546

وثانياً: قد مضى أنَّ الإسلام يعالج مشكلة الشهوات في جملة من أساليبه العلاجيَّة بتلبية تلك الشهوات بالوسائل المباحة، في حين أنَّ انحسار الإسلام عن وجه الأرض يُفني هذا العلاج، فيتفاقم المشكل. ومن الواضح أنَّ ميول الإنسان ورغباته النفسيَّة وعواطفه الطبيعيّة، لا يمكن تحدّيها والتغاضي عنها في أيِّ نظام يفترض نظاماً تكاملياً للإنسان. وكلُّ حلٍّ يقوم على أساس تجاوزها أو قتلها ليس ـ بشكل عامٍّ ـ عدا حلّ خيالي وطوبائي ووهمي، بل لا بدَّ من إشباع تلك الرغبات بالقدر المعقول عن طريق مشروع، وهذا ما يقوم به الإسلام، ومع تقوُّض الكيان الإسلامي يصبح هذا عسيراً أو غير ممكن.

وثالثاً: إنَّ فساد المجتمع يُكثِر المغريات، ويزيد إيحاءات الفساد والشرِّ، ممّا يؤثّر تأثيراً معاكساً في تربية النفوس، فينتقل الشخص من جوِّ البيت الفاسد إلى جوِّ المدرسة الفاسدة، وإلى جوِّ الأسواق والشوارع المغرية، أو الملاهي والمقاهي الملهية، وما إلى ذلك، فحتّى لو فُرضَ أنَّه يُوفَّق أحياناً للاستفادة من الوسائل المربية كقراءة القرآن، أو دعاء الليل، أو سماع وعظ واعظ، أو ما إلى ذلك، يكون ذاك الجوّ الفاسد العامّ هو الغالب عليه والمؤثِّر فيه.

ورابعاً: إنَّ هذه المشكلة وهي: فساد المجتمع وتقوُّض الكيان الإسلامي، تؤثّر في تكوين أو تشديد المشاكل الأُخرى الآتية.

 

2 ـ الجهل بحقيقة الإسلام:

وهذا في الغالب ينشأ من المشكلة الأُولى، وهو: انحسار الإسلام عن ساحة الحياة، وتقوُّض الكيان الإسلامي. وقد ينشأ من عدم وجود التبليغ الإسلامي بقدر الكفاية. فالإسلام نظام كامل شامل للحياة، وفيه حلول جميع المشاكل الحياتيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك، ومن يجهل بذلك يضطرُّ أن يأخذ في كثير من تصرّفاته ومرافق حياته بنُظُم غير إسلاميَّة، وعلى هذا الأَساس

547

يبتلي بحالة ازدواج الشخصيَّة، ولا تكون شخصيّته إسلاميَّة محضاً ومن ثَمَّ لا يستطيع أن يوفِّق حياته كاملة مع الإسلام، ويستقي من معين الإسلام، كي تكتمل روحه ومعنويّاته، ويحلِّق في سماء الأخلاق والتربية الروحيَّة والكمال.

وبكلمة أُخرى: إنَّ مرافق الحياة مترابط بعضها ببعض، والإسلام إنَّما يظهر أثره في تنمية النفس وتزكيتها لو أُعطي كوصفة واحدة من قبل طبيب الروح، أمَّا لو تمزَّقت هذه الوصفة وتجزّأ العلاج سواءٌ كان على أساس المشكلة الاُولى وهو: انحسار الإسلام عن مسرح الحياة، أو على أساس المشكلة الثانية وهو: جهل الشخص بحقيقة الإسلام، فالنتيجة الطبيعيَّة لذلك عدم اكتمال الروح، وعدم بلوغها ذروة فعليَّة الاستعدادات التي أودعها الله فيها.

 

3 ـ ضيق أُفق النفس:

إنَّ النفس البشريَّة في الغالب متَّصفة قبل العلاج بضيق الأُفق، وهذا الضيق يتجلّى في النفس بالصور التالية:

أوّلا: أنّها تُقدِّم المصالح المادّيّة والمصالح العاجلة على المصالح الروحيّة والمعنويّة، وعلى المصالح الآجلة، وتضيق عن استيعاب أهمّيّة المصالح المعنويّة، وكذلك الآجلة الأُخرويّة.

وثانياً: أنّها تقصر النظر على المصالح الشخصيّة والفرديّة في مقابل مصالح المجتمع، وتضيق عن رؤية المصالح الاجتماعيّة أو الاهتمام بها.

وثالثا: أنّها تضيق عن الجمع بين بعض الفضائل وبعض، فكأنّما يوجد نوع تضادّ بين قسمين من الفضائل، في حين أنّه بالتدقيق ينكشف أنّه لا تضادّ بينهما، وإنّما العيب كان في ضيق اُفق النفس التي لم تستوعبهما.

ونذكر لهذا التضادّ الوهميّ عدّة أمثلة:

الأوّل: ما يتراءى في النفوس الضيّقة من التضادّ أو التنافي بين حالة الزهد

548

وعدم المبالاة بالدنيا من ناحية، والعمل بمفهوم خلافة الله في أرضه الذي يتطلّب عمرانها واستخراج خيراتها وبركاتها من ناحية أُخرى، في حين أنّ كلتا الحالتين قد أُمرنا بهما في الشريعة، ولكنّك ترى عملا أن كثيراً ممّن يقبل على الزهد وترك الدنيا ينصرف عن العمل الجادّ في الدنيا، والاستفادة من نعم الله في سبيل ترفيه العائلة، أو مساعدة الجيران، أو طلب الخير للمسلمين، وما إلى ذلك، ويتقوقعُ على نفسه، ويترك الأعمال الاجتماعيّة. وترى كثيراً ممن لديه أعمال خيرية أو اجتماعيّة لمصلحة العباد ينسى الزهد في هذه الدنيا، وينكبُّ عليها حلالا أو حراماً، ويقتنع بما يرى من نفسه من بعض الخيرات والمبرات أو الأعمال الاجتماعيّة، وينسى قوله تعالى: ﴿... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(1).

والخلاصة: أنّه يصعب على أُفق النفس الضيقة الجمع بين خصلة ورد فيها عن الصادق(عليه السلام) قوله: « جعل الخير كلّه في بيت، وجعل مفتاحهُ الزهد في الدنيا. قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا. ثُمّ قال أبو عبدالله(عليه السلام): حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا»(2) وخصلة الاهتمام بالحصول على خزائن الأرض لصالح تحكيم المبدأ والعقيدة بين الناس، كما حكى الله تعالى عن يوسف(عليه السلام)قوله: ﴿ ... اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(3) ولكن النفوس الكاملة لا ترى أيّ صعوبة في الجمع بين الخصلتين.

وها هو إمامنا أمير المؤمنين سلام الله عليه لا يرى تهافتاً بين الصفتين، فمن


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 27.

