603

ولكنَّ القسم الثاني من العبادة حينما يؤتى بها بحالة الخشوع والحضور والخلوة مع الله، يكون أكثر تأثيراً في تربية النفس من القسم الأوّل، ولهذا لابدَّ للإنسان الحريص على تكميل نفسه وتزكيتها من تخصيص بعض من أوقاته يوميَّاً بذلك، ومسألة التأكيد على صلاة الليل داخلة في هذا المضمار.

 

10 ـ توفير الحاجات النفسيَّة والجسديَّة:

من أهمِّ ما يحقِّق للنفس فرصة التربية توفير ما يلبّي الحاجات النفسيّة والجسديَّة عن طُرقها المشروعة؛ كي تفرغ النفس للتزكية والتكامل، ولا تتَّجه النفس في إشباع الحاجات إلى الطرق غير المشروعة. ومن هذا الباب الأدب الإسلامي في التبكير بالزواج في مقتبل العمر، ومن هذا الباب ـ أيضاً ـ الأدب الإسلامي في تأجيل الصلاة لدى مدافعة الأخبثين حتّى يتمَّ دفعهما، وكذلك ينفع دفع الحاجات وعلاجها قبل العبادة لحضور القلب.

وهذا المحفِّز هو أحد الأُمور التي تتوفَّر بأفضل الأنحاء وأكملها حينما يكون الإسلام هو الذي يحكم المجتمع.

 

11 ـ نظام العقوبات:

ولنظام العقوبات أثر بالغ في التربية: من الحدود، والتعزيرات، والقصاص، والديات، والكفارات. وهذا أحد الأُمور التي تتوفَّر بأفضل الأنحاء حينما يكون الإسلام هو الحاكم في المجتمع.

 

12 ـ المربِّي:

ومن الأُمور الهامَّة المؤثِّرة في تزكية النفس وتربيتها، تسليمُ الشخص نفسه بيد مربٍّ يكون أعلى مستوىً بدرجات رفيعة من المربَّى. وهذا من قبيل ما مضى في

604

المحفِّز الثاني: من اتِّخاذ القدوة، بفرق: أنَّ النظر في المحفِّز الثاني ـ وهو القدوة ـ كان إلىممثِّليَّته للصفات الحسنة والمُثل العليا بالاقتداء بأوصافه وأعماله ونواياه وأهدافه، والنظر في هذا المحفِّز يكون إلى الرجوع إليه والاسترشاد به، وقبول نصائحه وإرشاداته.

 

13 ـ الضمير أو الوجدان أو الفطرة:

قال الله تعالى: ﴿وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(1).

وقال عزَّ من قائل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(2).

وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(3).

وقال عزَّ اسمه: ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ﴾(4).

وقال جلَّ وعلا: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ...﴾(5).

وقال ـ أيضاً ـ في كتابه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(6).

وقال ـ أيضاً ـ في الكتاب: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً﴾(7).


(1) السورة 91، الشمس، الآيتان: 7 ـ 8 .

(2) السورة 90، البلد، الآية: 10.

(3) السورة 76، الإنسان، الآية: 3.

(4) السورة 75، القيامة، الآية: 2.

(5) السورة 30، الروم، الآية: 30.

(6) السورة 7، الأعراف، الآية: 172.

(7) السورة 17، الإسراء، الآية: 67.

605

إنّ الله عزَّ وجلَّ خلق في النفس البشريَّة مَحْكمةً اسمها: الضمير أو الوجدان، أو الفطرة، تدرك أوَّلاً كثيراً من الحقائق الراجعة إلى الفضيلة والرذيلة، ممَّا يكون حسنها وقبحها أمرين واقعيين، وغير مأخوذين من مجرَّد الشهرة أو العادة أو التأديب الاجتماعي وغير ذلك، وتؤنِّب وتلوم ثانياً الإنسان لدى مخالفة تلك الحقائق، وتحسِّسه بالوخز عندها، وتحسِّسه بالرضا والارتياح لدى موافقتها. وهذا من أعظم نعم الله على العباد، ولولاه لما انفتح على البشر أيُّ باب من أبواب الهداية.

وكأنَّ الآيات الأربع الأُولى تشير إلى هذه القوَّة المودعة في النفس.

وهناك قوَّة اُخرى قريبة من قوَّة الضمير، قد تُسمَّى بالفطرة وهي لم تكن مدركاتها مباشرة عملية بمعنى الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، ولكنَّها تدرك مصدر المسؤوليَّة العمدة والأساس في الإنسان، ألا وهو الله سبحانه وتعالى، أو الدين والمبدأ. وكأنَّ الآيات الثلاث الأخيرة تشير إلى هذه القوَّة. وهي وإن كانت في الحقيقة جزءاً من قوَّة العقل النظري لا العملي، لكن لشدَّة التصاقها بقوَّة الضمير والعمل قد تحشر في صفِّ تلك القوَّة. ويُسمّى الجميع بالضمير أو الوجدان تارة، وبالفطرة أُخرى.

ويحتمل كون الآيات الثلاث الأُولى إشارة إلى الضمير والفطرة معاً. وتشير إلى الفطرة ما ورد عن النبيِّ(صلى الله عليه وآله): «كلُّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوِّدانه وينصِّرانه»(1).

وهناك قوَّة ثالثة في النفس قريبة من الاُوليين، وهي: مركز الاطمئنان والسكون والارتياح تارة، والاضطراب أو الرعب أُخرى. ويمكن تسميتها بالقلب أو الفؤاد، وقد يقصد بهما مركز الإدراك المرتبط بالضمير أو الفطرة.


(1) بحار الأنوار 3 / 281.

