58

ولكنّ الذي يحسم لنا مادّة الإشكال حتى بعد فرض تماميّة السند والدلالة أمران:

الأوّل: ما يمكن القول به من أنّ إسقاط الحكومات الاستعمارية المعادية للإسلام دفاع عن بيضة الإسلام ودار الإسلام الذي لا شكّ في وجوبه، ودلّت عليه بعض الروايات من قبيل رواية يونس التامّة سنداً، قال: «سأل أبا الحسن (عليه السلام)رجل وأنا حاضر... إلى أن قال: قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا إلاّ أن يخاف على دار المسلمين، أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم ( لم يسع لهم خ ل ) أن يمنعوهم، قال: يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)»(1).

وهذا الوجه كاف لدفع الإشكال في الخروج على الطاغوت بخصوص ما هو محلّ الابتلاء فعلا في بلادنا الإسلامية.

والثاني: أنّه لو حمل الإمام في هذه الروايات على الإمام المعصوم، ثمّ تمّ لنا نصّ على مبدأ ولاية الفقيه، وأنّ ما للإمام فهو للفقيه كان هذا حاكماً على هذه الروايات بملاك النظر.

 

أخبار المنع عن الخروج قبل قيام القائم:

وأمّا الثالث، وهي روايات المنع عن الخروج قبل قيام القائم فبعضها ينظر إلى عدم إمكانيّة الانتصار، وبعضها يمكن حمله على ذلك، أو على شرط إشراف المعصوم.


(1) وسائل الشيعة 11: 20، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

59

والكل مناقش دلالةً أو سنداً، وهي على طوائف:

الطائفة الأُولى: ما يحتمل فيه أو يظهر منه النظر إلى خروج الشخص لنفسه وفي مقابل الإمام المعصوم، فيكون أجنبياً عن المقام من قبيل:

1 ـ ما عن أبي بصير بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: كلّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّ وجلّ(1). فالتعبير بالطاغوت وأنّه يعبد من دون اللّه يعطي معنى الصنمية، وهذا يناسب فرض كون خروجه لنفسه لا بنيّة تسليم الأمر إلى الإمام المعصوم لو حضر.

2 ـ رواية عيص بن القاسم التامّة سنداً: «قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فواللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه، ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، واللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثمّ كانت الأُخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد واللّه ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلاّ من اجتمعت بنو فاطمة


(1) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.

60

معه، فواللّه ما صاحبكم إلاّ من اجتمعوا عليه، إذا كان رجب فأقبلوا على اسم اللّه، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم، فلعلّ ذلك يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسفياني علامة»(1).

وما في هذا الحديث من استثناء خروج زيد؛ لأنه دعا للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وكذلك قوله: «فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم...» واضح في التفسير الذي ذكرناه.

الطائفة الثانية: ما يكون الخطاب فيها خطاباً إلى شخص أو أشخاص بنحو القضية الخارجية، وليست مشتملة على الخطاب العام بنحو القضية الحقيقية، فيحتمل فيها أيضاً كونها ناظرة إلى الخروج بعنوان كونه هو الرأس وهو الأصل في مقابل الإمام المعصوم، ولا يمكن استنباط الكبرى المطلقة منها، والتعدّي إلى ما يحتمل الفرق فيه عن المورد، وذلك من قبيل:

1 ـ رواية سدير التامّة سنداً: «قال: قال أبو عبداللّه (عليه السلام): الزم بيتك، وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»(2).

2 ـ رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الزم الأرض، ولا تحرّك يداً ولا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق...»(3). ويستخلص من


(1) وسائل الشيعة 11: 35 ـ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو.

(2) المصدر السابق: 36، الباب 3 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 11: 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 16.

61

«غيبة النعماني»(1) سندٌ تامّ لهذا الحديث كالتالي: الكليني عن عليّ بنإبراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر بن يزيد الجعفي. وابن أبي المقدام مع جابر روى عنهما بعض الثلاثة، ولكن جابرقال عنه النجاشي: «وكان في نفسه مختلطاً»(2)، وهذا لا ينفي التوثيق،وذكر المفيد في الرسالة العددية بشأنه: أنّه ممّن لا يطعن فيهم، ولا طريقلذمّ واحد منهم(3).

ويحتمل كون المقصود بالاختلاط الوارد في كلام النجاشي الجنون، وهو الذي تظاهر به فترة من الزمن كما ورد في الكافي(4).

3 ـ رواية عمر بن حنظلة التامّة سنداً قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني. فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا...»(5).

4 ـ رواية عبدالرحمن بن أبي هاشم عن الفضل بن سليمان الكاتب قال: كنت عند أبي عبداللّه (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنّا... ـ إلى أن قال ـ: إنّ اللّه لا يعجل لعجلة العباد، ولإَزالة جبل عن موضعه أهون من إزالة ملك لم ينقضِ أجله... ـ إلى أن قال ـ:


(1) الغيبة للنعماني: 149، طبعة مكتبة الصابري بتبريز.

(2) رجال النجاشي: 128.

