37

الاُولى: زاوية تحقيق العدل ورفع الظلم؛ إذ إنّ هناك آيات مباركة تأمر بالعدل، منها:

قوله تعالى: ﴿... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ...﴾(2).

وغيرها من الآيات والروايات التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم ممّا يُشير إشارةً واضحةً إلى أنّ الإسلام قد اهتمّ بإدارة شؤون الدنيا إدارةً عادلة، ودعا لدفع الظلم عن العباد.

الثانية: زاوية النعم الدنيويّة؛ إذ يتّضح من الآيات والروايات أنّ الإسلام ينظر إلى مُتَع الدنيا ونعمها، وأنّه مهتمّ بمسألة تكثيرها على المؤمنين.

قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق...﴾(3).

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...﴾(4).

فهذه الآيات وأمثالها دليل وشاهد على أنّ الإسلام ينظر إلى النعم الدنيويّة، وأنّه مشرَّع بشكل لو طبّق لكثرت النعم ولأصبح الناس جيمعاً في رخاء ونعيم.

 


(1) سورة النساء، الآية: 58.
(2) سورة ص، الآية: 26.
(3) سورة الأعراف، الآية: 32.
(4) سورة المائدة، الآية: 66.
38

فصعيد العمل للدنيا إذن هو أحد الأصعدة التي ينظر إليها الإسلام حينما يريد أن ينصب إماماً، أو عندما يريد أن يقود المجتمع بواسطة الإمام، ولذا فلابدّ للقائد من أن يهتمَّ بالشؤون الدنيويّة للمجتمع، وهذا هو الجانب الذي نظر إليه المادّيون أيضاً ما عدا الشيوعيّون.

فكما أنّ المادِّيين يؤمنون بهذا النوع من القيادة، وينظرون إلى هذا الصعيد ( الدنيوي ) فإنّ الإسلام نظر إليه أيضاً ووافق عليه، وقال بأنّ الإنسان بحاجة إلى قيادة، ولكنّه يُضيف إلى هذا الصعيد أصعدةً اُخرى جعلها من شؤون القيادة والإدارة.

 

2 ـ صعيد العمل للآخرة:

ويتمثّل بمسألة هداية البشر إلى نعم الآخرة.

فالمادّيون عندما فصلوا العالم عن المبدأ والمنتهى فرضوا أنّ المسائل التي تحتاج إلى إمعان النظر هي مسائل الحياة الدنيويّة.

أمّا الإسلام فيرى أنّ الحياة الدنيويّة ما هي إلّا مقدّمة لحياة اُخرويّة دائمة هي أوسع وأكبر وأعظم من هذه الحياة، ولذا فإنّه يرى بأنّه لابدّ من تمشية اُمور هذه الحياة الدنيويّة الزائلة بالشكل الذي ينسجم مع تلك الحياة الاُخرويّة الدائمة، والتي هي أهمّ من هذه الحياة الدنيا، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنيّة كثيرة، من قبيل:

1 ـ قوله تعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى﴾(1).

 


(1) سورة الضحى، الآية: 4.
39

2 ـ قوله تعالى: ﴿ وَمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾(1).

3 ـ قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾(2).

فإذا فرضنا ـ جدلاً ـ أنّ المجتمع باستطاعته أن يقود نفسه بنفسه، وأغمضنا النظر عن الإشكالات الورادة على فكرة الديمقراطيّة التي يقول بها المادّيون، وافترضنا أنّه من الممكن أن يقوم البشر بانتخاب من يدبّر شؤونهم ويدبِّر اُمورهم، فإنّنا نتساءل: كيف يستطيع الناس أن ينتخبوا ذلك الشخص الذي يهديهم إلى نعم الآخرة؟

وذلك لأنّنا لو سلّمنا بأنّهم خبراء وعارفون بالاُمور الدنيويّة وإدارتها، فإنّهم غير عارفين بالحياة الاُخرويّة، وليست لديهم أيّ خبرة عن كيفيّة العمل لها، فكيف يتسنّى لهم إذن أن ينتخبوا من هو قادر على صعيد العمل للآخرة؟

وكيف يستطيعون أن ينتخبوا من هو بمستوى من قال: «سلوني قبل أن تفقدوني...»، و «إنّي بطرق السماوات أعلم من طرق الأرض»؟ فليس كلّ واحد يستطيع أن يقول هذا الكلام، وليس بإمكان المجتمع الاعتيادي أن ينتخب من يكون على هذا المستوى، فإنّ هذا بحاجة إلى من له علاقة بالغيب وله ارتباط بمنازل الآخرة.

 



(1) سورة العنكبوت، الآية: 64.

(2) سورة الكهف، الآية: 46.

40

 

3 ـ صعيد الكمال والرقيّ المعنوي والوصول إلى رضـوان الله تعالى:

وهذا المستوى لا يستطيع المادّيون والملحدون أن يتصوّروه، فيتخيّلون أنّ هذا شيء وهمي.

فمسألة الكمال والوصول إلى رضوان الله تعالى هي مسألة السموِّ المعنوي والروحي، وهي مسألة فوق الدنيا والآخرة وأهمّ منهما معاً؛ إذ يقول تعالى: ﴿... وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ...﴾(1).

فرضوان الله تبارك وتعالى عند أهل المعرفة والكمال هو أكبر من جنّة عرضها السماوات والأرض.

وبصدد بيان النعم الإلهيّة على المؤمنين في يوم القيامة قال الله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(2).