606

ولعلَّ المعنى الأوَّل هو المقصود بمثل قوله تعالى:

1 ـ ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

2 ـ ﴿... قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ...﴾(2).

3 ـ ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ...﴾(3).

4 ـ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ...﴾(4).

5 ـ ﴿... سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ...﴾(5).

ولعلّه المقصود بالنفس المطمئنّة في قوله تعالى: ﴿يَا أَ يَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(6).

ولعلّ المعنى الثاني هو المقصود بمثل قوله تعالى:

1 ـ ﴿... وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(7).

2 ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(8).

3 ـ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(9).


(1) السورة 28، القصص، الآية: 10.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 260.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 151.

(4) السورة 13، الرعد، الآية: 28.

(5) السورة 8، الأنفال، الآية: 12.

(6) السورة 89، الفجر، الآيات: 27 ـ 30.

(7) السورة 16، النحل، الآية: 78.

(8) السورة 22، الحج، الآية: 46.

(9) السورة 50، ق، الآية: 37.

607

4 ـ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(1).

5 ـ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾(2).

6 ـ ﴿... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾(3).

وهذه القوى الثلاث: أعني أوَّلاً الضمير أو الوجدان، وثانياً الفطرة، وثالثاً القلب أو الفؤاد، هي خير أدوات لهداية البشر ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ...﴾(4).

ووظيفتنا تجاه هذه النعم القيِّمة والتي تصلح أن تكون خير محفِّز للخيرات والفضائل والحسنات والكمالات، هي جلاؤها وصقلها، وتقويتها، ونفض الغبار عنها.

وإن شئت توضيحاً أكثر من ذلك قلنا: إنّ الضمير المودع من قبل الله سبحانه وتعالى في نفس كلِّ فرد من أفراد البشر، لا يخطأ في فهمه وإدراكه، وهي الجوهرة الربَّانيَّة والرسول الباطني الذي أُرسل لهداية البشر، بمعونة العقل النظري في النظريّات المحتاج إليها للوصول إلى النتائج الخارجيّة: من إدراك الخالق، أو معرفة الرسول، وما شابه ذلك، ولكن هذا الضمير على رغم ماله في حدِّ ذاته من صفاء ونور وجلاء، يبتلى هو أو يبتلى الإنسان بالقياس إليه بمشكلتين:

الأُولى: أنّ الشهرة أو العادة أو العقل الجمعي أو القرار الاجتماعي على شيء لأجل المصالح أو لأجل نزعات نفسيَّة أو لأيِّ عامل آخر وما إلى ذلك، تخلق في النفس في كثير من الأحيان قناعات معيَّنة، وقد تُسمَّى أو يُسمّى بعضها بالمشهورات أو الآراء المحمودة، فيقع الاشتباه في النفس ـ أحياناً ـ بين هذه


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 179.

(2) السورة 23، المؤمنون، الآية: 78.

(3) السورة 32، السجدة، الآية: 90، والسورة 67، الملك، الآية: 23.

(4) السورة 2، البقرة، الآية: 138.

608

الإدراكات التي دخلت من العوامل الغريبة إلى النفس، وبين الإدراكات التي هي من صميم النفس، والتي تنبع من الضمير أو الفطرة اللذين لا يخطأان، فلابدَّ من التيقُّظ الكامل في التشخيص بينهما. ومن العلائم التي تنفع كثيراً في الفصل بينهما: أنَّ المدرك بالضمير أو الفطرة، يكون ـ عادةً ـ أعمَّ شمولاً وانتشاراً بين أصناف الناس المختلفة؛ لأنَّها نبعت من النفس البشريَّة التي هي أمر مشترك بين الجميع ولكن القناعات الناتجة من العوامل الخارجيَّة والغريبة على النفس تكون ـ عادةً ـ أقرب إلى الاختلاف باختلاف الظروف والبيئات.

والثانية: أنَّ هذه الجوهرة الربَّانيّة تقع ـ أحياناً ـ تحت الغبار، فيخفت نورها، أو ينطفئ لا سمح الله. والغبار الذي يغطِّي هذه الجوهرة بستار رقيق أحياناً وكثيف أُخرى غباران:

أحدهما: غبار الشبهات والمغالطات التي قد يتخيّل الإنسان كونها براهين عقليَّة فيذعن لها، وبهذا يغطِّي وجدانه وضميره أو فطرته. وعلاج ذلك إذكاء العقل النظري وتنميته وشدَّة الالتفات والتيقُّظ.

وثانيهما: غبار الشهوات أو المعاصي، والتي إذا كثرت أوجبت الرين على القلب كما ورد في القرآن:﴿كَلاَّ بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(1).

والعلاج الوحيد لذلك بعد الالتجاء إلى الله تعالى التقوى والورع، فكلَّما زادت التقوى خفَّ الغبار والرين إلى أن يرتفع، بل قد يقوى ويشتدُّ نور الضمير والوجدان نتيجة للتقوى أكثر من أصله الذي كان، فتنعكس فيه الحقائق أكثر من ذي قبل، وقد يكون هذا ممَّا يشير إليه قوله تعالى: ﴿...وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ...﴾(2)، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿... إنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ...﴾(3)، وقوله عزَّ من قائل:


(1) السورة 83، المطففين، الآية: 14.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 282.

(3) السورة 8، الأنفال، الآية: 29.

609

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(1).