(3) الرسالة العددية ( مصنفات الشيخ المفيد 9 ): 25 و 35.

(4) الكافي 1: 397.

(5) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.

62

قلت: فما العلامة فيما بيننا و بينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرضيا فضل حتى يخرج السفياني فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ يقولها ثلاثاً ـ وهو من المحتوم(1).

ويمكن إدخال هذه الرواية في الطائفة الثالثة.

ولم تثبت وثاقة عبدالرحمن بن أبي هاشم إلاّ بناءً على اتّحاده مع عبدالرحمن بن محمد بن أبي هاشم، ولا دليل على وثاقة الفضل، وذكر أنّه كان يكتب للمنصور وللمهدي.

الطائفة الثالثة: ما يكون حاكياً عن عدم إمكانية الانتصار، وأسانيدها جميعاً ضعيفة من قبيل:

1 ـ مرفوعة ربعي عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: واللّه لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم إلاّ كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوى جناحاه، فأخذه الصبيان فعبثوا به(2).

وكلمة ( أحد منّا ) تجعل القضية خارجية لا كلّية، والظاهر من كلمة ( منّا ) أنّه يقصد بها أهل البيت أعني القريبين من الرسول (صلى الله عليه وآله)، لا كلّ من كان منتسباً إليه (صلى الله عليه وآله)ولو بوسائط كثيرة، كما هو الحال في السادة الذين هم من نسل فاطمة (عليها السلام) في مثل زماننا هذا.

2 ـ ومثل هذه الرواية رواية جابر عن الباقر (عليه السلام): «مَثَلُ خروج القائم منّا أهل البيت كخروج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ومثل من خرج منّا أهل البيت قبل قيام القائم مثل


(1) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.

(2) المصدر السابق: 36، الحديث 2.

63

فرخ طار ووقع من وكره، فتلاعبت به الصبيان»(1)، وسند الحديث مشتمل على عدّة أشخاص غير موثوقين.

3 ـ ومثلهما رواية صالح بن أبي الأسود عن أبي الجارود: «قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ليس منّا أهل البيت أحد يدفع صنماً، ولا يدعو إلى حقّ إلاّ صرعته البلية حتّى تقوم عصابة شهدت بدراً، لا يورّى قتيلها، ولا يداوى جريحها. قلت: من عنى أبو جعفر (عليه السلام)؟ قال: الملائكة»(2).

بناءً على كون قوله: «حتى تقوم عصابة... إلخ» إشارةً إلى زمان ظهور القائم عجّل اللّه تعالى فرجه.

4 ـ ومثلها ما عن أبي الجارود أيضاً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: أوصني، فقال: أُوصيك بتقوى اللّه، وأن تلزم بيتك، وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإيّاك والخوارج منّا، فإنّهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء، واعلم أنّ لبني أُميّة ملكاً لا يستطيع الناس أن يردعه، وأنّ لأهل الحقّ دولة إذا جاءت ولاّها اللّه لمن يشاء منا أهل البيت من أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلى، وإن قبضه اللّه قبل ذلك جاز له، واعلم أنه لا تقوم عصابة تدفع صنماً أو تعزّ ديناً إلاّ صرعتهم البلية حتى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول (صلى الله عليه وآله)لا يورّى قتيلهم، ولا يرفع صريعهم، ولا يداوى جريحهم. قلت: من هم؟ قال: الملائكة»(3).

وسند الحديث في غاية السقوط.


(1) الغيبة للنعماني: 105، طبعة مكتبة الصابري.

(2) المصدر السابق: 102.

(3) الغيبة للنعماني: 102.

64

5 ـ ومثلها ما في أوّل الصحيفة السجّادية من حديث عن متوكّل بن هارون عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقّاً إلاّ اصطلمته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا»(1).

وهذه الروايات جميعاً تشترك في ما أشرنا إليه من اختصاصها بمن يخرج من أهل البيت، كما أنّها جميعاً تشترك فيما قلناه أيضاً من ضعف السند.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى نكتة، وهي: أنّ أمثال هذه الروايات لو كثرت لم تحقق فائدة التواتر أو الاستفاضة إلاّ إذا وصلت الكثرة إلى حدّ واسع جدّاً وذلك لثبوت احتمال داع مشترك للكذب، وهو الدفاع عن السلطة، وهذا ممّا يضرّ بسرعة حصول القطع بتكثّر النقل.

وهناك نكتة أُخرى ـ ينبغي توضيحها أيضاً ـ وهي: أنّ هذه الروايات ـ بعد غضّ النظر عمّا عرفت من مناقشتها الدلالية ـ لو أُريدت الاستفادة منها كحجّة على مضمونها فقد عرفت أنّها ضعيفة السند، وأنّها حتى لو كثرت لا يتمّ تواترها أو استفاضتها، ولو أُريدت الاستفادة منها بعنوان كسر أجواء المدرسة الإسلامية ـ التي أشرنا فيما سبق إلى أنّها تحقّق الإطلاق في أدلّة الجهاد والقتال، وعندئذ لا يضرّ ضعف أسانيدها؛ لأنّ احتمال صدقها كاف في احتمال انكسار تلك الأجواء، وبالتالي احتمال عدم انعقاد الإطلاق ـ قلنا في مقام الجواب: إنّ هذه الروايات ـ حتى لو تمّت سنداً ـ لا تكسر تلك الأجواء، وذلك لأنّ من الطبيعي في جوّالاختناق المسيطر على وضع الشيعة وقتئذ أن يكثر صدور مثل هذه التصريحات


(1) شرح الصحيفة السجادية ( للمعلم الثالث السيد محمد باقر الداماد ): 69.