(2) الوسائل 16/12، الباب 62 من جهاد النفس، الحديث 5.

(3) السورة 12، يوسف، الآية 55، وما تليها من آية قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنـَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاََجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.

549

ناحية تراه يهتمّ باستحصال فدك، وبالاحتجاج على الغاصبين له حتّى عن طريق إرسال زوجته الطاهرة لإلقاء ذاك الخطاب الرنّان على الرجال، ويهتمّ بإمرته على المسلمين، ويقاتل عليها، ويقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ناحية أُخرى يقول: «... ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بِطِمريهِ، ومن طُعْمه بقُرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد فو الله ما كنزت من دنياكم تِبراً ولا ادّخرت من غنائمها وَفراً ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتانِ دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من حفصة مقرة بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدَّ فرجها التراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المنزلق...»(1).

ويقول على ما في النهج: «... والله لهي (النعل الذي كان يخصفه) أحبُ اليّ من إمرتكم إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلا...»(2).

وفي الواقع: لا تنافي ـ أبداً ـ بين الزهد بمعنى ترك الحرام والشبهات، وأن لا يملكك من الدنيا مُباحها فضلا عن حرامها ومكروهها من ناحية، وبين العمل بخلافة الله في أرضه في سبيل تعمير البلاد، لأجل العباد، وخدمة المجتمع، ونشر


(1) نهج البلاغة: 573 ـ 574، رقم الكتاب: 45.

(2) نهج البلاغة: 70 الخطبة:33 قال الشريف الرضي(رحمه الله): ومن خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة قال عبدالله بن عباس:« دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لاقيمة لها. فقال(عليه السلام): والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلا...».

550

الهدى، وترفيه المؤمنين من ناحية أُخرى. ولا تضارُبَ ـ أبداً ـ بين الزهد بمعنى أن لا يأسو الإنسان على ما فاته باعتبار مصلحته الشخصيّة، ولا يفرح بما أُوتي من زاوية تلك المصلحة من ناحية، وبين الإقبال على نعم الدنيا والسعي في تنميتها بالطرق المحلّلة لمصلحة المجتمع الإسلامي، لا لنفسه من ناحية أُخرى، بل وإقبال المال الحلال على الإنسان مع افتراض أن يكون الإنسان هو المالك له لا أن يكون المال مالكاً لقلبه لا ينافي الزهد أيضاً.

الثاني: ما يحسّ به ـ أيضاً ـ من التنافي الوهمي بين حالة العبادة الفرديّة، والإقبال على الله تعالى في المناسك التي يُختلى فيها مع الله تعالى من ناحية، والإقبال على الأعمال الاجتماعيّة المطلوبة، والتعايش مع الناس وفي الناس لأجل الله من ناحية أُخرى. فترى كثيراً من المتعبّدين يجنحون إلى مستوىً من الترهبن والابتعاد عن الخَلْق، وترى كثيراً ممّن يقدّمون خدمات اجتماعيّة مشكورة مقصّرين في مستوى الخلوة مع الله والانقطاع العبادي إلى الله تعالى، في حين أنّه لا يوجد أيّ تناف بين الأمرين عدا ما يخلقه الوهم في النفوس نتيجة ضيق أُفق النفس.

الثالث: الشجاعة والجرأة والإقدام على المخاطر في حدودها الشرعيّة من ناحية، وحالة الخوف والتذلّل أمام الله والخضوع والخشوع له من ناحية أُخرى، وها هو مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قد ضرب المثل الأعلى في ذلك، فقد رُوي أنّه(عليه السلام)« كان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن، فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها»(1)، ومن ناحية أُخرى شجاعته وإقدامه مشهوران معروفان إلى جنب ذاك الخوف والذلّ والخشوع أمام الله تعالى.

وعن الشيخ المفيد(رحمه الله) أنّه قال: « ومن آيات الله الخارقة للعادة في أمير


(1) المحجة البيضاء 1/351.

551

المؤمنين(عليه السلام)، أنّه لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عُرفَ لأمير المؤمنين(عليه السلام) من كثرة ذلك على مرّ الزمان، ثُم لم يوجد في ممارسي الحروب إلاّ من عرته بشرّ ونيل منه بجراح أو شين، إلاّ أمير المؤمنين(عليه السلام) فإنّه لم ينله مع طول مدة زمان حربه جراح من عدوه، ولا وصل إليه أحد منهم بسوء حتّى كان من أمره مع ابن ملجم لعنه الله على اغتياله إيّاه ما كان ...»(1).

نعم، وإن شئت نقطة من بحر تذلّله لله تعالى وخوفه وخشوعه بالليل، فاستمع إلى ما وصفه ضرار أمام معاوية قال: «فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأ نّي الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا دنيّة أبي تعرضت؟! أم إليّ تشوّقت؟! هيهات هيهات غُرّي غيري لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها. فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير. آه آه من قلّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، وعظم المورد. فسالت دموع معاوية على لحيته فنشفها بكمّه، واختنق القوم بالبكاء...»(2) وفي نفس الوقت تراه بالنهار يقاتل الأبطال ويضرب الشجعان:

هو البكّاء في المحراب ليلا
هو الضحّاك إن طال الحرابُ

وهذا البيت الذي استشهدنا به منقول عن عمرو بن العاص. والقصّة مايلي: روى المرحوم الشيخ علي أكبر النهاوندي(رحمه الله) عن الجزء الثاني من زهر الربيع (ولا أظنّه مطبوعاً): أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) كتب إلى معاوية: « غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلّك. فاخش فاحش فعلك؛ لعلّك تُهدى بهدى. والسلام على من اتبع الهدى». فلمّا وصل المكتوب إلى معاوية، أمر عمرو بن العاص أن يصعد المنبر،


(1) المحجة البيضاء 4/194.

(2) بحار الأنوار 41/121.