ولا ينبغي أن نغفل عن الدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى للتوفيق لذلك؛ لأنّ التوفيق من الله؛ فإنَّ الله ـ تعالى ـ يقول: ﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً ...﴾(2)، فلو أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أراد أن يذكي ضميرنا ووجداننا وعقلنا انتهينا إلى كلِّ خير، ولو أنّ الله ـ تعالى ـ أوكلنا إلى أنفسنا طرفة عين لهلكنا، وكلُّ مساعينا إن هي إلاّ مقدّمات إعدادية للإفاضة من الله سبحانه وتعالى قد تفضَّل الله ـ تعالى ـ علينا بإقدارنا عليها، وأمرنا بالالتزام بها.

وقد ورد في الحديث عن ابن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول ـ وهو رافع يده إلى السماء ـ: ربِّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر، قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته، ثُمّ أقبل عليَّ فقال: يابن أبي يعفور، إنّ يونس بن متى وكَّلَه الله ـ عزَّوجلَّ ـ إلى نفسه أقلَّ من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب.

قلت: فبلغ به كفراً أصلحك الله؟

قال: لا، ولكنّ الموت على تلك الحال هلاك»(3).

وطبعاً يحمل الذنب في الحديث على معنى ترك الأولى، ممَّا يحسبه الأنبياء والأوصياء والمعصومون بالنسبة لأنفسهم ضلالة ونقصاناً للدرجة، وعلى هذا الأساس ورد في القرآن: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(4).


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

(2) السورة 24، النور، الآية: 21.

(3) أُصول الكافي 2 / 581، باب دعوات موجزات، الحديث 15.

(4) السورة 37، الصافات، الآيتان: 143 ـ 144.

610

اللّهمَّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً بحقِّ محمَّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

وفي نهاية البحث أُشير إلى أمرين:

الأمر الأوَّل: أنَّ من المحتمل أن يكون أُسلوب إتمام الحجَّة على العبد في يوم القيامة، أو ـ في الأقلّ ـ أحد أساليب إتمام الحجَّة عليه في ذلك اليوم، عبارةً عن مجموع أمرين:

أ ـ تقوية الذاكرة، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى﴾(1).

وفي الحديث عن خالد بن نجيح، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: « إذا كان يوم القيامة دُفِعَ إلى الإنسان كتابُه، ثُمَّ قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنَّ الله يذكّره، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلاّ ذكره كأنّه فعله تلك الساعة؛ فلذلك قالوا: ﴿ ... يَا وَيْلَنَا مَالِهذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إلاّ أَحْصَاهَا ... ﴾»(2).

ولعلّ ما في يوم القيامة من أمثال تجسُّم الأعمال، أو تطاير الكتب أو شهادة الجوارح، أو شهادة الأرض أو نحو ذلك، يكون جميعاً مساعدة للذاكرة، أو دعماً وتأييداً لها.

ب ـ إذكاء الضمير والوجدان، كي يحاسب الإنسان نفسه بنفسه، وتتمُّ الحجَّة عليه بذلك، قال الله تعالى: ﴿اقْرَأْ كتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ (3).

الأمر الثاني: أنَّ ما ذكرناه: من أنَّ تصفية القلب وإذكاء الضمير يساعدان على


(1) السورة 79، النازعات، الآية: 35.

(2) بحار الأنوار 7 / 315، والآية: 49 في السورة 18، الكهف. إلاّ أنّ الوارد في القرآن: ﴿ يَا وَيْلَتَنَا ﴾.

(3) السورة 17، الإسراء، الآية: 14.

611

انعكاس الحقائق في مرآة القلب والضمير، لا نقصد بذلك الاستغناء عن التعلُّم المألوف بحجَّة أنَّنا ـ إذن ـ نلازم التقوى، فيزوِّدنا الله ـ تعالى ـ بنور العلم كما قال في محكم كتابه: ﴿...وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ...﴾(1) فلا حاجة إلى إتعاب النفس بالتعلُّم.

فإنَّ عدم الحاجة إلى التعلُّم لا نعهده في غير المعصومين(عليهم السلام)، ونحن قد أُمرنا من قبل الشريعة بالتعلُّم، قال الله تعالى: ﴿... فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2).

وروايات التعلُّم لعلَّها فوق حدِّ الإحصاء، وكنموذج له نذكر ما يلي:

1 ـ عن ابن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): «تعلَّموا العلم ؛ فإنَّ تعلُّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة...» (3).

2 ـ وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): « أربع يلزمن كلَّ ذي حجىً وعقل من اُمّتي. قيل: يا رسول الله ما هنَّ؟ قال: استماع العلم، وحفظه، ونشره عند أهله، والعمل به»(4).

3 ـ وعن قتادة، عن الصادق(عليه السلام): « لست أُحبُّ أن أرى الشابَّ منكم إلاَّ غادياً في حالين: إمَّا عالماً، أو متعلّماً، فإن لم يفعل فرَّط، فإن فرَّط ضيَّع، فإن ضيَّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمَّداً(صلى الله عليه وآله) بالحقِّ »(5).

4 ـ وعن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول: طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم، فاطلبوا العلم من مظانِّه، واقتبسوه


(1) السورة 2، البقرة، الآية: 282.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 122.

(3) بحار الأنوار: 1 / 166.

(4) المصدر السابق: ص 168.

(5) المصدر السابق: ص 170.

612

من أهله؛ فإنَّ تعليمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح،والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى ...»(1).

5 ـ وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: « أيُّها الناس، اعلموا أنَّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، وأنَّ طلب العلم أَوجب عليكم من طلب المال. إنَّ المال مقسوم بينكم، مضمون لكم، قد قسَّمه عادل بينكم وضمنه، سَيَفي لكم به، والعلم مخزون عليكم عند أهله، قد أُمرتم بطلبه منهم فاطلبوه...»(2).

