20

إنسان اعتيادي، ولهذا خرج من هذا الامتحان بنجاح أيضاً. تقول الرواية: إنّ إبراهيم(عليه السلام)حينما ألقوه في النار نزل جبرائيل وأدركه في الهواء وقال له: «يا إبراهيم، ألك حاجة؟» فقال: «أمّا إليك فلا»(1). فهذا هو مستوى التوكّل والاعتماد على الله تبارك وتعالى الذي كان يتمتّع به إبراهيم(عليه السلام) في تلك اللحظة الحرجة، وهو مستوى لم يتمتّع به بعض الأنبياء(عليهم السلام) ـ فضلاً عن غيرهم ـ في مواقف وظروف أقلّ حراجة.

فيوسف(عليه السلام) نبيّ من الأنبياء، وعلى الرغم من ذلك فإنّه قال للسجين الذي كان معه:﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾(2). صحيح أنّ هذا ليس من الأخطاء التي تعارض العصمة أو تنافيها، ولكنّه ـ على أيّ حال ـ بالنسبة إلى ذلك المستوى يكون من قبيل: «حسنات الأبرار سيّـئات المقرّبين»(3).

 

شموليّة الامتحان الإلهي للناس جميعاً

إنّ مسألة الامتحان عامّة لا تختصّ بنا نحن البشر الاعتياديين، وإنّما تشمل أيضاً الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، ولا يصل الإنسان إلى مقام الإمامة الذي هو فوق المقامات ـ على ما سنُبيّنه إن شاء الله ـ من دون أن يمتحن، ومن دون أن يخرج من الامتحان بنجاح.

فالله سبحانه امتحن حتّى الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين، كما


(1) البحار 12: 38، الحديث 21.
(2) سورة يوسف، الآية: 42.
(3) البحار 25: 205.
21

هو واضح في تعابير القرآن الكريم والحكايات والقصص المذكورة عن الأنبياء العظام(عليهم السلام)، فقد امتحن الله آدم وإبراهيمويوسف وسليمان وداود وأيّوب وسائر الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وحتّى الأنبياء الذين اُعطوا النبـوّة في صغر سنِّهم كعيسى ويحيى(عليهما السلام).

فعيسى(عليه السلام) أصبح نبيّاً وهو في المهد صبيّاً؛ إذ قال تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾(1).

فهنا ربّما يقول قائل: إنّ عيسى(عليه السلام) لم يمرّ بالامتحان؛ لأنّه أصبح نبيّاً وهو في المهد، وكذا الأمر بالنسبة إلى يحيى(عليه السلام)؛ إذ قال تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾(2)، فقد يقال: إنّ يحيى(عليه السلام) قد خرج عن قانون الامتحان.

ولكنّ الذي يبدو لي هو أنّ عيسى ويحيى(عليهما السلام) لم يخرجا عن نظام الامتحان الإلهي، ولم يحصلا على المقام الذي حصلا عليه مجّاناً وبلا عوض، ولم يكونا مستثنَيَين من هذه القاعدة، وهنا نحتاج إلى أن نلتفت إلى معنى الامتحان الإلهي.

إنّ الامتحان الإلهي ليس كالامتحان الذي نقوم به حينما نريد أن نمتحن بعض أبنائنا أو أطفالنا، وليس كامتحان المعلم لتلاميذه؛ إذ إنّ الامتحان الذي يقوم به الأب أو المعلّم تجاه الابن أو التلميذ إنّما هو



(1) سورة مريم، الآية: 29 ـ 30.

(2) سورة مريم، الآية: 12.

22

من أجل كشف الحقيقة؛ إذ إنّ مثل هذا الأب أو المعلم لا يعرف مدى قابليّة ابنه أو تلميذه، فيريد أن يمتحنه حتّى يكشف حقيقته ويجازيه بقدر ما ينكشف له منها، فهذا هو معنى الامتحان الذي يقوم به الناس بعضهم تجاه بعض، وهذا النوع من الامتحان يجب أن يكون متقدّماً على الجزاء، ويجب أن يكون متقدّماً على المنصب الذي يُعطى، فالطبيب والمهندس وغيرهما لا يُعطَونَ الشهادة والمقام قبل أن يؤدّوا الامتحانات التي كانت بهدف كشف الحقيقة.

