209

 

 

 

 

الحلقة الثالثة

 

البحث العملي لتزكية النفس

 

 

 

 

 

211

 

 

 

 

الفصل الأوّل

التوبة والإنابة

 

متى نبدأ؟ ومن أين نبدأ؟

هذان سؤالان نواجههما بادئ ذي بدء، ونحاول الإجابة عنهما:

متى نبدأ؟

هل نبدأ بتزكية النفس من بعد انتهاء الشباب، بدليل أنّ فترة الشباب هي فترة طغيان النفس وفوران الشهوات، وبعد هذه الفترة نكون أقدر على تهذيب النفس وتزكيتها؟

چون پير شدى حافظ از ميكده بيرون آى
رندىّ و هوسناكى در عهد شباب اولى

والواقع على العكس من ذلك تماماً، فلو ضَمِنَ لنا أحد الوصول إلى فترة ما بعد الشباب وعدم مباغتة الموت، قبلَ ذلك:

فأوّلاً: يكون التمادي في المعاصي والشهوات في حالة الشباب مانعاً عن التزكية لدى الشيب؛ لأنّ ذلك يوجب ظلمة القلب وانكسار قوّة الضمير والوجدان، ولهذا ستكون التوبة لدى الشيب أصعب بكثير من ترك الذنوب لدى الشباب.

وثانياً: إنّ الضعف الذي يستولي على الإنسان لدى الشيب يوجب صعوبة الصبر على مشقّة التزكية ومخالفة النفس.

وثالثاً: إنّ أكثر الشهوات تزداد لهيباً واشتعالاً لدى الشيب، فلو كانت شهوة الجنس تَخِفّ أو تخمد لدى الشيب ـ وهي أمر فطريّ يمكن إشباعه لدى الشباب

212

بالطُرُق المحلّلة عادة ـ فهناك شهوات اُخرى تشتعل وتَلْتَهِب أكثر فأكثر بتقدّم العمر، ويشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل، فعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): « يهرم ابن آدم ويشبّ منه اثنان: الحرص على المال والحرص على العمر »(1).

وعنه(صلى الله عليه وآله): «يهلك ـ أو قال ـ يهرم ابن آدم ويبقى منه اثنتان الحرص والأمل»(2).

وعن طُرُق العامّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «حبّ الشيخ شابّ في طلب الدنيا وإن التفّت ترقوتاه من الكِبَر، إلاّ الذين اتقوا، وقليل ماهم»(3).

وإفساد طول الأمل وكذلك اتِّباع الهوى على الإطلاق للنفس أكثر بكثير من مجرّد فوران شهوة الجنس في الشابّ. وقد ورد عن امير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خصلتان: اتِّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتِّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة»(4). وليس اتِّباع شهوة الجنس إلاّ جزءاً يسيراً من اتِّباع الهوى.

إذن فتجب المبادرة إلى تهذيب الروح وتزكية النفس من أوّل سني البلوغ وأوّل حالة الشباب. وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: « ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ...﴾(5) أنّه توبيخ لابن ثماني عشر سنة»(6). ولئن استطاع أحد أن يربّي نفسه قبل سني البلوغ كي لا تزل به قدمه بعد البلوغ ويكون ملتزماً بتكاليفه من أوّل البلوغ، لكان ذلك خيراً.


(1) البحار 73/161.

(2) البحار 73/161.

(3) المحجّة البيضاء 8/249.

(4) البحار 73/163.

(5) السورة 35، فاطر، الآية: 37.

(6) تفسير البرهان 3/366.

213

وعلى أيّة حال، فمن لم يتوفّق للتزكية مبكّراً فالمفروض به أن يبادر إلى ذلك في أقرب وقت من أوقات عمره مهما فرض فوات الفرصة؛ لأنّه بقدر ما يؤخّر العمل بهذا الصدد ستزداد الصعوبات أمام نفسه أكثر فأكثر وتضيق الفرصة أكثر من ذي قبل. وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): أنّه «مكتوب في التوراة نُحنا لكم فلم تبكوا، وشوّقناكم فلم تشتاقوا ... أبناء الأربعين أُوفوا للحساب، أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده، أبناء الستّين ماذا قدّمتم وماذا أخّرتم، أبناء السبعين عدّوا أنفسكم في الموتى ...»(1) ولنعم ما قيل:

أعينيّ لم لا تبكيان على عمري
تناثر عمري من يديّ ولا أدري
إذا كنت قد جاوزت خمسين حجةً
ولم اتأهب للمعاد فما عذري

ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

چو در موى سياه آمد سفيدى
پديد آمد نشان نا اميدى
زپنبه شد بنا گوشت كفن پوش
هنوز اين پنبه بيرون نارى از گوش
وأيضاً نعم ما قيل بالفارسيّة:

دوشم از سر رفت خواب و ميگذشت
با غم دل چون دگر شبهاى من
تيك تاك ساعت آوردم بخود
در سخن شد ناصح گوياى من
با زبان عقربك ميگفت عُمْر
مى روم بشنو صداى پاى من
روز اگر سر گرم خواب غفلتى
در دل شب گوش كن آواى من
تو أسير آرزوهاى زمان
لحظه غافل نه از يغماى من
اى ندانسته بهاى عمر خويش
نيستت آخر چرا پرواى من
از نداى عُمْر بر احوال خويش
نوحه گر شد طبع غم افزاى من
عمر من سرمايه من هست ونيست
هم بر اين سرمايه استيلاى من


(1) البحار 6/36.