65

من الأئمة (عليهم السلام) تقية: إمّا بمعنى التقيّة في أصل الصدور، أو بمعنى إرادة تهدئة الأجواء الثائرة التي لم تكن وفق الحكمة والمصلحة وقتئذ، حيث قد يكون إصدار إطلاقات من هذا القبيل مؤثّراً في تهدئتهم، فتكون المصلحة في إظهار الإطلاق وإن لم يكن الإطلاق مقصوداً حقيقة.

ولا يقال: إنّ هذا خلاف أصالة الجهة.

فإنّه يقال: إنّ التمسّك بأصالة الجهة إنّما يفيد لأجل إثبات حجّية المضمون، ولكنّ الهدف لم يكن الآن عبارة عن الاستفادة من هذه الروايات كحجّة على مضمونها، وإلاّ لورد على ذلك ضعف أسانيدها، وإنما كان الهدف الاستفادة منها كعنصر كاسر للأجواء التي تخلق الإطلاق في أدلّة الجهاد والقتال، وكون صدورها تقيّةً أمراً طبيعياً ومترقّباً باعتبار جوّ الاختناق الحاكم وقتئذ كاف في عدم مساهمتها في كسر الجوّ الخالق للإطلاق في أدلّة الجهاد وإن فرض ذلك خلاف أصالة الجهة.

الطائفة الرابعة: روايات التقيّة:

ومطلقاتها لا تدلّ على المقصود، فإنّها إنما وردت بشأن فضيلة التقيّة في ذاتها، وليست بصدد الإخبار عن تحقّق شروطها المعلومة والمرتكزة ولو إجمالا، فالتمسّك بها في المقام تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية كما هو واضح، وهيمن قبيل:

1 ـ رواية هشام بن سالم بسند تامّ قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: ما عُبد اللّه بشيء أحبّ إليه من الخباء. قلت: وما الخباء؟ قال: التقية(1).


(1) وسائل الشيعة 11: 462، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 14.

66

2 ـ رواية حريز بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: التقيّة ترس اللّه بينه وبين خلقه»(1).

3 ـ رواية معمّر بن خلاد بسند تامّ قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام)عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له»(2).

4 ـ ما رواه في العلل عن أحمد بن الحسن القطان عن الحسن بن علي السكري عن محمد بن زكريّا الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال: «سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: المؤمن علوي... ـ إلى أن قال ـ: والمؤمن مجاهد؛ لأنّه يجاهد أعداء اللّه عزّ وجلّ في دولة الباطل بالتقيّة، وفي دولة الحق بالسيف»(3).

وأحمد بن الحسن القطان لم يرد بشأنه شيء عدا أنّه من مشايخ الصدوق، وأنّه ترحّم عليه. والسكري مجهول، ويوجد في كتب الرجال أكثر من واحد باسم محمد بن عمارة دون توثيق، وجعفر بن محمد بن عمارة مجهول.

وأمّا روايات التقيّة المصرّحة باستمرار التقيّة إلى زمان ظهور الحجّة فمن قبيل: ما ورد عن محمد بن مسلم ـ بسند تامّ ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: كلّما تقارب هذا الأمر كان أشدّ للتقية(4). بناءً على كون المشار إليه بكلمة ( هذا الأمر )عبارة عن ظهور القائم عجّل اللّه تعالى فرجه، وأنّ النظر في هذا الحديث إلى


(1) المصدر السابق: الحديث 12.

(2) المصدر السابق: 460، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 11: 464، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 19.

(4) المصدر السابق: 462، الحديث 11.

67

الزمان المستمرّ من زمان الإمام الصادق (عليه السلام) إلى ظهور الحجّة، ولكن بناءً على ذلك يكون ظاهر هذا الحديث مقطوع الكذب، فإنّ الحديث لم يرد في التقيّة، بمعنى خصوص ترك القتال، بل ورد في مطلق التقية، وما أكثر الأزمنة التي جاءت بعد زمان الإمام الصادق (عليه السلام) وكانت أخفّ للتقيّة من ذاك الزمان لا أشدّ.

وهناك رواية أُخرى آمرة بالتقية إلى زمان ظهور الحجّة، وهي ما ورد عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال: «لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له، وإنّ أكرمكم عند اللّه أعملكم بالتقية. قيل: يابن رسول اللّه إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقيّة قبل خروج قائمنا فليس منّا...»(1)، وفي كمال الدين: «فقيل له يابن رسول اللّه: إلى متى؟ قال: إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت»(2).