أمّا امتحان الله تبارك وتعالى، فهو ليس من هذا القبيل، فالله سبحانه لا يمتحن عبيده من أجل أن تنكشف له حقائقهم؛ إذ إنّه تعالى عارف بالحقائق، عالم بالسرائر، عالم بالقابليّات والرتب والمستويات، عالم بمن يخرج من الامتحان بنجاح وبمن يسقط، عالم بكلّ شيء، فليس معنى امتحان الله تبارك وتعالى للإنسان كشف حقيقته قبل إعطائه المنصب والجزاء، ولكنّ الله تبارك وتعالى حينما يعطي الإ نسان مقاماً أو منصباً أو ثواباً فإ نّ ذلك يجب أن يكون بإزاء قابليّة ما، بحيث لولا هذه القابليّة لكان تمييز ذلك الإ نسان من غيره من البشر قد يُعدّ ظلماً؛ لأنّ الشخص الذي لا يعطى الثواب العظيم أو المنصب المرموق سوف يقول لله تعالى: لماذا لم تعطني هذاالمقام؟ أو لماذا لم تعطني هذا الثواب كما أعطيت فلاناً؟

وأمّا إذا كان ذلك الشخص ( صاحب الثواب والمنصب ) يمتاز من الآخرين بتحمّل المصائب والمتاعب، والصبر على المحن

23

والرزايا، والخروج منها بنجاح، فإنّ الله سبحانه وتعالى إذا أعطاه المنصب المناسب والأجر والثواب الذي يستحقّه، فعندئذ لا يكون للآخرين أيّ مجال للاحتجاج أو الاعتراض على الله سبحانه.

ومن هنا فإنّ المنصب ربّما يكون سابقاً للامتحان الذي سيمتحن به الشخص.

فعيسى ويحيى(عليهما السلام) أيضاً امتُحنا في حياتهما على الرغم من أنّ المنصب كان قد ثبت لهما قبل الامتحان؛ إذ إنّ الامتحان الإلهي ليس بمعنى كشف الحقيقة لكي يشترط أن يتقدم على المنصب، وإنّما هو بمعنى أنّ هذا الإ نسان إنّما اُعطي هذا المقام لأنّه كان سينجح حتماً في كلّ قضاياه ومحنه التي ستمرّ به خلال حياته نجاحاً كاملاً، وقد يكون هذا في آخر عمره، لا في أوّله.

فالمنصب قد يسبق الامتحان باعتبار أنّ الله تبارك وتعالى يعرف هذا الرجل الذي يستحقّ هذا المنصب.

نعم، نحن لا نعرف حقيقة ذلك الرجل، ولا ندري بأنّه سوف يخرج من الامتحان بنجاح حقّاً إلّا في آخر عمره، وبعد أن نراه يخرج من الامتحان بنجاح نكتشف أنّ ذلك المقام الذي أعطاه الله تبارك وتعالى له كان قد وقع في محلِّه.

 

 

 

 

25

الفصل الثاني

 

 

الإمامة والقيادة بين النصّ والانتخاب

 

 

○   مقام الإمامة.

○  الفكر المادّي عن القيادة والاختلاف الجوهري بينه وبين الفكر الإسلاميّ.

○  حقّانيّة التنصيص وبطلان انتخاب الإمام في الإسلام.

 

 

27

 

 

 

 

 

مقام الإمامة

 

إنّ الذي يبدو من الروايات أنّ مقام الإمامة فوق المقامات الاُخرى ـ ما عدا مقام الربوبيّة طبعاً ـ التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: « إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً »(1).

و( العبوديّة ) هنا ليست بمعنى المملوكيّة، فكلّ الناس هم عبيد الله، وحتّى أخبث الخبثاء هو عبد لله، وإنّما العبوديّة تعني أن يصل الإ نسان إلى مقام الإخلاص بمستوى أن يذوب في الربّ تبارك وتعالى، فلا يكون الرسول رسولاً مالم يكن عبداً، فالعبوديّة مقدّمة على الرسالة.

والنبوّة لا تعني الإرسال إلى الاُمّة، فالله قد يخبر الإ نسان عن اُمور، ولكن قد لا يكون مرسلاً إلى اُمّة من الناس، فهو ليس برسول،


(1) البحار 25: 205 ـ 206، الحديث 17.
28

ويبدو من قوله(عليه السلام): « وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً » أنّ مقام الرسالة فوق مقام النبوّة، وليس كلّ نبيٍّ رسولاً.

ومن قوله(عليه السلام): « إنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً » يبدو أنّ مقام الخلّة فوق مقام الرسالة، فليس كلّ رسول يصل إلى مستوى أن يكون خليلاً لله تبارك وتعالى، وإبراهيم خرج من كلّ الامتحانات بنجاح ولم يصدر عنه حتّى ما يسمّى بــ «ترك الأولى» على ما يبدو من قوله تعالى: ﴿... فَأَتَمَّهُنّ...﴾، وليس من الصدف أن نرى كلّ الحجّاج يصلّون خلف مقام إبراهيم(عليه السلام)، وليس من الصدف ما نراه من أمر الله تبارك وتعالى لكلّ الطائفين أن يدخلوا حجر إسماعيل(عليه السلام) في مطافهم، فلولا نجاح إسماعيل في ذلك الامتحان العظيم واستسلامه لأبيه ليذبحه لم نكن نعرف نكتةً لدخول حجر إسماعيل في المطاف.