6 ـ وعن السكوني، عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: « قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أُفّ لكلِّ مسلم لا يجعل في كلِّ جمعة يوماً يتفقّه فيه أمر دينه، ويسأل عن دينه»(3).

7 ـ وعن إسحاق بن عمَّار قال: « سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الحلال والحرام»(4).

8 ـ وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «... يا كميل، إنَّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم ربَّاني، ومتعلِّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق...»(5).

فبفهم العقل وبقرينة هذه الأدلة النقليَّة وأَمثالها، ندرك أنَّ المقصود بما يدلُّ على كون جلاء القلوب والضمائر يوجب انعكاس الحقائق في النفس، ليس هو


(1) المصدر السابق: ص 171.

(2) المصدر السابق: ص 175.

(3) المصدر السابق: ص 176.

(4) المصدر السابق: ص 213.

(5) نهج البلاغة: 685، رقم الحكمة: 147.

613

الاستغناء عن التعلُّم، وإنَّما المقصود بذلك: أنَّ جلاءهما وصفاءهما يوجب انعكاس قسم من الحقائق التي لا يكفي فيها مجرّد التعلُّم، وأنَّ مَنْ وقع الرين والغبار على قلبه، فَقَدَ تلك الإدراكات الربَّانية الطاهرة. والمقدار الذي يكون ارتباطه بتطهير القلب وجلاء الضمير والوجدان واضحاً حتّى لعامَّة الناس، هو: مدركات الضمير والفطرة.

ويبدو لي أنَّه ممَّا يشير إلى الضمير والفطرة والقلب قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ...﴾(1).

ومن الطريف تشبيه الآية المباركة التي نزلت قبل حوالي أربعة عشر قرناً ضيق الصدر بحالة من يصّعَّد إلى السماء، ولم يكن أحد ـ يومئذ ـ يعلم بأنَّ الصعود إلى السماء يوجب ضيق التنفُّس بسبب عدم وجود الهواء.

وقد ورد في تفسير هذه الآية المباركة أنّه لمَّا نزلت هذه الآية سُئل رسول الله(صلى الله عليه وآله)عن شرح الصدر ما هو؟ فقال: « نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له صدره وينفسح.

قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟

قال(صلى الله عليه وآله): نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله »(2).

ومن الروايات التي تشير إلى العلم الذي ليس بمجرد التعلُّم ما روي عن عنوان البصري، عن الإمام الصادق(عليه السلام)؛ إذ ورد فيها قوله: «... ليس العلم بالتعلُّم، إنَّما هو نور يقع في قلب من يريد الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يهديه...».


(1) السورة 6، الأنعام، الآية: 125.

(2) تفسير مجمع البيان في ذيل هذه الآية.

614

والرواية مفصَّلة(1) وطريفة، وقد مضى ذكرها في أواخر بحث التواضع، أي: في أواخر الفصل التاسع والعشرين من الحلقة الثالثة من هذا الكتاب فراجع.

 

14 ـ وسائل المغفرة:

إنَّ وسائل المغفرة لهي من أعظم المحفِّزات نحو الخير وكسب السعادة؛ وذلك لأمرين: أحدهما عامٌّ، والآخر خاصٌّ بأرباب القلوب وأصحاب الحال:

أمَّا الأمر العامُّ فهو: أنَّ المنهمك في المعاصي وبالذات في الكبائر لو أصابه اليأس من رحمة الربِّ انسدَّ عليه باب النجاة، وتمادى في الغيِّ أكثر من ذي قبل. وعلاج ذلك عبارة عن إلفات نظره إلى وسائل المغفرة.

وأمَّا الأمر الخاصُّ الذي يستفيد منه الخواصّ فهو: أنَّهم حينما يلتفتون إلى سعة رحمة الربِّ وغفرانه، فبدلاً عن إغراء ذلك إيَّاهم للتورُّط في المعاصي والانهماك في الذنوب يحملهم وجدانهم وضميرهم ـ على أثر ذلك ـ على الابتعاد أكثر فأكثر من المعاصي، وعلى الانقياد أكثر فأكثر بالأوامر، أفليس ينبغي التناسب الطردي بين رأفة المولى وحنانه، وبين طاعته وترك العصيان؟! أو هل من الانصاف أن نعصي ربَّاً فتح علينا باب التوبة إلى حين معاينة الموت! أو هل يسمح الوجدان أن لا نتوب ولا نؤوب إلى مولىً يفرح بتوبتنا أشدَّ من فرح رجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، كما ورد في الحديث(2)؟!

وقد ينقل عن رجل اسمه حاجب، أو تخلّصه(3) في قصائده يكون بحاجب:


(1) وهي موجودة في البحار 1 / 224 ـ 226.

(2) بحار الأنوار 6 / 40.

(3) التخلّص: عادة مخصوصة بشعراء العجم، وهي: أنَّه يختارون لأنفسهم اسماً مستعاراً ينهون قصائدهم ببيت يشتمل على ذاك الاسم.

615

أنَّه قال في ذيل أبيات له في مدح عليٍّ(عليه السلام):

حاجب اگر بهشت برين در كف على است
من ضامنم هر آنچه توانى گناه كن

فرأى أمير المؤمنين(عليه السلام) في عالم الرؤيا وقال له:

حاجب يقين بهشت برين در كف على است
شرمى ز روى وى كن و كمتر گناه كن

وعناوين المغفرة في الكتاب الكريم عديدة، وذلك من قبيل:

1 ـ التوبة:

قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(1).

2 ـ العفو عن الصغائر لدى ترك الكبائر:

قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾(2).