والذي روى الحديث عن الحسين بن خالد هو عليّ بن معبد، وهو لم يوثّق.

إلاّ أنّ في نسخة إعلام الورى المطبوعة في طهران ورد: «عليّ بن الحسين بن خالد» وهذا مشتمل على السقط، فكان الأصل عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد فسقطت كلمتا ( معبد عن )، ولو فرضت صحّة تلك النسخة فعلي بنالحسين بن خالد مجهول لا ذكر له في الرجال.

الطائفة الخامسة: روايات الأمر بالسكون إلى ظهور الحجة:

وبإمكانك أن تجعلها مع القسم الثاني من الطائفة الرابعة، وهو روايات استمرار التقيّة إلى زمان الظهور طائفة واحدة، وهي من قبيل:


(1) وسائل الشيعة 11: 466، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 25.

(2) كمال الدين: 371.

68

1 ـ ما جاء في كمال الدين بسند فيه المغيرة عن المفضّل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان... فقلت: يابن رسول اللّه فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: حفظ اللسان ولزوم البيت»(1).

والمفضّل بن صالح قال عنه الغضائري: ضعيف كذّاب يضع الحديث، وروى عنه أنّه قال: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر، ولكن روى عنه بعض الثلاثة.

وأمّا المغيرة فمردّد بين أشخاص عديدين لم يوثّق واحد منهم.

2 ـ ما رواه الشيخ في غيبته عن أحمد بن إدريس عن عليّ بن محمد عن الفضل بن شاذان عن محمد بن أبي عمير عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لمّا دخل سلمان (رضي الله عنه) الكوفة ونظر إليها ذكر ما يكون من بلائها حتّى ذكر ملك بني أُمية والذين من بعدهم، ثمّ قال: فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم حتى يظهر الطاهر بن الطاهر المطهّر ذو الغيبة الشريد الطريد»(2).

وهذا الحديث وإن لم يكن منتهياً إلى المعصوم ولكن يحدس أنّ سلمان (رضي الله عنه)أخذ مفاده من المعصوم، كما أنّ نقل المعصوم وهو الإمام الصادق (عليه السلام) لهذا الكلام عن سلمان لا يخلو من دلالة على إمضائه كاملا أو في الجملة.

وعليّ بن محمد بن قتيبة لم يثبت توثيقه، وسند الشيخ إلى أحمد بن إدريسفي مشيخة التهذيبين سند تامّ، لكن هذا الحديث غير موجود في التهذيبين


(1) كمال الدين: 330.

(2) كتاب الغيبة للطوسي: 103، مطبعة النعمان في النجف الأشرف.

69

كي يصحّ الرجوع في سنده إلى المشيخة، وسنده إليه في الفهرست فيه: أحمد بن جعفر بن سفيان البزوفري.

3 ـ رواية الحسين بن خالد قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّ عبداللّه بن بكير كان يروي حديثاً، وأنا أُحبّ أن أعرضه عليك، فقال: ما ذلك الحديث؟ قلت: قال ابن بكير: حدّثني عبيد بن زرارة قال: كنت عند أبي عبداللّه (عليه السلام) أيّام خرج محمد ( إبراهيم ) بن عبداللّه بن الحسن إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنّ محمد بن عبداللّه قد خرج، فما تقول في الخروج معه؟ فقال: اسكنوا ما سكنت السماء والأرض. فقال: عبداللّه بن بكير: فإن كان الأمر هكذا ولم يكن خروج ما سكنت السماء والأرض فما من قائم وما من خروج. فقال أبوالحسن (عليه السلام): صدق أبو عبداللّه (عليه السلام)، وليس الأمر على ما تأوّله ابن بكير، إنّما عنى أبو عبداللّه (عليه السلام) اسكنوا ما سكنت السماء من النداء والأرض من الخسف بالجيش»(1).

ولهذا الحديث سندان ورد في أحدهما أحمد بن محمد العلوي ولم يردبشأنه عدا ما في تذكرة المتبحرين من أنّه فاضل فقيه، وورد في الآخرسهل بن زياد.

4 ـ رواية ابن أبي عمير عن مفضّل بن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «قال لي: يا مفضّل من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها»(2)، ورواه الصدوق بسند غير تامّ عن المفضّل بن عمر عن أبي عبداللّه (عليه السلام).


(1) وسائل الشيعة 11: 40، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 14.

(2) وسائل الشيعة 11: 401، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.

70

أمّا السند الأوّل ففيه مفضّل بن يزيد، وهو وإن لم يوثّق في كتب الرجال إلاّأنّ الراوي عنه هو محمد بن أبي عمير الذي قال عنه الشيخ الطوسي: إنّه لا يروي إلاّ عن ثقة(1).

ومفضّل بن يزيد غير مذكور في كتب الرجال، وإنما المذكور فيها مفضّل بن مزيد، ومن هنا يأتي احتمال كون كلمة ( يزيد ) تصحيفاً لكلمة ( مزيد )، وكان مفضّل بن مزيد ـ على نقل الكشيّ ـ أخا شعيب الكاتب، وكان خليفة أخيه على الديوان، ومن هنا يقوى احتمال التقية في الحديث باعتبار أنّ الكلام قد ينتقل منه إلى رؤوس الدولة المرتبط بهم.