والنظر هنا لا يقصد به النظر المادّي لله تعالى؛ إذ إنّ الله سبحانه وتعالى ليس جسماً لكي يكون النظر إليه ممكناً، وإنّما يقصد به الاقتراب من الله سبحانه وتعالى، والكمال الروحي والرقيّ إلى مستوىً بحيث كأنّه ينظر إلى الله، وهذا هو فوق النعم الاُخرى الثابتة في عالم الآخرة، فالآية تشير إلى الاقتراب المجازي من الربّ، وهو الاقتراب من رحمته تبارك وتعالى.

وهناك آية مباركة اُخرى تتعرّض إلى العقوبات الإلهيّة على المجرمين والكافرين، فقد قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ


(1) سورة التوبة، الآية: 72.
(2) سورة القيامة، الآية: 22 ـ 23.
41

لَّمَحْجُوبُونَ﴾(1)، وهذا نقيض ( النظر ) الذي ورد في الآية السابقة، والمعنى: أنّهم مبتعدون عن رحمة الربّ، فهذه الآية المباركة لم تتكلّم عن عذاب المجرمين في الجحيم وإحراقهم في النار، وإنّما تقول: ﴿ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾. ومن هنا نتمكّن من معرفة كلام أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) حينما يقول في دعاء كميل: « هَبْنِيْ يَا إلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاَيَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ... »، فكأنّ الصبر على النار يكون هيِّناً بالقياس إلى الصبر على فراق الله تعالى.

فالإسلام إذن اهتمّ بجانب الكمال والرقيِّ المعنوي الذي هو أهمّ من نعم الآخرة، فيفترض بالقائد إذن أن يكون على مستوىً بحيث يتمكّن من إيصال المجتمع إلى هذه المرتبة من الكمال. وهذا هو الصعيد الثالث الذي يدخل ضمن الأصعدة والقضايا التي يجب أن يخطِّط لها القائد، فلو افترضنا أنّ الذي سوف ينتخب من قبل الناس هو بمستوى تأمين أوضاع الحياة الدنيويّة، فكيف يمكنه أن يكون بمستوى تأمين هذه الحاجة، أي: حاجة الكمال الروحي والمعنوي الذي يجب على البشريّة أن تصل إليه.

 

4 ـ صعيد النظم الإسلاميّة والأحكام الإلهيّة التي شـرّعها الإسـلام:

فالإسلام دين يشتمل على أحكام ونظم، والمفروض بالقائد أن


(1) سورة المطففين، الآية: 15.
42

يعمل في سبيل تبليغ وتطبيق الأحكام الإلهيّة على وجه الأرض.

وهذا الصعيد ( الرابع ) يؤثّر في كلّ الأصعدة السابقة، حيث إنّ تطبيق الأحكام هو الذي يوجد الرفاه للمجتمع في الحياة الدنيا، وهو الذي يوجد سعادة المجتمع في الحياة الآخرة، وهو الذي يأخذ بيد المجتمع نحو الكمال والرقيِّ المعنوي ويوصله إلى رضوان الله تعالى.

فحينما ننظر إلى فكرة الإمامة من هذا المنظار، فنفترض بالإمام أن يقوم بإدارة شؤون الحياة الدنيويّة، وهدي المجتمع نحو الجنّة، ورضوان الله تعالى، وتبيلغ الأحكام الإلهيّة وتطبيقها على المجتمع، ولم ننظر إليها ( الإمامة ) بمنظار إدارة الشؤون الدنيويّة فقط، عندئذ نفهم معنى التعابير الموجودة في الروايات والأدعية الواردة عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)؛ إذ يعبّرون عن الإمام أو الإمامة بتعابير عظيمة تشير إلى عظمة هذا المستوى:

فقد جاء في أحد التعابير: « أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّمَاء »(1)، فالإمام إذن يكون السبب المتصل بين الأرض والسماء، وليس مجرّد إنسان ينتخبه المجتمع كمدير لقضايا الدنيا وشؤونها.

وكذلك جاء في تعبير آخر: «إنّي واثني عشر من وُلدي وأنت يا عليّ زِرُّ الأرضِ ـ يعني أوتادها وجبالها ـ بنا أوتَدَ اللّهُ الأرضَ أن تسيخَ بأهلِها، فإذا ذهب الاثنا عشر من وُلدي ساخَتِ الأرضُ بأهلِها ولم ينظروا»(2).


(1) دعاء الندبة.
(2) الكافي 1: 534، الحديث 17.
43

 

حقّانـيّة التنصيص وبطلان انتخاب الإمام في الإسلام

 

إذا كانت فكرة الإمامة بهذا المستوى من الأهميّة والعظمة ـ كما تقدّم ـ فمن الواضح جدّاً أنّ هذا ليس أمراً يمكن أن يخضع للانتخاب.

وإذا ما آمنّا بالانتخاب ضمن حدود وضمن قيادات وقتيّة، فإنّنا نقول به في آخر الزمان فحسب، بحسب ما ورد في بعض الروايات بخصوص فكرة ( المهديّون ) بالنسبة إلى ما بعد صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه عندما ينتهي عمره الشريف(عليه السلام)، فإنّه قد طرحت في الروايات بلحاظ ذاك الزمان فكرتان، وهما:

1 ـ فكرة الرجعة، وأنّ الأئمّة السابقين(عليهم السلام) سوف يرجعون إلى الدنيا واحداً بعد آخر.

