252

وهذا التعبير قد ورد ـ أيضاً ـ في القرآن في صفة المؤمنين والمؤمنات في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ...﴾(1).

ويبدو لي من ذيل هذه الآية الأخيرة: أنّ المنافقين يتخيّلون أنّ نور المؤمنين يشبه نور سراج الدنيا الذي يمكن لغير صاحب النور أن يستفيد منه لو جعله صاحب النور أمام من يريد الاستفادة؛ ولذلك يقولون: انظرونا كي يصبح النور الذي في مقابلكم في مقابلتنا أيضاً، فنستفيد منه، ولكنّهم لا يعلمون أنّ هذا النور ليس كنور المصباح الدنيوي، بل لو صحّ تشبيهه بالأنوار الدنيوية فالأنسب أن يشبّه بنور البصر الذي لا يقبل الاكتساب، بل هو نور ذاتيّ للبصر يستفيد منه صاحب النور فحسب، ولا يكون إلاّ في عين صحيحة، فمن كان من حين ولادته وفي رحم أُمّه مثلاً أعمى لا يصحّ له أن يقول للمبصر: انظرني أقتبس من نورك، ولو قال له ذلك لأجابه المبصر بأنّ هذا النور إنّما جئتُ به من رحم أُمّي، فارجع إلى ورائك في رحم أُمك وائت بالنور، فكذلك يقال للمنافقين والمنافقات في يوم القيامة: إنّ المؤمنين قد أتوا بهذا النور من الدنيا فارجعوا وراءكم إلى الدنيا، والتمسوا لكم منها نوراً.

وفي ختام الحديث عن التوبة النصوح تجب الإشارة إلى أنّ التائب لو خانته نفسه، ولم يستطع على جعل توبته نصوحاً بمعنى عدم العود، وتكرّر منه ذلك، فليس المفروض به أن ييأس من فائدة التوبة، فقد مضى في ذيل صحيحة أبي


(1) السورة 57، الحديد، الآيتان: 12 ـ 13.

253

بصير قوله(عليه السلام): «... إنّ الله يحبّ من عباده المفتّن التواب»(1) والإنسان يكون في كثير من الأحيان قبل تزكية نفسه بالرياضات النفسية مبتلىً بحالة الوقوع في كسر التوبة والرجوع إليها مراراً وتكراراً، فحاله كحالة الطفل الذي يعطي لوالديه التعهد بترك الجهالات ثُمّ يكسر ذلك ويكرّر المخالفة والتوبة، وهذا لا يوجب طرده من قبل والديه.

وبهذه المناسبة لا بأس بذكر القِصّة(2) التالية التي فيها عظة وعبرة:

رُوِيَ أنّ شيخاً كان يمشي في أحد الطرق، فرأى طفلاً جالساً يبكي، فسأله مِمّ بكاؤك؟ فقال: إنّ أُمّي أخرجتني من البيت، وكلّما أستجير بالبيوت الأُخرى لا يُفتح لي الباب. فجلس الشيخ عند الطفل، وأخذ يوافق الطفل في البكاء، وقال: لو أنّ طفلاً نهرته أُمّه وطردته من البيت لا يفتح له باب آخر فمن ينهره الله تعالى عن بابه إلى أين يذهب، وكيف ينفتح عليه باب آخر؟! ثُمّ قام الشيخ لكي يذهب في طريقه، فتعلّق به الطفل، وطلب منه أن يشفعه لدى أُمّه، فوافق الشيخ على ذلك، وأخذ بيد الطفل إلى بيت أُمّه، وشفعه عندها، فبكت الأُم، وقالت: يا شيخ نعم الشفيع أنت، ولكن قد شفعه ـ أيضاً ـ قبلك قانون (أولادنا أكبادنا)، ولكنّه يا شيخ إني كلّما أمنعه عن اللعب لا ينزجر، فاعلم أيّها الشيخ: لو خرج مرّة أُخرى من دون إذني من البيت ليلعب قطعت عنه علاقة الأُمومة والبنوّة، فوافق الشيخ على ذلك، فطلبت منه أن يكتب رسالة بهذا المعنى؛ كي لا يلعب بعد هذا مع الأطفال، وإلاّ فما هو ابني ولا أنا أُمّه، فكتب الشيخ بذلك رسالة، وأعطاها إيّاها، فأخذت بيد الطفل، وأدخلته البيت، فما مضت إلاّ سويعة وإذا رأى الشيخ أنّ الطفل قد خرج


(1) الوسائل 16 / 72، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 3، وص 80، الباب 89 منها، الحديث 4.

(2) وردت القِصّة في كتاب خزينة الجواهر في زينة المنابر: 179 ـ 180.

254

من البيت، وانشغل باللعب مع الأطفال، فغضبت الأُمّ، وسدّت عليه الباب إلى أن انتهوا من اللعب، وذهب كلّ واحد منهم إلى بيته، وبقي وحده، فجاء إلى البيت، ولكن كلّما دقّ الباب لم تفتح عليه الباب، فالتجأ إلى بيوت الجيران واحداً واحداً، ولكنّهم لم يفتحوا له أبوابهم، فاحتار في أمره، ورجع مرّة أُخرى إلى بيت أُمّه، وكلّما دقّ الباب لم يُفتح له، فقال: يا أُمّ إن لم ينفتح عليّ باب الجيران كان لي وجه للرجوع إلى هذا الباب، ولكن لو لم ينفتح عليّ هذا الباب ليس لي وجه للرجوع إلى باب آخر، وأخذ يبكي ويئنّ، وجعل وجهه على التراب إلى أن أخذه النوم وأُمّه تراقب حاله من على السطح، فحينما رأت الطفل قد نام بكمال الذلّ والانكسار في التراب رمت بنفسها، ورفعت رأس طفلها من على تراب الذلّ، وأخذت تمسح الغبار عن وجهه وهو نائم، ولمّا استيقظ الطفل، ونظر إلى وجه أُمّه قال: يا أُمّ لو تقطعي عنّي الماء والخبز فهو مقبول، ولو تفركي أُذني فأنا مستحقّ لذلك، ولو تركِتني في البكاء والحنين أتحمّل ذلك، ولكنّ الذي أطلبه منك أن لا ترسليني من باب بيتك إلى أبواب الآخرين، فلمّا رأى الشيخ هذه القِصَّة شقّ قميصه، وقال: اتّضح لي من هذه القِصّة أمران:

1 ـ إنّ العبد ليس له باب وطريق غير باب الله عزّ وجلّ(1).

