوعاً وجب عليه القصر، وإن سلك الطريق الأقرب الذي يمثّل الربع ذهاباً ورجوعاً، أو في إحدى المرّتين على الأقل فلا يقصّر. وكذلك إذا سلك الطريق الأبعد ذهاباً ولم يقرّر عند الذهاب نوع الطريق الذي سيختاره في رجوعه فإنّه لا يقصّر؛ حتّى ولو اختار بعد ذلك الرجوع من نفس الطريق الأبعد.

(109) وقد تسأل: إنّ المسافر تارةً يطوي المسافة من أجل أن يصل إلى بلد آخر مثلا، وقد يطوي المسافة أحياناً لا يريد بذلك إلّا طيّ المسافة فقط، كمنيريد أن يجرّب السيارة، أو يجرّب نفسه في سياقتها فيسافر بها ( 51 43 ) كيلومتراً من أجل ذلك، فهل هما سواء في الحكم ؟

والجواب: نعم، هما سواء، ويجب القصر في كلتا الحالتين.

(110) تثبت المسافة بالحسّ والتجربة، وبالبيّنة العارفة العادلة، أي شهادة عدلين، وبخبر الثقة العارف (1)، وإذا لم يتوفّر شيء من هذا لإثبات طيّ المسافة المحدّدة بقي المسافر على التمام، وأدّى الصلاة أربع ركعات، وكذلك إذا تضاربت



(1) فيه إشكال لمناقشتنا في حجيّة خبر الواحد في الموضوعات.

457

الشهادات المتكافئة، كما إذا شهدت بينة بالمسافة وبينة اُخرى بنفيها.

(111) ولا يجب على المسافر الفحص والبحث عن المسافة(1) التي طواها في سفره فعلا، ووضع مقاييس لضبط عدد الكيلو مترات في سفرته لكي يعرف أنّه طوى ثلاثةً وأربعين كيلومتراً وخمس الكيلومتر، بل كلّما اتّفق له إن تأكّد من طيّ تلك المسافة المحدّدة بالطرق السابقة (من تجربة أو بينة أو شهادة الثقة (2)) أخذ بذلك وقصّر. وإذا لم تتوفّر له هذه الطرق وظلّ شاكّاً فعليه التمام.

(112) وإذا علم وهو في وسط الطريق بأنّ مجموع السفرة يساوي المسافة المحدّدة قصّر في صلاته، حتّى لو لم يكن قد بقي من تلك المسافة التي يريد طيّها سوى اليسير منها؛ لأنّ المعيار في ابتداء المسافة من حين ابتداء السفر، لا من حين علمه بالمسافة.

(113) وإذا سافر وتأكّد بأحد الطرق السابقة أنّه طوى في سفره المسافة المحدّدة فقصّر، ثمّ انكشف العكس فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها تامّة.

(114) وإذا سافر وتأكّد من عدم طيّ المسافة المحدّدة بالكامل فأتمّ صلاته، أو شكّ في ذلك فأتمّ صلاته ـ تطبيقاً لما تقدم في الفقرة (111) ـ ثمّ انكشف العكس، وعلم أنّه كان قد طوى المسافة المحدّدة فعليه إعادة الصلاة قصراً ما دام الوقت باقياً.

 


(1) إلّا إذا كان الفحص في غاية السهولة بحيث يصدق عرفاً على ترك الفحص ما يشبه إغماض العين عن أمر واضح حتى لا يطّلع عليه، وذلك كما لو كان انكشاف الحال متوقفاً على مجرّد سؤال سهل المؤونة، أو على النظر إلى عدّاد السيارة بعد تجاوز المسافة.
(2) مضى الإشكال في ذلك.
458

ثانياً: في ما يتعلّق بالشرط الثاني:

(115) وفي ما يتعلّق بالشرط الثاني ـ وهو أن تكون المسافة مقصودة ـ قد تسأل: إذا سافر قاصداً إلى بلد ولكنّه لا يدري أقريب هو أم بعيد؟ وفي الطريق أو في مقصده علم بأنّ المسافة تستوجب القصر فماذا يصنع؟

والجواب: أنّه يقصّر؛ لأنّ من قصد بلداً قصد السبيل إليه، والمهمّ هو قصد سفر يحقّق المسافة، سواء كان المسافر عالماً بأنّ سفره يحقّق ذلك، أوْ لا.

