المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

23

بالذات، وإنَّما يحكم على المُدرَك بالذات بأحكام وخصائص المُدرَك بالعرض بمنطق الفناء، ولا يُوجب الفناء سريان الخصائص والآثار من الخارج إلى الصورة حقيقة، فصورةُ النار ـ مثلاً ـ لن تحرق بفنائها في ذي الصورة، وإدراك الوسيع أو الضيِّق لن يكون وسيعاً أو ضيقاً بلحاظ المدرك بالعرض، كي يترتَّب على ذلك انبساط القوّة العاقلة وانقباضها؛ ولذا ترى وجداناً أنَّ القوّة العاقلة ليس الأولى بها أن تدرك العدل فقط دون الظلم، كما كان الأَولى بالقوّة الباصرة أن تدرك الصورة الحسنة دون القبيحة، والأولى بالقوّة الشامّة أن تشمَّ الروائح العطرة دون الكريهة. هذا ما أردنا الاقتصار عليه من نقل كلام أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(1).

وفي نهاية البحث عن مقياسيّة المصلحة والمفسدة بودِّي أن أُشير إلى أنَّ إنكارنا لهذا المِقياس إنَّما يعني مغايرة عنوانيْ الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة لعناوين اللذّة والألم أو الكمال والنقص، وعدم الملازمة فيما بينها، فلو كنتَ تلتذُّ بإيذاء الآخرين أو تحصل على كمال علميِّ من وراء اغتصاب شخص لتعليمه إيّاك من دون رضاه مثلاً، فهذه رذيلة لك وليست فضيلة، وهذا لا ينافي كون حفظ مصالح الناس أو درء المفاسد عنهم أمراً حسناً في ذاته بحكم العقل، وتوريطهم في المفاسد أمراً قبيحاً بحكم العقل، ولكنْ لا يجوز لك ـ أيضاً ـ توفير المصلحة لشخص بإدخال المفسدة على شخص آخر وإِن صغرت المفسدة وكبرت المصلحة؛ لأنَّ توفير المصلحة للناس مستحب في منطق العقل العملي، وإدخال المفسدة على الناس حرام في منطق العقل العملي.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنَّ مِقياسيّة المصلحة والمفسدة أو اللذّة والألم إِن كانت بمعنى مِقياسيّة المصلحة أو اللذّة الشخصيتين، فهذا مِقياس باطل؛ لما أشرنا إليه من بعض النقوض.


(1) راجع كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوَّل من القسم الثاني: 519 ـ 523.