المولفات

المؤلفات > أبحاث في بعض مسائل وفروع النكاح والطلاق أو الفسخ/الزواج الدائم من الكتابيّة

4

وعلى أيّة حال فهذا أحد الاتّجاهين في التفسير في تأريخ نزول هذه السورة، وإن صحّ فمن الواضح أنّ آية ﴿وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ لا يمكنها أن تنسخ آية ﴿وَالْمُـحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

والاتّجاه الثاني في تأريخ نزولها: ما قاله الفخر الرازي من أنّ هذه السورة باستثناء الآية الثالثة نزلت بعد فتح مكّة الذي حدث في السنة الثامنة من الهجرة(1). وقال عن الآية الثالثة: إنّها نزلت بعرفات في حجّة الوداع(2).

ولعلّ تعصّبه هو الذي دعاه إلى هذا الكلام كي يفترض أنّ آية ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ...﴾لا علاقة لها بالغدير؛ لأنّها نزلت بعد سورة الفتح، وأنّ آية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أيضاً لا علاقة لها بالغدير؛ لأنّها نزلت في عرفات.

وعلى أيّة حال فبناءً على هذا الاتّجاه يكون من المستبعد جدّاً أيضاً نسخ آية ﴿وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ لآية ﴿وَالْمُـحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾؛ لأنّ سورة الفتح نزلت بعد قصّة الحديبيّة على ما هو المشهور في التأريخ، وتدلّ عليه عدد من آيات نفس السورة، وقد مضى أنّ آية ﴿وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ مرتبطة بقصّة الحديبيّة.

وأمّا الذي يستفاد من نفس الآية المباركة ـ أعني الآية الخامسة من سورة المائدة ـ فواضح لدى الالتفات إلى تمام الآية، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُـحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُـحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَان وَمَنْ يَكْفُرْ بِالاِْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(3).

والتدقيق في صدر الآية يعطي أنّ الآية المباركة بصدد تسهيل الروابط بين المسلمين وأهل الكتاب في الطعام والنكاح، وهذا لا يحتمل أن يكون في زمن الأزمة الشديدة التي كانت بين المسلمين وأهل الكتاب وتعارض الندّ بالندّ ومن قبل هيمنة المسلمين، وأعني بذلك ما قبل فتح خيبر الذي تمّ في السنة السابعة من الهجرة، أي: ما بين صلح الحديبيّة وفتح خيبر.

وإنّما المحتمل بشأن زمان نزول هذه الآية أمران:

أحدهما: أن يكون بعد فتح مكّة في السنة الثامنة من الهجرة وسيطرة الإسلام على المشركين وأهل الكتاب معاً، وأراد الله تعالى بذلك تمييزاً بين أهل الكتاب والمشركين بأن لا مداهنة مع المشركين إطلاقاً، ولكنّ أهل الكتاب يمكن التعاشر معهم بذاك المقدار؛ لقاسم مشترك معنوي بينهم وبين المسلمين، وهو أصل الإيمان بإله الأرض والسماء، وبمتابعة كتاب سماويّ.


(1) التفسير الكبير للرازي 11: 123.
(2) المصدر السابق.
(3) سورة المائدة، الآية: 5.