(116) وإذا قصد ما دون المسافة ولمّا بلغ مقصده تجدّد له رأي فسافر إلى بلد آخر فماذا يصنع؟

والجواب: أنّ هذا يعتبر ابتداء المسافة من أوّل السير الجديد، أي من حين تجدَّد له رأي في السفر إلى البلد الآخر، ويلغي من الحساب ما طواه قبل ذلك، فإذا كان المجموع من هذا السير الجديد ومن طريق العودة بمقدار المسافة قصّر(1) ما لم يحصل في أثناء ذلك أحد قواطع السفر.

ومثال ذلك: إنسان قصد السير إلى بلد يبعد عن مقرّه ووطنه ثلث المسافة الشرعية، وعند وصوله إلى هذا البلد عزم على السفر إلى بلد آخر يبعد عن البلد الأول أيضاً ثلث المسافة، فسافر إلى البلد الثاني قاصداً العودة إلى مقرّه من نفس الطريق، وعليه يكون المجموع من الذهاب إلى البلد الثاني والإياب إلى الوطن تمام المسافة المعتبرة الثلث للذهاب والثلثان للإياب، وعندئذ يقصّر (2).

ومثال آخر بشكل أكثر تحديداً: كوفي يقصد السفر إلى النجف، وفي النجف يتجدّد له رأي في السفر إلى (أبو صخير)، ثمّ الرجوع منها إلى الكوفة مارّاً


(1) بشرط أن لا يقلَّ ذهابه من أوّل السير الجديد عن أربعة فراسخ.
(2) قد عرفت الإشكال فيه؛ لأنّ الذهاب الأخير لم يكن يمتلك العمق المطلوب.
459

بالنجف، فالمسافة هنا تعتبر من النجف إلى (أبو صخير) إلى النجف إلى الكوفة (1)، وأمّا ما طواه أوّلا من مسافة من الكوفة إلى النجف فيلغى؛ لأنّه لم يكن قاصداً بذلك المسافة المحدّدة بالكامل.

(117) وطالب الضالّة والكلأ والهائِم على وجهه لا يدري أين يتّجه؟ كلّ هؤلاء وما أشبه، يُتمّون الصلاة وإن طَووا المسافة المحدّدة؛ لأنّهم لا يقصدون ذلك (2).

(118) وقد يكون المسافر قاصداً للمسافة المحدّدة في سفره، ولكنّه يشكّ في تمكّنه من مواصلة السفر، أو يحتمل أن تطرأ في الطريق بعض الأسباب التي تصرفه عن الاستمرار في السفر، ففي مثل ذلك لا يعتبر القصد متوفّراً، ولا يصحّ القصر ما لم يكن الاحتمال ضئيلا وممّا لا يعتنى به عادةً من الناحية العملية.

(119) وكلّ من علّق سفره على شرط مجهول الحصول فهو غير قاصد للسفر، وحكمه حكم الحاضر.

ومثاله: أن يخرج من بيته ويسافر إلى ما دون المسافة المعتبرة باحثاً عن رفيق له في سفره، فإن وجده مضى في السير حتّى نهايته، وإلّا عاد إلى ما بدأ.

(120) ولا فرق أبداً في قصد المسافة بين أن يكون قصداً مستقلا أو تابعاً


(1) بشرط اشتمال سفره من النجف إلى النقطة التي يقصدها من أبو صخير على العمق المطلوب وهو أربعة فراسخ.
(2) طالب الضالّة إذا تمادى به طلبه إلى المسافة الشرعيّة فالأحوط أن يجمع بين القصر والتمام.
وأمّا طالب الكلأ فإن كان بمعنى أنّه يتنقّل من كلأ إلى كلأ ولم يعرف كم سيتجدّد عزمه في الانتقال إلى كلأ جديد فما في المتن من عدم التقصير صحيح.
460

لقصد شخص آخر، كالزوجة مع زوجها. وأيضاً لا فرق بين أن يكون التابع مختاراً ـ كالرفيق الذي أوكل أمر السفر إلى رفيقه ـ وبين أن يكون غير مختار، كالجنديّ والأسير.