552

ويسبّ عليّاً(عليه السلام) ويذمّه، ووعده أن يعطيه جائزة عظيمة على ذلك. فلبّاه عمرو بن العاص، وصعد المنبر، فلمّا همّ بالأمر جُسّد أمامه حيوانٌ كجثّة بعير، وبارتفاع المنبر فاتحاً فمه مهدّداً له ببلعه مع المنبر لو أساء إلى عليّ(عليه السلام)، فاضطرب عمرو بن العاص وأنشأ يقول:

بآل محمّد عُرف الصوابُ
وفي أبياتِهم نزل الكتابُ
وهم حجج الإله على البرايا
بهم وبجدّهم لا يسترابُ
وهم كلماتُ آدم إذ تلاها
فتاب بها عليه واستجابُ
ولا سيّما أبا حسن عليّاً
له في الحرب مرتبةٌ تهابُ
طعام سيوفه مهجُ الأعادي
وفيض دما الرقاب لها شرابُ
فضربته كبيعته بخمّ
معاقدها من القوم الرقابُ
وبين سنانه والدرع صلحٌ
وبين البيض والبيض اصطحابُ
عليٌّ هازم الأحزاب جمعاً
هو الساقي على الحوض الشرابُ
عليُّ التبر والذهب المصفّى
وباقي الناس كلّهم ترابُ
إذا لم تَبْرَ من أعدا عليّ
فمالك في محبّته ثوابُ
هو البكّاء في المحراب ليلا
هو الضحّاك إن طال الحرابُ
هو النبأ العظيم وفلك نوح
وباب الله وانقطع الخطابُ

فأمره معاوية بالنزول عن المنبر، وعاتبه على ما فعل، فقصّ له عمرو بن العاص قصّة ما رآه من الحيوان وقال: إنّ هذا أورث خوفاً عظيماً عندي، وأنشأت هذه الأبيات من غير قصد، وأنت تعلم العداوة والبغضاء الموجودتين بيني وبين عليّ بن أبي طالب. فإن شئت أعطيتني الجائزة التي وعدتني بها، وإن شئت منعتها عنّي، فقال معاوية: اُعطيك نصف تلك الجائزة(1).


(1) أنوار المواهب: 338 ـ 339.

553

عود على ما كنّا فيه:

والخلاصة: أنّ الإنسان الاعتيادي الضيّق الاُفق لا يستطيع أن يكون راهباً بالليل، وفي نفس الوقت أسداً بالنهار، وكأنّه يراهما حالتين متضاربتين، في حين أنّ الروايات الواردة عن أهل البيت وصفت أصحاب الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ تارةً والمؤمنين أُخرى والشيعة ثالثة: بأنّهم رهبانٌ بالليل، وأُسد بالنهار.

فمن الأوّل أي: الذي وصف أصحاب الحجّة بهذا الوصف ما ورد عن الصادق(عليه السلام) في صفتهم: «... رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم(1)، رهبان بالليل، ليوث بالنهار هم أطوع له من الأمة لسيّدها. كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل. وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين. إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى ارسالا، بهم ينصر الله إمام الحقّ»(2).

ومن الثاني أي: الذي وصف المؤمنين بهذا الوصف ما عن أحدهما(عليهما السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في صفة المؤمنين: «... عشرون خصلة في المؤمن؛ فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه ... إلى أن يقول: رهبان بالليل، أُسد بالنهار...»(3).

ومن الثالث أي: الذي وصف الشيعة بذلك ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام)مخاطباً لنوف: «... هل تدري من شيعتي؟ قال: لا والله، قال: شيعتي الذبل الشفاه، الخمص البطون، الذين تعرف الرهبانيّة والربانيّة في وجوههم، رهبان بالليل، أُسد بالنهار، الذين إذا جنّهم الليل اتّزروا على أوساطهم وارتدوا على أطرافهم، وصفّوا


(1) لعلّ الخيول كناية عن مركوباتهم المتطوّرة وقتئذ، ولعلّ المصلحة الإلهيّة تقتضي رجوع وضع الحرب ـ وقتئذ ـ إلى وضع أيّام ركوب الخيول والقتال بالوسائل البسيطة المعروفة قديماً.

(2) بحار الأنوار 52/308.

(3) أُصول الكافي 2/232.

554

أقدامهم، وافترشوا جباههم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله فيفكاك رقابهم، وأمّا النهار فحلماء علماء، كرام نجباء، أبرار أتقياء ...»(1).

الرابع: الخوف من ناحية، والرجاء من ناحية أُخرى. فترى بعض الناس إن اتّجه نحو الخوف قلّ رجاؤه، وقد ينقلب خوفه بالتدريج ـ على أثر عدم اقترانه بالرجاء المتعادل معه ـ إلى اليأس، ويجرُّه ذلك إلى ارتكاب المعاصي والقبائح. وإن اتّجه نحو الرجاء قلّ خوفه، وقد ينقلب رجاؤه بالتدريج ـ على أثر عدم اقترانه بالخوف المتعادل معه ـ إلى الجرأة والأماني، فينهمك في المعاصي والآثام.

في حين أنّه لا منافاة عقلا بين الخوف والرجاء، بل بينهما كمال الملاءمة. ويؤكّد التلاؤم بينهما أنّهما لو روعيا بشكل صحيح أنتجا نتيحة واحدة: فمن خاف النار هرب منها، ولجأ إلى الجنّة ومن رجا الجنّة طلبها واهتم بها. ومن خاف غضب الرحمن لجأ منه إلى رضوانه. ومن رجا رضوان الله طلبه وفتّش عنه. وإنّما التضادُّ ينشأ من الضيق في النفوس، وعدم التحليق في الآفاق الرحبة الواسعة، والقيم الروحيّة العليا.

الخامس: الحفاظ على حالة القيادة والاستقلال في الشخصية والفكر من ناحية، وعلى الخضوع للحقّ والرأي الصحيح أينما وجد ولو عند من هو دونه من ناحية أُخرى؛ ذلك أنّ الإنسان القادر على الاستقلال في التفكير ينبغي له إخراج ما بالقوّة فيه إلى الفعل، وتنمية تفكيره المستقل، وتفجير ذكائه وبراعته، ولا ينبغي له التقليد الأعمى عن الآخرين والذوبان فيهم. والشخص الذي قد توصّل إلى الحقّ وإلى سبيل الرشاد، ينبغي له أن يهدي الناس، ويتصف بصفة القيادة، إلاّ أنّه في نفس الوقت الذي يحفظ شخصيته واستقلاله في التفكير، ويقود الآخرين، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، لابدَّ له ـ أيضاً ـ أن لا تتحوّل هذه الحالة إلى العُجب والغرور، وعدم الخضوع للحقّ، ويجب أن تكون الحكمة ضالّة له أينما


(1) بحار الأنوار 68/191.

555

وجدها، ويجب أن يتقبّل الحقّ ولو كان عند من هو أدون منه بمراتب. والجمع بينهاتين الصفتين صعب على الإنسان الاعتيادي.

السادس: التـواضع أو الحلم من ناحية، وعدم الخنوع للظلم والهوان من قبل أعداء الله من ناحية أُخرى؛ فقد يصعب على النفس الجمع بين الأمرين؛ فالتواضع أو الحلم إن انحرف عن مسيره الصحيح، تحوّل إلى الخنوع لظلم الظالمين وجور الجائرين، كما أنّ عدم الخنوع للظلم والجور إن انحرف عن مسيره الصحيح، تحوّل إلى التبختر والعجب. في حين أنّه لا توجد أيُّ منافاة واقعية بين تلكما الفضيلتين.

