المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

42

إلاَّ أنَّ هذه التفاسير للعَدالة لا ترجع إلى محصَّل، ولا نتصوَّر قوّة عاملة في البشر محرِّكة لسائر القوى كالقوة الغضبيّة التي فسَّروها بقوّة دفع المنافر، والشهويّة التي فسَّروها بقوّة جلب الملائم، أفليست هاتان القوّتان هما العاملتين، فتحتاجان إلى قوّة أُخرى تحركهما تُسمّى بالقوّة العاملة؟! كما لا نتصوّر فرضيّة كون سائر الفضائل موجبة لانتزاع فضيلة جديدة اسمها العَدالة.

وخير ما يقال في تفسير العَدالة والظلم هو: أنَّ العَدالة عبارة عن إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، والظلم عبارة عن سلب ذي الحقِّ حقَّه.

وما قد يقال من: (أنَّ العَدالة عبارة عن وضع الشيء في موضعه، والظلم عبارة عن وضعه في غير موضعه) لا نفهم له مفهوماً إلاَّ برجوعه إلى ما قلناه: من إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، وسلب ذي الحقِّ حقَّه. وأنت ترى أنّه لا معنى لثبوت الحقِّ إلاّ الانبغاء والضرورة الخُلُقيّة، فمعنى أنَّ فلاناً له حقٌّ عليَّ أن لا أُوذيه أو حقُّ أن أُحسن إليه هو: أنّه من الضرورة الخُلُقيّة وممّا ينبغي أن لا أُوذيه أو أُحسن إليه، وليس هذا إلاّ عبارة عن الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، إذن، فقولنا: العدل حسن أو الظلم قبيح قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، وقد أُخذ محمولها في موضوعها، ويرجع روحها إلى أنَّ الحسن حسن والقبيح قبيح. وهذا هو السرُّ في أنّك لا ترى إنساناً اعتياديّاً يشكّك في هاتين القضيتين، فإنَّ الإنسان الاعتياديَّ لا يشكّك ـ طبعاً ـ في الضروريّة بشرط المحمول.

ومن هنا يتّضح أنَّ جعل العَدل والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة ليس ـ أيضاً ـ إلاّ لَعِباً بالألفاظ.

وقد تحصَّل بكلِّ ما ذكرناه أنَّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يدركهما العقل، وأنَّ المِقياس الأوّلي لهما هو درك العقل بالضرورة، ولهما مقاييس أُخرى مؤيَّدة من قبل العقل: كالدين الصحيح، وكالمصلحة والمفسدة في الجملة، كما أشرنا إليه فيما مضى.