(121) وإذا جهل التابع قصد المتبوع يبقى على التمام وإن طال الأمد، إلّا أن يعلم في الأثناء بطريق أو بآخر فيعمل بموجب علمه (1)، وفي سائر الأحوال لا يجب على التابع أن يبحث ويفحص عن قصد المتبوع ويتعرّف عليه بالسؤال منه أو من غيره (2).

(122) وقد تسأل: إذا كان من قصد التابع مفارقة المتبوع في أوّل فرصة ممكنة فهل يقصّر، أو يتمّ؟

والجواب: التبعية من حيث هي لا وزن ولا أثر لها إطلاقاً، والمعوَّل على قصد السفر وقطع المسافة بأيّ نحو كان، وليس من شكٍّ في أنّ العزم على مفارقة المتبوع متى سنحت الفرصة يتنافى مع قصد السفر، وعليه يجب التمام، اللهمّ إلّا أن تكون اُمنية التابع صعبةَ المنال، وعندئذ يكون قصد المسافة مفروضاً بحكم الواقع، ويجب القصر حتماً.

(123) وإذا قصد بلداً معيّناً بينه وبين مقرّه ووطنه المسافة، وفي الطريق عدل عنه إلى بلد آخر يماثله في البعد والمسافة، إذا كان ذلك فلا يضرّ هذا العدول من بلد إلى بلد بأصل القصد، وعليه يبقى على القصر، ومثله تماماً إذا قصد بلداً من


(1) وعندئذ يعيد ما صلاّه تماماً بالقصر إن كان في داخل الوقت، ولا يقضي إن كان في خارج الوقت.
(2) مضى استثناء ما إذا كان فحصه خالياً عن المؤونة، وكان عدم فحصه معدّاً عرفاً من قبيل إغماض العين.
461

اثنين لا يعيّنه ما دام بين الوطن وكلّ منهما مسافة القصر؛ لأنّ المعوّل على نوع القصد بصرف النظر عن التمييز والتعيين.

(124) وإذا قصد المسافة وبعد أن طوى شيئاً حارَ في أمره وتردّد في رأيه هل يمضي على قصده أو يعود إلى مقرّه؟ وبعد هذا الشكّ والتردّد عاد إلى قصده الأول وعزم على الاستمرار فهل يقصّر أو يتمّ؟

الجواب: إن كان لم يقطع شيئاً من الطريق عند الحيرة والتردّد يبقى على القصر؛ حتّى ولو لم يكن الباقي مسافةً شرعية. وإن كان قطع شيئاً من الطريق عند الحيرة والتردّد فينظر: هل الذي يقطعه من الطريق بعد العودة إلى الجزم يبلغ المسافة ولو بضمّ الإياب والرجوع (1)؟ فإن بلغها قصّر، وأمّا إذا لم يبلغ المسافة فإنّه يتمّ، والأجدر به استحباباً أن يجمع بين القصر والتمام.

وكلّ ما ذكرناه ينطبق أيضاً على المسافر إذا طوى شيئاً من المسافة ثمّ توقّف وجزم بالعدول عن سفره برهةً وعاد بعد ذلك إلى قصده الأول.

ثالثاً: في ما يتعلّق بالشرط الثالث:

(125) وفي ما يتعلّق بالشرط الثالث ـ وهو أن يعتبر طيّ المسافة سفراً عرفاً ـ قد تسأل: إذا كانت البلدة كبيرةً جدّاً على نحو يساوي السير من نقطة منها إلى اُخرى المسافة المحدّدة ولو بضمّ الرجوع إلى الذهاب فهل يكفي ذلك في القصر؟

والجواب: أنّ هذا لا يكفي؛ لأنّ الإنسان ما دام يتحرّك في بلدته ـ مهما كانت كبيرة ـ فلا يعتبر ذلك سفراً منه عرفاً؛ لأنّ السفر يتوقّف على الابتعاد عن


(1) بشرط أن لا يكون الذهاب بعد العود إلى قصد السفر أقلّ من أربعة فراسخ.
462

البلدة والمقرّ.