214

در كمين من زمان تندرو
عاجز از تدبير كارش راى من
بى خبر از سرنوشت خويشتن
زندگى شد خواب وحشتناى من
اى زمان اى سود من از تو زيان
اى محال از گردشت ابقاى من
اين تو واين سير برق افزاى تو
وين من ووين رنج جان افزاى من
ولنعم ما قيل:

ألا يا أيّها القمر المضيء
إلى كم تذهبنّ وكم تجيء
ذهبت وفي ذهابك قصر عمري
رجعت وفي رجوعك لا يجيء
من أين نبدأ؟

كنت أتمنّى أن يكون بدء عملنا من ما فوق الصفر؛ لأنّه قد مضى من عمرنا عدد من السنين إن قليلاً أو كثيراً، فالمفروض أنّنا قد طوينا مساحة من الطريق، فليست بداية عملنا الآن من الصفر.

ولئن تنازلنا عن ذلك فإنّني كنت أتمنّى أن يكون بدء عملنا من الصفر، ومن صفحة بيضاء خالية عن الذنوب وعن الكمالات العرفانيّة.

ولكن الذي يحرق القلب ويدمي الفؤاد ويُبكي العين أن بدء عملنا في الأعمّ الأغلب لابدّ أن يكون من تحت الصفر، أي: يجب علينا أن نبدأ بغَسل الصفحة السوداء في قلوبنا بماء التوبة؛ لأنّنا تنزّلنا وتدهورنا عن حدّ الاعتدال الفطري بسبب المعاصي والذنوب، فالآن يجب علينا أن نبدأ بإزالة ماهو ضدّ الكمال لا بصعود مدارج الكمال من أرض معتدلة وقلب صاف، ولكنّ الذي يسلّينا عن هذه المصيبة أنّنا لسنا وحدنا هكذا نمشي في الطريق، بل يمشي أمامنا في طريق التوبة المعصومون، وأنا أفهم أنّ هذا الكلام الذي قلته ليس منطقيّاً؛ لأنّ توبتهم(عليهم السلام)تختلف سنخاً عن توبتنا؛ لأنّ ذنوبهم تختلف سنخاً عن ذنوبنا؛ وذلك بدليل العصمة، ولكن نبرّد أنفسنا بمجرد التشارك في الاسم، ونقول: يا ربّنا كيف لا تقبل

215

توبتنا ونحن قافلة عظيمة أتيناك تائبين، وأمامنا في الطريق أنبياؤك المرسلون والأئمّة المعصومون وأنت أكرم من أن تقبل توبة صدر القافلة وتوردهم مناهلك الرويّة ثُمّ تسدّ باب القبول على الذيول الوافدة التابعة لاؤلئك المقربين في سلوك الطريق.

فهذا نبيّ الله داود وهو معصوم عن الذنب بالمعنى الذي نفهمه من الذنب المألوف لدى غير المعصومين ولكن لهجته في التوبة عين لهجتنا حيث قال الله تعالى: ﴿... وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾(1) وهذا زين العابدين وسيّد الساجدين يقول ـ على ما ورد في مناجاة التائبين(2) ـ: « إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإنّي وعزّتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حِطّة فإنّي لك من المستغفرين، لك العتبى حتّى ترضى ...» ويقول ـ أيضاً ـ فيما رواه طووس الفقيه(3): «وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، وما عصيت إذ عصيتك وأنا بك شاكّ ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفّين: جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ ...».

وهنا أُكرّر أن توبتهم عليهم آلاف التحيّة والثناء تختلف سنخاً وهويّة عن توبتنا؛ لأنّ ذنوبهم تختلف سنخاً وهويّة عن ذنوبنا.

وهنا اتبرّك بذكر كلام سيّد العارفين في زماننا الإمام الخمينيّ(رحمه الله) حيث يعتذر


(1) السورة 38، ص، الآية: 24.

(2) المناجاة الأُولى من المناجيات الخمس عشرة المعروفة.

(3) البحار 46/81 .

216

عن شرح أنحاء التوبة المختلفة في السِّنخ في كتابه (الأربعون حديثاً)(1) بقوله: « اعلم أنّ للتوبة حقائق ولطائف وأسراراً، ولكلّ واحد من أهل السلوك إلى الله توبة خاصّة تتناسب مع مقامه، وحيث أن لا حظّ ولا نصيب لنا في تلك المقامات فلا يناسب شرحها والإسهاب في هذا الكتاب».

أقول: وممّا يؤيّد ما أفاده (رضوان الله عليه) من تعدّد أنحاء التوبة بتعدّد المقامات التي وصل إليها العبد ما ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «التوبة حبل الله ومدد عنايته، ولابدّ للعبد من مداومة التوبة على كلّ حال. وكلّ فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السرّ، وتوبة الأصفياء من التنفّس، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الخاصّ من الاشتغال بغير الله، وتوبة العامّ من الذنوب. ولكلّ واحد منهم معرفة وعلم في أصل توبته ومنتهى أمره...»(2).