2 ـ فكرة المهديّون، وهم ليسوا أئمّةً بالمعنى المصطلح عند الشيعة، ولكنّهم اُناس مهديّون مؤمنون يديرون المجتمع بعد انتهاء حياة الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه.

ولا تنافي بين هاتين الفكرتين، ويمكن أن تصحّ فكرة رجوع الأئمّة(عليهم السلام) وفكرة المهديّون معاً.

ومن المحتمل أنّ هؤلاء المهديّين يعيَّنون بالانتخاب، ومن المحتمل أيضاً أن يكون تعيّنهم بالنصّ من قبل الإمام(عليه السلام)، ولا نعرف الآن أيّ الاحتمالين سوف يقع.

 

44

وإنّما آمنّا بإمكان الانتخاب في آخر الزمان فحسب، وضمن دائرة ضيّقة، وفي قادة وقتيّين ليسوا كالإمام المعصوم الذي نقول بقيادته للمجتمع من حين يومه وإلى يوم القيامة(1)، أقول: إنّما آمنّا بذلك وقلنا به لأنّ المجتمع سوف يصل وقتذاك إلى مستوىً من النضج يستطيع عنده أن يستوعب كلّ مساحات القيادة وأصعدتها، ويكتمل فيه النموّ والكمال بسبب التربية التي يمرّ بها على يد الإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه، فيكون عندئذ قادراً على الانتخاب الصحيح.

وعلى هذا فإن صحّت الانتخابات إذن فإنّها تصحّ في آخر الزمان، وعندما يكون المجتمع بمستوىً عال من النضج والكمال، وإنّ الذي يتمّ انتخابه هو أحد المهديّين بحسب ما ورد في الروايات، ويكون انتخابه للقيادة لوقته، وليست قيادته دائميّة.

 

الأدلّة على الانتخاب

هناك عادة مؤسفة عند بعض كتّابنا، وهي: أنّهم يريدون أن يطبّقوا


(1) فقيادة الإمام المعصوم للمجتمع لا تنتهي بموته؛ إذ إنّ حال الإمام المعصوم ليس كحال الفقيه من هذه الناحية؛ إذ إنّ ولاية الوليّ الفقيه تنتهي بموته، وأمّا ولاية الإمام المعصوم، فلا تنتهي بموته، فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)هو إمامنا ولا فرق بين حياته ومماته في إمامته وقيادته، فهو(عليه السلام) إمامنا عندما كان حيّاً بالحياة الظاهريّة، وهو(عليه السلام) إمامنا بعد ما استشهد وإلى يوم القيامة، ومعنى امتداد ولايته لما بعد وفاته أنّه لو أصدر في حال حياته أمراً ولائيّاً شاملاً لما بعد وفاته أو خاصّاً بما بعد وفاته، كان نافذاً بعد الوفاة.
45

ما يألفونه ـ من عادات غربيّة أو أفكار مستوردة من الغرب ـ على القرآن الكريم والسنّة، ويحاولون أن يُفسّروا كلاًّ من الكتاب والسنّة وفق تلك المفاهيم والمباني التي أخذوها من عالم آخر لا يمُتُّ إلى الإسلام بأيّ صلة. وقد يتخيّلون بحسن نيّة أنّهم يخدمون القرآن، أو أنّهم أتوا بأفكار راقية بحسب ما يتصوّرون، ولكنّ هذا في الحقيقة هدم للإسلام.

فحينما نريد أن نحمل الكتاب المجيد أو السنّة المطهّرة على أمثال هذه المفاهيم التي نتصوّر أنّها راقية وسامية، يجب علينا أوّلاً أن نقرأ الكتاب والسنّة قراءةً بعيدةً عن مصطلحات اليوم وعن الأفكار المستورَدة، ونفهمهما فهماً جيّداً، ثمّ نأخذ تلك الأفكار والمفاهيم المستورَدة لنحاكمها وفق ما فهمنا من الكتاب والسنّة.

ومن هنا فإنّ فكرة الانتخابات أو الديمقراطيّة أو فكرة حكم الناس لأنفسهم بأنفسهم، إذا أراد البعض أن يحملها على الكتاب والسنّة، فإنّه ليس في الكتاب والسنّة ما يدلّ على شيء من هذا القبيل، عدا اُمور ثلاثة قد يتراءى لهذا البعض أنّ فيها ـ أو في بعضها ـ ما يدلّ على الانتخاب المألوف، أو يدلّ على فكرة الديمقراطيّة، وهذه الاُمور الثلاثة هي:

1 ـ ما ورد في بعض الآيات القرآنيّة المباركة من نسبة الخلافة إلى المجتمع وليس لشخص معيَّن، وعندئذ قد يحلو لكاتب ما أو لمفكّر معيَّن أن يتخيّل أنّ الإسلام جاء بفكرة الديمقراطيّة وفكرة الانتخاب حينما نسب الخلافة إلى المجتمع ككلّ.

 

46

2 ـ الرواية التي رواها إخواننا السنّة عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، وهي: « لا يجمع الله اُمّتي على الضلالة أبداً »(1)، فهذه الرواية قد يجعلها البعض دليلاً على صحّة الانتخابات أو صحّة تعيين الإمام بإجماع المسلمين.

3 ـ آيتا الشورى الواردتان في القرآن الكريم، وهما:

أ ـ قوله تعالى: ﴿... وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...﴾(2).

ب ـ قوله تعالى: ﴿... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ...﴾(3).