وبإمكانك أن تمثّل بكلّ صفتين متضادتين كان التوفيق بينهما باختلاف الموارد، كالشجاعة والإقدام في موردها، والتقيّة والاحتياط في مورد آخر. وأن تمثّل بالتجنب عن الإفراط مع التجنب عن التفريط في كلّ ما يحسن فيه التجنبُ عنهما، كترك البخل وترك الإسراف ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾(1).

ولتجمّع كلّ الصفات الفاضلة ـ التي قد يرى الوهم تضادّاً بينها ـ في إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)، وصفه الشاعر باجتماع الأضداد في صفاته حينما قال:

جمعت في صفاتك الأضداد
فلهذا عزت لك الأندادُ
زاهدٌ حاكم حليم شجاع
فاتك ناسك فقير جوادُ
أنت سرّ النبيّ والصنو وابن
العم والصهر والأخ السجّادُ
لو رأى مثلك النبيّ لآخاه
وإلاّ فأخطأ(2) الانتقادُ(3)
 


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 29.

(2) الأولى أن يقال: (لم ينصف الانتقاد)، كي لا نتورّط في إدخال الفاء على الجزاء القابل للشرطية نتيجة ضرورة الشعر.

(3) أنوار المواهب: 358.

556

 

4 ـ العادة:

والواقع: أنّ العادة ليست من أسباب المنع عن التربية الأخلاقيّة والوقوع في الأخلاق السيّئة فحسب، بل هي بذاتها أداة فارغة يمكن ملؤها بما يضرّ؛ كما يمكن ملؤها بما ينفع، فإذا ملئت بما يضرّ أصبحت من المشاكل الواقعة في طريق التربية. وإذا ملئت بما يورث الملكات الفاضلة أصبحت من المحفّزات نحو الخير والصلاح. وعليه فيمكن البحث عنها هنا، كما يمكن البحث عنها في المبحث الآتي، وهو: (بحث المحفّزات نحو الصلاح). ونحن اخترنا البحث عنها هنا (أعني: بحث المثبّطات) ولا نحتاج في البحث الآتي إلى تكرار البحث عنها.

والعادة هي من أشدّ العوامل المؤثّرة في سلوك الإنسان، قال أحمد أمين في كتاب الأخلاق: كثيراً ما يعبّرون عن قوّة العادة بقولهم: (العادة طبيعة ثانية) يعنون بذلك: أنّ لها من القوّة ما يقرب من (الطبيعة الاُولى). والطبيعة الاُولى هي: ما ولد عليه الإنسان وفطر عليه. فكلُّ إنسان خرج في هذا العالم كآلة مجهزة بكثير من العُدد: عين تبصر، وأُذن تسمع، ومعدة تهضم، وغرائز فطريّة وهكذا، فهذا الذي ولدنا عليه وورثناه من آبائنا وأجدادنا، هو طبيعتنا الاُولى. ولها سلطان كبير على الإنسان، فلو حاول أن يبصر بأُذنه ويسمع بعينه ما استطاع، فهو لابدّ أن يكون خاضعاً لسلطانها. وما يُدخله الإنسان على الطبيعة الاُولى من التحسين والتقبيح هو ما يسمّى (الطبيعة الثانية) أو العادة. ولها كذلك سلطان كبير، فالطريق الذي نختطّه لأنفسنا في الحياة ونعتاد السير فيه، له من السلطان علينا ما يقرب من سلطان الطبيعة، فنحن أحرار في السنين الاُولى من حياتنا، لا سلطان للعادة علينا حتّى إذا نمونا كان نحو التسعين في المئة من أعمالنا ـ من لبس وخلع وطريقة وأكل وشرب ونمط في الكلام والسلام والمشي والمعاملة ـ معتاداً نعمله بقليل من الفكر والانتباه، ويصعب علينا العدول عنه، وتصبح حياتنا مجرّد تكرير لأفكار

557

وأعمال كسبناها في أوّل عهدنا بالحياة... وقوّة العادة هي التي تجعل المسنّين يرفضون الآراء الجديدة والمستكشفات الحديثة، على حين نرى الأحداث يسرعون في اعتناقها والعمل بها؛ ذلك لأنّ المسنّين ألفوا نوعاً خاصّاً من الآراء، واعتادوا السير عليه حتّى صاروا يكرهون ما يخالفه، أمّا الشُبّان والأحداث فلم يألفوا نوعاً خاصاً من الآراء؛ لذلك كانوا على استعداد لقبول ما تقوم البراهين على صحّته. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث للطبيب الشهير هارفي ( 1578 ـ 1657 ) الذي استكشف الدورة الدمويّة في الإنسان، فقد أعلن استكشافه، وأيّده بالبراهين، ولكن ظلّ الأطبّاء يرفضون القول به نحواً من أربعين سنة؛ لأنّهم اعتادوا أن يفكّروا أن لا دورة. ورحّب بالاستكشاف الأحداث؛ لمرونتهم وعدم إلفهم القديم. وهذا ما يعلل ما نراه من تمسك العجائز بالقديم والخرافات مع وضوح البراهين على بطلانها(1).

ومن الأمثلة على تأثير العادة الغريب في حياتنا، مسألة المشي، ومسألة الكلام. وقد ذكرهما أحمد أمين في كتابه تحت عنوان (سهولة العمل المعتاد) التي جعلها من خصائص العادة، قال: «ومن الأمثلة على ذلك المشي، وهو من التمرينات الشاقّة، يستغرق تعلمه شهوراً: فأوّلا نتعلّم كيف نقف، ووقوف الإنسان صعب؛ لأنّه يرتكز على قاعدة ليست بالعريضة، وعلى نهاية واحدة؛ لذلك كان وقوفه أصعب من ذوات الأربع، وكان انكفاؤه أسهل من انكفائها. وبعد أن نتعلّم الوقوف نتعلّم الارتكاز على رجل واحدة عند اتجاه الاُخرى إلى الأمام، ثُمّ تغيير الارتكاز من رجل إلى رجل عند تقدّم الاُولى. ومع هذه الصعوبات نجد أنّ العمل بتكراره واعتياده يصير في غاية السهولة. ويكفي توجيه فكرنا إلى المكان الذي نريده لتتحرك أرجلنا وتسير من غير صعوبة، ومن غير تفكير في كيف نمشي.


(1) مقتطف من كتاب الأخلاق لأحمد أمين: 34 و 35.

558

وأعجب من هذا وأصعب الكلام؛ فإنّا نقضي سنين في تعلّمه، ونحتاج إلى استعمال عضلات الحلق والشفة والحنك واللسان، وقد نحتاج في النطق بكلمة واحدة إلى استعمال كلّ هذه العضلات. ويتدرج الطفل من النطق ببعض الحروف السهلة إلى الصعبة حتّى تتكوّن العادة، فيصبح قادراً على التكلّم من غير إحساس بصعوبة ما»(1).

أقول: وثالث المشي والكلام هو الكتابة، فما أصعب الكتابة أوّل الأمر، وتبديل حركة اليد، وتحريك القلم بأسرع ما يمكن من حرف إلى حرف إلى أن تصبح عادة، وتجري في سهولة بالغة.