والآن حان لنا وقت الدخول في بحث التوبة.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾(3).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ


(1) في ذيل الحديث السابع عشر: ص 283 بحسب أصل الكتاب الفارسي وص 267، بحسب الترجمة العربيّة التي قام بها السيّد محمّد الغروي حفظه الله.

(2) البحار 6 / 31.

(3) السورة 4، النساء، الآيتان: 17 ـ 18.

217

يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(1).

وقال عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(2).

وقال عزّ اسمه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3).

إنّ آيات التوبة في القرآن كثيرة، وكان اختياري لهذه الآيات الأربع بالذات لبدء الحديث في التوبة لنكات خاصّة بها:

أمّا الآية الأُولى فالنكتة الخاصّة بها هي ما ورد فيها: من أنّ الله ـ تعالى ـ فرض على نفسه التوبة على العبد التائب حيث قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب ...﴾ وكلمة ﴿عَلَى﴾ تعطي معنى الوجوب، فلاحظ رحمة الربّ ـ تعالى ـ الذي لا يجب عليه عقلاً قبول التوبة؛ لأنّ العبد العاصي بعد أن خالف نظام العبوديّة فهو لا محالة يستحقّ جزاء عمله، وليست التوبة ماحية لاستحقاقه، ولكنّك تقف إعظاماً وإكباراً للرحمة البارزة في هذه الآية الشريفة؛ إذ فرض الله ـ تعالى ـ قبول التوبة أمراً واجباً على نفسه، وكأنّ عبده


(1) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

(2) السورة 25، الفرقان، الآية: 70.

(3) السورة 39، الزمر، الآيات: 53 ـ 58.

218

المذنب له حقّ دلال على الربّ ـ تبارك وتعالى ـ يطالبه بما أوجبه على نفسه من المغفرة والرحمة والتوبة عليه.

ولعلّ السبب في هذا ـ بعد وضوح سعة رحمته التي ستظهر في يوم القيامة حتّى يطمع إبليس فيها(1) ـ واضح، وهو: أنّ فرض العقاب على ذنوب العباد لم يكن بهدف التشفّي من العبد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، بل كان بهدف جعله رادعاً للعبد عن الهلاك وسقوطه في وادي الضلال وفي رذائل النفس وقبائح الأعمال، ومحفّزاً له على تزكية نفسه وتنمية الفضائل في ذاته، وتكميله في سلّم المعنويات بقدر قابليّته، هذا بالنسبة لغير الخبيث الذي وصل استحقاقه للعقاب (لولا أن يتوب) إلى حدّ لا يكون قابلاً للعفو عنه، أمّا بالنسبة لهذا فهناك ملاك آخر للعقاب زائداً على ما مضى لسنا الآن بصدد شرحه. فإذا تاب العبد وأناب إلى ربّه فقد طهّر نفسه، واستعاد حسن سريرته، وبدأ يرقى مرقى الكمال، فقد تحقّق الهدف الذي كان كامناً من وراء فرض العقاب، فالربّ تعالى يكون ـ عندئذ ـ أعلى وأجلّ من أن يعاقبه، وهو تبارك وتعالى قد فرح ـ إن صحّ التعبير ـ بحصول الهدف المنشود، وهو: هداية العبد. فقد ورد في الحديث عن أبي عبيدة الحذّاء قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام): ألا إنّ الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من رجل ضلّت راحلته في أرض قفر وعليها طعامه وشرابه، فبينما هو كذلك لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجّه حتّى وضع رأسه لينام فأتاه آت فقال له: هل لك في راحلتك، قال: نعم، قال: هو ذه فاقبضها، فقام إليها فقبضها، فقال ابوجعفر(عليه السلام): والله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من ذلك الرجل حين وجد راحلته»(2).

وأمّا الآية الثانية وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا


(1) راجع البحار 7/287، الباب 14 من كتاب العدل والميعاد، الحديث 1.

(2) البحار 6/38 ـ 39.

219

اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...﴾ فالنكتة في اختياري لذكرها هنا هي: الحديث الوارد في ذيل تفسير هذه الآية عن الصادق(عليه السلام)(1) قال: «لمّا نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ...﴾ صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا لِمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، فقال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، فقال: بماذا؟ قال: أعدهم وأُمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أُنسيهم الاستغفار، فقال: أنت لها. فوكّله بها إلى يوم القيامة».

وأمّا الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ...﴾فكانت النكتة في اختياري لها لبدء الحديث بالتوبة ما في هذه الآية ممّا يقف العقل أمامه إعظاماً وإكباراً لرحمة الربّ؛ إذ لم يذكر فيها مجرّد عفو الله ـ تعالى ـ عن ذنوب التائبين، بل ذكر تبديل سيّئاتهم حسنات، فأيّ رحمة هذه التي لا تقتصر على ترك العقاب، بل تبدّل السيّئة حسنة، وتبدّل العقاب ثواباً؟! ولعلّ تفسير الآية يكون أنسب بالقول بتجسّم الأعمال، فبدلاً عن أن يُروا أعمالهم السيّئة سيّئات يُرونها حسنات. وقد ورد في الحديث عن الباقر(عليه السلام)قوله: «ويستر عليه من ذنوبه ما يكره أن يوقفه عليها. قال: ويقول لسيّئاته: كوني حسنات. قال: وذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ ... أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ »(2).