2 ـ إنّ علاقة المحبّة لا تنفصم بأيّ شيء(2).

أقول: يا ترى إنّ الأُمّ تفرح برجوع ولدها وتوبته، وتتجاوز عن سيّئته، ولكن الله تعالى الذي ألهم الأُمّ هذه الرحمة وهو أرحم الراحمين لا يقبل توبة العبد،


(1) «... إلى من يذهب العبد إلاّ إلى مولاه، وإلى من يلتجئ المخلوق إلاّ إلى خالقه...». مفاتيح الجنان/دعاء أبي حمزة الثمالي.

(2) «... هيهات أنت أكرم من أن تضيّع من ربّيته، أو تبعّد من أدنيته، أو تشرّد من آويته، أو تسلّم إلى البلاء من كفيته ورحمته...». مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

255

ولا يفرح برجوع عبده المؤمن؟! وإنّ عطفه تعالى ورحمته على العباد ثابتان حتّى في يوم المعاد في حين أنّ عطف الأُمّ وحنانها لا يبقى لهما أثر في ذلك اليوم ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْل حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(1).

﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(2).

﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى﴾(3).

﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم﴾(4).

وفي ختام حديثنا عن التوبة أقول: إنّ الآية الشريفة ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ...﴾(5). قد ذُكرت لها شؤون نزول، ويُحْتمَل أنّها كانت جميعاً من قبيل التطبيق على المورد لا من قبيل شأن النزول، ولكنّها على أيّ حال تعتبر جميعاً قصصاً لأشخاص صدرت عنهم الذنوب الكبار العظام ممّا يؤدي إلى سَعَة الأمل للمذنبين بهذه الآية المباركة، ولذا نشير هنا إلى بعض تلك الموارد:


(1) السورة 22، الحج، الآية: 2.

(2) السورة 80، عبس، الآيات: 34 ـ 37.

(3) السورة 70، المعارج، الآيات: 8 ـ 16.

(4) السورة 26، الشعراء، الآيتان: 88 ـ 89 .

(5) السورة 39، الزمر، الآيتان: 53 ـ 54.

256

أوّلها: قيل: إنّها نزلت بشأن وحشي، وقد ورد في تفسير نمونه(1): أنّ سورة الزمر من السور المكية، ووقتئذ لم يكن قد وقعت قِصَّة وحشي ولا وقعة أُحد، فلا يمكن أن تكون قِصَّة وحشي شأن نزول للآية المباركة، فلعلّ هذا كان تطبيقاً لهذه الآية على ذاك المورد.

وعلى أيّة حال، فوحشي هو ذاك المجرم المعروف قاتل حمزة عمّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)في وقعة أُحد.

وقد رُوِيَ في تفسير القمّي(2) أنّ هند بنت عتبة «... كانت في يوم أُحد في وسط العسكر، فكلّما انهزم رجل من قريش رفعت له ميلاً ومكحلة، وقالت: إنّما أنت امرأة، فاكتحل بهذا، وكان حمزة بن عبدالمطلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا، ولم يثبت له أحد، وكانت هند بن عتبة قد أعطت وحشياً عهداً: لئن قتلت محمّداً أو عليّاً أو حمزة لأعطيتك رضاك، وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم حبشيّاً، فقال وحشي: أمّا محمّد فلا أقدر عليه، وأمّا عليّ فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه، فكمنت لحمزة، فرأيته يهدّ الناس هدّاً، فمرّ بي، فوطأ على جرف(3) (حرف خ ل) نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها ورميته، فوقعت في خاصرته، وخرجت من مثانته مغمسة بالدم، فسقط، فأتيته، فشققت بطنه، فأخذت كبده، وأتيت بها إلى هند، فقلت لها: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فيها فلاكتها، فجعلها الله في فيها مثل الداغصة(4) (الفضّة خ ل) فلفظتها ورمت بها، فبعث الله ملكاً فحملها وردّها إلى موضعها..».


(1) تفسير «نمونه» 19 / 502.

(2) تفسير القمّي 1/116 ـ 117.

(3) الجرف: الجانب الذي أكله الماء من حاشية النهر. (المنجد)

(4) من معاني الداغصة على ما ورد في المنجد: عظم الركبة المسمى عامياً بالصابونة.

257

وقد ورد في سفينة البحار: «حكي أنّ مسيلمة الكذّاب اشترك في قتله وحشي وأبو دجانة، فكان وحشي يقول: قتلت خير الناس وشرّ الناس حمزة ومسيلمة...» ومنه الحديث: «حمزة وقاتله في الجنّة»(1).

وذكرَ في تفسير نمونه(2) نقلاً عن بعض المفسّرين:

لمّا كثرت انتصارات الإسلام أراد وحشي أن يسلم، لكنّه كان يخشى عدم قبول إسلامه، فنزلت الآية، فأسلم، وقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): «كيف قتلت عمّي حمزة ؟ فذكر وحشي قِصّة قتله لحمزة(رحمه الله)، فبكى رسول الله(صلى الله عليه وآله)بكاءً شديداً، وقَبِل توبته، ولكنّه قال له: غيّب وجهك عنّي، فإنّي لا استطيع النظر إليك. فلحق بالشام، فمات في أرض تُسمّى بالخمر.

