المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (8) محــاســبة النفس (1)

6

ثُمّ إنّ المحاسبة لا تختصّ بالعُصاة كي يتصوّر أنّ العُدول مستغنون عنها؛ وذلك لأنّ مراتب العرفان لا تنتهي، وعقاب العارفين على ذنوبهم العرفانية ربّما لا يقلّ في إحساساتهم عن عقاب العاصين على معاصيهم، فالعارف الذي يُعاقب بحرمانه لذّة المناجاة مثلاً، أو حرمانه لبعض درجات تلك اللّذة قد يحسّ بألم هذا العقاب أكثر من ألم العاصي باحتراقه بخوف النار، إذن فمهما يبلغ العارف في مراتب سلوكه التي لا تتناهى المقامات الراقية لا يستغني عن محاسبة نفسه في سبيل نيل المقامات التي هي أعلى من ذلك والنجاة من العقاب الذي قد يراه في مستواه أعلى ممّا يراه العاصي من العقاب في مستواه. وأنت لو نظرت إلى لغة العارفين لأحسست بشدّة احتراقهم بالمجازاة العرفانية التي تفوق على تألّم العاصين من استحقاقهم للنار، فمثلاً لو كان الإعراض عن اللغو بشكل مطلق ـ الذي جعل في ظاهر الآية المباركة وصفاً للمؤمنين(1) ـ من الواجبات العرفانية لا الواجبات الفقهيّة، وافترضنا أنّه غير ذي أهميّة قصوى ما دام هو غير واجب فقهيّاً، فبالله عليك ألا تتذوّق شدّة الاحتراق والتألّم إلى حدٍّ لا يوصف على فرضية صدور هذا الذنب العرفاني ممّا ورد في دعاء أبي حمزة: «... أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني...»؟! ولو لم يكن فقدان لذّة المناجاة أشدّ على العارفين من حرقة ذكر النار على العاصين فماذا تفهم من الفقرة الواردة في دعاء أبي حمزة من قوله:

«... اللّهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيتَ عليَّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بليّة أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك، سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيّتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني... »(1)؟!


(1) راجع السورة 23، المؤمنون، الآيات. ـ 3.
(2) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.