وقد يقول القائل: إذن فلنرتكب السيّئات حتّى نتوب بعد ذلك، وبهذا تزداد حسناتنا.


(1) راجع تفسير البرهان 1/316.

(2) البحار 7/260.

220

ولكن صاحب هذا الكلام غفل أوّلاً عن عدم ضمان لنفي مباغتة الموت قبل التوبة. وثانياً عن أنّ ترك الذنب أهون من التوبة، ولا يعلم أنّه سيتوفق إلى التوبة لو أذنب، فإنّ الندم الذي هو أوّل شرائط التوبة لا يتحقّق بسهولة، فضلاً عن باقي شرائطها التي تتلو النَدَم. وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام)أنّه قال: «ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. وكم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً، والموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لبّ فرحاً»(1). وثالثاً عن أنّ تبدّل السيّئات حسنات لا يعني أنّ المذنب إذن صار أكثر ثواباً من غير المذنب؛ لانضمام سيّئاته إلى حسناته؛ وذلك لأنّ الحسنات التي تعطى لتارك الذنوب بسبب تركه للذنوب أو بسبب رحمة الرب لا تقاس بالتي تعطى للتائب، ومن الباطل عقلاً أن يكون التائب من الذنب أفضل من المتحرّز من الذنب.

وأمّا الآية الرابعة وهي قوله تعالى: ﴿... إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ...﴾ فالسبب لاختياري بدء الحديث بذكرها ما فيها من العموم الواضح الدال على غفران جميع الذنوب بلا استثناء، وبما فيها أشدّ الذنوب، وهو: الشرك، أمّا ما تراه من استثناء الشرك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(2) فذلك ناظر إلى المغفرة من دون توبة، في حين أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ... ﴾ ناظر إلى المغفرة على أثر التوبة. والشاهد الداخلي على ذلك من نفس الآية قوله تعالى بعدها مباشرة: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.

أمّا الاُمور التي نريد أن نبحثها في مسألة التوبة فهي:

الأوّل: ضرورة التوبة.


(1) أُصول الكافي 2/451.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 48.

221

الثاني: مقدِّمة التوبة.

الثالث: أركان التوبة وشرائطها.

الرابع: التوبة النصوح.

 

الأمر الأوّل ـ ضرورة التوبة:

إنّ ضرورة التوبة تنبع من ضرورة الإيمان، وفلسفتها نفس فلسفة الإيمان والطاعة.

فمَن يرى أنّ فلسفة الإيمان والطاعة عبارة عن الهروب من النار والطمع في الجنّة، فنفس الفلسفة هي التي تملي عليه التوبة؛ وذلك لأنّ الطريق الوحيد الذي أوجب الله ـ تعالى ـ على نفسه أن يغفر عن ذاك الطريق ولا يوجد فيه التخلّف، إنّما هو: التوبة؛ إذ قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(1) أمّا المغفرة بلا توبة فهي تتحقّق من الله ـ سبحانه وتعالى ـ بلا شك، ولكنّه لم يوجبها على نفسه، بل علّقها على مشيئته في قوله تعالى: ﴿... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(2) كما أنّ قبول شفاعة الشافعين علّقه على ارتضائه فقال: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ... ﴾(3) وقال أيضاً: ﴿ يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ﴾(4) وقال أيضاً: ﴿ ... مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ... ﴾(5)


(1) السورة 4، النساء، الآية: 17.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 48.

(3) السورة 21، الأنبياء، الآية: 28.

(4) السورة 20، طه، الآية: 109.

(5) السورة 10، يونس، الآية: 3.

222

وقالأيضاً: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ...﴾(1) وقال أيضاً: ﴿وَكَم مِّن مَّلَك فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾(2) وقال أيضاً: ﴿... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ ...﴾(3) إذن فالطريق الوحيد الذي وعد الله وعداً قطعيّاً بالمغفرة على أساسه إنّما هو التوبة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «لا شفيع أنجح من التوبة»(4).

ومن يرى أنّ فلسفة الإيمان والطاعة عبارة عن إكمال النفس وتهذيبها وتصفيتها فالأمر هنا أوضح ممّا سبق، ونفس الفلسفة تدعوه إلى التوبة؛ لأنّ التوبة ماء يُغسَل به درن القلب وغباره وَرَيْنه. وقد ورد في الحديث عن الباقر(عليه السلام): «ما من عبد إلاّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿... بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾ »(5).

ومن يرى أن فلسفة الإيمان والطاعة هي: أنّ الله أهل للطاعة، وبغضّ النظر عن جنّة أو نار فهو يطلب رضوان الله، ويتحرّك بحبّه لله، فالأمر هنا أوضح ممّا سبق، ونفس الفلسفة تدعوه إلى التوبة؛ لأنّ الله تعالى يرضى بالتوبة ويفرح بتوبة عبده كما ورد بسند صحيح عن أبي عبيدة قال: «سمعت أباجعفر(عليه السلام) يقول: إنّ الله ـ تعالى ـ أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء


(1) السورة 34، سبأ، الآية: 23.