3 ـ العفو عن اللمَم:

قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الاَْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(3).


(1) السورة 4، النساء، الآية: 17.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 31.

(3) السورة 53، النجم، الآيتان: 31 ـ 32.

616

4 ـ الحسنة تُذهب السيِّئة:

قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾(1).

5 ـ العفو لدى مشيئة الله:

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... ﴾(2).

وقال عزّ من قائل: ﴿... إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء...﴾(3).

6 ـ الشفاعة:

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾(4).

وأمَّا مَن يسيء الاستفادة من هذه العناوين، وينهمك في المعاصي بحجَّة سعة رحمة الله، ووجود عناوين من هذا القبيل للمغفرة، فهذا حاله حال مَن يستعمل وصفة الطبيب في غير محلّها، فيتحوَّل ما اشتملت عليه الوصفة عن كونه دواءً ناجعاً إلى كونه سُمّاً قاتلاً. فقد أشرنا إلى أنَّ وسائل المغفرة هذه جعلت لفتح باب الأمل في وجه العاصي؛ كي لا يبتلى باليأس ولا يتورَّط في قعر الدركات، وقد صمِّمت جميعاً بشكل لا يوجب لو استعمت بالشكل الصحيح التجرُّؤَ على المعصية، ولكن يستعملها الخاطئ في غير محلِّها، ويأخذ منها أثراً غير مطلوب، وهو التجرُّؤ على المعصية.


(1) السورة 11، هود، الآية: 114.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 48.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 284.

(4) السورة 20، طه، الآية: 109.

617

وتوضيح ذلك باختصار: أنَّ أوَّل هذه العناوين هو التوبة، وهي وحدها التي حتَّم الله ـ تعالى ـ على نفسه قبولها، وتوبته عزَّ وجلَّ على العاصي بقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ ...﴾ أمَّا الاعتماد عليها للانهماك في المعاصي فهو منهج مغلوط لاستعمال الوصفة؛ وذلك لوجهين:

الأوَّل: أنَّ العاصي لا يعلم هل سوف يمهله الموت للتوبة أو لا، فكيف يصحُّ التورُّط في المعصية بالاعتماد على التوبة؟!

والثاني: أنَّه ما يدريه أنَّ ما يصدر عنه من الذنب لن يجرَّه مستقبلاً ـ لما يؤثِّر في النفس تأثيراً غير مرضيّ: من إفسادها، وتنزيلها إلى المراتب السافلة، وتقوية جوانب الشرِّ فيها، وتضعيف دوافع الخير فيها ـ إلى معصية أُخرى، وهكذا إلى أن يصل في الشقاء إلى مرتبة لن يُوفَّق للتوبة. وفي الحديث عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: « ما من عبد إلاَّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطِّي البياض، فإذا غطَّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزَّوجلَّ: ﴿... بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾ »(1).

وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنَّه قال: «ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة ...»(2) وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ القلب قبل الخطيئة نيِّر وضَّاء، فيسهل معه ترك الذنب، وبعد الوقوع في الخطيئة يبتلي بالسواد والظلمة.

وعن طلحة بن زيد، عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان أبي(عليه السلام) يقول: ما من شيء أفسد


(1) مضت الرواية في بحث التوبة، وهي واردة في وسائل الشيعة 15 / 303، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 16، والآية: 14 في السورة 83، المطففين.

(2) مضى في بحث التوبة، وهو وارد في اُصول الكافي 2 / 451.

618

للقلب من خطيئة إنَّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله »(1).

وعن ابن فضَّال، عن الصادق(عليه السلام) قال: « إنَّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنَّ العمل السيّء، أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم »(2).

وهناك عنوان آخر في القرآن للمغفرة، وهو عنوان الاستغفار. وقد يفترض أنَّه لا يلازم التوبة.

قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(3).

وقال عزَّ من قائل: ﴿... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾(4).

وقال عزَّوجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(5).

فقد يُتوهَّم أنَّ المقصود بالاستغفار مجرَّد طلب المغفرة من دون ندم وتوبة. وما أسهل طلب المغفرة، فالإنسان يتعمَّد الذنب ثُمَّ يطلب المغفرة من الله؛ كي لا يعذّبه. وهذا هو عين التغرير بالذنب، وفتح الباب للانهماك في المعاصي.

ولكن الواقع: أنَّ المقصود بالاستغفار هو: طلب المغفرة مع الندم، وذلك يرجع


(1) وسائل الشيعة 15 / 301، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 8 .

(2) المصدر السابق: ص 302، الحديث 14.

(3) السورة 4، النساء، الآية: 110.

(4) السورة 4، النساء، الآية: 64.

(5) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

619

إلى التوبة التي عرفت فيها الجواب عن الشبهة، وأنَّها إذا لوحظت بشكلها الصحيح لا تؤدِّي إلى الجرأة، بل تؤدِّي إلى التطهير، وانفتاح باب الرجوع إلى الله تعالى، وتزكية النفس.

أمّا الشاهد على كون المقصود بالاستغفار هو طلب المغفرة مع الندم، فعدَّة أُمور:

الأوَّل: أنَّ هذا هو المعنى العرفي لطلب المغفرة، فلو أنَّ ابناً أساء إلى أبيه، ثُمّ جاء إلى أبيه يعتذر منه، ويقبِّل يده ويطلب منه العفو والإغماض عنه، كان المعنى العرفي لذلك الندم.

والثاني: التقييد الوارد في الآية الثالثة للاستغفار بقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

والثالث: الروايات الدالَّة على أنَّ المقصود بالاستغفار هو: الاستغفار المقترن بالندم والتوبة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما ورد عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سمعته يقول: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ »(1)، فلو كان طلب المغفرة وحده كافياً لمحو الذنب، لما كان المستغفر المقيم على الذنب كالمستهزئ.