وعلى أيّة حال فهذا الحديث لو حمل على معنى من تعرّض لسلطان جائر في ما قبل ظهور القائم أصبح من روايات هذه الطائفة، ولو حمل على خصوص زمان الصدور كان الحديث أجنبياً عن المقصود، ولو أُبقي على إطلاقه كان مقطوع الكذب أو التقيّة.

هذا، ولنا تعليق على كلّ هذه الأحاديث لا ينجو منه عدا الحديث الثاني من القسم الثاني من روايات التقيّة ـ أعني ما يدلّ على استمرار التقيّة إلى زمان الظهور ـ وهو أنّها جميعاً وردت قبل قصّة حسين بن عليّ في وقعة ( فخ ) الذي لم يرد بشأنه أيّ ذمّ، بل ورد المدح الكثير على نقل صاحب كتاب مقاتل الطالبيين وإن كان متّهماً في نقله المديح لكونه زيدي المذهب، في حين أنّ وصول الذم في مثل هذه المسألة ـ ولو كان خروجه مقبولا واقعاً ـ عن الإمام (عليه السلام)أمر طبيعي ومترقّب جداً، وقلّة وصول المدح أيضاً أمر طبيعي ولو كان واقعاً ممدوحاً، وذلك


(1) عدة الأُصول 1: 154.

71

بسبب جوّ الاختناق الطاغي وقتئذ على الوضع الاجتماعي من قبل الطغاة المتحكّمين ،فمن المترقّب أن يردنا الذمّ الكثير إمّا كذباً بدسّ أعوان الظلمة للأكاذيب في صالح السلطة، أو تقية من قبل الإمام (عليه السلام)، فلو لم يصلنا ولا ذمّواحد ووصلنا المدح كان ذلك قرينة قطعية على مشروعية الخروج قبل الظهورفي الجملة، وأنّ كلّ نصّ ورد قبل هذا التاريخ على المنع لو كان صادراًحقّاً من المعصوم وقصد به الإطلاق فهو محمول على التقيّة، وليس مراداًبالإرادة الجديّة.

ويشهد لذلك أنّ روايات المنع معارضة بروايات عديدة دلّت على مشروعية الخروج قبل الظهور في الجملة، وقد أوردناها في كتابنا «الكفاح المسلح في الإسلام»، وهي غير تامّة سنداً إلاّ رواية واحدة منها، وهي ما مضى من رواية العيص التامّة سنداً، والتي ورد فيها قوله: «ولا تقولوا خرج زيد فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»(1).

وبغضّ النظر عن كلّ ما ذكرناه يأتي هنا أيضاً ما أشرنا إليه في روايات مشروطية الجهاد بحضور الإمام من أنّ إسقاط الحكومات الاستعمارية المعادية للإسلام دفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين، فلا شكّ في وجوبه وعدم مشموليته لما هو المقصود من إطلاقات المنع لو تمّت سنداً ودلالة.

هذا تمام ما أردنا أن نبيّنه هنا باختصار حول جواز الخروج على الطغاة في عصر الغيبة ومحاولة إقامة الحكم الإسلامي.


(1) وسائل الشيعة 11: 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث الأوّل.

72

المسائل المبحوثة في هذا الكتاب:

 

وأما المسائل التي أردنا بحثها حول ولاية الأمر في عصر الغيبة فهي ما يلي:

المسألة الأُولى: هي أصل مسألة ولاية الفقيه في عصر الغيبة بمستوى إدارة الحكم.

والمسألة الثانية: في مدى دخل الانتخاب في الولاية أو عدم دخله.

والمسألة الثالثة: في شورى القيادة.

والمسألة الرابعة: هل يصح فصل المرجعية في التقليد عن الولاية، أو لا؟

والمسألة الخامسة: هل ينفذ حكم الولي على سائر الفقهاء، أو لا؟

والمسألة السادسة: هل أحكام الولي الفقيه تنقسم إلى قسمين: قسم ولائي لابدّ من اتّباعه حتّى مع القطع بالخطأ، وقسم كاشف لا يُتّبع لدى العلم بالخطأ لزوال الكشف، أو لا؟

ولنبدأ بتفصيل الكلام في هذه المسائل، واللّه وليّ التوفيق.

73

 

 

 

المقدمة:

 

 

الفقيه

رئيس الدّولة الإسلاميّة

في عصر الغيبة

 

ولاية الفقيه:

1 ـ على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة.

2 ـ على أساس الأدلّة اللفظيّة لوجوب إقامة الحكم.

3 ـ على أساس النصّ الخاص.

 

 

 

 

 

75

 

 

 

 

 

المسألة الأُولى: في البحث عن مبدأ ولاية الفقيه بمستوىً يجعله رئيساً للدولة الإسلامية.