وكذا قوله(عليه السلام): «وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً » يدلّ في ظاهره على تفوّق مقام الإمامة على مقام (العبوديّة، النبوّة، الرسالة، الخلّة)، وهذا ما يظهر أيضاً من قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾؛ إذ إنّ تعبير هذه الآية المباركة يُشير إلى أنّ إبراهيم(عليه السلام) قد حصل على منصب الإمامة ومقامها في أواخر عمره الشريف، أي بعد ابتلائه(عليه السلام)، فلم يكن إبراهيم(عليه السلام)في أوائل أ يّام حياته أو في أوائل أمره إماماً، وإنّما كان(عليه السلام) إماماً في

29

أواخر عمره؛ وذلك لعدّة شواهد في الآية المباركة ذكرها المرحوم العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله) في كتابه الميزان في تفسير القرآن، وهي:

1 ـ كلمة ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ في قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي...﴾، فهذه الكلمة تشير إلى أنّ إبراهيم(عليه السلام) إمّا كانت له ذرّيّة وقتئذ أو كان(عليه السلام) قد علم أنّه سوف تكون له ذرّيّة، ولذلك قال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾، وأمّا إذا لم تكن له ذرّيّة ولم يكن(عليه السلام) يعلم أنّه ستكون له ذرّيّة، فلا معنى لقوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾، ونحن نعلم أنّ علم النبيّ إبراهيم(عليه السلام) واطّلاعه بأنّه ستكون له ذرّيّة قد كان في أواخر أيّامه وكِبَر سنّه؛ إذ قال تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾(1)، فهذا شاهد على أنّ تبشير إبراهيم(عليه السلام) بالذرّيّة قد كان بعد أن مسَّه الكِبَر. وقال تعالى أيضاً في آية اُخرى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾(2).

2 ـ كلمة ﴿ابْتَلَى﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ...﴾،



(1) سورة الحجر، الآية: 51 ـ 55.

(2) سورة هود، الآية: 71 ـ 73.

30

فهذه الآية المباركة تدلّ على أنّ مقام الإمامة إنّما جاء بعد هذه الابتلاءات والامتحانات التي مرّ بها إبراهيم(عليه السلام) ونجح فيها، فعندئذ قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، فوصول إبراهيم(عليه السلام) إلى مقام الإمامة كان بعدما مرّ ـ بنجاح ـ بهذه الامتحانات والابتلاءات، ومن الواضح أنّ من أبرز الامتحانات والابتلاءات التي مرَّ بها إبراهيم(عليه السلام) هي قصّة ذبح ابنه، ونحن نعلم أنّ قصّة الذبح هذه قد كانت في أ يّام كبره(عليه السلام)؛ إذ قال تعالى حكايةً عن نبيّه إبراهيم(عليه السلام): ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء﴾(1).

3 ـ إنّ قوله تعالى:﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ هو وحي، وهذا دليل على أنّه(عليه السلام) كان نبيّاً يُوحى إليه قبل أن يُجعل إماماً، وهذا دليل على أنّ الإمامة بعد النبوّة، فمقام الإمامة إذن فوق مقام النبوّة.

 



(1) سورة إبراهيم، الآية: 39.

31

 

الفكر المادّي عن القيادة

والاختلاف الجوهري بينه وبين الفكر الإسلاميّ

 

الإمامة تعطي معنى القيادة، فمن يقود الناس فهو إمامهم، وإمام الناس يعني قائدهم.

إنّ العالم المادِّي الحديث ـ الذي يريد أن يظهر نفسه بأنّه عالم الحرّيّة والعدالة مثلاً ـ يُرينا طريقةً لتقمّص القيادة بشكل يختلف اختلافاً جوهريّاً عن فكرة الإمامة التي تقول بها السماء، وعمّا يقوله الإسلام فيها؛ وذلك لأنّ عالم الكفر ( العالم المادّي والحضارة المادّيّة ) الذي لا يؤمن بالمبدأ والمنتهى، ولا يؤمن بوجود الله تبارك وتعالى، ولا يؤمن بجنّة ولا نار ولا بوجود عالم آخر غير هذا العالم يرى أنّ مسألة الإمامة أو القيادة محصورة بإدارة شؤون الدنيا لا أكثر ولا أقلّ، ولهذا فإنّ دعاة العدل ـ على ما يزعمون ـ قالوا بأنّ العدل يكون في أن يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم، فالناس ليسوا بحاجة إلى شخص واحد معيّن من أعلى؛ إذ لا يوجد هناك مبدأ يفترض أنّه هو الأعلى الذي يعيّن من يدير الاُمور، وإنّما الناس يجب أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهذا ما يسمّى في لغتهم بــ « الديمقراطيّة »، أو « الانتخاب الحرّ »، أو ما شابه ذلك، هذه هي فكرة القيادة بحسب ما يفهمه العلماء المادّيون، فيحصرون القيادة

32

بهذا المعنى الضيّق، ويفترضون أنّ طريق الوصول إليها هو « الانتخاب »؛ إذ ليس في ذلك ظلم لأحد كما يدّعون.