(2) السورة 53، النجم، الآية: 26.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 255.

(4) البحار 6/19.

(5) السورة 83، المطففين، الآية: 14، والحديث وارد في الوسائل 15/303، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 16 ونحوه الحديث 12، ص: 302.

223

فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها»(1).

وقد ورد في الحديث أنّه لما أكل آدم من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته فاستحيى التاج والإكليل(2) من وجهه أن يرتفعا عنه، فجاءه جبرئيل فأخذ التاج من رأسه، وحلّ الإكليل عن جبينه، ونودي من فوق العرش اهبطا من جواري، فإنّه لا يجاورني من عصاني، قال: فالتفت آدم إلى حوّاء باكياً وقال: هذا أوّل شؤم المعصية أُخرجنا من جوار الحبيب(3).

إنّ هذا لهو مقام عظيم أن يكون بكاؤه على الخروج من جوار الحبيب قبل أن يكون على فراقه الجنّة. وهذه هي الفلسفة الثالثة التي أشرنا إليها للتوبة والندم.

وإن شئت مقاماً أعظم من هذا المقام في التوبة فلعلّه هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾(4)فكأنّ الآية المباركة تشير إلى أنّ توبة المتّقين ليست من صدور الذنب منهم، بل من الهمّ بالذنب، فإنّ الشيطان الذي يطوف حول قلب المؤمن يمسّ قلبه كي ينفذ فيه ويورّطه في المعصية، فيهمّ العبد بالمعصية، ولكن قبل تماميّة النفوذ والتورط في المعصية يتذكّر المتّقي وإذا هو مبصر يرتدع عنها. وقد وردت روايات عديدة بمضمون تفسير الآية بأنّ العبد يهمّ بالذنب ثُمّ يذكر الله فيحول الذكر بينه وبين تلك المعصية(5).

والمقام الأكبر في التوبة من هذا المقام هو: توبة المعصومين التي ليست توبة من الذنب ولا من الهمّ بالذنب، بل من سيّئات المقرّبين التي هي من حسنات


(1) البحار 6/40.

(2) فسّر في المنجد الإكليل بشبه عصابة تزيّن بالجوهر.

(3) المحجة البيضاء 7 / 94 نقلاً عن الإحياء للغزالي.

(4) السورة 7، الاعراف، الآية: 201.

(5) راجع تفسير البرهان 2/56.

224

الأبرار.

وممّا يناسب ذكره في المقام أنّ بعضهم يقول(1): إنّ التجرّد للخير دأب الملائكة المقرّبين، والتجرد للشر دون التلافي سجيّة الشياطين، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميّين. فالمتجرّد للخير ملك مقرّب عند الملك الديّان، والمتجرد للشرّ شيطان، والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان، كما صدر ذلك من أبينا آدم(عليه السلام)، فقد ازدوجت في طينة الإنسان شائبتان، واصطحبت فيه سجيتان، وكلّ عبد مصحّح نسبه إمّا إلى الملك، أو إلى آدم، أو إلى الشيطان. فالتائب قد أقام البرهان على صحّة نسبه إلى آدم بملازمة حدّ الإنسان، والمصرّ على الطغيان مسجّل على نفسه بنسب الشيطان. ولقد قلع آدم(عليه السلام) سنّ الندم، وتندّم على ما سبق منه وتقدّم، فمن اتَّخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلّت به القدم. فأمّا تصحيح النسب بالتجرد لمحض الخير إلى الملائكة فخارج عن حيّز الإمكان، فإنّ الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجناً محكماً لا يخلصه إلاّ إحدى النارين: نار الندم، أو نار جهنّم، فإحراق النار ضروري في تخليص جوهر الإنسان عن خبائث الشيطان. وإليك الآن اختيار أهون الشرّين، والمبادرة إلى أخفّ النارين قبل أن يطوى بساط الاختيار، ويساق إلى دار الاضطرار إمّا إلى الجنّة أو إلى النار.

أقول: كلّ ما ذكره هذا القائل صحيح عدا افتراض أنّ التمحّض للخير خارج بالنسبة للإنسان عن حيّز الإمكان، فإنّ هذه الفكرة ناتجة من مذهبه ـ بما هو من أهل التسنن ـ من إنكار العصمة، أمّا نحن فنؤمن بمبدأ العصمة للمعصومين، وهم متمحّضون في الخير، وبإمكان غير المعصومين بالذات أن يتمحّضوا في الخير


(1) المحجة البيضاء 7/3 ـ 4 نقلاً عن الإحياء للغزالي، ونحن نقلناه هنا مع تغيير يسير في ترتيب العبارة.

225

اقتداءً بالمعصومين(عليهم السلام) عن طريق تربية النفس، ولم يجعل الله المعصومين إلاّ قدوة للأنام، وأمر الله ـ تعالى ـ الناس بالاقتداء بهم، قال عزّ من قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾(1).

