128

وأما المفاهيم والتفسيرات فمن قبيل:

«مفهوم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الفقر حيث روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «ما جاع فقير إلاّ بما متّع به غنيّ»(1) ومثال آخر مفهومه عن دور التاجر ومبررات الربح التجاري في الحياة الاقتصادية فقد تحدّث إلى واليه على مصر مالك الأشتر عن التجار وذوي الصناعات في سياق واحد وأكّد على أنه لا قوام للحياة الاقتصادية إلاّ بالتجار وذوي الصناعات(2) فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. وقال في موضع آخر عنهم: «فإنهم موادّ المنافع... وجلابها من المباعد والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها»(3). وهذا يعني أن الإمام (عليه السلام) كان يجد في التاجر


(1) الموجود في نهج البلاغة، الحكمة رقم 320 في طبعة فيض: أن اللّه سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلاّ بما منع غني واللّه تعالى جدّه سائلهم عن ذلك. وفي طبعة ابن أبي الحديد الحكمة رقم 334 نفس العبارة إلاّ أنه ورد بدلا عن كلمة ( منع ) كلمة ( متّع به ) وعلى أيّ حال فالصدر شاهد على أنّ النظر إلى مفاد روايات الزكاة القائلة بأنّ اللّه فرض في مال الأغنياء ما يكفي الفقراء، ومؤيد لنسخة منع.

(2) قال الإمام (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود اللّه... ومنها التجار وأهل الصناعات....

وقال (عليه السلام) في العهد: ولا قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم....

(3) قال (عليه السلام) في العهد: ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه فإنّهم موادّ المنافع....

129

منتجاً كالصانع ويربط بين شرعية ربحه من الناحية الاقتصادية وما يقوم به من جهد في توفير البضاعة وجلبها والحفاظ عليها وهو مفهوم يختلف كل الاختلاف عن المفهوم الرأسمالي للتجارة»(1).

أقول: يأتي هنا أيضاً عين الإشكال الذي مضى في بحث المؤشّر الأول فيقال: إنّ هذه القيم والمفاهيم لا تعني أكثر من مقتضيات وحكم للأحكام وما يدرينا عدم وجود مانع عن حكم مشابه للأحكام الثابتة يعطى بيد الوليّ لكي يحكم به؟!

والجواب نفس الجواب الماضي وهو أنّ صلاحية وليّ الأمر بحدود غير معارضة للأحكام الثابتة إنما نأخذها من إطلاق دليل الولاية، ولكن لا إشكال في أنّ على الولي أن يقرّب المجتمع بقدر الإمكان من أهداف الإسلام وقيمه ومفاهيمه، فأيّ مقدار استنبط من ظواهر الأدلة من قيم ومفاهيم ينفع الوليّ في إنارة الطريق أمامه ولو لم يعلم بالدقّة الموانع فهو يحكم على أساس صلاحياته وفق تلك القيم والمفاهيم ما لم يصل المانع.

الثالث من المؤشرات العامّة: اتجاه العناصر المتحركة على يد النبي أو الوصي. قال أُستاذنا الشهيد (قدس سره):

«وهذا المؤشّر يعني أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لهم شخصيّتان: الأُولى بوصفهم مبلّغين للعناصر الثابتة عن اللّه تعالى، والأُخرى بوصفهم حكّاماً وقادة للمجتمع الإسلامي يضعون العناصر المتحرّكة التي يستوحونها من المؤشرات العامّة للإسلام والروح الاجتماعيّة والإنسانيّة للشريعة المقدّسة. وعلى هذا الأساس كان النبي (صلى الله عليه وآله)


(1) الإسلام يقود الحياة: 49 ـ 50، طبعة مؤتمر الشهيد الصدر (رحمه الله).

130

والأئمة (عليهم السلام) يمارسون وضع العناصر المتحركة في مختلف شؤون الحياة الاقتصادية وغيرها، وهذه العناصر بحكم صدورها عن صاحب الرسالة أو ورثته المعصومين تحمل بدون شكّ الروح العامّة للاقتصاد الإسلامي وتعبّر عن تطلّعاته في واقع الحياة، ومن هنا كانت ممارسات القائد المعصوم في هذا المجال ذات دلالة ثابتة، وعلى الحاكم الشرعي أن يستفيد منها مؤشراً إسلامياً بقدر ما لا يكون مشدوداً إلى طبيعة المرحلة التي رافقتها ويحدّد على أساس هذا المؤشّر العناصر المتحرّكة.

ومن أمثلة هذا المؤشر:

أوّلا: ما روي في أحاديث عديدة من أن النبي (صلى الله عليه وآله)منع في فترة معينة من إجارة الأرض، ففي رواية أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمّى. وفي رواية أُخرى أنه قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه. وفي رواية عن جابر بن عبد اللّه أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع... فليمنحها أخاه ولا يؤاجرها إياه(1).