وورد في تفسير الفخر الرازي: لما أسلم وحشي بناءً على هذه الآية قيل لرسول الله(صلى الله عليه وآله): «هذه له خاصّة أم للمسلمين عامّة؟ فقال: بل للمسلمين عامّة»(3).

وثانيها: ما رواه في تفسير نمونه(4) باختصار عن تفسير أبي الفتوح الرازي ج 9 ص 412 من أنّ شاباً جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) باكياً مع شدّة التأ ثّر، وكان يقول: إنّي أخشى من غضب الله، قال له الرسول(صلى الله عليه وآله): هل أشركت؟ قال: لا، قال: هل قتلت أحداً بغير حقّ؟ قال: لا، قال(صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك مهما كثرت، قال: إنّ ذنبي أعظم من السماء والأرض والعرش والكرسيّ، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): هل أنّ ذنبك أعظم من الله؟! قال: لا، الله أكبر من كلّ شيء، قال له: تب فإنّ الإله العظيم يغفر الذنب العظيم.


(1) سفينة البحار 8/420.

(2) تفسير «نمونه» 19/506.

(3) التفسير الكبير للفخر الرازي 27/4.

(4) تفسير «نمونه» 19 / 507 ـ 508.

258

ثُمّ قال له: اذكر لي ذنبك: قال: استحي منك من ذكره، قال(صلى الله عليه وآله): اذكره لنا كي نعرف ماهو هذا الذنب، قال: كنت أنبش القبور سبع سنين، وأسرق أكفان الموتى إلى أن انتهيت إلى قبر أنصاريّة، وبعد أن أخذت كفنها وسوستني نفسي، وهنا يشرح فعلته الشنيعة معها، فغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: أخرجوا هذا الفاسق عنّي، وقال له: ما أقربك من النار، فخرج وكان يبكي بكاءً عظيماً، وذهب إلى الصحراء، وكان يقول: يا إله محمّد(صلى الله عليه وآله) إن قبلت توبتي أخبر رسولك بذلك، وإلاّ فأرسل صاعقة من السماء وأحرقني بها، وأنجني بذلك من عذاب الآخرة، فنزلت الآية: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ...﴾.

وقد ذكر الشيخ المجلسي(قدس سره) هذه القِصّة بكلّ تفصيل في البحار(1)، إلاّ أن الآية التي فرض نزولها في تلك القِصَّة ليست الآية الماضية، بل آية أُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(2).

وثالثها: ما رواه فخر الرازي في تفسيره(3) بعنوان أحد الأُمور التي ذكرت في سبب نزول الآية، وهو أنّه قيل: «إنّها نزلت في أهل مكّة، فإنّهم قالوا: يزعم محمّد(صلى الله عليه وآله) أنّ من عبد الأوثان، وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!» فنزلت هذه الآية معلنةً عن قبول توبتهم.


(1) البحار 6/23 ـ 26.

(2) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

(3) التفسير الكبير للفخر الرازي 27/4.

259

وممّا يناسب ذكره في المقام قِصّة أبي لبابة التي رواها المجلسي في البحار(1)عن تفسير عليّ بن إبراهيم في ذيل آية ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2) قال: «نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمّا حاصر بني قريظة قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا أبا لبابة ائت حلفاءك ومواليك، فأتاهم، فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم رسول الله؟ فقال: انزلوا، واعلموا أنّ حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه، ثُمّ ندم على ذلك، فقال: خنت الله ورسوله، ونزل من حصنهم، ولم يرجع إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومرّ إلى المسجد، وشدّ في عنقه حبلاً، ثُمّ شدّه إلى الأُسطوانة التي تسمّى أسطوانة التوبة، فقال: لا أحلّه حتّى أموت، أو يتوب الله عليّ، فبلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله)ذلك، فقال: أمّا لو أتانا لاستغفرنا الله له(3) فأمّا إذا قصد إلى ربّه فالله أولى به. وكان أبو لبابة يصوم النهار، ويأكل بالليل ما يمسك رمقه، وكانت بنته تأتيه بعشائه، وتحلّه عند قضاء الحاجة، فلمّا كان بعد ذلك ورسول الله(صلى الله عليه وآله) في بيت أُمّ سلمة نزلت توبته، فقال: يا أُمّ سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأُؤذنه بذلك؟ فقال: لتفعلنّ، فأخرجت رأسها من الحجرة، فقالت: يا أبا لبابة أبشر قد تاب الله عليك، فقال: الحمدلله، فوثب المسلمون يحلّونه، فقال: لا والله حتّى يحلّني رسول الله(صلى الله عليه وآله) بيده، فجاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أُمّك يومك هذا لكفاك، فقال: يا رسول الله أفأتصدّق بمالي كلِّه، قال: لا، قال: فبثلثيه ؟


(1) البحار 22/93 ـ 94.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 102.

(3) لعلّه إشارة إلى قوله تعالى: ﴿... وَلَو أَنَّهُم إِذ ظلَمُوا أَنفُسهم جاؤوكَ فاستَغفروا الله وَاستغفر لَهُم الرسول لَوَجدوا الله توّاباً رَّحيماً﴾. السورة 4، النساء، الآية: 64.

260

قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، فأنزل الله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(1) ».

