المولفات

المؤلفات > مَغزى البيعة مع المعصومين (علیهم السلام)

5

أمّا الكتاب فنكتفي منه في المقام بآيتين:

الاُولى: قوله سبحانه وتعالى:﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(1)، فقد عقدت هذه الآية المباركة الملازمة بين قضاء الله وقضاء الرسول من ناحية، وبين سلب الخيرة من المؤمنين والمؤمنات من ناحية اُخرى، وهذا يعني ولاية الحكم.

ومن الطريف ما قالة القائل من نفي دلالة هذه الآية على المطلوب، بنكتة أنّ هذه الآية إنّما دلّت على أنّه متى ما تمّ القضاء من قبل الرسول وجبت طاعته. وهذا صحيح؛ لأنّ الرسول معصوم لا يقضي بغير الحقّ ولا يقضي بغير ما له حقّ القضاء به، ولكن لم تذكر الآية أنّ الرسول متى يقضي فلا تنفي الآية كون قضاء الرسول مشروطاً بالبيعة.

أقول: أوّلاً: إنّ مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة أنّ طرف الملازمة ذات قضاء الرسول (صلى الله عليه و آله)، في حين أنّه لو كانت البيعة شرطاً في مشروعيّة القضاء لكان طرف الملازمة القضاء زائداً على البيعة. ففرق بين افتراض كون زمان وجود البيعة ظرفاً بحتاً للقضاء من باب إنّه لولا البيعة لعجز الرسول عجزاً تكوينيّاً عن تنفيذ قضائه وافتراض كون البيعة شرطاً في نفوذ القضاء شرعاً. فالأوّل لا ينفى بإطلاق الآية؛ لأنّ طرف الملازمة يكون حقّاً هو ذات القضاء، وليست البيعة إلّا ظرفاً للقضاء. ولم تذكر الآية أنّ القضاء متى وفي أيّ ظرف يتحقّق؟ ولكن الثاني يُنفى بالإطلاق؛ لأنّ معناه كون طرف الملازمة القضاء المقيّد بالبيعة لا ذات القضاء، والقيد منفيّ بمقدّمات الحكمة والإطلاق.

ثانياً: إنّ قضاء الرسول قد اُردف في الآية المباركة بقضاء الله، ولا شكّ أنّ نفوذ قضاء الله غير مشروط بالبيعة؛ لأنّ فرض اشتراط نفوذ قضاء الله بالبيعة يستلزم إمكان انحلال كلّ البشريّة عن جميع الأحكام الإلهيّة بترك البيعة، وعندئذ لا يحقّ لله تعالى أن يعذّبهم على المعاصي، وهذا ليس خروجاً من ضرورة المذهب فحسب، بل خروج من ضرورة أصل الإسلام. فإذا تمّ عدم تقيّد نفوذ قضاء الله بالبيعة فوحدة السياق في المقام تقضي بعدم تقيّد نفوذ قضاء الرسول بالبيعة، بل ظاهر الآية هو أنّها افترضت قضاء الله وقضاء الرسول أمراً واحداً أو أمرين متلازمين، فالآية كالصريحة في نفي شرطيّة البيعة لنفوذ قضاء الرسول.

والثانية: قوله سبحانه وتعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾(2)، فإنّ هذه الآية أيضاً كالصريحة في نفي شرط البيعة، لأنّ البيعة إن كانت بمعنى إعطاء الولاية بالعقد الاجتماعي رجع روحها إلى روح التوكيل، ويكون وليّ الأمر وكيلاً من قبل الاُمّة التي عيّنته للقضاء والحكم، ولا يصحّ أبداً لدى أبناء اللغة أن يقال: الوكيل أولى بالموكِّل من نفسه، بل يصحّ للموكّل في الفهم العقلائي العرفي عزل الوكيل متى ما شاء. إذن فالمفهوم من قوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ هو ولايةٌ فوق ما يعطى بالتوكيل أو بالعقد الاجتماعي، إن هي إلّا ولاية أعطاها الله للمعصوم ولم يعطها الناس إيّاه بالبيعة. وليست هذه ولاية تبليغ الأحكام فحسب؛ لأنّ تعبير ﴿أَوْلَى بِهم مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ يعطي معنى السلطة على النفس، وهذا أعلى ما يتصوّر من مستوى ولاية الحكم.

وأمّا السنّة: فنكتفي منها في المقام بنصّ الغدير الثابت بالقطع والتواتر، وهو قوله (صلى الله عليه و آله): «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى، قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ...».

ومن الطريف ما قاله القائل من أنّ نصّ الغدير لم يعط لعليٍّ  ولاية الحكم، وإنّما أعطاه ولاية التبليغ؛ لأنّ الرسول لم يكن يمتلك من الاُمّة حقّ ولاية الحكم عليهم لما بعد موته كي يعطيها لعليّ، فإنّ الاُمّة إنّما أعطته بالبيعة ولاية الحكم في مدى حياته ولم تُعطِها إيّاه ملكاً وراثيّاً أو أبديّاً يكون من حقّه أن يعطيه بلحاظ ما بعد وفاته لابن عمّه أو لأيّ إنسان آخر.

أقول: لو فرض إمكان هذا التفسير لنصّ الغدير لولا قول الرسول (صلى الله عليه و آله): «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»، لكان من الواضح أنّ تفريع الرسول (صلى الله عليه و آله) إعطاء الولاية لعليّ (صلى الله عليه و آله) على كونه (صلى الله عليه و آله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم يبطل ذلك، لما أشرنا آنفاً من أنّ التعبير بـ﴿أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ صريح في ولاية الحكم.

وإنّما تورّط هذا القائل في ما تورّط فيه من نفي دلالة نصّ الغدير على أساس توهّم كون ولاية النبيّ الحكوميّة مأخوذة من الناس بالبيعة، لا من الله ابتداءً.

وأطرف من ذلك ما قاله هذا القائل أيضاً من أنّ بيعة الناس في يوم الغدير لعليّ  لم تكن بيعة له على السلطة والحكم، بل كانت بيعة له على ولاية التبليغ؛ وذلك لأنّ الاُمّة في زمان الرسول (صلى الله عليه و آله) لم يكونوا يمتلكون ولاية الحكم؛ لأنّهم كانوا قد نقلوها من أنفسهم إلى الرسول بالبيعة، فلا يملكون شيئاً من هذا القبيل كي يعطوه لعليّ  بالبيعة. نعم، بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه و آله) رجعت ولاية الحكم إليهم وملكوها مرّةً اُخرى بانفساخ العقد أو انتهائه بموت طرف العقد وهو الرسول، فكان بإمكانهم أن يعطوها لعليّ  بعقد آخر أو بيعة اُخرى.


(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 6.