فقد يستفيد بعض الكتّاب من هاتين الآيتين أنّ الشورى هي التي تعيّن لنا الإمام، أو قل: الوليّ ومن يقودنا.

فهذه اُمور ثلاثة يمكن أن يتخيّل منها متخيّل أنّها تشير إلى فكرة القيادة الجماعيّة أو فكرة الانتخابات.

ولكن ـ وكما قلنا سابقاً ـ يجب علينا أوّلاً وقبل كلّ شيء أن نجرّد أنفسنا من مصطلحات اليوم، وعن الأفكار المستورَدة من الغرب، ثُمّ نبحث هذه الاُمور الثلاثة لكي نرى هل نستفيد منها هذا المعنى أو لا؟

 

آيات الخلافة:

بالنسبة إلى الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن الخلافة يجب أن نبحث كلمة ( الخلافة ) الواردة فيها؛ إذ وردت في موارد عديدة، منها:

 


(1) المستدرك على الصحيحين 1: 115 ـ 116.
(2) سورة الشورى، الآية: 38.
(3) سورة آل عمران، الآية: 159.
47

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

فهذه الآية المباركة تقول: إنّ الله تبارك وتعالى أراد أن يجعل في الأرض ﴿خَلِيفَة﴾، ولمعنى الـ ﴿خَلِيفَة﴾ في هذه الآية المباركة ثلاثة احتمالات:

1 ـ أن يقصد بالـ ﴿خَلِيفَة﴾ ليس خليفة عن الله تبارك وتعالى، وإنّما خليفة عن آدم سابق، وهذا يعني أنّه كان هناك آدم قبل أبينا آدم(عليه السلام)، وكان هناك ناس قبله(عليه السلام)، ولكنّهم انتهوا وقامت قيامتهم مثلاً، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل خليفة لهم، أي: أنّه تعالى أراد أن يجعل مَن يخلف اُولئك الناس على الأرض.

ولكنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً، ولا يناسب ظاهر الآية المباركة؛ وذلك لأنّه لابدّ أن تكون هناك نكتة من ذكر (الخلافة) في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، ولو فسّرت (الخلافة) بهذا المعنى وهو أنّه تعالى يريد أن يجعل اُناساً ليخلفوا اُناساً كانوا قبلهم، فإنّ هذه ( الخلافة ) لا نكتة في ذكرها، ولا أهميّة للتركيز عليها، فالذي يبدو من الآية المباركة أنّ المقصود من كلمة ﴿خَلِيفَة﴾ هو الذي فسّره كثير من المفسِّرين، وهو:

2 ـ أن يقصد بالـ ﴿خَلِيفَة﴾ خلافة البشريّة عن الله تعالى، فيكون



(1) سورة البقرة، الآية: 30.

48

معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هو: أ نّي جاعل في الأرض مَن يخلفني، أي: يخلف الله تبارك وتعالى على وجه الأرض.

ولعلّ هذا الأساس هو الذي أثار غيرة الملائكة ـ إن صحَّ التعبير ـ عند سماعهم لذلك الخطاب، فأخذوا يقولون: لماذا لا نكون نحن خلفائك؛ إذ إنّنا نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك، فلماذا تتخذ من غيرنا خلفاء لك على وجه الأرض؟

فالمقصود بكلمة ﴿خَلِيفَة﴾ على هذا الاحتمال هو: خليفة الله تعالى، وهذه الصفة ـ صفة الخلافة ـ ليست صفةً لشخص آدم(عليه السلام)، وإنّما هي صفة للبشريّة كلّها، فهي لآدم(عليه السلام) ونسله، والذي يؤيّد هذا الاحتمال هو قول الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾، فآدم (عليه السلام) ليس مفسداً في الأرض وليس سفّاكاً للدماء، وإنّما الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هم نسل آدم، وأمّا آدم(عليه السلام)، فهو أنزه وأعلى مقاماً من أن يفسد أو يسفك دماً.

فالملائكة عندما سألوا وقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، كأنّما فهموا من كلام الله تبارك وتعالى أنّ البشريّة كلّها هي الخليفة وليس شخص آدم فحسب، ولهذا فإنّهم اعترضوا على خلافة البشريّة التي ستُفسد في الأرض وتسفك الدماء، وقولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾يعني: فلماذا تكون البشريّة هي الخليفة دوننا إذن ؟

3 ـ أن يكون لفظ الـ ﴿خَلِيفَة﴾ هنا صفة لآدم(عليه السلام) فقط دون البشريّة.

وهذا الاحتمال أيضاً وارد بالنسبة إلى الآية المباركة.

 

49

ولكن إذا كانت هذه الآية المباركة تتّصف بشيء من الغموض والإجمال، ولا نعرف هل لفظ ﴿خَلِيفَة﴾ صفة لآدم(عليه السلام) وحده، أو صفة للبشريّة، فإنّ هناك آيات اُخرى واضحةً في توصيف البشريّة كلّها بالخلافة دون توصيف آدم(عليه السلام) فقط، ومن هذه الآيات:

قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات...﴾(1).

فهذا الخطاب ليس خطاباً لشخص معيّن، وإنّما هو للبشريّة.

وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ...﴾(2).

وهذا أيضاً خطاب لكلِّ الناس، وليس خطاباً لشخص معيَّن.

وقوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ...﴾(3).