فلئن كانت هذه الذنوب العظام قد حطّتها التوبة ونحن نرجو أن لا تكون لنا ذنوب من هذا المستوى، فكلّنا رجاءٌ أن يغفر الله لنا ذنوبنا بتوبتنا واستغفارنا خاصّة إذا استغفرنا ربّنا في الاسحار، وقد قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالاَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(2). وقال ـ أيضاً ـ في وصفهم: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾(3). وأيضاً قال الله تعالى في الحوار الذي نقله بين يعقوب وأبنائه: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(4).

وقد فسّر هذا التأجيل في الاستغفار بالتأجيل إلى السحر(5).

وفي الكافي بسند صحيح عن عمر بن أُذينة قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: إنّ في الليل لساعة ما يوافقها عبد مسلم ثُمّ يصلّي ويدعو الله عزّ وجلّ فيها إلاّ استجاب له في كلّ ليلة، قلت: أصلحك الله وأيّ ساعة هي من الليل؟ قال: إذا مضى


(1) السورة 9، التوبة، الآيات: 102 ـ 104.

(2) السورة 51، الذاريات، الآيتان: 17 ـ 18.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 17.

(4) السورة 12، يوسف، الآيتان: 97 ـ 98.

(5) راجع أُصول الكافي 2/477، باب الأوقات والحالات التي تُرجى فيها الإجابة من كتاب الدعاء، الحديث 6.

261

نصف الليل وهي السدس الأوّل من أوّل النصف»(1).


(1) المصدر السابق 2 / 478.. ولا يخفى أنّ الشيخ الطوسي(قدس سره) روى نفس الحديث بسند صحيح عن عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، إلاّ أنّه جاء التعبير في مقام تحديد الوقت هكذا: «... إذا مضى نصف الليل إلى الثلث الباقي».

راجع التهذيب 2 / 117، الحديث 441. فلو فسّرنا السدس في التعبير الذي نقلناه عن الكافي بمعنى: سدس الليل، لا بمعنى سدس النصف، تطابق التعبيران؛ وذلك لأنّ ما بين النصف الأوّل والثلث الأخير عبارة عن السدس الرابع.

وذكر الغزالي حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ من الليل ساعة لا يوافيها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلاّ أعطاه إيّاه. وفي حديث آخر: يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلّ ليلة. ثُمّ قال الغزالي: ومطلوب القائمين تلك الساعة وهي مبهمة في جملة الليل.. وعلّق عليه الشيخ الفيض(قدس سره) بقوله: بل هي معلومة بتعليم علماء أهل البيت ـ صلوات الله وتسليماته عليهم ـ إيّانا، وهي: السدس الرابع من الليل ... ولكنّ العامّة عن بركة أمثالها لمعزولون. راجع المحجّة 2 / 400.

263

 

 

 

 

الفصل الثاني

المحاسبة

 

قيل: إنّ مرتبة المحاسبة تأتي بعد مرتبة التوبة، فبعد أن عقد التوبة يحاسب نفسه على حفظ التوبة حتّى يسلم عقدُها ويثبت دوامها(1).

والواقع: أنّ التوبة والمحاسبة تتفاعلان فيما بينهما، فالتوبة تؤدّي إلى المحاسبة، والمحاسبة تؤثّر في دوام التوبة، والوفاء بها من ناحية وهي قبل التوبة تؤدّي إلى التوبة من ناحية اُخرى.

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(2).

فقوله تعالى: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد﴾ في الحقيقة أمر بالمحاسبة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه؛ ليرى ماذا قدّم لغده، هل قدّم خيراً أو قدّم شرّاً؟ وإن كان قد قدّم خيراً فما هو مبلغ تقديمه؟ علماً بأنّ ما يقدّمه هو الذي يبقى له، والباقي يفنى كما قال الله تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاق ...﴾(3).


(1) راجع باب المحاسبة، وهو الباب الثالث من أبواب البدايات من منازل السائرين.

(2) السورة 59، الحشر، الآيتان: 18 ـ 19.

(3) السورة 16، النحل، الآية: 96.

264

والذي تقشعرّ له الجلود التعبير الوارد في ذيل الآية ـ وهو قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ...﴾ فهذا يعني: أنّ ترك المحاسبة يكون من شأن اُولئك الذين نسوا الله، وأنّ جزاء نسيان الله هو أن يبتليه الله بنسيان نفسه، والذي هو أعظم نسيان حتّى عند من لا يهتمّ إلاّ بمصالح نفسه. والتعبير بنسيانه لنفسه يتمّ باعتبارين:

أحدهما: أنّ الذي نسى الله لا يذكر مصالح نفسه الأُخرويّة، والتي هي المصالح الباقية والهامّة، ومن ترك مصالح نفسه فكأنّه ناس لنفسه، وإلاّ فكيف لا يهتمّ بمصالح نفسه.

وثانيهما: أنّ الطاقة الخيّرة الهامّة المودعة بلطف الله في النفس قد أهملها ونسيها، ونسيانها نسيان للنفس.

ويشبه التعبير بنسيان النفس التعبير المؤثّر الآخر الوارد في القرآن الكريم، وهو التعبير بخسران النفس، فقد تكرّر في القرآن عدّة مرّات عنوان: ﴿... الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ...﴾(1) فالذين خُتِمت عاقبتهم بالشرّ، ولم يكن لهم في الآخرة من خلاق قد خسروا أنفسهم، إمّا بلحاظ خسارة مصالحهم في الآخرة إلى أبد الآبدين، أو بلحاظ خسارة قوى الخير التي أودعها الله في أنفسهم فخسروها.

وهناك مرتبة نازلة من خسران النفس أو نسيان النفس وردت في الروايات بشأن من يرتكب بعض الذنوب وذلك من قبيل التعبير بحرمان صلاة الليل، كما ورد عن الصادق(عليه السلام): «أنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل...»(2). وسند


(1) راجع السورة 6، الأنعام، الآيتين: 12 و20، والسورة 7، الأعراف، الآيتين 9 و 53، والسورة 11، هود، الآية: 21، والسورة 23، المؤمنون، الآية: 103، والسورة 39، الزمر، الآية: 15.