ولكي يمكن مواكبة هذا البحث ـ حتى لمن لم يقتنع بما مضى من جواز الخروج على الطغاة في عصر الغيبة ـ نفترض في المقام أنه عرضت الحكومة على المؤمنين بلا حرب ولا قتال، فهل يجوز للمؤمنين الامتناع عن استلام الحكم ليبقى الحكم بيد الفسقة والفجرة أو بيد الكفار ! أو يجب عليهم التصدّي للحكم في هذه الحالة؟

من الواضح أنه يجب التصدي للحكم في هذه الحالة، ولا يجوز جعل السلطة عمداً واختياراً بيد الظلمة أو الكفرة ممّا يؤدّي إلى حصول الظلم والطغيان ومعصية اللّه عزّ وجلّ واضمحلال كثير من الأحكام، وعندئذ فهل تكون ولاية الأمر للفقيه، أو لا؟

 

الأساس الفقهي لولاية الفقيه

 

يمكن إثبات ولاية الأمر للفقيه على مستوى إدارة سلطة البلاد على أحد أُسس ثلاثة:

الأوّل: أساس الأُمور الحسبية وتطبيق ذلك يكون على أحد أُسلوبين:

76

أوّلهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبيّة على المصالح التي تحفظ بالسلطة والحكم من مصالح الإسلام وأحكامها التي تنتهك لولا حكم إسلامي عادل، أو مصالح المسلمين التي لا تراعى ضمن حكم غير إسلامي أو غير عادل، فبما أننا نجزم بعدم رضا الشارع بفوات تلك المصالح ثبت لدينا ضرورة التصدّي للحكم في الجملة بعنوان التصدّي للأُمور الحسبية، ونضمّ إلى ذلك أحد أمرين: إمّا القول بأن القدر المتيقن ممن نعلم برضا الشارع بتصدّيه لهذه الأُمور الحسبية هو الفقيه، وبما أن الولاية خلاف الأصل فلابد من الاقتصار فيها على القدر المتيقّن، وإمّا القول بورود أدلّة خاصّة تشترط الفقاهة في قيادة الأُمة، وبهذا يثبت أنّ ولاية الأُمور تكون للفقيه.

إلاّ أن هذه الولاية التي ثبتت عن هذا الطريق فيها بعض النقائص، فمثلا لا تثبت بهذا ولاية الفقيه في الأُمور التي لم تصل إلى مستوى الضرورة وإن كانت في إجرائها مصلحة للبلاد، ففتح الشوارع ـ مثلا ـ أو الإصلاحات الزراعية أو تقسيم الأراضي وما شابه ذلك إنما يجوز إجراؤها على خلاف رضا المُلاّك بمقدار ما وصل الأمر فيها إلى حد الضرورة واللابدية التي نقطع معها بعدم رضا الشارع بفوات ذلك، ولا يجوز إجراؤها بمقدار ما يعدّ من الأُمور الكمالية والمصالح الثانوية للبلاد لعدم ثبوت كونها من الأُمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بفواتها.

ولو وقع الخلاف بين السلطة وبين شخص من الأشخاص في ثبوت الضرورة وعدمها، فالسلطة أرادت إعمال الولاية لما تراه من الضرورة، والشخص لم يكن مقتنعاً بذلك لم تجب على الشخص الطاعة؛ لأنه لا يعتقد بدخول ذلك في الأُمور الحسبية.

77

ولو أصدرت السلطة أمراً عامّاً لضرورته، ولكن الشخص رأى في مصداق من مصاديق ذلك الأمر انتفاء الضرورة لم تجب عليه الطاعة، فنظام المرور مثلا وإن كان بشكل عام أمراً ضرورياً لحفظ سلامة الأُمة، ولكن حينما يتفق صدفة خلوّ الطرق بحيث لا يبقى أي ضرر في مخالفة نظام المرور جازت المخالفة، إلاّ إذا كانت تلك المخالفات بمستوىً يوجب تضعيف الدولة، وبالتالي العجز عن تحقيق المصالح المهمّة التي نقطع بعدم رضا الشارع بفواتها.

وثانيهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبية على نفس السلطة والحكم ببيان: أنّ إعمال السلطة حتى في الموارد التي يرى الشخص عدم الضرورة في ذلك أمر ضروري؛ لأنه إذا صار القرار على استثناء كلّ مورد يرى الشخص عدم ضرورة إعمال السلطة والولاية فيه ـ بأن يقال: إنه لا تجب على ذاك الشخص في ذلك المورد الطاعة ـ انهارت المصالح المهمة أيضاً؛ إذ حتى لو فرضنا أن الناس يصدقون فيما يدّعون من اعتقاد عدم الضرورة يكون هذا الاعتقاد منهم في كثير من الأحيان خطأً، فلو سمح لكل واحد أن يعمل وفق اعتقاده لانهارت المصالح المهمة الثابتة في موارد أخطاء البعض.

أمّا تخصيص السماح بالمخالفة بخصوص من طابق اعتقاده الواقع فلا يحلّ الإشكال؛ إذ لا يمكن تمييز ذلك لهم وكلّ منهم يدّعي أنه هو الذي لم يخطأفي اعتقاده.

