المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (5) ثوب التّقوى وحقيقته

4

وأيضاً ممّا ورد في توصيف مناجاته وتضرّعه وبكائه ما جاء في زيارةله (عليه السلام) حليفِ السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتصلة...(1).

ولا غرو أنّ تُؤثّر حالة عرفانه سلام الله عليه في تلك الجارية التى أرسلها هارون الرشيد إِلى السجن بعنوان أن تخدم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فيتقلب حالها إِلى حالة الانمحاء في عبادة الله. وفي أغلب الظن أنّ هارون كان قد بعثها إِلى الإمام (عليه السلام) بتخيّل أن يفتنه بها، فانقلب السحر على الساحر.

والقِصّة على ما ورد في التاريخ ما يلي: قال العامري: «إنّ هارون الرشيد أنفذ إِلى موسى بن جعفر جارية خصيفةً لها جمال وضّاءة؛ لتخدمه في السجن، فقال (عليه السلام): قل له: ﴿... بل أنتم بهديتكم تفرحون﴾(2) لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها. قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه، وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف، قال: فمضى ورجع، ثُمّ قام هارون عن مجلسه، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدةً لربّها، لا ترفع رأسها، تقول: قُدّوس سبحانَك سبحانَك. فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأُتي بها وهي ترعد شاخصةً نحو السماء بصرها، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع، إنّي كنت عنده واقفةً وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبّح الله ويقدّسه، قلت: يا سيدي هل لك حاجةٌ أُعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك؟ قلت: إني أُدخلت عليك لحوائجك، قال: فما بال هؤلاء؟ قالت: فالتفتُّ فاذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أوّلها بنظري ولا أوّلها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائِف لم أرَ مثل وجوههم حُسْناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كلِّ الطعام، فخررت ساجدةً حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت. قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمت، فرأيت هذا في منامك؟ قالت: لا والله يا سيدي إلّا قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرشيد: اقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك؟ قالت: هكذا رأيت العبد الصالح (عليه السلام)، فسئلت عن قولها؟ قالت: إنّي لمّا عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه، فنحن له دونكِ. فما زالت كذلكَ حتى ماتت، وذلك قبل موت موسى (عليه السلام) بأيّام يسيرة»(3).


(1) منتهى الآمال 2/223.
(2) السورة 27، النمل، الآية: 36.
(3) البحار 48/238 ـ 239.