وفي مقابل هذا الرأي هناك « الدكتاتوريّة » التي تعني سيطرة شخص أو فئة أو طبقة أو جماعة على الآخرين بالظلم والإجبار.

وإذا أردنا أن نناقش فكرة المادّيين عن القيادة في دائرتها الضيّقة، ونغضّ النظر عن الفارق الجوهري الموجود بين تفكير هؤلاء وبين تفكير الإسلام، ونناقش طريقتهم في تعيين القائد، نقول(1): إنّ هذه المسألة لا تخرجنا عن مسألة التحكّم والظلم وسيطرة شخص على آخر بلا حقّ، وبذلك يسقط ادّعاؤهم القائل بأنّ الالتجاء إلى الانتخاب الحرّ إنّما هو من أجل أن لا تكون سيطرة أحد على أحد بالقهر والإجبار؛ إذ إنّها ستكون بقبول الناس أنفسهم، وهذا يعني أنّ الناس قد حكموا أنفسهم بأنفسهم، وهذا ليس بظلم، بل هو عدل بحت كما يقولون.

ومن أجل أن نوضّح كيف أنّ الانتخاب يؤدّي إلى التحكّموالظلم نقول(2): إنّ الانتخاب سوف يؤدّي ـ على أفضل


(1) مناقشة هذا الأمر موجودة بشكل مفصّل في كتابنا ( أساس الحكومة الإسلاميّة ) فراجع.
(2) هذا مع غضّ النظر عمّا ذكره اُستاذنا الشهيد آية الله العظمى السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)، من أنّ مسألة انتخاب الأكثريّة تنتهي في روحها وحقيقتها إلى انتخاب الأقلّيّة بما يملكون من قابليّات ووسائل وقدرات مادّية، فتتحكّم بأصوات الأكثريّة وآرائهم، وتُخضعها لما يُريدون من أشخاص ونظام، حيث إنّ

33

التقادير(1) ـ إلى حكم الأكثريّة وسيادة النظام الذي ترغب به؛ إذ إنّ الحكم أو النظام الفائز بالانتخاب سوف لن يكون مؤيَّداً ومنتخباً من قبل جميع الناس، وإنّما يكون مؤيَّداً من قبل الأكثريّة فقط، وأمّا البقيّة الباقية من الناس ( الأقلّيّة )، فإنّها رافضة للحاكم ومعارضة للحكم، وعندئذ فإنّ هذا الشخص الفائز أو النظام الذي رغبت به الأكثريّة سوف يكون مفروضاً على الأقلّيّة ( الرافضة )؛ إذ يجب عليها أن تكون محكومة لرأي الأكثريّة وخاضعة له، وهل هذا إلّا تحكيم رأي على رأي يؤدِّي إلى سحق حقوق الأقلّيّة وظلمها دون ذنب؟ فالانتخاب إذن لم يرفع الظلم ولم يحقّق العدل.

وقد اُجيب عن هذا الاعتراض بأنّ الأقلّيّة قد وافقت منذ البدء على الأخذ برأي الأكثريّة والخضوع للنظام الذي تُريده أو تُقرّه الأكثريّة؛ إذ إنّ جميع الناخبين مؤمنون بمبدأ الأكثريّة وموافقون على الخضوع له، ومن هنا فإنّ حقوق الأقلّيّة لم تهدر إذن.

 



مثل هذه الإمكانات لا تتوفّر لكلّ الناس ولا لأغلبهم، وإنّما تتوفّر لقسم قليل منهم، وبالتالي فإنّ هؤلاء القلّة ( أصحاب الإمكانات ) سوف يفرضون النظام الذي يريدونه من خلال تأثيرهم على آراء الأكثريّة من الناخبين وإخضاعهم لهم.
(1) هذا إذا لم تخضع الانتخابات إلى التزوير والضغوط الرسميّة وغير الرسميّة، وكانت حرّةً تماماً، أمّا إذا لم تكن حرّةً، فسوف يفوز من تُريده الجهة أو الجهات التي أشرفت على الانتخابات وأثّرت في مجراها الحرّ، حتّى وإن كان ذلك الفائز ليس مقبولاً من قبل الأكثريّة.
34

إلّا أنّ هذا الجواب غير تامّ:

أوّلاً: لأنّ هناك قسماً من الناس لا يؤمن بمبدأ الأكثريّة، ومثل هؤلاء الناس لا يمكن إخضاعهم لقانون الأكثريّة إلّا على أساس القهر والإجبار، وهذا رجوع إلى الدكتاتوريّة مرّة اُخرى.