(126) وقد توجد بلدان صغيرة على الطريق؛ والفاصل بين البلدة الاُولى والأخيرة بقدر المسافة المحدّدة شرعاً، فإذا سافر ابن البلدة الاُولى من بلدته إلى البلدة الأخيرة منها قصَّر.

وقد تسأل حينئذ: إنّ هذه البلدان إذا اتّصل بعضها بالبعض الآخر نتيجة التوسّع في العمران فماذا يصنع؟

والجواب: أنّه يقصّر أيضاً، إلّا إذا مرّ زمن على هذا الاتّصال والتفاعل بين تلك البلدان الصغيرة حتّى أصبحت بلداً واحداً فى نظر العرف، وسيأتي لذلك توضيح في الفقرة (175) وما بعدها.

رابعاً: في ما يتعلّق بالشرط الرابع:

(127) وفي ما يتعلّق بالشرط الرابع ـ وهو أن لا يقع أحد قواطع السفر أثناء طيّ المسافة المحدّدة شرعاً ـ قد تقول: قد يكون المسافر عازماً على المرور في أثناء المسافة المحدّدة على بلدته ووطنه، ولكنّه لم يمرّ فعلا؛ لعائق منعه عن ذلك وطوى المسافة المحدّدة بكاملها، فهل يقصّر؟

والجواب: أنّ هذا لا يقصِّر؛ لأنّه كان عازماً على المرور بوطنه في أثناء المسافة، ولمّا كان المرور بالوطن قاطعاً للسفر فهو إذن لم يكن قاصداً من أوّل الأمر للسفر بقدر المسافة، وبذلك يفقد الشرط الثاني من الشروط الأربعة.

(128) وقد تسأل: وماذا عمّن يسافر وهو يشكّ في أنّه هل سيمرّ بوطنه وبلدته في أثناء طيّ المسافة، أوْ لا؟

والجواب: أنّ هذا لا يقصّر أيضاً؛ لنفس السبب.

463

(129) وقد تسأل: وإذا سافر الإنسان وهو يشكّ في أنّه هل سيقيم في بلد على الطريق قبل إكمال المسافة، أو هل سيمكث فيه شهراً ولو بدون إقامة، ثمّ انصرف عن ذلك في أثناء السير وواصل سفره إلى أن أكمل المسافة، فماذا يصنع بعد أن أكمل المسافة؟

والجواب: الحكم أنّه يقصِّر، وكذلك أيضاً لو كان عازماً عند ابتداء السفر على أن يقيم عشرة أيام في نصف الطريق، ثمّ انصرف عن ذلك وأكمل المسافة المحدّدة.

(130) وكذلك الأمر أيضاً لو وصل إلى موضع في أثناء سفره وأعجبه وحدّث نفسه في الإقامة هناك عشرة أيام، ثمّ انصرف وواصل سفره، فإنّ حكمه القصر.

متى يبدأ القصر؟ ومتى ينتهي؟

عرفنا أنّ السفر إذا توفّرت فيه الشروط الأربعة المتقدّمة أوجب القصر، والسؤال هنا: أنّه متى يبدأ المسافر بالتقصير؟ ومتى ينتهي وجوب القصر بالنسبة إليه؟ ولنبدأ أوّلا بالجواب على السؤال الثاني:

أوّلا: متى ينتهي القصر؟

ينتهي القصر بأحد الأسباب التالية:

[ أ ] الوصول إلى الوطن:

(131) إذا وصل المسافر إلى وطنه وبلدته انتهى سفره، سواء كان السفر قد

464

ابتدأ من تلك البلدة أيضاً ثمّ عاد إليها، أو ابتدأ من موضع آخر وانتهى في سفره إلى بلدته، أو كانت له بلدتان كلّ منهما وطن له وبينهما المسافة المحدّدة فسافر من إحداهما إلى الاُخرى. وقد تقدّم في الفقرة (87) وما بعدها معنى الوطن شرعاً بأوجهه وأقسامه الأربعة.

