المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (5) ثوب التّقوى وحقيقته

3

وكذلك هلمَّ معي لنقف وقفةً قصيرة تجاه أحوال إمامنا موسى بن جعفر (عليه السلام)، فمن أيّ شيء كان يخاف على نفسه؟! وقد رُوِيَ عن حفص أنّه قال: ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (عليه السلام)، ولا أرجى للناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً(1) وما ذنبه بأبيهو وأُمي حينما كان يقول: «عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك» وكان يقول: «اللّهمَّ إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب» ويكرّر ذلك، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضّل لحيته بالدموع(2) وفي نقل آخر كان يقول في سجوده: «قَبُحَ الذنب من عبدك، فليحسن العفو والتجاوز من عندك»(3).

آباؤنا وأُمهاتنا وأنفسنا فداءٌ لذنوبك يا أبا الحسن يا موسى بن جعفر (عليه السلام)، وليتنا كنّا نعقل ماهي ذنوبك كي نزيّن أنفسنا بها، ويكون ذلك لنا فخراً واعتزازاً، وبأمل أن نصبح بذلك من الأبرار؛ لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين(4).

ثُمّ يا ليتنا كنّا نفهم ماهو مدى التذاذكَ بمناجاة الربِّ وعبادته حيث قلت في سجن فضل بن الربيع: «اللَّهمَّ إنّك تعلم انّني كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتكَ، اللَّهمَّ وقد فعلتَ، فلكَ الحمد»(5).

فنحن نعلم أنّك أنت وآباءكَ الطيبين وأبناءك الطاهرين كنتم تتعشّقون العمل الاجتماعي في سبيل الإسلام وإن أدّى ذلك إِلى التضحية بالنفس حتى أصبح القتل لكم عادةً وكرامتكم من الله الشهادة، فما هي لذّة المناجاة عندكَ التي ضاهت لذّة العمل الاجتماعي في سبيل المبدأ والعقيدة، فطلبت من الله أن يفرّغكَ لها؟!

ثُمّ يا ليتنا نعرف ماذا كنت تعاني في السجن حينما تبدّلت موجة دُعائك هذه المرّة من طلب الفراغ للعبادة إِلى طلب الخلاص من السجن، فكنت تقول: «يامُخلِّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مُخلِّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مُخلِّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مُخلِّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مُخلِّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون»(6).


(1) البحار 48/111.
(2) البحار 48/101.
(3) البحار 48/108.
(4) البحار 25/205. أمّا تفسير هذه العبارة: فنحن مشينا في هذا الكتاب على تفسير (حسنات الأبرار سيئات المقربين) بمعنى: الصالح والأصلح، أو الحسن والأحسن، ولكن مقصود أهل العرفان هو: أنّ شيئاً ما حسن من اُناس واصلين إِلى مستوى من العرفان، ولكنّه سيء من أناس واصلين إِلى مستوى أعلى، فمثلاً يُدَّعى أنّ الفناء في بعض أسماء الله يكون حسناً لأُناس يرقّيهم هذا الفناء من مرتبتهم الفعليّة النازلة إِلى أن يصلوا إِلى مستوى يجب أن يرتقوا اِلى الفناء في ذات الله، ويصبح الاسم عندئذ ـ حجاباً ـ وكذلك التأسّف على الذنوب، والبكاء عليها، وجعلها نصب العين، وتأنيب النفس عليها، حسن في مقام تطهير النفس، وتخليصها من مفاسد تلك الذنوب، ثمّ بعد ذلك يصل العارف إِلى مستوىً يصبح جعل الذنوب نصب العين والاستمرار على تأنيب النفس معكّراً لجو الحبِّ والأُلفة مع الله الذي يكون المفروض بالعارف الفناء فيه، فيصبح حجابا مانعاً عن الرقّي، فلا بدَّ من تركه... ونحن بما أنّنا نرى أنّ هذه في أغلب الموارد تلفيقات من قبلَ الصوفيّة ومن تبعهم في ذلك غفلةً، ولم تُؤثَر عن أئمتنا (عليهم السلام) الذين هم أعرف بطرق تهذيب النفس وترقيتها في سلم العرفان، ولا دلّ عليها في أغلب مواردها العقلُ، عدلنا عن استعمال هذه الجملة بذاك المعنى إِلى المعنى الذي عرفت.
(5) البحار: 48/107 ـ 108.
(6) البحار 48/219.