وذلك بعد استبعاد أن يكون المراد أنّ هؤلاء الخلائف خلائف لاُولئك الناس الذين اُغرقوا، فقد قلنا: إنّ هذا المعنى بعيد؛ إذ إنّ ذكر الخلافة بهذا المعنى لا تبدو فيه نكتة تستحقّ الذكر.

وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الاَْرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ...﴾(4).

 



(1) سورة الأنعام، الآية: 165.

(2) سورة يونس، الآية: 13 ـ 14.

(3) سورة يونس، الآية: 73.

(4) سورة فاطر، الآية: 39.

50

وقوله تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُل مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوح وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً...﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَاد وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ...﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الاَْرْضِ...﴾(3).

فما دامت الخلافة هنا صفة للمجتمع أو الناس فقد يتصوّر إذن أنّ هذه الآيات المباركات تُشير إلى تعيين القائد عن طريق الانتخاب، وأ نّ معنى أن يكون الناس كلَّهم خلفاء الله هو أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهذا لا يكون إلّا عن طريق الانتخابات.

ولكنّ الذي أفهمه من هذه الآيات المباركات بعيد عن هذا المعنى.

فصحيح أنّ الآيات قد جعلت الخلافة صفةً للمجتمع البشري، وجعلت البشريّة كلَّها خليفةً لله تعالى، ولكنّ هذا لا يعني حكم البشريّة نفسها بنفسها أو انتخابها لمن يقودها.

فمعنى أنّ البشريّة خليفة الله هو: أنّ هدف الله تبارك وتعالى ـ وهو عمران الأرض بشكل يكون كمقدّمة للآخرة ـ لابدّ أن تحقّقه كلّ البشريّة، فمنهم مَن يكون قائداً، ومنهم من يكون فلاّحاً، ومنهم من يكون مرشداً أو معلّماً...

فالمفروض أن تتظافر جهود البشريّة كلّها من أجل تحقيق ذلك



(1) سورة الأعراف، الآية: 69.

(2) سورة الأعراف، الآية: 74.

(3) سورة النمل، الآية: 62.

51

الهدف العظيم، ويجب أن يعملوا جميعاً في سبيل تحقيق ما يرضي الله على وجه الأرض. وهذا هو معنى خلافة البشريّة لله على وجه الأرض، وهذا لا علاقة له بمسألة أن يقوموا بحكم أنفسهم بأنفسهم، أو يكون لهم جميعاً حقّ أو يد في تعيين مَن يقودهم.

أمّا حينما تستعمل الخلافة في القرآن بمعنى القيادة، وبالذات بمعنى الحكم، فإنّنا نرى أنّها لا تُنسَب إلى البشريّة، وإنّما تنسب إلى شخص معيَّن، من قبيل قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(1).

فالخلافة هنا بمعنى الحكم؛ بدليل قوله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾، فنرى هنا أنّ الخلافة عندما استعملت بمعنى الحكم فإنّها لم تنسب إلى الناس جميعاً أو إلى البشريّة كما نُسبت في الآيات السابقة، وإنّما نُسبت إلى شخص داود(عليه السلام) الذي هو معيّن من قبل الله تبارك وتعالى، ولم يكن للناس أيّ دخل في تعيينه.

 

رواية إجماع المسلمين:

أمّا ما روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) من قوله: « لا يجمع الله اُمّتي على الضلالة أبداً »(2)، فإنّه يستحقّ البحث ولو على سبيل الإجمال من ثلاثة جوانب:

 


(1) سورة ص، الآية: 26.
(2) المستدرك على الصحيحين 1: 115 ـ 116.
52

1 ـ جانب السند، وهل صدرت هذه الرواية حقّاً عن الرسول(صلى الله عليه وآله)؟

2 ـ جانب التطبيق، وهل طبّق هذا الذي يُدّعى ـ من قبل أبناء العامّة ـ على مَن عُيّنَ كخليفة للمسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

3 ـ جانب الدلالة، فلو افترضنا أنّ هذه الرواية تامّة السند، فهل تثبت المدَّعى والمقصود؟ وهل تدلّ على أنّ الاُمّة تستطيع أن تنتخب القائد ولو عن طريق الإجماع لا عن طريق الأكثريّة؟!

 

1 ـ جانب السند:

وهنا نشير إشارةً عابرةً إلى سند هذه الرواية، ولا نريد أن نبحث ذلك وفق نظر الشيعة؛ لأنّهم لا يؤمنون بها، ولا يرون أنّها وردت بسند تامٍّ وصحيح، فرواتها ليسوا من الذين وثّقوا لدى الشيعة، ولكنّنا نريد الكلام فيها وفق اُسس إخواننا السنّة.

فهذه الرواية لم ترد في أيٍّ من الصحاح الستّ، وإنّما وردت في مستدرك الحاكم النيسابوري الذي كتبه كمستدرك على الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقد التزم الحاكم في أوّل كتابه بأن لا يذكر في كتابه هذا إلّا الأحاديث الصحيحة على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما، وهذا يعني أنّه التزم أن لا يذكر من الأحاديث إلّا ما كان منها بمستوى ما ورد في صحيح البخاري أو صحيح مسلم من حيث السند.

ولكن حينما نصل إلى هذه الرواية بالذات ـ رواية: «لا يجمع الله

53

اُمّتي على الضلالة أبداً» ـ نراه يعترف بشكل وبآخر بعدم نقاء سندها، ثُمّ يعتذر عن ذلك ويسعى في سبيل تغطية هذا النقص، وخلاصة الكلام فيها هو مايلي:

إنّ الحاكم يروي هذه الرواية عن ثلاثة أشخاص(1)، وهم:

1 ـ عبد الله بن عمر.