فإذا طبّقنا عنوان الأُمور الحسبية بهذا البيان على نفس استلام زمام السلطة وإعمالها ضممنا إلى ذلك هنا أيضاً أحد الأمرين الماضيين، أي إما كون القدر المتيقّن ممن يجوز له ذلك هو الفقيه، أو أدلّة اشتراط الفقاهة في قيادة الأُمّة.

78

وهذا البيان خير من البيان الأوّل؛ لأنه عالج النقص الثاني من النقصين اللذين أشرنا إليهما في ذيل البيان الأوّل، نعم بقي النقص الأوّل على حاله، وهو أنه لا تثبت بذلك ولاية السلطان عندئذ على تنفيذ ما يراه من الكماليات والمصالح الثانوية غير الضرورية.

الثاني: أساس الأدلّة اللفظية الدالّة على أنه يجب على الناس خلق السلطة الإسلامية والحكم الإسلامي عند عدمها، كآيات الخلافة والأمانة بعد ضمّ ذلك أيضاً إلى أنّ المتيقن ممّن يجوز له ذلك هو الفقيه أو إلى أدلّة شرط الفقاهةفي الإمامة.

وهذا الوجه يكون في نتيجته أقوى من الوجهين الأوّلين؛ لأنّه لا يشتمل حتى على النقص الأوّل من النقصين اللذين مرّت الإشارة إليهما، فكلّما يعدّ عرفاً من شؤون إدارة النظام والحكم يصبح جائزاً للفقيه الوليّ ولو عدّ من الكماليات والمصالح الثانوية.

الثالث: أساس الدليل اللفظي الدالّ على مبدأ ولاية الفقيه، ونقتصر في بحث ذلك على نصّ واحد، وهو التوقيع المشتمل على قوله (عليه السلام): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه» ولا نبحث هنا باقي النصوص التي قد يستدل بها على ذلك اختصاراً للحديث.

كما أننا نقتصر أيضاً في مقام التعرّض لإشكالات هذا النص وعلاجها على أهمّ تلك الإشكالات وهي:

1 ـ الإشكال السندي: لعدم معروفية راوي الحديث، وهو إسحاق بنيعقوب.

79

2 ـ احتمال كون اللام في الحوادث الواقعة لام عهد إشارة إلى حوادث وردت في سؤال السائل، والتي لا نعلم ما هي.

3 ـ كون كلمة الرواة ظاهرة في الارجاع إلى الرواة بما هم رواة، وهذا يعني الإرجاع إليهم في أخذ الروايات وأخذ الفتاوى، وهو غير الولاية، أو الإرجاع إليهم في ذلك وفي ملء منطقة الفراغ في ما يحتاج ملؤه إلى تضلّع روائي، وهذا غير الولاية المطلقة.

ولنبدأ الآن ببحث هذه الأُسس التي أشرنا إليها لولاية الفقيه:

 

1 ـ على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة:

 

الأساس الأول لمبدأ ( ولاية الفقيه ) هو مبدأ الأُمور الحسبية، وهذا الوجه مركب من مقدمتين:

إحداهما: إحراز عدم رضا الشارع بفوات المصالح واضمحلال الأحكام التي تبطل وتضمحلّ بفقدان السلطة والحكومة الإسلاميّة، أو قُل: عدم رضاه بترك حكم البلاد وإدارة أُمور المسلمين بيد الكفار أو الفسقة والفجرة رغم فرض إمكان الاستيلاء عليها من قبل المؤمنين الذين لا يسرّهم إلاّ إعلاء كلمة اللّه، ولا يحكمون ـ لو حكموا ـ إلاّ بما أنزل اللّه.

وهذه المقدمة ضرورية واضحة لا ينبغي لأحد التشكيك فيها فقهياً.

والثانية: تعيّن الفقيه لهذه المهمّة، لأحد سببين: إما لورود الدليل على اشتراط الفقاهة في قائد الأُمة الإسلامية، وإما لأنه القدر المتيقّن في الأُمور الحسبية، ولابدّ من الاقتصار عليه في مقام الخروج عن أصالة عدم الولاية.

80

شرط الفقاهة في ضوء الدليل:

أمّا الدليل على اشتراط الفقاهة لدى الإمكان في قائد الأُمّة الإسلاميّة فقد عقد في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» فصل خاصّ للبحث عن ذلك(1) ولكنّي لم أجد فيه ما يكون مقنعاً لإثبات المقصود، وقد استدلّ في هذا الكتاب على اشتراط الفقاهة في وليّ الأمر بالعقل والكتاب والسنّة.

أمّا العقل فقد أشار إليه في هذا الفصل محيلا إلى التفصيل الوارد في كلامه في فصل سابق، حاصله التمسّك بحكم العقل وبناء العقلاء، حيث إنّهم إذا أرادوا أن يفوّضوا أمراً من الأُمور إلى شخص فلا محالة يختارون له من يكون عاقلا عالماً بكيفيّة العمل وفنونه، قادراً على إيجاده وتحصيله، أميناً يعتمد عليه ولا يُخشى من خيانته، والولاية وإدارة شؤون الأُمّة من أهمّ الأُمور وأعظلها، فلا محالة تشترط في الوالي بحكم العقل والفطرة هذه الشروط.