وينتهي السفر بدخول الوطن فعلا، لا برؤية عماراته ومنائره ونخيله (1)، فما لم يدخل إليه يبقى حكم القصر ثابتاً.

(132) ولا فرق في الدخول إلى الوطن بين الدخول بقصد الاستقرار والمكث وغيره، فلو دخل المسافر وطنه وهو في السيارة قاصداً اجتيازه منه لمواصلة سفره انتهى بذلك حكم القصر بالنسبة إليه، ولا يعود إلّا بخروجه من وطنه إذا تحقّق منه سفر شرعي جديد.

وإذا كان المسافر راكباً في طائرة ومرّ ببلده انقطع بذلك سفره أيضاً؛ ما لم تكن الطائرة مرتفعةً في طبقات الجوّ إلى مستوىً لا يعتبر فضاءً لذلك البلد عرفاً.

(133) كما لا فرق بين أن يكون الدخول في الزمان الذي اعتاد فيه أن يكونمتواجداً في وطنه ذاك أو في غيره، فالتلميذ الجامعي الذي اتّخذ بغداد وطناً له لأجل الدراسة لو رجع إلى بلده الأصلي في العطلة الصيفية، ثمّ سافر إليها خلال الصيف انتهى بوصوله إليها سفره.

[ ب ] الإقامة عشرة أيام:

(134) إذا طوى المسافر المسافة المحدّدة، ثمّ قرّر أن يمكث في بلد أو قرية أو موضع معيّن عشرة أيام سمّي مقيماً، وسمّي هذا القرار إقامة، والإقامة تُنهي


(1) بل بالوصول إلى حدّ الترخّص.
465

حكم السفر، فالمسافر المقيم يتمّ ولا يقصّر، إلّا إذا بدأ سفراً جديداً.

(135) ونقصد بالقرار: أن يكون واثقاً من مكثه عشرة أيام في ذلك البلد، سواء نشأت هذه الثقة من محض إرادته واختياره للبقاء هذه المدة، أو لشعوره بالاضطرار إلى البقاء، أو وجود ظروف لا تسمح له بمغادرة المكان؛ كالسجين مثلا، فمهما توفّرت الثقة على مستوى اليقين أو مستوى الاطمئنان ـ راجع في معنى الاطمئنان الفقرة (21) من فصل التكليف وشروطه ـ فقد حصل المطلوب.

وعلى هذا الأساس فإذا كان راغباً في المكث عشرة أيام ولكنّه كان يشكّ في قدرته على البقاء، أو يتوقّع بعض الطوارئ التي تصرفه عن الاستمرار في المكث فلا يعتبر مقيماً، إذ لا ثقة له بأنّه سيبقى.

(136) ونقصد بعشرة أيام: عشرة نهارات، وتدخل ضمنها تسع ليال، وهي الليالي الواقعة بين النهار الأول والنهار الأخير، وابتداء النهار طلوع الفجر. فمن عزم على الإقامة في بلد من طلوع الفجر من اليوم الأول من الشهر إلى الغروب من اليوم العاشر كان ذلك إقامة. وكذلك إذا بدأت المدّة بنصف النهار إلى نصف النهار من اليوم الحادي عشر، كما إذا قصد الإقامة من ظهر اليوم الأول إلى ظهر اليوم الحادي عشر، وعلى هذا المنوال يجري حساب المدة إذا دخل في أثناء النهار قبل انتصافه أو بعد الانتصاف.

ولا يشترط قصد العشرة بالتعيين والخصوص، بل يكفي أن يقصد البقاء فترةً زمنيةً تساوي عشرة أيام؛ ولو لم يعلم هذا القاصد نفسه بأنّها تساوي ذلك، كما إذا قصد البقاء إلى آخر الشهر الشمسي وكان الباقي من الشهر عشرة أيام أو يزيد.

وأمّا إذا دخل إلى بلد وعزم الإقامة عشر ليال من بداية الليلة الاُولى من