2 ـ ابن عباس.

3 ـ أنس بن مالك.

وقبل البحث في أسانيد هذه الرواية نشير إلى أنّ الادِّعاء القائل بعدم الحاجة إلى النظر إلى أحوال رواة هذه الرواية، والبحث عن وثاقتهم؛ إذ إنّها رواية مستفيضة أو متواترة أو مشهورة ومرويّة بطرق كثيرة، فهي إذن تامّة السند مع غضّ النظر عن رواتها، فيجب الأخذ بها، هو إدّعاء غير صحيح؛ إذ إنّ طرق رواية هذه الرواية تنتهي كلّها إلى أحد هؤلاء الثلاثة، وعلى هذا فهي ليست مستفيضة أو متواترة. وقد قال العلماء بأنّ الرواية المتواترة يجب أن تكون متواترة في كلّ الطبقات، ولمّا كانت هذه الرواية من أصلها منتهية إلى ثلاثة رواة فقط، فإنّها ليست متواترة ولا مستفيضة.

أمّا بالنسبة إلى سند الرواية المنتهي إلى ابن عمر: فحينما يرويها عن ابن عمر، فإنّه يذكر لها سبعة أسانيد تنتهي كلّها إلى المعتمر بن



(1) راجع المستدرك على الصحيحين 1: 115 ـ 117.

54

سليمان الذي يرويها بسند له إلى ابن عمر.

وأحد الأسانيد من تلك السبعة ينتهي إلى خالد بن يزيد القرني، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ويقول الحاكم النيسابوري بشأن خالد بن يزيد القرني: إنّه لو حفظ هذا الحديث عنه لحكمنا له بالصحّة. يعني: أنّه لو ثبت لدينا أنّ هذا الحديث هو من خالد بن يزيد القرني حقّاً لحكمنا بصحّته؛ لأنّ المعتمر وأباه وعبدالله بن دينار وعبدالله بن عمر كلّهم ثقاة عند الحاكم. ولكن ـ مع الأسف ـ لم يحفظ هذا الحديث عنه، أي: أنّ الوسائط بين خالد بن يزيد وبين الحاكم غير موثوقين عند الحاكم نفسه.

ثمّ يتسلسل الحاكم بذكر الأسانيد إلى أن يصل إلى خامس الأسانيد، فيذكر أنّ المعتمر بن سليمان يروي الحديث عن سلم بن أبي الذيال، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، ويقول أيضاً: «لو كان محفوظاً عن الراوي ـ يعني خالد بن يزيد القرني عن المعتمر ـ لكان من شرط الصحيح»، وهذا يعني أنّه غير محفوظ عن الراوي، وأنّ وثاقة الوسائط بين الحاكم وخالد غير ثابتة.

أمّا الأسانيد الاُخرى الخمسة، فربّما يفترض أنّ الرواة (الوسائط) الواقعين بين الحاكم النيسابوري والمعتمر بن سليمان كلّهم ثقاة، ولكنّ نقطة الضعف في هذه الروايات ـ بحسب مايراه الحاكم نفسه ـ هي: أنّ هناك وسيطاً بين المعتمر وبين عبدالله بن

55

دينار(1)، وهذا الوسيط رجل مجهول عُبّر عنه تارةً بأبي سفيان المديني، واُخرى بسفيان أو أبي سفيان، وثالثةً بأبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، ورابعةً بسليمان المدني، وخامسةً بسليمان أبي عبدالله المدني، وقد قال الحاكم في تقويمه لهذا الرجل الوسيط: « قال الإمام أبو بكر محمّد بن إسحاق: لست أعرف سفيان أو أباسفيان هذا ».

ومن هنا سجّل الحاكم نقطة الضعف على سند هذه الرواية، ولكنّه حاول التغطية على هذا النقص وعلاجه، وقال: لمّا كان المعتمر بن سليمان أحد أئمّة الحديث، وكان من أركان الحديث، فليس من حقّنا إذن أن نناقش في روايته هذه. ومن هنا، فإنّ الحديث عند الحاكم صحيح؛ لأنّه مرويّ عن المعتمر الثقة!

وإذا قبلنا من الحاكم أنّ المعتمر بن سليمان ثقة وعظيم وجليل وأنّه من أركان الحديث، فعلينا أن نعرف أنّ هذا لا يتنافى مع نقله لرواية عن إنسان لم تثبت وثاقته، وأنّ الوثاقة والعظمة لا تمنع عن نقل الحديث عن غير الثقة؛ إذ إنّ هذا النوع من النقل ليس بحرام ولا يؤثِّر سلباً في وثاقة الناقل، حيث إنّ الذي يهمّ الراوي هو نقل الرواية وإعطاء السند، وهو غير مسؤول بعد ذلك عن كون الرواة



(1) جاء في السند السادس للحديث ـ بحسب الطبعة الموجودة لدينا ـ عمرو بن دينار بدلاً عن عبدالله بن دينار.

56

الذين نقل عنهم ثقاة أم لا.

فوثاقة المعتمر إذن لا يمكن أن تعالج النقص الموجود في هذه الرواية التي يرويها الحاكم عن ابن عمر، وبهذا يتبيّن حال سندها.