وذكر أحمد أمين في بيان تأثير تكرّر ورود فكرة ما لعمل على الذهن إلى أن تنتج عملا، ثمّ يصير ذلك عادة بالتكرار: «هب أنّ شاباً مستقيماً دعاه مرّة رفقة السوء ليشرب معهم، فنرى أنّ ذلك الشابّ عند سماع هذا الرأي يرفض الفكرة بتاتاً، ويقول: (لا) بملء فيه، ولكن قد يدعوه رفقاؤه لأن يصحبهم من غير أن يشرب، ويزيّنون له هذا الرأي بما أُوتوا من حيل ومهارة، فيرى بعد طول القول وكثرة الإغراء أنّ هذا الرأي لا يضره ما دام في عزمه أن يذهب ولا يشرب، وقد يتم ذلك حقيقةً، فيذهب معهم ولا يشرب، وقد يكرر ذلك، ولكنه في كلّ ذهاب معهم تقلّ قوّة الممانعة، وتأتي فكرة الشرب في كلّ مرّة، فتعمّق مجراها في المخّ، ولا تزال تضعف قوّة المقاومة عنده حتّى لا يرى له قدرة على الامتناع، فيشرب الكأس الاُولى معتقداً أنّه يستطيع أن يضرب عن الشرب في أيّ وقت شاء، وهو في كلّ مرّة يشرب يثبّت عادة الشرب، وإذا به سكّير»(2).

أقول: ولهذا ورد في الحديث: «ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة ...»(3).


(1) كتاب الأخلاق لأحمد أمين: 33.

(2) الأخلاق لأحمد أمين: 39.

(3) أُصول الكافي 2/451.

559

وقال ـ أيضاً ـ أحمد أمين: «حكى (ألفونس سكيروس) في كتابه (التربية الاستقلاليّة): أنّ امرأة عليها سمة الاحتشام والحياء دخلت أحد الحوانيت، وانتقت ما أرادت، وأخرجت من جيبها ورقة (بنك) قيمتها خمسة جنيهات، ولكنّ صرّاف الحانوت وجد أنّها مزوّرة، فبهتت المرأة، وأخرجت له أُخرى، ولكنّها لم تكن خيراً من الاُولى، فارتاب الرجل في أمرها وسلّمها إلى الشرطَة، وبعد التحقيق تبيّن أنّ هذه المرأة خادمة أمينة، كانت عند مخدومها ورقتان مزيّفتان وقعتا في يده اتّفاقاً، فتركهما في بيته من غير أن يمزّقهما، وكانت الخادمة تدخل الحجرة التي فيها الورقتان كلّ يوم؛ لتنظّفها، فتقع عينها عليهما ولا تعبأ بهما، ولكنّ تكرّر حضورهما في ذهنها من يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر حسّن لها أخذهما، فرفضت ذلك في أوّل الأمر بتاتاً، وبعد مدّة لمستهما بيدها وقلّبتهما، ثُمّ ردّتهما فوراً وكأنّ فيهما ناراً تحرق أصابعها، وما زال بها هذا الإغراء حتّى غلبها وأوقعها في السرقة»(1).

وقال ـ أيضاً ـ في كتابه: « ممّا يستوجب الأسف أ نّا في السنين الاُولى ـ سني تكوّن العادات ـ لا نكون قد بلغنا حدّ التفكير الصحيح، ولا تكون لنا قوّة على التمييز بين الأشياء تمييزاً صحيحاً واختيار خيارها لنعتاده؛ فإذا بلغنا هذه السنّ، وأدركنا عيوبنا، وشاهدنا ما نعتاده من عادات سيّئة، صعُب علينا العدول عنها؛ لتصلّبها ورسوخها وإن كان ذلك ممكناً...»(2).

أقول: نعم.

إذا عاش الفتى ستّين عاماً
فنصف العمر تمحقه الليالي
ونصف النصف يذهب ليس يدري
بغفلته يميناً عن شمال


(1) الأخلاق لأحمد أمين: 40.

(2) المصدر السابق: ص 41.

560

وربع النصف آمال وحرص
وشغل بالمكاسب والعيال
وباقي العمر أسقامٌ وشيبٌ
وهمٌّ بانتقال وارتحال
فحبّ المرء طول العمر جهلٌ
وقسمته على هذا المثال

ولا يخفى أنّ العادة كما تؤثّر في نفس الإنسان بتوجيهه نحو الخير أو الشرّ، كذلك قد تؤثّر في تقوية وتنمية مؤثّر آخر، بحيث يصبح على الإنسان مؤثّران في توجيهه نحو الخير أو الشرّ، وذلك في الخيرات أو الشرور التي يكون لها في نفس البشر ـ عادة ـ دافع خلقي نفسي من الفضائل النفسيّة أو الرذائل النفسيّة، فمثلا صفة الوفاء تتأصّل وتنمو في الإنسان بالتكرر في الالتزام بالوفاء، وصفة الجفاء ـ أيضاً ـ كذلك، وكذلك صفة البخل أو الكرم أو ما إلى ذلك، فمن عوّد نفسه على حالة الانتقام أو التشفّي، تغلو في نفسه هذه الحالة، ولايكون الدافع الجديد له بعد ذلك إلى الانتقام والتشفي، العادة مباشرة فحسب، بل قوّة الغضب وضراوته للانتقام أيضاً، وكذلك من عوّد في نفسه حالة الوفاء ذكى في نفسه نور الوفاء، فحينما يلتزم بالوفاء بعد ذلك ليس دافعه الجديد العادة وحسب، بل وكذلك قوّة نور الوفاء في قلبه. وكذا الحال في باقي الفضائل والرذائل، بل لعلّ التعود على المصاديق الفعلية لهذه الصفات النفسية، تخلق أحياناً تلك الصفة فيمن لم تكن لديه، أو كانت عكسها لديه.

 

وبالالتفات إلى مدى تأثير العادة في نفوسنا الذي كاد أن يكون كتأثير الغرائز الأصليّة، ومدى تأثير مبادئ العادة، تتّضح لدينا أُمور هامّة لها قيمتها في مجال التربية:

الأوّل: ضرورة إسراعنا إلى تربية نفوسنا مبكرين في ذلك بقدر الإمكان؛ فإنّ كلّ تأخير لذلك يعني استحكام العادات وتحددها وصعوبة التربية بعد ذلك، وضرورة تحصيل العادات الحسنة في الصغر، ثُمّ في عنفوان الشباب، ثمّ قبل سن الكهولة ... وهكذا.

561

ولعلّ هذا هو أحد الأسباب لما روي ـ على ما قاله المرحوم الشيخ عباس القمّي(رحمه الله) في سفينة البحار(1) ـ: «إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب، مسح إبليس وجهه وقال: بأبي وجه لا يفلح».