2 ـ ما رواه الحسن بن محمَّد الديلمي في الإرشاد قال: « كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)يستغفر الله في كلِّ يوم سبعين مرَّة يقول: أستغفر الله ربِّي وأَتوب إليه، وكذلك أهل بيته(عليهم السلام) وصالح أصحابه، يقول الله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ...﴾(2)قال: وقال رجل: يا رسول الله: إنِّي اُذنب فما أقول إذا تبت؟


(1) وسائل الشيعة 16 / 74، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 8 .

(2) السورة 11، هود، الآية: 90.

620

قال: استغفر الله.

فقال: إنِّي أتوب ثُمَّ أعود.

فقال: كُلَّما أذنبت استغفر الله.

فقال: إذن تكثر ذنوبي.

فقال: عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»(1).

وهذه الرواية واضحة في استعمال كلمتي: ( الاستغفار والتوبة ) ككلمتين مترادفتين، فيقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «كلَّما أذنبت استغفر الله » ويرتِّب عليه بعد ذلك قوله: « فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور ».

3 ـ ما عن فضل بن عثمان المرادي قال: « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أربع من كنَّ فيه لم يهلك على الله بعدهنَّ إلاَّ هالك: يهمُّ العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيَّته، وإن هو عملها كتب الله له عشراً. ويهمُّ بالسيِّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن عملها أُجِّل سبع ساعات. وقال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها؛ فإنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ...﴾(2) أو الاستغفار؛ فإن هو قال: أستغفر الله الذي لا إله إلاَّ هو، عالم الغيب والشهادة، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ذا الجلال والإكرام، وأتوب إليه، لم يكتب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار، قال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات: اكتب على الشقيِّ المحروم »(3).


(1) وسائل الشيعة 16 / 81، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 5.

(2) السورة 11، هود، الآية: 114.

(3) أُصول الكافي 2 / 429 ـ 430.

621

فترى الرواية عبَّرت أوَّلاً بالاستغفار، ثُمَّ ترجمت ذلك بقوله: أستغفر الله... وأتوب إليه.

4 ـ نرى أنَّ مضموناً واحداً يُجعل في حديث دائراً نفياً وإثباتاً مدار الاستغفار وعدمه، وفي حديث آخر دائراً نفياً وإثباتاً مدار التوبة، وعدمها، ممَّا يوحي إلى استعمال الكلمتين بمعنى واحد:

ففي حديث عبدالصمد بن بشير، عن أبي عبدالله(عليه السلام):«العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجَّله الله سبع ساعات، فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتب عليه سيِّئة»(1).

وفي حديث حفص، عن أبي عبدالله (عليه السلام): «ما مؤمن يذنب ذنباً إلاّ أجَّله الله سبع ساعات من النهار، فإن هو تاب لم يكتب عليه شيء، وإن هو لم يفعل كتب عليه سيِّئة...»(2).

بل وقد يقصد بالدعاء والاستغاثة بطلب النجاة من تبعات الذنب الدنيوية ـ أيضاً ـ ما يلازم التوبة، وأظنُّه المقصود بالحديث الوارد بشأن قارون وأصحابه: «وعزَّتي وجلالي لو إيَّاي دعوني مرَّة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً...».

وبما أنَّ هذا الحديث طريف ويبعث بالرجاء والأمل يناسب أن أذكره هنا وهو كالتالي:

لمَّا اتَّهم قارونُ موسى(عليه السلام): بالفحشاء، وكذَّبته الامرأة التي كانت قد اتَّفقت مسبقاً مع قارون في قذفه بالزنا بها لقاء مال من قارون، خرَّ موسى ساجداً يبكي ويقول: «... يا ربِّ إنَّ عدوَّك قد آذاني، وأراد فضيحتي وشيني، اللَّهمَّ فإن كنت رسولك فاغضب لي وسلِّطني عليه، فأوحى الله ـ سبحانه ـ أن ارفع رأسك، ومرِ


(1) وسائل الشيعة 16 / 66، الباب 85 من جهاد النفس، الحديث 5.

(2) المصدر السابق: الحديث 6.

622

الأرض بما شئت تطعك، فقال موسى: يا بني إسرائيل، إنَّ الله ـ تعالى ـ قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل. فاعتزلوا قارون ولم يبقَ معه إلاّ رجلان، ثُمَّ قال موسى(عليه السلام): يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى كعابهم، ثُمّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثُمَّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى حقوهم، ثُمَّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، وقارون وصاحباه في كلِّ ذلك يتضرَّعون إلى موسى(عليه السلام)، ويناشده قارون بالله والرحم حتّى روي في بعض الأخبار أنَّه ناشده سبعين مرَّة، وموسى في جميع ذلك لا يلتفت إليه لشدَّة غضبه. ثُمّ قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض. فأوحى الله سبحانه إلى موسى: يا موسى، ما أفظَّك! استغاثوا بك سبعين مرَّة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزَّتي وجلالي لو إيَّاي دعوني مرَّة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً »(1).

وأمَّا العفو عن الصغائر فقد دلَّت عليه الآية المباركة كما مضى مقيَّدة باجتناب الكبائر، ولا أحد ممَّن يرتكب صغيرة يستطيع أن يضمن أنّه لن تصدر عنه كبيرة إلى آخر العمر، ومن ثَمَّ لا يضمن العفو عن تلك الصغيرة، كما لا يستطيع أن يضمن عدم جرِّ تلك الصغيرة إيَّاه إلى الإصرار أو إلى الكبائر.