ثانياً: لأنّ هناك قسماً من الناس هم أطفال أو أشخاص لم يبلغوا السنّ القانوني الذي يسمح لهم بالاشتراك في الانتخاب، فماذا يقولون لهم بعد أن تصل أعمارهم إلى السنّ القانوني وقبل أن تنتهي الفترة المحدَّدة للشخص أو النظام المنتخب؟

ففي كلّ سنة بل في كلّ يوم هناك الكثير من الأشخاص تصل أعمارهم إلى السنّ القانوني، ولكنّ الانتخابات لا تجرى في كلّ يوم أو سنة، وهذا يعني أنّ الأشخاص الذين تصل أعمارهم إلى السنّ القانوني بعد إجراء الانتخاب، عليهم أن يخضعوا للشخص أو النظام المنتخب ( الحاكم ) دون أيّ أساس، وعليهم أن يتحمّلوا الوضع القائم ـ الذي لم يساهموا بإيجاده ـ حتّى مجيء موعد الانتخابات الجديد الذي ربّما سوف يطول سنوات عديدة.

ثالثاً: لأنّ هناك مواليد جدد بعد إجراء الانتخاب، فماذا يقولون لهم؟

وهناك اعتراضات ومناقشات اُخرى ذكرناها في كتابنا ( أساس الحكومة الإسلاميّة ).

هذا، إضافةً إلى أنّ الإسلام يعارض هذه الفكرة معارضة جذريّة، ويرفضها رفضاً قاطعاً، باعتبارها فرضت منفصلة عن المبدأ

35

والمنتهى، ولا يرى معنى الإمامة منحصراً بمجرّد إدارة اُمور الدنيا وشؤونها، فالإسلام يلحظ المسألة من دائرة أوسع وأعمق.

ولابدّ أن نشير هنا إلى أنّ الإسلام لا يرفض كلّ أشكال الانتخابات وأنواعها، وإنّما يرفض الانتخابات التي تمنح الولاية للأشخاص أو الفئات أو الأنظمة المنتخبة، وأمّا الانتخابات التي تكون بأمر الوليّ الفقيه ـ باعتباره قائداً وامتداداً لخطّ الإمامة ـ عندما يرى مصلحةً فيها، فإنّما تمارس امتثالاً لأمر الفقيه ( وليّ الأمر )، ولهذا فإنّ الذي يعطي الولاية للفائزين في هذه الحالة هو الوليّ الفقيه وليست الانتخابات، وعلى هذا الأساس يصحّ انتخاب رئيس الجمهوريّة وتصحّ انتخابات أعضاء مجلس الشعب وغيرها من الانتخابات التي تجرى بأمر الوليّ الفقيه.

ثمّ إنّ فكرة القيادة ـ بمستوىً من المستويات ـ مقبولة عند كلّ المادّيين المنكرين للمبدأ والمعاد، ما عدا الشيوعيين الذين آمنوا بمجيء زمان لا يحتاج فيه الناس إلى حكومة أو سلطة أو قيادة، وذلك حينما تسود الشيوعيّة على ما يزعمون، أمّا غير هؤلاء الشيوعيّين، فكلّهم يؤمنون بأنّ العالم أو المجتمع بحاجة إلى قائد يقوده، ويحسّون بحاجة الناس إلى من يأخذ بأيديهم نحو الخير والسعادة والرفاه.

وعلى هذا الأساس قال الذين حاولوا أن يدافعوا عن الحقّ والعدل: إنّ العدالة لا تسود إلّا عندما يقوم المجتمع بقيادة نفسه بنفسه، وإدارة شؤونه بنفسه، وهذا لا يكون ـ على زعمهم ـ إلّا عن

36

طريق الانتخاب والإدلاء بالآراء.

ولكن فكرة القيادة عند المادّيين والملحدين تختلف اختلافاً جوهريّاً عمّا هي عندنا في الإسلام، فهي عندهم لا تعدو أن تكون مسألة إدارة شؤون الحياة الدنيويّة، أمّا عندنا فإنّها تنسحب على عدّة مجالات وترتبط بعدّة أصعدة إذا ما استوعبناها جميعاً نرى أنّه من الواضح جدّاً أنّ انتخاب البشر لا يمكن أن يُنتج تعيين الإمام الذي يجب اتّباعه، وهذه الأصعدة هي:

 

1 ـ صعيد العمل للدنيا:

فبغضّ النظر عن الجنّة والنار والعوالم الاُخرى فإنّ المجتمع الدنيوي بحاجة إلى القيادة، وإنّ الاُمور الدنيويّة بحاجة إلى إدارة، وهذا هو المجال الذي حصر المادّيون نظرهم فيه، وهو أيضاً من المجالات التي نظر الإسلام إليها باهتمام، غير أنّ الإسلام لم يقصر نظره عليه فقط، وإنّما نظر أيضاً إلى جملة من الاُمور الاُخرى.

