المولفات

المؤلفات > محل الذبح في الحجّ

8

ورغم كل هذا، تبقى صورة للاستدلال على أولوية مكة بقوله: «إنّ مكة كلّها منحر» وذلك بأن يقال: إنّ المورد لا يخصص الوارد، فإطلاق هذه الجملة ـلولا علمنا باختصاص النحر في الحجّ بمنى لدى الإمكانـ يدل على أنّ مكة كلها منحر من دون فرق بين الحجّ والعمرة، لكن خرج من الإطلاق فرض إمكان الذبح بمنى في الحجّ وبقي تحته فرض العجز عن الذبح في منى.

إلّا أنّ هذا مضافاً إلى أنّه لا ينسجم مع ما شرحناه في علم الاُصول ـمن عدم تمامية الإطلاق في المحمول في مثل قوله مثلا: التمر نافع، فهذا لا يدل على ثبوت جميع أقسام النفع للتمر، ويكفي في صدق هذه الجملة بإطلاقها ثبوت نفع ما للتمر، ففي المقام أيضاً يكفي كون مكة منحراً في العمرةـ لايتم في المقام؛ لأنّ أصل اشتهار أنّ منى كان هو المنحر في الحجّ والذبح في مكة كان مألوفاً في العمرة وأنّ عمل الإمام أيضاً كان في العمرة، يؤدّي إلى انصراف الكلام إلى العمرة.

وعليه فالأولى في إثبات أولوية مكة أو هي وما حواليها للذبح لدى العجز عن الذبح في منى سلوك الطريق الذي نحن سلكناه، وهو التمسك بالآية المباركة: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾، فبعد سقوط قيد منى بالعجز يبقى إطلاق ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ محكماً.

إلّا أنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على استظهار أنّ المرجع للضمير في قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ وقوله: ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ هو الهدي، وذلك إمّا بإرجاع الضمير إلى ﴿بَهِيْمَة الأنْعَام﴾ الوارد ذكرها في الآية (28)، وقد يستبعد ذلك بالفاصل الموجودبين الآيتين، أو بإرجاعه إلى ﴿شَعَائِرَ الله﴾ الوارد ذكرها في الآية (32) ولا فاصل بين الآيتين، وعندئذ يتوقف استظهار المعنى المقصود على أنّ ﴿شَعَائِرَ الله﴾ في الآية مطبّقة على الهدي، كما قال الله تعالى في الآية (36): ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾.

وتوضيح ذلك: أنّ أئمّة التفسير ذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿شَعَائِرِ اللَّه﴾ احتمالات ثلاثة:

1 ـ أن يكون المقصود كل الشعائر الواردة في الدين الإسلامي.

2 ـ أو يكون المقصود فرائض الحجّ ونسكه.

3 ـ أو يكون المقصود الهدايا؛ لأنّها من معالم الحجّ.

قيل: والثالث أوفق؛ لظاهر ما بعده من قوله: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾(1).

أقـول: ينبغي أن يحمل تفسير «شعائر الله» بمعالم الحجّ أو الهدايا على معنى أنّ المصداق الذي قصد بالخصوص في الآية من باب تطبيق المطلق على مصداقه هو ذلك من دون أن يضرّ بإطلاق «شعائر الله» وإلّا فتفسير المطلق بالمورد بمعنى استعماله في خصوص ذاك المصداق، خلاف الظاهر.


(1) كنز الدقائق 9: 83.