المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

32

نطقها وتلفّظها، كانت غريبة علينا جدّاً، ولم نسمع بها أو بمثلها من الأسماء في كتبنا المدرسيّة، ولم نقرأ فيها إلّا (إديسون) و(نيوتن) وغيرهما ممّن درسنا عنهم وعن اكتشافاتهم واختراعاتهم.

لقد كان يهيم في حديثه، ويسبح في بحر من الخيال والتسامي، أويغوص في بحر لجّيٍّ يلتقط منه العبارات والمعاني والأفكار.

لقد حملنا شوقنا إلى المعرفة أن نكرّر انضمامنا إلى مجموعته التي أطلق عليها اسم (الحوزة)، وكلّنا نرغب رغبة ملحّة في أن نفهم ما يتحدّث به. ونحن لاندري هل أنّ هؤلاء الصبية والأطفال المحيطين به يعون ويدركون ما يتحدّث به إليهم، ويتفهّمون ذلك؟. وهذا ما كان يثير اهتمامنا بقدر ما كنّا نرغب في التزوّد من معارفه آنذاك والتي كنا نراها أشياء جديدة علينا، ولكن فيها متعة ولذة وإن لم ندرك أكثرها، وكنّا نستزيده فيزيد، ونطلب منه أن يعيد علينا ما حدّثنا به قبل يوم، فيجيب دون أن يلتمس لنفسه عذراً، أو يقابلنا برفض.

فقد كان همّه كلّ همّه أن نفهم، وأن نعي ما يحدّثنا وكأنّه نذر ساعات لعبه وسهوه ـ وهو بهذا السنّ ـ ليكون معلّماً ومفقّهاً، واصلنا حضورنا حوزته هذه حتّى كانت نهاية العام، وبدأت العطلة، فافترقنا حيث التحقنا نحن في المدرسة المتوسطة، وبقي هو في مدرسته قليلاً حتّى علمنا أنّه تركها؛ لينصرف إلى الدرس.

كانت أيّاماً مضيئة وجميلة، وكانت حلماً حلواً مؤنساً أخذنا فيها عنه أشياء كثيرة ساعدتنا على أن نتفهّم ما نقرأ من كتب غير كتبنا المدرسيّة، كتب كان يزوّدنا بها هو أحياناً كلّما التقى واحداً منّا، وقليلاً ما كنّا نلتقيه إلّا في داره حيث كنّا نجده مكبّاً على قراءة كتب لانعرف حتّى أسماءها، وكتب كنّا نقتنيها من المكتبات، أو نستعيرها من الأصدقاء زملاء المدرسة، أو من المكتبات العامّة بإشارة وتوجيه منه. وكنّا نهتمّ بكلّ كتاب ينصحنا بقراءته، وإن غمض علينا شيء منه، كان يعيننا على فهمه بكلّ سرور ورحابة صدر وهو ممتن غير مانّ.

كانت لنا معه أيّام حلوة سعيدة عادت علينا بعد ذلك بمرارة لانتجرّعها، ولانتحمّل مرارتها، فقد رحل عنّا شهيدنا، اغتالته فئة ضالّة باغية، وتركنا إلى حيث يرتع في نعيم دائم وسعادة أبديّة، وبقينا بعده غرقى في شقاء ما مثله شقاء، وحياة مليئة بالقسوة والظلم