المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

37

لتُضبَط. فالزهَّاد الذين يقتلعون الشهوات من جذورها في ضلال مبين، إنَّهم ينسون أو يجهلون أنَّ الشهواتِ جزء أساس من الإنسان، فاستئصالها ضارٌّ بطبيعته مُضيِّع لشطر منه، بل إنَّ استئصال الشهوات مضيِّع للفضيلة؛ لأنَّ الفضيلة ـ كما بيَّنا ـ معناها شهوات موجودة يضبطها العقل، لا شهوات مستأصلة.

وبكلمة أُخرى: الفضيلة شهوات معتدلة، ومن ثمَّ كان هناك طرفان ينبغي تجنُّبهما: الطرف الأوّل محاولة استئصال الشهوات. والطرف الثاني إرخاء العنان لها، إنَّما الفضيلة الاعتدال بحيث لا تطغى الشهوات على العقل ولا يطغى العقل عليها فتستأصل. فهذا القول جرَّ أرسطو إلى وضع نظريّة الأوساط، أي: أنَّ كلَّ فضيلة وسط بين رذيلتين: رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط، فالشَّجاعة وسط بين التهوُّر والجبن، والكرم وسط بين السرف والبخل، والعفَّة وسط بين الفجور والخمود ... وهناك فضائل لم تضع اللُّغة أسماء لطرفيها الرذيلين، ولكن هذا لا ينفي أنَّ الفضيلة في هذه الحالة ـ أيضاً ـ وسط بين رذيلتين(1).

وهل المقصود الوسط الحقيقيُّ أو الوسط النسبيُّ والإضافيُّ؟

يظهر من كتاب جامع السعادات أنَّ الفضيلة الكاملة هي الوسط الحقيقيُّ، ولكن الوسط المعتبر هنا هو الإضافيّ؛ لتعذّر وجدان الحقيقيّ والثبات عليه؛ لكونه في حكم نقطة غير منقسمة؛ ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فربَّما كانت مرتبة من الوسط الإضافيِّ فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو وقت، ورذيلة بالنسبة إلى غيره، ومَنْ هو متصف بفضيلة من الفضائل لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة هي الوسط الحقيقيّ إلاّ أنّه لمَّا كانت تلك الفضيلة قريبة إليه ولا يمكن وجود الأقرب منها إليه له يحكم بكونها وسطاً إضافيّاً؛ لأقربيتها إليه بالنسبة إلى سائر المراتب، فالاعتدال الإضافيُّ له عرض،


(1) مأخوذ من كتاب الأخلاق: 196.