وعليه فالعفو عن الصغيرة ليس قطعيَّاً؛ لعدم قطعيَّة المعلَّق عليه، ومن ثمَّ ليس المفروض به أن يوجب الجرأة على المعصية إلاَّ بسوء الاستفادة من قبل نفس العاصي.

وأمَّا العفو عن اللمَم فقد دلَّت عليه الآية المباركة الماضية.

وعمدة المحتملات في اللمَم المستفادة من كتاب لسان العرب ثلاثة:

1 ـ أن يكون معنى اللمَم: مقاربة المعصية من غير مواقعة.


(1) بحار الأنوار 13 / 257.

623

2 ـ أن يكون بمعنى: صغار الذنوب.

3 ـ أن يكون معنى الإلمام: أنّك تأتي بشيء في وقت ولا تقيم عليه ولا تصرُّ، وكأنَّ المقصود: أنَّك تبتلى صدفة بمعصية ثُمَّ تتركها وتتوب عنها، وقد تبتلى بها صدفة مرَّة أُخرى من دون أن تصرَّ عليها.

والذي دلَّت عليه الروايات هو المعنى الثالث، وذلك من قبيل ما عن محمَّد بن مسلم، عن الصادق(عليه السلام) قلت له: «أرأيت قول الله عزَّوجلَّ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللمَمَ ...﴾ قال: هو الذنب يلمُّ به الرجل فيمكث ما شاء الله، ثُمَّ يلمُّ به بعد »(1).

وما عن إسحاق بن عمَّار في حديث، عن الصادق(عليه السلام) «... سألته عن قول الله عزَّوجلَّ ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللمَمَ ...﴾ قال: الفواحش: الزنا والسرقة، واللمَم الرجل يلمُّ بالذنب فيستغفر الله منه»(2) ونحوهما غيرهما(3).

وعلى أيِّ حال، فالإشكال الماضي هنا ـ أيضاً ـ غير مسجَّل. أمَّا على التفسير الأوّل فواضح. وأمَّا على التفسير الثاني فلرجوعه إلى العفو عن الصغائر، فالجواب نفس الجواب الذي ذكرناه عن الإشكال في العفو عنها.

وأمَّا على التفسير الثالث وهو الصحيح فلأنَّه من الواضح أنَّ من يريد أن يواقع الخطيئة لايثق بأنَّها سوف تكون من اللمَم، ولا بأنَّه حينما يموت لن يكون عليه شيء غير اللمَم من الكبائر والفواحش حتّى يكون اللمَم مغفوراً له.

وأمَّا أنَّ الحسنة تذهب السيَّئة كما قال الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً


(1) أُصول الكافي 2 / 441، كتاب الإيمان والكفر، باب اللمَم، الحديث 1، والآية: 32 في السورة 53، النجم.

(2) المصدر السابق: ص 442، الحديث 3.

(3) المصدر السابق: ص 441 ـ 442.

624

مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾(1) فالذي يبدو لي من هذه الآية المباركة ـ والله أعلم بمقصوده ـ أنَّه ليس المقصود كون الحسنة موجبة للعفو عن السيِّئة من دون تبدل الحال كي يثمر ذلك الجرأة وعدم المبالاة بالذنب؛ فإنَّ الآية فرضت الحسنة مُذهِبة لنفس السيِّئة لا موجبة للعفو عن العقاب فحسب.

والمقصود بإذهابها للسيِّئة ـ والله العالم ـ هو: محو أثر السيِّئة على النفس، فكما أنَّ السيِّئة تحدث السواد على القلب أو تؤثِّر في القلب أسرع من تأثير السكّين في اللحم كما مضى، كذلك الحسنة تُصقل القلب وتبدِّل الحال، وبقدر تبدّل الحال يرتفع العقاب، فهذه درجة من التوبة والرجوع إلى الله تعالى.

فإذا فسِّرت قاعدة: أنَّ الحسنات يذهبن السيِّئات بهذا التفسير، فأثرها كأثر قبول التوبة: إنَّما هو إعطاء الأمل للمؤمن المذنب لا الجرأة. أمَّا الذي يستغلّها في سبيل الجرأة على المعاصي، فهذا يعني سوء الاستفادة من وصفة الطبيب، كمن يسيء الاستفادة من فكرة التوبة. وليس هذا عيباً في وسائل المغفرة.

وأمَّا العفو المعلَّق على مشيئة الله في الآيتين الماضيتين، فمن الواضح أنَّه نتيجة تعليقه على مشيئة الله وعدم تنجيزه لاتثمر الجرأة، إلاّ لمن يريد أن يسيء الاستفادة من هذه الوصفات.

وأمَّا الشفاعة فلا إشكال في أنَّ الاعتقاد بها من أعظم المحفِّزات نحو الخير وكسب السعادة والكمال؛ لما قلنا من: أنَّ المنهمك في المعاصي وبالذات في الكبائر لو أصابه اليأس انسدَّ عليه باب النجاة، ولكن الاعتقاد بالشفاعة يدفع عنه اليأس، ويفتح له باب الأمل الذي لولاه لما تحرَّك نحو الخير.

وأمَّا كون الاعتقاد بالشفاعة موجباً للهلاك؛ لأنَّه يجرِّئ العبد على المعصية، فليس إلاّ كتأثير الاعتقاد بالتوبة في بعض النفوس في إيجاد الجرأة له على


(1) السورة 11، هود، الآية: 114.