وما ظنّك بإنسان تنزّه عن شرب الماء على رغم عطشه الذي لا يتصوّر ولا يطاق، لا لحرمة شرب الماء ولا لكراهته، بل ولا لأجل الإيثار، فإنّ تركه لشرب الماء على المشرعة لم يكن فيه إيثار على الحسين وأهل بيته، بل لأجل مجرّد المؤاساة لإمام زمانه وأهل بيته، وقال:

هذا الحسينُ واردُ المنونِ
وتشربين باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فعالُ دينِ(2)

فبالله عليك هل تحتمل بشأن هذا الإنسان أن يعصي الله طرفة عين؟!!

وما ظنّك بامرأة اُثكلت في يوم واحد بأولادها وإخوتها وسائر عشيرتها، وأُسرت وحُملت مع نسائها على الأقتاب، ومررن على مقتل الحسين والأصحاب، فنظرت إلى إمام زمانها عليّ بن الحسين(عليه السلام) تكاد نفسه تخرج من شدّة المصاب، فقالت: ـ مسلّية لإمامها منجيةً له من الموت ـ: مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ وأخذت تسلّيه وتذكر له أنّه سيأتي جمع لا تعرفهم فراعنة هذه الاُمّة ـ وهم معروفون في أهل السماوات ـ إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة، فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام ... إلى أن ذكرت له(عليه السلام) حديث أُمّ أيمن. وعن هذا الطريق أنجت إمام


(1) السورة 33، الاحزاب، الآية: 21.

(2) البحار 45/41 تحت الخط.

226

زمانها من الموت(1) فبالله عليك هل تحتمل بامرأة كهذه أن تعصي الله طرفة عين؟! ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

زن مگو مرد آفرين روزگار
زن مگو بنت الجلال اخت الوقار
زن مگو خاك درش نقش جبين
زن مگو دست خدا در آستين

وأمّا ما اشتهر من انحصار المعصومين في هذه الاُمّة في أربعة عشر فالمقصود بذلك اُولئك الذين خُلِقوا معصومين دون الذين عصموا أنفسهم بعد الولادة بالتربية وبحول الله اقتداءً بهم.

وفي ختام حديثنا عن ضرورة التوبة نشير إلى كلمتين نُقِلتا عن بعض السلف أو عن بعض العارفين، وهما وإن لم أرهما منتهيين إلى إمام معصوم ولكن فيهما عظة وعبرة، ونشير ـ أيضاً ـ إلى رواية لم أرها إلاّ في نقل الغزالي، ولكن فيها ـ أيضاً ـ عظة وعبرة:

1 ـ رُوِي عن بعض السلف(2) أنّه قال: «ما من عبد يعصي إلاّ استأذن مكانه من الأرض أن يخسف(3) به واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسَفاً، فيقول الله ـ تعالى ـ للأرض والسماء: كفّا عن عبدي وأمهلاه، فإنّكما لم تخلقاه، ولو خلقتماه لرحمتماه، لعلّه يتوب إليّ فأغفر له، لعلّه يستبدل صالحاً فاُبدله حسنات، فذلك معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِّن بَعْدِهِ ...﴾(4) ».


(1) راجع البحار 45/179 ـ 183.

(2) نقله في المحجة 7/94 عن الإحياء للغزالي.

(3) يؤيّده ما ورد في الدعاء بعد صلاة زيارة الإمام الرضا(عليه السلام) خطاباً لله تعالى: سيّدي لو علمت الأرض بذنوبي لساخت بي أو الجبال لهدّتني أو السماوات لاختطفتني أو البحار لأغرقتني... راجع مفاتيح الجنان باب زيارة الإمام الرضا(عليه السلام): 502.

(4) السورة 35، فاطر، الآية: 41.

227

2 ـ رُوِيَ عن بعض العارفين(1) أنّه قال: «إنّ لله ـ تعالى ـ إلى عبده سرّين يسرّهما إليه على سبيل الإلهام: أحدهما إذاخرج من بطن أُمّه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عمرك، وائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني. والثاني عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك، هل حفظتها حتّى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء، أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿... أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ...﴾(2) وبقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(3) ».

3 ـ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلاّ وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات:

يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يُخلَقوا.

ويقول الآخر: يا ليتهم إذ خُلقوا علموا لماذا خُلقوا.

فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا.

وفي بعض الروايات: (ويا ليتهم إذ لم يعلموا لماذا خلقوا تجالسوا فتذاكروا ما علموا).

فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا ممّا عملوا»(4).

 

الأمر الثاني ـ مقدّمة التوبة:

قد يقال: إنّ مقدّمة التوبة هي اليقظة؛ وذلك أنّ الإنسان بفطرته السليمة مجبول


(1) نقله في المحجة 7/22 عن الإحياء للغزالي.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 40.

(3) السورة 23، المؤمنون، الآية: 8 .

(4) المحجة البيضاء 7/93 ـ94 نقلاً عن الإحياء للغزالي.

228

على التوحيد وعلى آثار التوحيد التي لا تكون إلاّ الخير والصلاح، وكلّ ذنب صدر عن العبد كان غباراً على تلك الفطرة وإخماداً لنورها ورَيْناً عليها، ولا تحصل التوبة إلاّ بالتيقّظ والرجوع إلى الاهتداء بنور الفطرة ومسح الغبار.