وأمّا ما قد يتصوّره أو يقوله البعض من أنّ الإسلام لا يهتمّ بشؤون الدنيا، وإنّما يهتمّ بشؤون الآخرة فقط، وأنّه يفصل بين الدنيا والآخرة ويركِّز على الآخرة فحسب، فإنّه قول خاطئ يشبه خطأ من يقول بأنّ الدين منفصل عن السياسة، فهذه أفكار انحرافيّة وتوجّهات استعماريّة، جاء بها المستعمر الكافر لتخدير المسلمين وحرفهم عن طريق الإسلام القويم، وإلّا فإنّ اهتمام الإسلام بإدارة شؤون الدنيا واضح من خلال زاويتين:

 

37

الاُولى: زاوية تحقيق العدل ورفع الظلم؛ إذ إنّ هناك آيات مباركة تأمر بالعدل، منها:

قوله تعالى: ﴿... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ...﴾(2).

وغيرها من الآيات والروايات التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم ممّا يُشير إشارةً واضحةً إلى أنّ الإسلام قد اهتمّ بإدارة شؤون الدنيا إدارةً عادلة، ودعا لدفع الظلم عن العباد.

الثانية: زاوية النعم الدنيويّة؛ إذ يتّضح من الآيات والروايات أنّ الإسلام ينظر إلى مُتَع الدنيا ونعمها، وأنّه مهتمّ بمسألة تكثيرها على المؤمنين.

قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق...﴾(3).

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...﴾(4).

فهذه الآيات وأمثالها دليل وشاهد على أنّ الإسلام ينظر إلى النعم الدنيويّة، وأنّه مشرَّع بشكل لو طبّق لكثرت النعم ولأصبح الناس جيمعاً في رخاء ونعيم.

 


(1) سورة النساء، الآية: 58.
(2) سورة ص، الآية: 26.
(3) سورة الأعراف، الآية: 32.
(4) سورة المائدة، الآية: 66.
38

فصعيد العمل للدنيا إذن هو أحد الأصعدة التي ينظر إليها الإسلام حينما يريد أن ينصب إماماً، أو عندما يريد أن يقود المجتمع بواسطة الإمام، ولذا فلابدّ للقائد من أن يهتمَّ بالشؤون الدنيويّة للمجتمع، وهذا هو الجانب الذي نظر إليه المادّيون أيضاً ما عدا الشيوعيّون.

فكما أنّ المادِّيين يؤمنون بهذا النوع من القيادة، وينظرون إلى هذا الصعيد ( الدنيوي ) فإنّ الإسلام نظر إليه أيضاً ووافق عليه، وقال بأنّ الإنسان بحاجة إلى قيادة، ولكنّه يُضيف إلى هذا الصعيد أصعدةً اُخرى جعلها من شؤون القيادة والإدارة.

 

2 ـ صعيد العمل للآخرة:

ويتمثّل بمسألة هداية البشر إلى نعم الآخرة.

فالمادّيون عندما فصلوا العالم عن المبدأ والمنتهى فرضوا أنّ المسائل التي تحتاج إلى إمعان النظر هي مسائل الحياة الدنيويّة.

أمّا الإسلام فيرى أنّ الحياة الدنيويّة ما هي إلّا مقدّمة لحياة اُخرويّة دائمة هي أوسع وأكبر وأعظم من هذه الحياة، ولذا فإنّه يرى بأنّه لابدّ من تمشية اُمور هذه الحياة الدنيويّة الزائلة بالشكل الذي ينسجم مع تلك الحياة الاُخرويّة الدائمة، والتي هي أهمّ من هذه الحياة الدنيا، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنيّة كثيرة، من قبيل:

1 ـ قوله تعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى﴾(1).

 


(1) سورة الضحى، الآية: 4.
39

2 ـ قوله تعالى: ﴿ وَمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾(1).

3 ـ قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾(2).

فإذا فرضنا ـ جدلاً ـ أنّ المجتمع باستطاعته أن يقود نفسه بنفسه، وأغمضنا النظر عن الإشكالات الورادة على فكرة الديمقراطيّة التي يقول بها المادّيون، وافترضنا أنّه من الممكن أن يقوم البشر بانتخاب من يدبّر شؤونهم ويدبِّر اُمورهم، فإنّنا نتساءل: كيف يستطيع الناس أن ينتخبوا ذلك الشخص الذي يهديهم إلى نعم الآخرة؟

وذلك لأنّنا لو سلّمنا بأنّهم خبراء وعارفون بالاُمور الدنيويّة وإدارتها، فإنّهم غير عارفين بالحياة الاُخرويّة، وليست لديهم أيّ خبرة عن كيفيّة العمل لها، فكيف يتسنّى لهم إذن أن ينتخبوا من هو قادر على صعيد العمل للآخرة؟

وكيف يستطيعون أن ينتخبوا من هو بمستوى من قال: «سلوني قبل أن تفقدوني...»، و «إنّي بطرق السماوات أعلم من طرق الأرض»؟ فليس كلّ واحد يستطيع أن يقول هذا الكلام، وليس بإمكان المجتمع الاعتيادي أن ينتخب من يكون على هذا المستوى، فإنّ هذا بحاجة إلى من له علاقة بالغيب وله ارتباط بمنازل الآخرة.