وأمّا الرواية التي يرويها الحاكم عن ابن عباس، فيذكر سندين إلى ابن عباس، ويذكر الرواية مع شيء من الاختلاف في المتن، ولكن الجامع هو مفاد: « لا يجمع الله اُمّتي على ضلالة أبداً ».

ويعلّق الحاكم على هذين السندين وعلى سنده إلى أنس بن مالك قائلاً: « لا أدّعي صحّتها ولا أحكم بتوهينها »، وهذا يعني أنّ لديه توقّفاً بشأن هذه الأسانيد، وأنّ صحّتها لم تثبت عنده.

فهذا هو حال سند الرواية التي ينقلها عن ابن عباس وأنس.

ومتن الرواية التي ينقلها الحاكم عن أنس بن مالك، عن الرسول(صلى الله عليه وآله) مايلي: «إنّه سأل ربّه أربعاً: سأل ربّه أن لا يموت جوعاً، فاُعطي ذلك ـ أي: أنّ الله سبحانه وتعالى قد استجاب دعاءه ـ وسأل ربّه أن لا يجتمعوا على ضلالة، فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يرتدّوا كفّاراً، فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يغلبهم عدوّ لهم فيستبيح نساءهم(1)، فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يكون بأسهم بينهم، فلم يُعطَ ذلك».

وقد علّق الحاكم على هذه الرواية قائلاً بأنّ في سندها شخصاً



(1) في المصدر فيستبيح بأسهم.

57

باسم مبارك بن سحيم، وهذا الإنسان لا يمشي في مثل هذا الكتاب ( يعني: أنّه لا يستطيع أن يغطّي شرطاً؛ لأ نّا اشترطنا في هذا الكتاب أن يكون على شرط الشيخين، وشرطُ الشيخين غير موجود في هذا الرجل )، لكن ذكرته اضطراراً.

فهذه الرواية إذن غير ثابتة أيضاً.

ومن هنا يتّضح أنّ أسانيد هذه الرواية كلّها مخدوشة وغير ثابتة الصحّة.

 

2 ـ جانب التطبيق الخارجي:

وأمّا من جانب تطبيق هذه الرواية، فنتساءل: هل كان هناك إجماع حقّاً على مَن انتخب كخليفة للمسلمين بعد الرسول(صلى الله عليه وآله)؟

وهذا بحث تأريخي مذكور في الكتب التأريخيّة التي ذكرت الخلافة أو الإمامة، أو ذكرت تأريخ عصر السقيفة، فلتراجع.

ومن المعروف أنّه لم يكن هناك إجماع.

 

3 ـ جانب الدلالة:

ولو تمّت الرواية سنداً، وفرضنا أنّها قد طبِّقت في وقتها، وانتخب مَن انتخب بالإجماع، فهل يؤدِّي هذا إلى القول بأنّ الإمامة تثبت بالإجماع، أو لا؟

وهنا يوجد تعليق للشيخ الآصفي ـ حفظه الله ـ رأيته في كتاب له غير مطبوع بعد، وقد جلب انتباهي، وأرغب ذكره هنا:

يقول الشيخ الآصفي: «إنّ قوله: ( اُمّتي لا تجتمع على ضلالة )

58

يعني: أنّ الاُمّة حينما تجتمع على شيء فإنّ إجماعها هذا يكون حجّةً لمن تأخّر عن زمن الإجماع؛ وذلك لأنّ إجماعها على ذلك الشيء يكشف عن وجود أساس صحيح قد اعتمدت عليه الاُمّة في إجماعها هذا، وإلّا لَما كان هناك إجماع واتّفاق تامّ، ولَما كان لإجماعها ـ لو اتّفق ـ أيّ قيمة؛ إذ لا يحقّ للاُمّة أن تجمع على شيء مالم يرد دليل صحيح بشأنه، ومن هنا فإنّ الاُمّة إذا أجمعت على شيء، فإنّنا نعرف أنّ ذلك الشيء صحيح تماماً، فيكون حجّةً لنا.

ولكن من حقِّنا أن نتساءَل هنا: ما هو الأساس الذي اعتمدته الاُمّة في إجماعها ـ لو قلنا بوقوعه ـ على خلافة أبي بكر؟

وهنا نقول: إنّ إجماعها على انتخابه لا يمكن أن يكون مستنداً على نفس إجماعها عليه، ولا يمكن أن يكون الإجماع على انتخابه هو الأساس في الإجماع على انتخابه؛ لأنّ هذا دور واضح.

كما أنّ إجماعها هذا على انتخابه لا يمكن أن يكون مستنداً على إجماع سابق قد حصل من قِبَل الاُمّة، حيث إنّه لم يكن هناك إجماع سابق ـ أي: في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ على انتخابه».

وبناءً على هذا الاستظهار نقول: إنّ أساس إجماع الاُمّة المدّعى إذن: إمّا أن يكون راجعاً ومستنداً إلى نصٍّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) بإمامة إنسان ما، أو يكون راجعاً إلى مبدأ الشورى.

فإن قلنا بالأوّل ( بالنصّ )، رجعنا إلى مسلك أنّ الإمام يعيَّن بالنصّ، وهذا ما نؤمن به نحن. وإن قلنا بالثاني ( مبدأ الشورى )، فهذا ما سنناقشه الآن.