(2) الوسائل 15 / 302، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 14.

265

الحديث تامّ.

وكذلك ورد عن الصادق(عليه السلام): «أنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل، فإذا حرم صلاة الليل حرم بها الرزق»(1).

ورُوي أنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: «إنّي قد حرمت الصلاة بالليل، فقال امير المؤمنين(عليه السلام): أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك»(2).

وعلى أيّة حال، فحساب ما قدّم الإنسان لغد الوارد في الآية الكريمة أمر تحكم به الفطرة؛ لأنّ الإنسان المسافر في أسفاره الاعتياديّة لا بدّ له من ذلك ومن تدارك الزاد لسفره، فكيف بالسفر إلى عالم البقاء؟! وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)أنّه قال:

إذا كنت تعلم أنّ الفراق
فراق الحياةِ قريبٌ قريب
وأنّ المعدَّ جهازَ الرحيلِ
ليوم الرحيلِ مصيب مصيبْ
وأن المُقدِّم ما لا يفوت
على ما يفوت معيبٌ معيبْ
وأنت على ذاك لا ترعوي
فأمرُك عندي عجيبٌ عجيبْ(۳)

وكيف يصحّ ترك الاهتمام بالمحاسبة في حين أنّ وراءنا محاسبة عظيمة من قبل الله تعالى، كما أخبرنا القرآن به في أكثر من مورد، منها:

1 ـ ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(4).

2 ـ ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل فَتَكُنْ فِي صَخْرَة أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ


(1) المصدر السابق 8 / 160، الباب 40 من بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 3.

(2) المصدر السابق: ص161، الحديث 5.

(3) البحار 78/92.

(4) السورة 21، الانبياء، الآية: 47.

266

فِي الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾(1).

ويحتمل أن تكون الآية الثانية بل ولعلّ الاُولى ـ أيضاً ـ مشيرة إلى بقاء الأعمال بتموّجاتها الهوائية، وتأثيراتها المادّية، وتجزّؤها كمثقال حبّة من خردل، وتفرّقها، وانتشارها في السماوات والأرض، وأنّ الله ـ تعالى ـ يجمعها يوم القيامة، ويجسّمها أمام فاعلها، فواسوأتاه على أعمالنا القبيحة.

وهناك روايات واردة عن المعصومين(عليهم السلام) في باب المحاسبة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «ابن آدم! إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً، ابن آدم! إنّك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله فأعدّ جواباً»(2).

قوله: «وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً» قد فسّر الشعار والدثار في اللغة بمعنى الثوب الداخلي والثوب الفوقاني؛ ولهذا يحتمل أن تكون الأصحّ النسخة التي وردت هكذا: «وما كان الخوف لك شعاراً، والحذر لك دثاراً»(3)؛ وذلك لأنّ الخوف أمر باطني، فيناسب تشبيهه بالشعار، والحذر أمر ظاهري، فيناسب تشبيهه بالدثار، في حين أنّ الخوف والحزن من هذه الناحية سيّان، فلا تُرى نكتةٌ في جعل الأوّل شعاراً والثاني دثاراً.

2 ـ ما عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام)(4) قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً


(1) السورة 31، لقمان، الآية: 16.

(2) الوسائل 16/96، الباب 96 من جهاد النفس، الحديث 3.

(3) البحار 78/137 نقلاً عن تحف العقول.

(4) الظاهر: أنّ المقصود موسى بن جعفر(عليه السلام).

267

استغفر الله منه وتاب إليه»(1).

3 ـ ما رُوِيَ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّه قال لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ حاسب نفسك قبل أن تحاسَب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزِن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية... يا أبا ذرّ لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك لشريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلال أم من حرام؟ يا أبا ذرّ من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار»(2).

وقد ورد في هذا الحديث الأمر بعناوين ثلاثة: محاسبة النفس قبل أن تحاسَب، ووزن النفس قبل أن توزن، والتجهّز للعرض الأكبر الذي سوف يكون في الآخرة على من لا تخفى عليه خافية.

وهذه العناوين الثلاثة وإن كانت مترابطة، ولكن الظاهر وجود فَرق بينها، فكأنّ المقصود بالمحاسبة: محاسبة ما صدرت عن النفس من الأعمال؛ لكي يعرف الخير منها من الشرّ. والمقصود بالموازنة: الموازنة بين واقع ما وصلت إليه النفس من المستوى في هذا الحين، وما ينبغي أن تصل إليه؛ كي يعرف مدى ماهو عليه من النقص. والمقصود بالتجهّز للعرض الأكبر: ما ينبغي أن يكون نتيجة المحاسبة والموازنة من تدارك ما فات وإكمال النقائص.

والمحاسبة من أشدّ الأُمور على النفس، ومنشأ الشدّة واضح، وهو: وحدة المحاسِب والمحاسَب، فمن السهل أن يحاسب شخص شخصاً، ولكن إذا اتّحد المحاسِب والمحاسَب يصعب حصول المحاسبة؛ ولذا ترى أنّ من يوفّق من المؤمنين للمحاسبة قليلون، وهم من خلّص العباد.


(1) الوسائل 16/95، الباب 96 من جهاد النفس، الحديث 1.

(2) المصدر السابق: ص98، الحديث 7.