وإذا فرض أن المفوّضين لأمر الولاية إلى شخص خاصّ يعتقدون بمبدأ خاصّ وإيديولوجيّة خاصّة متضمّنة لقوانين مخصوصة في نظام الحياة، وأرادوا إدارة شؤونهم السياسيّة على أساس هذا المبدأ وهذه المقرّرات الخاصّة، فلا محالة ينتخبون لذلك من يعتقد بهذا المبدأ، ويكون عارفاً بمقرّراته، بل ينتخبون من يكون أعلم وأكثر اطّلاعاً ما لم يزاحم ذلك جهة أقوى(2).

ولا أدري هل مقصوده هو التمسّك بحكم العقل، أو التمسّك ببناء العقلاء، أو أنّه خلط بين الأمرين؟ فالعقل هو دليل مستقلّ في عرض الكتاب والسنة، وقد نصّ


(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1: 301 ـ 318.

(2) المصدر السابق: 275 ـ 277.

81

في أوّل كلامه على أنّ المرجع في إثبات الشرائط هو العقل والكتاب والسنّة، وهذا يعني أنّ مقصوده هو التمسّك بالعقل بدقيق معنى الكلمة، وأمّا بناء العقلاء فليس ينشأ دائماً من حكم العقل بحتاً، بل قد تتدخّل فيه عوامل أُخرى من عواطف أو عادات أو صُدف و أسباب أُخرى، ولهذا تكون حجّيّة الارتكازات والسير العقلائيّة في طول إثبات موافقة الشارع لها وإمضائه إيّاها ولو بدليل عدم وصول الردع، فليس هو دليلا مستقلاّ في عرض الكتاب والسنّة، بل التمسّك في الحقيقة يكون بتقرير المعصوم الذي هو قسم من أقسام السنّة في مقابل قول المعصوم وفعله، فطريقة الاستدلال ببناء العقلاء تختلف عن طريقة الاستدلال بحكم العقل، واستشهاده بفعل العقلاء ودأبهم وديدنهم يعني أنّ المقصود هو الاستدلال ببناء العقلاء، وفي أكبر الظن أنّه خلط بين الأمرين وتخيّل أنّ بناء العقلاء دليل على حكم العقل، ففي واقع الأمر أراد التمسّك بحكم العقل.

وعلى أ يّة حال فلا ينبغي الإشكال في ما ذكره من حكم العقل أو بناء العقلاء، على أنّ من يلي أمراً يجب أن يكون عارفاً به، فمن يلي أُمور المسلمين يجب أن يكون عارفاً بأحكام اللّه؛ لأنّ الهدف هو تطبيق أحكام اللّه والحكم بما أنزل اللّه ﴿ وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... هُمُ الظَّالِمُونَ... هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(1)، وإنّما السؤال الذي يتوجّه في المقام هو أنّه هل يدّعى وجوب كون المعرفة بالأحكام معرفة واقعيّة ـ أي علماً وجدانيّاً بالأحكام الواقعيّة ـ أو تكفي المعرفة الظاهريّة التعبّديّة؟


(1) سورة المائدة: الآية 44، 45، 47.

82

فإن قيل بالأوّل كان ذلك منحصراً بالمعصوم، ولكن مفروض كلامنا هو الحديث عن إدارة أُمور المسلمين في أيام غيبة المعصوم.

وإن قيل بالثاني توجّه سؤال آخر، وذلك لأنّ المقلّد المطّلع على فتاوى من يقلّده كالفقيه له معرفة ظاهرية تعبّدية بالأحكام لا يختلف عن الفقيه في أصل ثبوت هذه المعرفة، وإنما يختلف عنه في طريق تحصيل هذه المعرفة، فالفقيه حصل على هذه المعرفة عن طريق الأدلّة التفصيليّة، والمقلّد حصل عليهاعن طريق دليل إجمالي هو التقليد وحجيّة رأي من يقلّده، فالفقيه يعتمد مثلاعلى حجية خبر الواحد والأُصول العملية وغيرها من الأدلّة، والمقلّد يعتمدعلى حجيّة الفتوى.

فهنا يتوجه السؤال الجديد، وهو أنه هل يشترط أن تكون هذه المعرفة الظاهرية قائمة على أساس الأدلّة التفصيلية، أو يكفي جامع المعرفة الظاهرية، فيجوز إعطاء ولاية الأمر بيد من لا يكون فقيهاً بشرط أن يلتزم في خصوص ما يؤثّر فيه الحكم الفقهي بأخذ الرأي الفقهي من الفقيه، ولا يستبدّ برأي فقهي مخترع من قبل نفسه؟ والدليل العقلي أو العقلائي الذي أُشير إليه لا يعطينا إجابة علىهذا السؤال.

وأما الكتاب فقد استدلّ أيضاً على مقصوده من شرط الفقاهة في وليّ الأمر ببعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ﴿ أفمن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهدّي إلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾(1). وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوي


(1) سورة يونس: الآية 35.