فإنّ هذا الشخص قد استحكمت عاداته، ومن الصعب بعد هذا أن يغيّر عادةً أو يحسن صفة من الصفات.

وأيضاً لعلّ السبب الآخر لذلك هو: أنّ الإنسان يتحدد ـ عادة ـ طريقه في الحياة كاملا خلال أربعين سنة، ومن الواضح أنّ طريقة الحياة وظروفها ومكتنفاتها لها الأثر الكبير في سنخ التربية.

هذا، إضافة إلى سبب آخر محتمل لذلك، وهو: أنّ الإنسان يبلغ ذروة كماله المزاجي والفكري من خلال أربعين سنة، ثُمّ يتجه نحو التوقف، ثُمّ النقصان عادةً، فلو لم يفلح في زمان ذروة القدرة وقوّة الإرادة، ضعف احتمال الفلاح بعد ذلك، وفي الحديث عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إذا بلغ العبد ثلاثاً وثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى وأربعين فهو في النقصان. وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع»(2).

وعليه فالاهتمام بتربية النفس قبل بلوغ الأربعين من أشدّ الضرورات، خاصةً وأنّ سني الأربعين فما فوق هي سنوات اشتداد الحساب والكتاب عليه من قبل الله تعالى على ما في بعض الروايات، فعن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام):

«إنّ العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة، فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ إلى ملائكته أ نّي قد عمّرت عبدي عمراً (وقد طال)، فغلّظا وشدّدا وتحفظا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره. قال: وقال


(1) سفينة البحار 3/284.

(2) الخصال 23/545، أبواب الأربعين.

562

أبو جعفر(عليه السلام): إذا أتت على العبد أربعون سنة قيل له: خذ حذرك فإنّك غير معذور،وليس ابن أربعين سنة أحقّ بالعذر من ابن عشرين سنة، فإنّ الذي يطلبهما واحد، وليس عنهما براقد، فاعمل لما أمامك من الهول، ودع عنك فضول القول»(1).

وليس معنى ما قلناه: من ضرورة تزكية النفس قبل الأربعين عدم ضرورة ذلك في أوّل الشباب، وكفاية الابتداء بذلك في سنّ الثلاثين مثلا، وإنّما المقصود: أنّه ببلوغ الأربعين يكاد أن تفوت الفرص نتيجة تصلّب العادة، وتنزل القوى بالضعف والانهيار والنخور، ولا بدّ من تزكية النفس من أوّل البلوغ لو فاتته التزكية قبل البلوغ. وفي الحديث: «سئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ...﴾(2) فقال(عليه السلام): توبيخ لابن ثمانية عشر سنة»(3).

وتمام الآية ما يلي: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير﴾.

ويعجبني هنا ذكر أبيات وردت بالفارسيّة في توصيف خصائص سني العمر:

چو عمراز سى گذشت وياخود از بيست
نميشايد دگر چون غافلان زيست
نشاط عمر باشد تا چهل سال
چهل رفته فرو ريزد پر وبال
پس از پنجه نباشد تن درستى
بصر كندى پذيرد پاى سستى
چو شصت آمد نشست آمد پديدار
چو هفتاد آمد افتاد آلت از كار
به هشتاد ونود چون در رسيدى
بسا سختى كه از گيتى كشيدى
از آنجا گر بصد منزل رسانى
بود مرگى بصورت زندگانى
چو در موى سياه آمد سفيدى
پديد آمد نشان نا اميدى(٤)


(1) المصدر السابق 24/545 ـ 546، أبواب الأربعين.

(2) السورة 35، فاطر، الآية: 37.

(3) وسائل الشيعة 16/101، الباب 97 من جهاد النفس، الحديث 5.

(4) سفينة البحار 6 / 454 ـ 455.

563

الثاني: ضرورة تربيتنا لأطفالنا، ومدى المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عواتقنا بهذا الصدد؛ لأنّ السنين الاُولى من العمر لها الحظّ الوافر من تكوّن العادات، والإنسان غافل فيها غير شاعر بحقائق الاُمور، وغير قادر على تقييم القضايا بالشكل الكامل، فعلى الأولياء أن يراقبوا الصغار، ويربّوهم إلى أن يبلغوا مرتبة الكمال والالتفات. والأخبار في باب تربية الأولاد كثيرة منها:

ما في وصية النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليّ(عليه السلام) قال: «يا عليّ، حقُ الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً، وحقّ الوالد على ولده أن لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس أمامه، ولا يدخل معه الحمام. يا عليّ، لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما. يا عليّ، يلزم الوالدين من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما. يا عليّ، رحم الله والدين حملا ولدهما على برّهما. ياعليّ من أحزن والديه فقد عقهما»(1).

وفي رواية أُخرى: «جاء رجل إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ما حقُّ ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه، وضعه موضعاً حسناً»(2).

وفي رواية ثالثة عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه عزّوجلّ، والمعونة على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه...»(3).

الثالث: ضرورة علاج العادات السيّئة بالدفع قبل الرفع؛ فإنّ من لم يقدر على معالجة العادة قبل تكوّنها، فهو أعجز عن علاجها بعد تكوّنها.


(1) وسائل الشيعة 21 / 389 ـ 390، الباب 22 أحكام الأولاد، الحديث 4.

(2) المصدر السابق: ص 479، الباب 86 من تلك الأبواب، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 15/175، الباب 3 من جهاد النفس، الحديث 1.

564

الرابع: ضرورة علاج العادة السيّئة لو تكوّنت فوراً ففوراً؛ إذ كُلّما مضى عليها الزمان استحكمت أكثر فأكثر.

ومن الخطأ الفاحش تأجيل التوبة الموجب لرسوخ أثر الذنب في النفس واستحكامه، وتحوّله إلى العادة لو لم تتكوّن بعد، وتأثيره في اشتداد العادة لو كانت قد تكوّنت، على أنّ المذنب لا يضمن لنفسه إمهال الموت إيّاه للتوبة، وكذلك عدم تعرضه لموانع أُخرى. ولو تاب وأصلح فقد خسر على أيّ حال ذاك المقطع من عمره. وقد مضى منّا بحث التوبة مفصلا في أوّل الحلقة الثالثة من كتابنا هذا، فلا نفصّل الكلام مرّة أُخرى، إلاّ أنّنا نزيّن المقام هنا برواية واحدة من روايات التوبة عن الإمام الباقر سلام الله عليه قال: « سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن خيار العباد فقال: الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا غفروا»(1).