268

صحيح أنّنا نقول: إنّ العقل يحاسب النفس، والعقل غير النفس، ولكنّ الواقع: أنّ المغايرة بين العقل والنفس إن هي إلاّ أمراً تحليليّاً بحتاً، أمّا بحسب الوجود الخارجي فالنفس في وحدتها كلّ القوى، فواقع الأمر: أن النفس هي تحاسب نفسها، فكيف يمكن ذلك؟!

وهذه المشكلة ليس لها إلاّ أحد حلّين:

الحلّ الأوّل: أن يستفاد من النفس في حالة صحوها؛ لمحاسبة النفس بلحاظ حالة سباتها وضعفها.

وتوضيح ذلك: أنّ النفس لا تبتلي بالمعصية إلاّ نتيجة السبات والضعف أمام المغريات، وبعد ذلك قد تنتقل إلى شيء من الصحوة والعافية لأحد أسباب ثلاثة:

1 ـ إنّه بعد أن ارتكبت ما دعت إليه الشهوة خمدت الشهوة بسبب إشباعها، فهنا قد يأتي دور الصحو ولو نسبياً؛ لأجل خمود الشهوة، وكأنّ هذا هو المعنيّ بالحديث المروي عن الصادق(عليه السلام): «قيل له: أيزني الزاني وهو مؤمن؟ فقال: لا إذا كان على بطنها سُلِبَ الإيمان منه، فإذا قام رُدّ عليه...»(1).

ويلحق بذلك خمود الشهوة بأسباب أُخرى: كضعف المزاج صحيّاً، أو الشيب، أو غير ذلك. فقد يوجب ذلك إدراك دور الصحو.

2 ـ إنّ المغريات التي ضعفت النفس أمامها قد تزول أو تخفّ، فقد يدرك النفس ـ عندئذ ـ دور الصحو ولو نسبياً.

3 ـ إنّ النفس قد تتقوّى ببعض المقوّيات: من سماع وعظ واعظ، أو قراءة قرآن، أو التفكير بالعواقب، أو غير ذلك.

فبأيّ سبب من هذه الأسباب حينما يدرك الإنسان الصحو ولو نسبيّاً ينبغي له أن يغتنم ذلك فرصة لمحاسبة نفسه على ما صَدر عنها في وقت السبات والغفلة


(1) الوسائل 20/312، الباب 1 من النكاح المحرم، الحديث 17.

269

والطغيان كما ويجب عليه إيجاد أسباب الصحو بقدر الإمكان بالطرق المباحة حينما لم توجد بذاتها.

والحلّ الثاني: ما يتعيّن الالتجاء إليه بالنسبة لمن عجز عن الاستفادة من الحلّ الأوّل، وهو: أن يعيّن شخصاً آخر لمراقبته ومحاسبته، كي يكون المحاسِب غير المحاسَب حتّى يصبح الحساب ممكناً.

ثُمّ إنّ المحاسبة لا تختصّ بالعُصاة كي يتصوّر أنّ العُدول مستغنون عنها؛ وذلك لأنّ مراتب العرفان لا تنتهي، وعقاب العارفين على ذنوبهم العرفانية ربّما لا يقلّ في إحساساتهم عن عقاب العاصين على معاصيهم، فالعارف الذي يُعاقب بحرمانه لذّة المناجاة مثلاً، أو حرمانه لبعض درجات تلك اللّذة قد يحسّ بألم هذا العقاب أكثر من ألم العاصي باحتراقه بخوف النار، إذن فمهما يبلغ العارف في مراتب سلوكه التي لا تتناهى المقامات الراقية لا يستغني عن محاسبة نفسه في سبيل نيل المقامات التي هي أعلى من ذلك والنجاة من العقاب الذي قد يراه في مستواه أعلى ممّا يراه العاصي من العقاب في مستواه. وأنت لو نظرت إلى لغة العارفين لأحسست بشدّة احتراقهم بالمجازاة العرفانية التي تفوق على تألّم العاصين من استحقاقهم للنار، فمثلاً لو كان الإعراض عن اللغو بشكل مطلق ـ الذي جعل في ظاهر الآية المباركة وصفاً للمؤمنين(1) ـ من الواجبات العرفانية لا الواجبات الفقهيّة، وافترضنا أنّه غير ذي أهميّة قصوى ما دام هو غير واجب فقهيّاً، فبالله عليك ألا تتذوّق شدّة الاحتراق والتأ لّم إلى حدٍّ لا يوصف على فرضية صدور هذا الذنب العرفاني ممّا ورد في دعاء أبي حمزة: «... أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني...»؟! ولو لم يكن فقدان لذّة المناجاة أشدّ على العارفين من حرقة ذكر النار على العاصين فماذا تفهم من الفقرة


(1) راجع السورة 23، المؤمنون، الآيات 1 ـ 3.

270

الواردة في دعاء أبي حمزة من قوله:

«... اللّهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيتَ عليَّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بليّة أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك، سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيّتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني...»(1)؟!

هكذا نتعلّم من هذه الأدعية المباركة لغة محاسبة النفس الصادقة رغم وحدة التعبير لدى صدورها عن العاصين، ولدى صدورها عن المتقين العارفين، وبشتّى مستويات العرفان غير المتناهية، وفي كلّ مرتبة من المراتب تعطي هذه الكلمات المعنى المناسب لتلك المرتبة. وسلام الله على أهل بيت يكون كلامهم دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

ولنختم حديثنا عن المحاسبة بالكلام حول ما قيل في تشخيص موقعيّة المحاسبة والأُمور المرتبطة بها: من أنّه لابدّ من المرابطة مع النفس أوّلاً بالمشارطة، ثُمّ بالمراقبة، ثُمّ بالمحاسبة، ثُمّ بالمعاقبة، ثُمّ بالمجاهدة، ثُمّ بالمعاتبة، وأصلها: هو المحاسبة، ولكنّ الحساب يكون بعد المشارطة والمراقبة، وتتبعه عند


(1) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.