625

الذنوب، بأمل أنَّه سوف يتوب عنها فتضمحلُّ. وهذا في الحقيقة ـ كما قلنا ـ ليس مشكلة التوبة أو الشفاعة، بل هي مشكلة كيفيَّة استعمال هذه الفكرة في غير محلِّها، فكما نقول في التوبة بأنَّ الاعتماد عليها في ارتكاب الذنوب من أعظم الأخطاء؛ لأنَّه:

أوّلاً: إنَّ التوبة أصعب من ترك الذنب؛ لأنَّ القلب إذا قسى بالذنب كان رجوعه إلى الهُدى أصعب من استمراره على الهدى قبل القسوة.

وثانياً: إنَّ إمهال الموت للوصول إلى التوبة غير مضمون.

وثالثاً: إنَّ الذنب قد يجرُّ الإنسان إلى ذنب آخر، ثُمَّ ينجرُّ إلى ذنب ثالث، وهكذا إلى أن يغطِّي السواد قلبه، وعندئذ لا يرجع إلى الخير أبداً، كذلك نقول في الشفاعة:

أوَّلاً: إنَّ الشفاعة لم تكن مضمونة لأحد؛ لأنَّها مقيَّدة ـ كما سوف يأتي إن شاء الله ـ في الآيات بإذن الله سبحانه وتعالى.

وثانياً: إنَّ الذنب بأمل الشفاعة قد يجرُّ الإنسان نحو ذنب آخر، وهكذا إلى أن يخرج صاحبَه من قابلية نيل الشفاعة.

وثالثاً: إنَّ الشفاعة قد تقع بعد دخول النار أو قبله، وبعد تحمُّل شدائد القيامة التي تذهل لها كلُّ مرضعة عمَّا أرضعت، وتضع كلُّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، فحتّى لو فُرِضت قطعيَّة الشفاعة لأحد فالمفروض به أن تحجزه شدائد عرصات يوم القيامة ومسألة البرزخ عن المعاصي، ولو لم يكن إلاّ الموت لكفى، فكيف وما بعد الموت أمرُّ وأدهى.

أمَّا الدليل على الشفاعة فهو:

أوّلاً: التصريح بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى:

1 ـ ﴿... مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ...﴾(1).


(1) السورة 10، يونس، الآية: 3.

626

2 ـ ﴿... وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ...﴾(1).

3 ـ ﴿لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْداً﴾(2).

4 ـ ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾(3).

5 ـ ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ...﴾(4).

6 ـ ﴿وَكَم مِّن مَّلَك فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾(5).

7 ـ ﴿... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ ...﴾(6).

وثانياً: الروايات التي هي فوق التواتر، نشير إلى نزر يسير منها:

1 ـ ما رواه السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في تفسيره(7) عن أمالي الصدوق (قدس سره)، عن الحسين بن خالد، عن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مَن لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي. ومَن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي. ثُمَّ قال(صلى الله عليه وآله): إنَّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُ مَّتي. فأمَّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل. قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا(عليه السلام): يابن رسول الله، فما معنى قول الله عزَّوجلَّ: ﴿... وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ...﴾ (8)؟ قال(عليه السلام): لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى الله دينه ».


(1) السورة 21، الأنبياء، الآية: 28.

(2) السورة 19، مريم، الآية: 87 .

(3) السورة 20، طه، الآية: 109.

(4) السورة 34، سبأ، الآية: 23.

(5) السورة 53، النجم، الآية: 26.

(6) السورة 2، البقرة، الآية: 255.

(7) تفسير الميزان 1 / 174 ـ 175.

(8) السورة 21، الانبياء، الآية: 28.

627

قال السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في ذيل نقله لهذا الحديث: قوله: «... إنَّما شفاعتي ...» هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعدِّدة عنه(صلى الله عليه وآله).

2 ـ ما رواه ـ أيضاً ـ السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في تفسيره (1) عن تفسير العيَّاشي، عن سماعة بن مهران، عن أبي إبراهيم(عليه السلام) في قول الله: ﴿... عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾(2) قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً، ويؤمر الشمس فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً، فيأتون آدم، فيستشفعون منه، فيدلُّهم على نوح، ويدلُّهم نوح على إبراهيم، ويدلُّهم إبراهيم على موسى، ويدلُّهم موسى على عيسى، ويدلُّهم عيسى فيقول: عليكم بمحمَّد خاتم الرسل، فيقول محمَّد(صلى الله عليه وآله): أنا لها، فينطلق حتّى يأتي باب الجنَّة، فيدقُّ فيقال له: من هذا؟ والله أعلم، فيقول: محمَّد، فيقال: افتحوا له، فإذا فتح الباب استقبل ربَّه فخرَّ ساجداً، فلا رفع رأسه حتّى يقال له: تكلَّم وسل تعط، واشفع تشفَّع، فيرفع رأسه، ويستقبل ربَّه فيخرُّ ساجداً، فيقال له مثلها، فيرفع رأسه حتّى أنَّه ليشفع من قد أُحرق بالنار. فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأُمم أوجه من محمَّد(صلى الله عليه وآله)، وهو قول الله تعالى: ﴿... عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾.

قال السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في ذيل نقله لهذا الحديث: «أقول: وهذا المعنى مستفيض مرويٌّ بالاختصار والتفصيل بطرق متعدِّدة من العامَّة والخاصَّة، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، ولا ينافي ذلك كون غيره (صلى الله عليه وآله) من الأنبياء وغيرهم جائز الشفاعة؛ لإمكان كون شفاعتهم فرعاً لشفاعته فافتتاحها بيده(صلى الله عليه وآله) ».


(1) تفسير الميزان 1 / 175.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 79.