وعلاج العادة صعب مستصعب بالأخص إذا استفحلت، فلو أنّ أحداً فاتته العلاجات الوقائية كتربية الأبوين، أو انتهاجه هو منهج الرفع قبل الدفع، وخانته ارادته إلى أن وقع في الفخّ، فهناك نصائح تقدّم لمن يريد العلاج لعادة سيّئة موجودة فيه، ونحن نذكرها مع تنقيحات من ناحية، وإضافات من ناحية أُخرى. وهذه النصائح على قسمين:

القسم الأوّل: ما يقدّم لمن يرى في نفسه القدرة على محاربة العادة بشكل مباشر ومعاكستها. وهذا القسم من النصائح كما يلي:

1 ـ إنّ الإنسان تختلف حالاته النفسيّة من ساعة إلى ساعة ومن زمان إلى زمان، فقد تحصل له حالة الصحوة والانتباه والتوجّه إلى الحقّ وحالة الصفاء الروحي، وأُخرى تزول عنه هذه الحالة، وإنّ للقلوب إقبالا وإدباراً. فهذا المبتلى


(1) وسائل الشيعة 16 / 67، الباب 85 من جهاد النفس، الحديث 8 .

565

بالعادة السيّئة ينبغي له أن يختار ساعة الصحوة والانتباه، ويستغلّها في سبيل العزم القويّ على ترك تلك العادة السيّئة والنيّة الصارمة لمخالفتها، فإنّ نفس النيّة الصارمة والعزم القويّ الذي لا يشوبه ريب وتردّد يقوّي قدرة النفس على محاربة العادة وتركها.

وقد مضت في أوائل الحلقة الثانية من حلقات هذا الكتاب قصّة أحد قطّاع الطريق اسمه فضيل بن عياض: عشق جارية، فبينما يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾ فأخذته الصحوة وقال: يا ربّ، قد آن فرجع وتاب(1).

وقد مضى في أوائل الحلقة الثالثة من هذا الكتاب تفسير التوبة النصوح بالتوبة التي تخلق في النفس تغيراً وانقلاباً وتطهيراً، بشكل لن يرجع صاحبها إلى ذلك الذنب أبداً.

وخير تعبير عن التوبة النصوح تعبير ورد عن إمامنا زين العابدين سلام الله عليه في دعاء التوبة: « اللهمّ إنّي أتوب إليك في مقامي هذا من كبائر ذنوبي وصغائرها، وبواطن سيّئاتي وظواهرها، وسوالف زلاّتي وحوادثها، توبة من لا يحدّث نفسه بمعصية، ولا يضمر أن يعود في خطيئة. وقد قلت يا إلهي في محكم كتابك: إنّك تقبل التوبة عن عبادك، وتعفو عن السيّئات، وتحبّ التوابين، فاقبل توبتي كما وعدت، واعف عن سيّئاتي كما ضمنت، وأوجب لي محبّتك كما شرطت، ولك يا ربّ شرطي إلاّ أعود في مكروهك، وضماني أن لا أرجع في مذمومك، وعهدي أن أهجر جميع معاصيك...»(2).

2 ـ ينبغي أن يلتفت هذا المعتاد الذي أصبح بصدد معاكسة العادة ومحاربتها،


(1) سفينة البحار، مادّة (الفضيل)، والآية: 16 في السورة 57، الحديد.

(2) الدعاء: الواحد والثلاثون من الصحيفة السجاديّة.

566

إلى أنّه لو خالف تركه للعادة مرّةً واحدةً في الأثناء، ورجع إلى عادته قبل استئصالها من نفسه، فهذه المرّة الواحدة ضررها عليه أكثر بكثير من نفع الرياضة التي يتحمّلها طوال مدّة مديدة في سبيل مخالفة العادة؛ ذلك لأنّ العمل على طبق ما اعتاد عليه باعتباره عملا موافقاً لميله ورغبته النفسيّة، وجرياً على وفق التيار المترسّخ في نفسه، يكون تأثيره على النفس، وعلى ترسيخ العادة، وإبطال أثر ما صنعه مدّة من الزمن من معارضة العادة، أشدّ بكثير من تأثير الترك في النفس.

3 ـ إذا كان يرى في نفسه العجز عن مواصلة الترك الدفعي، فليلتزم بالترك التدريجي. وإذا كان هكذا حاله فقد يكون الأفضل له ـ إن لم يكن المعتاد عليه من المحرّمات الإلهيّة ـ أن يحدّث نفسه من أوّل الأمر بالترك التدريجي، ولا يُنشئ بناءً نفسيّاً على الترك الدفعي والدائمي؛ لأنّه حينما تخونه إرادته بعد ذلك، قد يصاب بخيبة أمل، وباليأس عن العلاج، وبردّ الفعل العنيف، المانع عن القدرة على العلاج بعد ذلك.

والقسم الثاني: ما تقدّم من النصائح المشتملة على كيفيّة محاربة العادة بطريقة غير مباشرة. فلو صعبت على الإنسان محاربة العادة؛ لتمكّنها من النفس وترسّخها فيها، فبإمكانه ـ غالباً ـ أن يجهد في جوانب أُخرى خارج نطاق تلك العادة المترسّخة، ممّا يكون جهده فيها أسهل عليه من جهده في مخالفة العادة ابتداءً. وبذلك يسهل عليه كسر العادة والاشتغال بالمحاربة المباشرة. وهذه النصائح ـ أيضاً ـ تتلخّص في ثلاث:

1 ـ أن يحارب الاُمور النفسيّة أو الخارجيّة التي تبعث بتلك العادة وتنبّه إليها وتؤكّدها. فإذا لم تصبح تلك الاُمور بنفسها له عادة، أو كان تعوّده عليها أخفّ من تعوّده على العادة المقصود علاجها فمحاربته لتلك العادة الاُخرى أو للتي لم يعتد بعد عليها أصلا، تكون أسهل عليه من محاربته لعادته. وبإقصائه

567

لتلك البواعث وأسباب العادة يهون عليه كسر العادة، فمثلا لا يسمح لنفسه ـ وبقدر الإمكان ـ بالتفكير فيما اعتاده وفي فوائده الظاهريّة، ولا يسمح لنفسه بقدر الإمكان بالدخول في المجالس التي تمارس فيها تلك العادة، ولا يصاحب من يتذوّق أو يمارس تلك العادة؛ فإنّ قرين السوء يزري ويؤثّر في الإنسان.

ولا أقصد طبعاً بهذا الكلام القول بحسن الابتعاد عن الفسقة، وقبح الاقتراب منهم لكلّ أحد، وفي كلّ حال حتّى فيما لو ترتّبت على ذلك هداية ذاك الفاسق، وإنّما أقصد الكلام من زاوية علاج العادة فحسب، وإصابة العدوى من صديق السوء. وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «المرء على دين خليله وقرينه»(1).

وقال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلاِْنسَانِ خَذُولاً﴾(2).