271

الخسران معاتبة ومعاقبة(1).

ونحن لا نقبل من هذا الكلام فرضيّة الترتّب بين المعاقبة والمعاتبة وكون الثانية متأخرة من الأُولى بدرجتين، بل هما في عرض واحد. وبعد هذا الاستثناء نتكلّم بشكل مختصر عن هذه المراتب بالشكل الذي نراه صحيحاً، وليس يطابق بالضرورة تطابقاً كاملاً لما قاله الغزالي في شرح ذلك. فنقول:

أوّلاً ـ المشارطة:

فعمر الإنسان رأس ماله الحقيقي يضعه الإنسان أمانة بيد نفسه، ونفسه أمارة بالسوء، ولو غفل الإنسان عنها لفرّطت النفس بهذا المال، فعليه أن يشارط نفسه كلّ يوم مرّة في الأقلّ أو كلّ يوم وليلة مرّتين: بأن يأخذ على نفسه في أوّل النهار وفي أوّل الليل أن لا يتصرّف في رأس المال هذا إلاّ في كذا وكذا من الأُمور، فإنّ ساعات عمره خزائن من الأموال والمجوهرات مودعة لديه من قبل الله تعالى، وخسرانها يوجب الحسرات الشديدة.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أنّه يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيّام عمره أربعة وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار، فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي: الساعة التي أطاع فيها ربّه، ثُمّ يُفتح له خزانة أُخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسّم على أهل الجنّة لنغّص عليهم نعيمها، وهي: الساعة التي عصى فيها ربّه، ثُمّ يُفتح له خزانة أُخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه، وهي: الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات ما


(1) راجع المحجة 8/150، والإحياء 4/362.

272

لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ﴿... ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾(1) ».

ثانياً ـ المراقبة:

فمجرد المشارطة مع النفس لا تكفي؛ لأنّ النفس قد تخون الشرط، فلابدّ من مراقبتها في حالتين:

1 ـ حالة ما قبل العمل؛ كي يتأكّد من الدافع الذي دفعه إلى العمل؛ لأنّ النفس خدّاعة تخدع نفسها، فقد يغفل الإنسان عن دافعه الحقيقي، أو إنّ الدافع يكون في الحقيقة مركّباً من الدافع الإلهي وغيره، فيغفل عن الجزء الثاني، وينسب إلى نفسه الإخلاص.

2 ـ وحالة العمل؛ كي يتأكد من صحته وعدم الانحراف فيه وعدم الانصراف عنه إن كان عملاً صالحاً.

والمراقبة قد تُفسَّر بأحد تفسيرين:


(1) السورة 64، التغابن، الآية: 9، وأمّا الرواية فهي واردة في البحار 7 / 262، وتتّضح ممّا في ذيل هذه الرواية ـ من أنّ فتح الخزانة الثالثة الخالية يورث من الغبن والأسف ما لا يوصف ـ عدّة أُمور، منها:

أوّلاً ـ فضيلة كبيرة لشهر رمضان المبارك بناءً على ما ورد في خطبة مرويّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)من قوله: «... أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة...» فإنّ هذا يعني: أنّ الخزانة الثالثة الخالية لا توجد للمؤمن في شهر رمضان؛ إذ لا أقلّ من نوم أو تنفّس فيها، وكلتاهما تحسبان عبادة، وهذا أحد معاني ما ورد في نفس تلك الخطبة: من أنّ شهر رمضان شهر ضيافة الله. راجع متن الخطبة في البحار: 96/356 ـ 358.

ثانياً ـ أهمّية ترك اللغو الوارد في قوله تعالى في سورة 23 المؤمنون ﴿... وَالَّذين هُمْ عَن اللغوِ مُعرِضُون﴾ وفي سورة 25 الفرقان ﴿... وَإِذَا مَرُّوا بِاللغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾. بناءً على شمولهما للغو المباح، فإنّ ذلك يوجب فتح الخزانة الثالثة المورثة من الغبن والأسف ما لا يوصف.

ثالثاً ـ عظمة الكلام المرويّ عن الرسول(صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ كما ورد في البحار 77 / 82: «... يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّى في النوم والأكل...» فإنّ من فعل ذلك لم تُفتح له خزانة ثالثة.

273

الأوّل: مراقبة الإنسان نفسه سواءٌ قبل العمل أو حين العمل كما أشرنا إليه؛ كي لا يخطأ.

والثاني: ملاحظة الرقيب، وهو: الله تعالى، فإنّه سبحانه وتعالى يراقبنا في كلّ حال، وقد قال الله تعالى:

1 ـ ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾(1).

2 ـ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾(2).

وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لأبي ذرّ: «... يا أبا ذرّ اعبد الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك...»(3).

وتقسّم هذه الملاحظة إلى درجتين:

الأُولى: مراقبة المقرّبين، وهي: مراقبة التعظيم والإجلال، وهي: أن يصير القلب مستغرقاً بملاحظة ذلك الجلال ومنكسراً تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى غيره.

والثانية: مراقبة الورعين من أصحاب اليمين، وهم: قوم غلب يقين اطّلاع الله على ظواهرهم وبواطنهم على قلوبهم، ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال والجمال، بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال متّسعة للتلفّت إلى الأحوال والأعمال، إلاّ أنّها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة فيها، نعم غلب عليهم الحياء من الله تعالى فلا يُقدمون ولا يحجمون إلاّ بعد التثبّت فيه.

ويُعرف اختلاف الدرجتين بملاحظة المراقبين الاعتياديين من الآدميين،


(1) السورة 4، النساء، الآية: 1.