 



(1) سورة العنكبوت، الآية: 64.

(2) سورة الكهف، الآية: 46.

40

 

3 ـ صعيد الكمال والرقيّ المعنوي والوصول إلى رضـوان الله تعالى:

وهذا المستوى لا يستطيع المادّيون والملحدون أن يتصوّروه، فيتخيّلون أنّ هذا شيء وهمي.

فمسألة الكمال والوصول إلى رضوان الله تعالى هي مسألة السموِّ المعنوي والروحي، وهي مسألة فوق الدنيا والآخرة وأهمّ منهما معاً؛ إذ يقول تعالى: ﴿... وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ...﴾(1).

فرضوان الله تبارك وتعالى عند أهل المعرفة والكمال هو أكبر من جنّة عرضها السماوات والأرض.

وبصدد بيان النعم الإلهيّة على المؤمنين في يوم القيامة قال الله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(2).

والنظر هنا لا يقصد به النظر المادّي لله تعالى؛ إذ إنّ الله سبحانه وتعالى ليس جسماً لكي يكون النظر إليه ممكناً، وإنّما يقصد به الاقتراب من الله سبحانه وتعالى، والكمال الروحي والرقيّ إلى مستوىً بحيث كأنّه ينظر إلى الله، وهذا هو فوق النعم الاُخرى الثابتة في عالم الآخرة، فالآية تشير إلى الاقتراب المجازي من الربّ، وهو الاقتراب من رحمته تبارك وتعالى.

وهناك آية مباركة اُخرى تتعرّض إلى العقوبات الإلهيّة على المجرمين والكافرين، فقد قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ


(1) سورة التوبة، الآية: 72.
(2) سورة القيامة، الآية: 22 ـ 23.
41

لَّمَحْجُوبُونَ﴾(1)، وهذا نقيض ( النظر ) الذي ورد في الآية السابقة، والمعنى: أنّهم مبتعدون عن رحمة الربّ، فهذه الآية المباركة لم تتكلّم عن عذاب المجرمين في الجحيم وإحراقهم في النار، وإنّما تقول: ﴿ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾. ومن هنا نتمكّن من معرفة كلام أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) حينما يقول في دعاء كميل: « هَبْنِيْ يَا إلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاَيَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ... »، فكأنّ الصبر على النار يكون هيِّناً بالقياس إلى الصبر على فراق الله تعالى.

فالإسلام إذن اهتمّ بجانب الكمال والرقيِّ المعنوي الذي هو أهمّ من نعم الآخرة، فيفترض بالقائد إذن أن يكون على مستوىً بحيث يتمكّن من إيصال المجتمع إلى هذه المرتبة من الكمال. وهذا هو الصعيد الثالث الذي يدخل ضمن الأصعدة والقضايا التي يجب أن يخطِّط لها القائد، فلو افترضنا أنّ الذي سوف ينتخب من قبل الناس هو بمستوى تأمين أوضاع الحياة الدنيويّة، فكيف يمكنه أن يكون بمستوى تأمين هذه الحاجة، أي: حاجة الكمال الروحي والمعنوي الذي يجب على البشريّة أن تصل إليه.

 

4 ـ صعيد النظم الإسلاميّة والأحكام الإلهيّة التي شـرّعها الإسـلام:

فالإسلام دين يشتمل على أحكام ونظم، والمفروض بالقائد أن


(1) سورة المطففين، الآية: 15.
42

يعمل في سبيل تبليغ وتطبيق الأحكام الإلهيّة على وجه الأرض.

وهذا الصعيد ( الرابع ) يؤثّر في كلّ الأصعدة السابقة، حيث إنّ تطبيق الأحكام هو الذي يوجد الرفاه للمجتمع في الحياة الدنيا، وهو الذي يوجد سعادة المجتمع في الحياة الآخرة، وهو الذي يأخذ بيد المجتمع نحو الكمال والرقيِّ المعنوي ويوصله إلى رضوان الله تعالى.