والشاهد القرآني على كون التوحيد بجميع ما له من أغصان الخير وأوراقه وثماره أمراً فطرياً للبشر وأنّ مخالفة ذلك مخالفة للفطرة عدّة آيات من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾(2).

3 ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾(3).

سواءٌ فسّرنا هذه الآية ابتداءً بمسألة الفطرة أو فسّرناها بعالم الذر فإنها على الثاني ـ أيضاً ـ تدلّ على أنّ التوحيد صار بسبب ما جرى في عالم الذرّ فطريّاً، وإلاّ فما قيمة عهد نسيه المتعهّد، وكيف يُحتجّ به عليه؟!

وقد ورد في الحديث عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»(4).

فكلّ انحراف عن هذه الفطرة بالذنب لا يمكن أن يتوب العبد منه قبل تيقّظه


(1) السورة 30، الروم، الآية: 30.

(2) السورة 2، البقرة، الآيتان: 137 ـ 138.

(3) السورة 7، الأعراف، الآيتان: 172 ـ 173.

(4) البحار 3 / 281.

229

ورجوعه ولو بمقدار ناقص إلى تلك الفطرة، وهذا ما قد نسمّيه باليقظة.

واليقظة هي أحد التفسيرين للقيام في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيد﴾(1) فالقيام هنا تارةً يفسّر بالمعنى العام للقيام في سبيل العمل لله تعالى، ولعلّ الأنسب ـ عندئذ ـ أن يكون قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة﴾ بياناً لمتعلق التفكير، أي: تفكّروا حتّى تعرفوا ما بصاحبكم من جنّة وتتّضح لكم طريقة العمل في سبيل الله.

وأُخرى يفسّر بمعنى القومة من السُباة، وهي اليقظة من سِنة الغفلة كما فسّره بذلك العارف المعروف بعبد الله الانصاري(2) ولعلّ الأنسب ـ عندئذ ـ أن يكون قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ هو موطن الوقف في الآية، ويكون قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة﴾كلاماً مستقلاً، والمعنى ـ عندئذ ـ أن اليقظة تكون بالقيام من سِنة الغفلة ثُمّ التفكّر.

وعلى أيّة حال، فاليقظة تكون بعدّة أسباب، منها ما يلي:

أوّلاً: ملاحظة نِعَم الله ـ سبحانه وتعالى ـ التي لا تُحصى، فأوّل النِّعم ببعض المعاني هو الوجود؛ إذ هي الأرضية التي تبتني عليها باقي النِّعم، وببعض المعاني هو الهداية إلى الإيمان؛ لأنّ الإيمان أشرف من كلّ شيء، وببعض المعاني هو العقل، إذ لولاه لما كان مجال للإيمان ولا للالتذاذ الكامل بالنِّعم الاُخرى. وسائر النعم التي تأتي بعد هذه الاُمور لا تُحصى، قال الله تعالى:

1 ـ ﴿... وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ...﴾(3).


(1) السورة 34، سبأ، الآية: 46.

(2) راجع منازل السائرين الباب الأوّل من البدايات، وهو باب اليقظة.

(3) السورة 31، لقمان، الآية: 20.

230

2 ـ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ...﴾(1).

وتتجلّى النِّعم عند لحظ المحرومين منها، أو لحظ ذوي العاهات والبلاء.

وليس من الصدف ما نراه من أنّ القرآن العظيم يشير إلى نِعم الله في مواضع لا تُحصى من القرآن، فتأثير تذكّر النِّعم الإلهيّة في حصول اليقظة واضح؛ لأنّه يثير حالة الشكر من ناحية، والتي هي مصدر وجوب الطاعة عقلاً، ويخلق في النفوس الحبّ لله ـ سبحانه وتعالى ـ من ناحية اُخرى، والتي هي المصدر العاطفي للطاعة.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): أنّه قال: «ما أحبّ الله من عصاه»(2).

ولسنا الآن هنا بصدد ذكر نِعم الله التي لا تُحصى، ولكنّنا نذكر كإشارة إلى ذلك مقطعاً قرآنياً رائعاً من سورة النحل، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ* خَلَقَ الاِْنْسانَ مِن نُطْفَة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَالاَْنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أثْقالَكُمْ إِلى بَلَد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسَ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، والجملة الأخيرة تشير في الأكثر إلى مركوبات اليوم: من قبيل السيّارات والطائرات ونحوها ﴿وعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ وكأنّ هذا إشارة إلى نِعْمة الإيمان ﴿ومِنْها جَائرٌ﴾ وكأنّ هذا إشارة إلى وجود السُبل المنحرفة والتحذير منها ﴿وَلَوْ شَاء لَهَداكُمْ أجْمَعينَ﴾ وكأنّ هذا إشارة إلى عدم الهداية بالجبر التي تسقط الهداية عن قيمتها ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي


(1) السورة 16، النحل، الآية: 18، والسورة 14، إبراهيم، الآية: 34.

(2) البحار 70 / 15.