(2) السورة 96، العلق، الآية: 14.

(3) البحار 77/74.

274

فإنّك في خلواتك قد تتعاطى أعمالاً، ويدخل عليك ملِك من الملوك أو كبير من الأكابر فيستغرقك التعظيم حتّى تترك كلّ ما أنت فيه شغلاً به لاحياءً منه، وربّما لا يدخل عليك كبير من هذا النمط، بل يحضرك صبيّ أو إنسان عاديّ، فتعلم أنّه مطّلع عليك، فتستحي منه، فتحسن جلوسك وتراعي أحوالك لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء، فإنّ مشاهدته وإن كانت لا تدهشك ولا تستغرقك، ولكنّها تهيّج الحياء منك.

فعلينا أن نراقب الله سبحانه وتعالى ـ في الأقلّ ـ بقدر مراقبتنا للصغير أو للإنسان الاعتيادي، ونستحي منه ـ في الأقلّ ـ بقدر حيائنا من الصغير أو الإنسان الاعتيادي: «فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهون الناظرين إليّ وأخفّ المطّلعين عليّ، بل لأنّك يا ربّ خير الساترين، وأحكم الحاكمين، واكرم الأكرمين، ستّار العيوب، غفّار الذنوب، علاّم الغيوب، تستر الذنب بكرمك، وتؤخّر العقوبة بحلمك...»(1).

وقد ورد في الحديث عن مولانا زين العابدين(عليه السلام): أنّه حينما اختلت امرأة العزيز بيوسف «قامت امرأة العزيز إلى الصنم، فألقت عليه ثوباً، فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت: أستحي من الصنم أن يرانا، فقال لها يوسف: أتستحيين من لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ولا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا ممّن خلق الإنسان وعلّمه» ؟ !(2).

«وحُكي عن بعض الأحداث أنّه راود جارية عن نفسها ليلاً، فقالت: ألا تستحي؟! فقال: ممّن أستحي وما يرانا إلاّ الكواكب، فقالت: وأين مكوكبها؟!»(3).


(1) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.

(2) البحار 12/266.

(3) المحجة 8 / 156.

275

ثالثاً ـ المحاسبة:

وهذا ما يكون آخر النهار وآخر الليل كما كانت المشارطة أوّل النهار وأوّل الليل، فإنّ رأى الإنسان بعد محاسبة النفس أنّها قد عملت بالوظيفة شكر الله على ذلك واستزاد الله في ذلك، وإن رأى التقصير تاب وتدارك ما مضى.

رابعاً ـ المعاتبة والمعاقبة:

فيما لو تبيّن له تقصير النفس في أداء الوظيفة، فلو ظهر أنّ النفس قد قصّرت فيما شرط عليها ينبغي للإنسان أن يوبّخها ويعاتبها، وأن يؤدّبها ببعض العقوبات.

وقد رُوي عن ليث بن أبي سليم(1) قال: «سمعت رجلاً من الأنصار يقول: بينما رسول الله(صلى الله عليه وآله) مستظلّ بظلّ شجرة في يوم شديد الحرّ إذ جاء رجل ينزع ثيابه، ثُمّ جعل يتمرّغ في الرمضاء يكوي ظهره مرّة وبطنه مرّة وجبهته مرّة، ويقول: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم ممّا صنعتُ بكِ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) ينظر إلى ما يصنع، ثُمّ إنّ الرجل لبس ثيابه، ثُمّ أقبل فأومأ إليه النبيّ(صلى الله عليه وآله) بيده ودعاه، فقال له: يا عبدالله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله، وقلت لنفسي: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم ممّا صنعتُ بكِ، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): لقد خفت ربّك حقّ مخافته، وإنّ ربّك ليباهي بك أهل السماء، ثُمّ قال لأصحابه: يا معشر من حضر ادنوا من صاحبكم حتّى يدعو لكم، فدنوا منه، فدعا لهم وقال: اللّهمّ اجمع أمرنا على الهدى، واجعل التقوى زادنا، والجنّة مآبنا».

وخامساً ـ المجاهدة:

فبعد أن رأى الإنسان من نفسه التقصير ينبغي له أن يجاهد نفسه بتدارك ما فات وبالاستزادة فيما يأتي ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ


(1) المحجة 7/308 ـ 309.

276

الْمُحْسِنِينَ﴾(1).

وعن مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «طوبى لعبد جاهد لله نفسه وهواه...»(2).

وفي الختام نشير إلى كلمة جليلة حول المشارطة والمراقبة والمحاسبة للسيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله)(3)، وهي بتلخيص: أنّه بإمكانك أن تلحظ يوماً واحداً، وتشارط نفسك في أوّله على عدم إرتكاب ما يخالف أوامر الله، وتتّخذ قراراً وعزماً بذلك؛ إذ من الواضح: أنّ ترك ما يخالف أوامر الله ليوم واحد أمر يسير للغاية، فيسهل العزم عليه ومشارطة النفس به، وعليك بالتجربة كي تراه سهلاً يسيراً، ثُمّ تراقب نفسك في ذلك اليوم على عدم نكثها للشرط، ثُمّ تحاسب نفسك في آخر اليوم على ما حصل في ذلك اليوم، فإن كنت قد وفيت حقّاً بالشرط فاشكر الله على هذا التوفيق، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل ذلك إلى ملكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة لك سهلاً ويسيراً في الغاية، وستحسّ عندها باللذّة والأُنس في طاعة الله وترك معاصيه، وإذا حدث ـ لا سمح الله ـ في أثناء النهار تهاون حول العمل بالشرط تستغفر الله، وتعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً.


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

(2) المحجة 8/170.

(3) الأربعون حديثاً: 26 ـ 27، ذيل الحديث الأوّل.