2 ـ أن يخلق الأجواء النفسيّة والخارجيّة المضادّة لتمركز العادة ولمبادئها، كأن يشغل نفسه بتفكير آخر حتّى لا ينشغل بالتفكير الذي يؤكّد العادة، أو يفكّر ويطالع في مضارّ تلك العادة ومفاسدها، وفي عظمة عقاب الله لو كان المعتاد عليه معصية لله تعالى، أو يعاشر الصديق الصالح، ويتردّد على مجالس الصلحاء والمتّقين ويخالطهم حتّى تصيبه العدوى الصالحة من الصديق. وما أسعد حظّ من يرافق أُناساً تذكّره مخالطتهم بالله تعالى، وتوحي إليه بحسن الأخلاق والصفاء والوفاء واتّباع رضوان الله.


(1) اُصول الكافي 2/375، و 642. والسند صحيح.

(2) السورة 25، الفرقان، الآيات: 27 ـ 29.

568

وعن مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام) قال: «احذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب. واطلب مواخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم؛ فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لم يخلق على وجه الأرض أفضل منهم بعد النبيّين. وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم. قال الله عزّ وجلّ: ﴿الاَْخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ...﴾»(1).

3 ـ القاعدة الرابعة من القواعد الأربع المذكورة في كتاب الأخلاق لأحمد أمين(2)حيث قال: حافظ على قوّة المقاومة، واحفظها حيّة في نفسك؛ وذلك بأن تتبرّع بعمل صغير كلّ يوم، لا لسبب إلاّ لمخالفة نفسك وهواك؛ لأنّ هذا يعينك على مقاومة المصائب إذا حان حينها، ويكون مثلك مثل رجل يدفع في كلّ سنة مبلغاً صغيراً تأميناً على بيته ومتاعه.

أقول: أصل تعويد النفس على مخالفة الميول تقوية للإرادة أمر صحيح، ولكن ينبغي أن يصرف هذا ضمناً في مصرف تربية النفس بالعنوان الأوّلي. وأقصد بذلك: أنّه تارة يترك الإنسان بعض ميوله ومشتهياته التي لا توجد منقبة في تركها في حدّ ذاتها، ويتدرّج في تصعيد هذا الترك ومخالفة النفس؛ لما تترتّب على ذلك من قوّة الإرادة التي يستفيد منها بعد هذا في تربية النفس من كسر عادة سيّئة أو غير ذلك، وأُخرى يختار الإنسان في نفس تركه هذا ومخالفته للنفس التدرّج في الالتزام بترك المكروهات وفعل المستحبّات. وهذا أفضل؛ لأنّه ـ إضافة إلى ما فيه من تقوية الإرادة المفيدة فيما بعد لتربية النفس ـ يكون هذا بعنوانه الأوّلي والذاتي


(1) مصباح الشريعة، الباب الواحد والسبعون في المؤاخاة، والآية 67 في السورة 43، الزخرف.

(2) كتاب الأخلاق: ص38.

569

ـ أيضاً ـ تربيةً للنفس وتهذيباً لها، فهو بالفعل يكون في نموٍّ وتسام روحي وأخلاقي ومعنوي. وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): «مَن استوى يوماه فهو مغبون. ومن كان آخر يومه شرّهما فهو ملعون. ومَن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب. ومَنْ كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

وهذه الرواية من الروايات التي أحسُّ عليها بآثار الصدق ونور الإمامة، وكلُّ بنودها واضحة بالمنطق القطعي. فمن استوى يوماه فهو مغبون؛ لأنّ العمر هو رأس مال الإنسان، فمن استوى فقد خسر رأس ماله، فيكون لا محالة مغبوناً. ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو مبعد عن رحمة الله؛ لأنّ المفروض بالإنسان أن يكون في تقدّم، فإن لم يكن في تقدّم فالمفروض عدم التقهقر في أقلّ تقدير؛ إذ هذا يعني خسارة رأس المال زائداً خسارة ما كسبه سابقاً. ومن لم يعرف الزيادة كان إلى النقصان أقرب؛ لأنّ الإنسان بطبيعته متحرّك، ونادرٌ وقوفه، فلو لم يتحرّك إلى الأمام ففي الأكثر يتحرّك إلى القهقرى. ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له؛ لأنّه بالحياة يخسر ولا يربح. وقد مضى في أواخر الحلقة الثالثة من هذا الكتاب دعاء إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «... عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ...»(2).

وختاماً أقول: إنّ العادة الحسنة حينما تتكوّن فهي على رغم ما تترتّب عليها من فوائد هامّة جداً: كسهولة العمل المعتاد، وتوفير الزمن، والانتباه، وخلق ميل نفسي نحو ذاك الشيء الحسن، وهذا الميل يجرّ الإنسان نحو الخير، على رغم كلّ هذا يوجد لها ضرر جانبي،وهو: أنّه حينما صارت العبادة أو أيّ عمل خيري عادةً


(1) بحار الأنوار 71/173.

(2) الدعاء العشرون من الصحيفة السجاديّة.

570

للإنسان، يقلّ في كثير من الأحيان الالتفات التفصيلي وحضور القلب حين العمل. ولا يصحُّ تدارك ذلك بكسر العادة؛ فإنّ كسر العادة الحسنة خسارة عظيمة،بل ينبغي أن يكون تداركه بأمرين:

الأوّل: التعمّد إلى إلفات النفس وتذكيرها حين الانشغال بالعمل إلى العمل وإلى الله تعالى، وتركيز الذهن على ذلك وإحضار القلب؛ فإنّ العمل القليل بالحضور خير من العمل الكثير مع تلهّي القلب. وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه»(1).

وعن الصادق(عليه السلام): «إذا صلّيت صلاة فريضة فصلّ لوقتها صلاة مودِّع تخاف أن لا تعود إليها»(2).

وعن طريق العامة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّما الصلاة تمسكن وتواضع وتضرّع وتبأس وتندّم وتقنع بمدّ يديك فتقول: اللهم اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج»(3).

والثاني: أنّ شيئاً من الأعمال الخيّرة أو مرتبة من الصلاح إذا أصبح عادة، فليطمح الإنسان إلى المرتبة الأعلى وعمل خيريّ آخر لا يوجد فيه هذا النقص من دون أن يترك الشيء الأوّل. وبهذا يزداد الإنسان خيراً طيلة عمره.

 

5 ـ غفلة النفس عن دوافعها الحقيقيّة:

ومن غرائب النفس البشريّة أنّه يعرض عليها ـ أحياناً ـ ما يشبه الغفلة عن دوافعها الحقيقية، على رغم أنّها ـ في الحقيقة ـ من المعلومات الحضوريّة لها، فتبرّر النفس ـ أحياناً ـ ما يصدر عنها بتبرير لا واقع له، وتتخيّل أنّها مخلصة في


(1) وسائل الشيعة 4/74 ـ 75، الباب 17 من أعداد الفرائض، الحديث 13.

(2) المحجة البيضاء 1/350.

(3) المصدر السابق: ص349، وفُسّر الخداج بمعنى الناقص.