 

59

 

آيتا الشورى:

أمّا آيتا الشورى(1): ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾(2) و ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾(3)، فمن الواضح أنّ الآية الاُولى ليست بصدد افتراض أنّ الشورى تعطي حجّيّةً وولايةً وإلزاماً للنبيّ(صلى الله عليه وآله)؛ ذلك لأنّها تقول: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، فكأنّ الله سبحانه قد خاطب رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) قائلاً: يا رسول الله، شاور الاُمّة في الأمر، ولكنّ العزم والقرار بعد ذلك يكون بيدك أنت وليس بيد الاُمّة، والمشورة لا تعني أكثر من الاستضاءة بآراء الآخرين.

والمشورة هنا لم تكن بسبب حاجة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى الاستضاءة بآراء الآخرين، كما لم تكن حجّةً عليه(صلى الله عليه وآله)، وإنّما كانت بهدف إشراك الآخرين في حمل المسؤوليّة.

وأمّا بالنسبة إلى الآية الثانية: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾، فإنّ تفسيرها بما تعارف عليه اليوم في بعض البلاد من مسألة الانتخاب والإدلاء بالآراء خطأ فاضح؛ إذ إنّ تفسير أيّ عبارة يجب أن يكون على أساس ما كان يمكن أن يفهم منها في ظرف صدورها زماناًومكاناً، ولا يجوز أن تُؤوّل وتُفسَّر على أساس المصطلحات السائدة في


(1) البحث المفصّل في كلتا الآيتين موجود في كتابنا: ( أساس الحكومة الإسلاميّة ).
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.
(3) سورة الشورى، الآية: 38.
60

زمان تفسيرها، ولمّا كان قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾، قد ورد قبل أربعة عشر قرناً، فإنّ تفسيره يجب أن يكون على أساس ما كان يفهم منه في ذلك الوقت، ولا يصحّ لنا أن نفسِّره بما تعارف عندنا من مصطلحات اليوم، كالانتخاب، والديمقراطيّة، والإدلاء بالآراء، والأخذ برأي الأكثريّة، فهذا كلّه لا يمكن أن يفهم من الآية؛ لغرابته عن عرف ذلك الزمان، وعدم تعارف الناس عليه وقتذاك، ومن هنا فإنّ الذي يمكن أن يفهم من هذه الآية المباركة هو ما كان متعارفاً في تلك القرون، وهو: مسألة الاستضاءة بمشورة العقول، وهذا شيء يختلف عن أن تكون الشورى حجّة على مَن استشار، ويجب عليه أن يأخذ برأي الأكثريّة، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وهذا هو الخطأ الجذري الوارد في هذا الاستدلال بهذه الآية المباركة.

على أنّ هناك لاُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سره) بحثاً قيِّماً في الطبعة الأخيرة(1) من كتابه ( بحث حول الولاية )، حيث بحث هناك احتمال أن يكون الرسول(صلى الله عليه وآله)قد أوكل أمر القيادة والإمامة الفكريّة والسياسيّة إلى الشورى، وهذه هي خلاصة كلام اُستاذنا الشهيد(قدس سره):

إنّنا لا نحتمل أن يكون الرسول(صلى الله عليه وآله) قد اعتمد على مبدأ الشورى في تعيين الخليفة من بعده؛ وذلك لأنّه لو كان(صلى الله عليه وآله) اعتمد على هذا



(1) ففي أواخر أ يّام حياته(قدس سره) أدخل بعض الإضافات المهمّة والقيّمة في هذه الطبعة.

61

المبدأ، لكان عليه(صلى الله عليه وآله) أن يوضّح هذا المبدأ، ولا يمكن أن يكتفي بهذه الآية؛ إذ لابدّ له من إيضاح حدود الشورى وشرائطها، وماهو الحلّ فيما لو اختلف المتشاورون، فهل يؤخذ برأي الأكثريّة، أو برأي الثلّة الواعية ولو كانوا أقلّيّة؟ وما هي شرائط المشتركين في عمليّة الإدلاء بالآراء؟ وما إلى ذلك.

فهذه الاُمور وغيرها لم توضّح للاُمّة، بل إنّنا نرى أنّ فكرة الشورى لم تكن موجودةً حتّى عند أعمدة الخطّ السنّي وقتئذ ( أبي بكر، عمر ) أنفسهم، فحينما حضرت الوفاة أبا بكر نراه أوصى بالخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب، فلو كان الرسول(صلى الله عليه وآله) قد أوضح للاُمّة مبدأ الشورى، فمن الذي عمل به، هل السنّة أو الشيعة؟

فالشيعة طريقهم واضح، والمسألة عندهم مسألة نصّ.

وأمّا السنّة فهذا أبو بكر لم يعمل بشيء من هذا القبيل، فقد عيّن عمر بن الخطاب، وكذا عمر بن الخطاب الذي كان قد ناقش في بيعة أبي بكر نفسه؛ إذ وصفها بأنّها فلتة، لم يعمل بهذا المبدأ عندما حضرته الوفاة أيضاً؛ إذ حَصر الأمر في ستّة أشخاص وجعلها شورىً بينهم فقط، ولم يجعلها شورىً ضمن الاُمّة كلِّها.

إذن فمن الذي فهم فكرة الشورى وقتذاك؟ فالشيعة لم يقولوا بها، والسنّة لم يفهموها ولم يطبّقوها حتّى من قبل أئمّتهم.

ثم يشير اُستاذنا الشهيد(قدس سره) إلى أنّ الاُمّة وقتئذ لم تكن بمستوى استلام القيادة. والتفصيل مذكور في كتابه المشار إليه سابقاً، فراجع.