231

ذَلِكَ لاَ يَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَةً لِّقَوْم يَذَّكَّرُونَ﴾ ويجلب الانتباه الإشارة تحت الآيات الثلاث الأخيرة إلى أنّ هذه آيات لقوم يتفكّرون ـ يعقلون ـ يذّكّرون، فهذه نعم من ناحية، وآيات وعلامات على وجود الله وحكمته ووجوب شكره من ناحية اُخرى ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾، وهذه الآية الأخيرة يتجلّى مغزاها حينما نعلم أنّ المشركين ـ آنئذ ـ لم يكونوا ينسبون الخَلقَ إلى أصنامهم، بل كانوا يعترفون بأنّ الخَلقَ لله تعالى ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفُورٌ رحِيمٌ﴾(1).

وحاصل الكلام: أنّ ما في السماوات والأرض من النِّعَم مسخّرات لخدمة البشر. ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

ابر و باد و مه و خورشيد و فلك در كارند
تا تو نانى به كف آرى و به غفلت نخورى
همه از بهر تو سرگشته و فرمان بردار
شرط انصاف نباشد كه تو فرمان نبرى(2)

ولابدّ من الالتفات ـ أيضاً ـ إلى عجزنا عن شكر الله تبارك وتعالى؛ لأنّ الشكر يعني: مقابلة نِعْمة المنعم بشيء، يقدّمه المنعم عليه إلى المنعم ممّا يملكه هو مجازاةً لنعمه، ولو بأن يكتفي ببسمة شفة أو شُكر لسان إن لم يكن قادراً على مجازاته


(1) السورة 16، النحل، الآيات: 3 ـ 18.

(2)

السحب والريح والبدر المنير معاً
والشمس والفلك الدوّار في شغل
لكي تنال الغذا في فطنة وحجى
فلا تكن غافلاً ترعى مع الهمل
كلّ لأجلك مشغول بواجبه
فما من العدل أن تبقى بلا شغل

232

بالمال أو بسائر الخدمات.

أمّا أن يقدّم المنعم عليه شيئاً إلى المنعم من النِّعم التي أخذها منه وهي مازالت ملكاً للمنعم، فلا يعدّ شكراً؛ لأنّه كان وما زال ملكاً للمنعم، ولم يكن من قبل المنعم عليه مستقلاًّ. فالعبد كيف يشكر ربّه بشكر لسان أو بمدح وثناء أو بطاعة وعبادة في حين أنّ هذا كلّه لا يكون إلاّ بما هو ملك لله تعالى لا له، وهو سبحانه وتعالى يستوجب شكراً على الشكر.

وقد ورد في مناجاة الشاكرين(1): «... فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد...».

وفي الحديث: عن الصادق(عليه السلام) قال: «فيما أوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ إلى موسى(عليه السلام)يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي»(2).

ومن اللطيف ما قيل بالفارسيّة:

بنده همان به كه زتقصير خويش
عذر به درگاه خدا آورد
ورنه سزاوار خداونديش
كس نتواند كه به جا آورد

وقد ورد في الدعاء الذي يقرأ بعد صلاة زيارة الإمام الرضا(عليه السلام): «... لا تُحمَدُ يا سيّدي إلاّ بتوفيق منك يقتضي حمداً، ولا تشكر على أصغر منّة إلاّ استوجبت بها شكراً، فمتى تُحصى نعماؤك يا إلهي؟ وتُجازى آلاؤك يا مولاي؟ وتكافأ صنائعك


(1) وهي المناجاة السادسة من الخمس عشرة المعروفة.

(2) اُصول الكافي 2/98، الحديث 27.

233

يا سيّدي؟ ومن نعمك يحمد الحامدون، ومن شكرك يشكر الشاكرون ...»(1).

وثانياً: معرفة عِظَم الجناية التي ارتكبناها لدى المعصية وخطرها.

وقد قيل(2): إنّ ذلك يكون باُمور ثلاثة: بتعظيم الحقّ جلّ وعلا، ومعرفة النفس، وتصديق الوعيد.

أمّا تعظيم الحقّ جلّ وعلا فهذا ما يوجب فهم عظمة المعصية؛ لأنّ عظمة المعصية تكون بتناسب عظمة المولى الذي عصاه العبد.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) من عرف الله وعظّمه منع فاه من الكلام (طبعاً المقصود الكلام الذي لا يعنيه) وبطنه من الطعام (والمقصود هو الصوم أو عدم التخمة) وعفى(3) نفسه بالصيام والقيام. قالوا: بآبائنا وأُمّهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله، قال: إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة. لولا الآجال التي قد كتب الله عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العقاب وشوقاً إلى الثواب»(4).

وممّا يشير إلى أنّ العاصي يجب أن يلتفت إلى عظمة مَنْ عصاه ما ورد في دعاء أبي حمزة: «... أنا الذي عصيت جبّار السماء...»(5).

وأمّا معرفة النفس فلو عرف الإنسان خسّة نفسه، وفقره الذاتي، واحتياجه الكامل إلى الله سبحانه وتعالى، التفت إلى عِظم الذنب أكثر فأكثر، واتّجه إلى التوبة بشكل أقوى.


(1) مفاتيح الجنان، فصل زيارة الإمام الرضا (عليه السلام).

(2) راجع منازل السائرين الباب 1 من البدايات، باب اليقظة.

(3) لعلّ الصحيح كتبه بالألف، أي: (عفا) أي: طلب معروف نفسه بالصيام والقيام.

(4) البحار 69/288 ـ 289.

(5) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة.