نعم، بناءً على هذا إنّما يفتي الفقيه العامي بالطهارات الجزئية(1) بعدد ما يتّفق له خارجاً من أفراد الموضوع، ولا يفتيه بطهارة كلّيّة من قبيل إفتائه بها عندما ثبتت طهارة شيء بالإطلاق مثلاً، وهذا وإن لم يولّد مشكلة في الإفتاء لكنّه خلاف ظاهر الصيغ المرسومة للإفتاء في أمثال هذا المورد، فيؤيّد ذلك ما ادّعيناه من مخالفة ذلك للارتكاز.
وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ هذا الوجه الأوّل في نفسه غير معقول.
والثاني: أنّه يلزم منه خلاف الارتكاز الفقهي، بل الإشكال في الإفتاء على أحد المسلكين، ولا بدّ من لحاظ كلّ وجه من الوجوه الآتية بالقياس إلى هذين الأمرين.
الوجه الثاني: هو الجواب الذي ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) عن إشكاله الذي مضى ذكره، وهو أنّ الحكم وإن كان أمراً ذهنياً لكن توجد له علاقه مع ما في الخارج يجري الاستصحاب بلحاظها. وبيان ذلك موقوف على الالتفات إلى مقدّمة حاصلها: أنّ العوارض ـ على حدّ تقسيم الفلاسفة ـ تنقسم إلى أقسام ثلاثة:
1 ـ ما يكون العروض فيه خارجياً (أي: إنّ العارض خارجي، أي: موجود في الخارج) والاتّصاف ـ أيضاً ـ خارجيّاً، كما في البياض والسواد، فإنّهما أمران خارجيّان، أي: موجودان في الخارج لا في الذهن، واتّصاف الجسم بهما ـ أيضاً ـ خارجيّ، فإنّ الجسم في الخارج يصبح أسود أو أبيض لا في الذهن.
2 ـ ما يكون العروض فيه ذهنياً (أي: إنّ العارض ذهنيٌ) والاتّصاف ـ أيضاً ـ ذهنيّاً، من قبيل المعقولات الثانية في المنطق، كنوعيّة الإنسان، فليست النوعيّة شيئاً موجوداً في الخارج، وإنّما هي موجودةٌ في الذهن، وليس الإنسان في الخارج متّصفاً بالنوعيّة، فزيد وعمرو وبكر مثلاً ليسوا أنواعاً، وإنّما يتّصف الإنسان في الذهن بالنوعيّة، أي: إنّ مفهوم الإنسان الذي هو أمر ذهني يقال عنه: إنّه نوع.
3 ـ ما يكون العروض فيه ذهنياً والاتصاف خارجيّاً، من قبيل المعقولات الثانية في الفلسفة، كالإمكان بالنسبة للإنسان مثلاً، فالإمكان ليس شيئاً خارجيّاً، بدليل ثبوته قبل وجود الشيء الممكن، فلو كان خارجيّاً لزم محذور وجود العارض قبل وجود ما يتقوّم به، كما أنّه يلزم بعض المحاذير الاُخرى أيضاً، ولكن اتّصاف الممكن بالإمكان خارجي، فإنّ
(1) فيما إذا أراد أن يفتيه بالمستصحب، كما هو المألوف في الشبهات الحكمية، لا بالاستصحاب.