فحينما ننظر إلى فكرة الإمامة من هذا المنظار، فنفترض بالإمام أن يقوم بإدارة شؤون الحياة الدنيويّة، وهدي المجتمع نحو الجنّة، ورضوان الله تعالى، وتبيلغ الأحكام الإلهيّة وتطبيقها على المجتمع، ولم ننظر إليها ( الإمامة ) بمنظار إدارة الشؤون الدنيويّة فقط، عندئذ نفهم معنى التعابير الموجودة في الروايات والأدعية الواردة عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)؛ إذ يعبّرون عن الإمام أو الإمامة بتعابير عظيمة تشير إلى عظمة هذا المستوى:

فقد جاء في أحد التعابير: « أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّمَاء »(1)، فالإمام إذن يكون السبب المتصل بين الأرض والسماء، وليس مجرّد إنسان ينتخبه المجتمع كمدير لقضايا الدنيا وشؤونها.

وكذلك جاء في تعبير آخر: «إنّي واثني عشر من وُلدي وأنت يا عليّ زِرُّ الأرضِ ـ يعني أوتادها وجبالها ـ بنا أوتَدَ اللّهُ الأرضَ أن تسيخَ بأهلِها، فإذا ذهب الاثنا عشر من وُلدي ساخَتِ الأرضُ بأهلِها ولم ينظروا»(2).


(1) دعاء الندبة.
(2) الكافي 1: 534، الحديث 17.
43

 

حقّانـيّة التنصيص وبطلان انتخاب الإمام في الإسلام

 

إذا كانت فكرة الإمامة بهذا المستوى من الأهميّة والعظمة ـ كما تقدّم ـ فمن الواضح جدّاً أنّ هذا ليس أمراً يمكن أن يخضع للانتخاب.

وإذا ما آمنّا بالانتخاب ضمن حدود وضمن قيادات وقتيّة، فإنّنا نقول به في آخر الزمان فحسب، بحسب ما ورد في بعض الروايات بخصوص فكرة ( المهديّون ) بالنسبة إلى ما بعد صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه عندما ينتهي عمره الشريف(عليه السلام)، فإنّه قد طرحت في الروايات بلحاظ ذاك الزمان فكرتان، وهما:

1 ـ فكرة الرجعة، وأنّ الأئمّة السابقين(عليهم السلام) سوف يرجعون إلى الدنيا واحداً بعد آخر.

2 ـ فكرة المهديّون، وهم ليسوا أئمّةً بالمعنى المصطلح عند الشيعة، ولكنّهم اُناس مهديّون مؤمنون يديرون المجتمع بعد انتهاء حياة الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه.

ولا تنافي بين هاتين الفكرتين، ويمكن أن تصحّ فكرة رجوع الأئمّة(عليهم السلام) وفكرة المهديّون معاً.

ومن المحتمل أنّ هؤلاء المهديّين يعيَّنون بالانتخاب، ومن المحتمل أيضاً أن يكون تعيّنهم بالنصّ من قبل الإمام(عليه السلام)، ولا نعرف الآن أيّ الاحتمالين سوف يقع.

 

44

وإنّما آمنّا بإمكان الانتخاب في آخر الزمان فحسب، وضمن دائرة ضيّقة، وفي قادة وقتيّين ليسوا كالإمام المعصوم الذي نقول بقيادته للمجتمع من حين يومه وإلى يوم القيامة(1)، أقول: إنّما آمنّا بذلك وقلنا به لأنّ المجتمع سوف يصل وقتذاك إلى مستوىً من النضج يستطيع عنده أن يستوعب كلّ مساحات القيادة وأصعدتها، ويكتمل فيه النموّ والكمال بسبب التربية التي يمرّ بها على يد الإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه، فيكون عندئذ قادراً على الانتخاب الصحيح.

وعلى هذا فإن صحّت الانتخابات إذن فإنّها تصحّ في آخر الزمان، وعندما يكون المجتمع بمستوىً عال من النضج والكمال، وإنّ الذي يتمّ انتخابه هو أحد المهديّين بحسب ما ورد في الروايات، ويكون انتخابه للقيادة لوقته، وليست قيادته دائميّة.

 

الأدلّة على الانتخاب

هناك عادة مؤسفة عند بعض كتّابنا، وهي: أنّهم يريدون أن يطبّقوا


(1) فقيادة الإمام المعصوم للمجتمع لا تنتهي بموته؛ إذ إنّ حال الإمام المعصوم ليس كحال الفقيه من هذه الناحية؛ إذ إنّ ولاية الوليّ الفقيه تنتهي بموته، وأمّا ولاية الإمام المعصوم، فلا تنتهي بموته، فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)هو إمامنا ولا فرق بين حياته ومماته في إمامته وقيادته، فهو(عليه السلام) إمامنا عندما كان حيّاً بالحياة الظاهريّة، وهو(عليه السلام) إمامنا بعد ما استشهد وإلى يوم القيامة، ومعنى امتداد ولايته لما بعد وفاته أنّه لو أصدر في حال حياته أمراً ولائيّاً شاملاً لما بعد وفاته أو خاصّاً بما بعد وفاته، كان نافذاً بعد الوفاة.