(1) راجع بشأن هذه الروايات سنن البيهقي 6: 128 ـ 133، طبعة دار المعرفة بيروت، لبنان، وصحيح مسلم بشرح النووي 10: 196 ـ 208، طبعة دار الفكر، وصحيح البخاري بشرح الكرماني 10: 162 ـ 165، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان الطبعة الثانية، وبعض رواياتهم دلّت على حمل النهي على النهي عن الإيجار بما لا يضمن حصوله، من قبيل الإيجار بما ينبت على حواشي مسيل المياه بخلاف الإيجار بالذهب والفضة. راجع سنن البيهقي 6: 132 وفق الطبعة الماضية. وبعضها دلت على حمل النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها لا بالذهب والورق، راجع نفس المصدر. وأمّا النواهي الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فهي واضحة في مثل هذه المحامل، راجع وسائل الشيعة 13: 209 ـ 211، الباب 16 من أبواب كتاب المزارعة والمساقاة، وأما نقل نهي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عن إجارة الأرض مطلقاً ولو لبرهة من الزمن فلم نرَ له عيناً ولا أثراً في لسان روايات أهل البيت (عليهم السلام)وإنما هو مخصوص بروايات أهل التسنّن.

131

فإن عقد الإجارة وإن كان قد سمح به من وجهة القانون المدني للفقه الإسلامي إلاّ أن النبي (صلى الله عليه وآله) يبدو من هذه الروايات أنه استعمل صلاحيّاته بوصفه ولي الأمر في المنع عنها حفاظاً على التوازن الاجتماعي، وللحيلولة دون نشوء كسب مترف لا يقوم على أساس العمل في الوقت الذي يغرق فيه نصف المجتمع ـ المهاجرون ـ في ألوان العوز والفاقة.

ثانياً: ما جاء في النصوص من أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن منع فضل الماء والكلأ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بين أهل المدينة في مشارب النخل... أنه لا يمنع فضل ماء وكلأ(1).

وهذا النهي نهي تحريم مارسه الرسول الأعظم بوصفه وليّ الأمر نظراً إلى أنّ مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة


(1) حديث عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بين أهل المدينة في مشارب النخل: أنه لا يمنع نفع الشيء وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ. وسائل الشيعة 17: 333، الباب 7 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2.

132

الزراعيّة والحيوانيّة وإلى توفير الموادّ اللازمة للإنتاج توفيراً عامّاً وعدم احتكارها، فألزمت الدولة على هذا الأساس الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلئهم للآخرين.

ثالثاً: ما جاء في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر واليه على مصر من التأكيد على منع الاحتكار في كلّ الحالات منعاً باتّاً، إذ تحدّث الإمام إلى واليه عن التجار ودورهم في الحياة الاقتصاديّة وأوصاه بهم ثمّ عقّب ذلك قائلا: «واعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البايع والمبتاع»(1).

وهذا المنع الحاسم من الإمام للاحتكار يعني حرص الإسلامعلى شجب الأرباح التي تقوم على أثمان مصطنعة تخلقها ظروف الاحتكار الرأسماليّة، وأنّ الربح النظيف هو الربح الذي يحصلعن طريق القيمة التبادليّة الواقعيّة للبضاعة، وهي القيمة التييدخل في تكوينها منفعة البضاعة ودرجة قدرتها وفقاً للعوامل الطبيعيّة والموضوعيّة، مع استبعاد دور الندرة المصطنعة التييخلقها التجار والرأسماليّون المحتكرون عن طريق التحكّم في العرض والطلب.


(1) نهج البلاغة: 1008 ـ 1009، الكتاب 53، طبعة الفيض.

133

رابعاً: ما ثبت عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّه وضع الزكاة على أموال غير الأموال التي وضعت عليها الزكاة في الصيغة التشريعيّة الثابتة، فإنّ الصيغة التشريعيّة الثابتة وضعت الزكاة على تسعة أقسام من الأموال، غير أنّه ثبت عن الإمام أنّه وضع الزكاة في عهده على أموال أُخرى أيضاً كالخيل(1) مثلا، وهذا عنصر متحرّك يكشف عن أنّ الزكاة كنظرة إسلاميّة لا تختصّ بمال دون مال، وأنّ من حقّ وليّ الأمر أن يطبّق هذه النظريّة في أيّ مجال يراه ضرورياً»(2).

أقول: يأتي هنا نظير الإشكال السابق وجوابه، فإنّه لو أُريد التعدّي عن خصوص ما صدر عن المعصوم (عليه السلام) إلى موارد أُخرى وبقطع النظر عن إطلاق في دليل ولاية غير المعصوم بأن يجعل عمل المعصوم هادياً إلى حدود ولاية غير المعصوم أمكن الإيراد عليه بأنّ الأمر الولائي للمعصوم كشف عن ملاك في حدود ما أمر به، أمّا التعدّي عن مورده فغير صحيح؛ لأنّ ما فعله سلام اللّه عليه لا يكشف عن عدم مانع عن فعل مثله في مورد مناظر ولا عن كلّ الخصوصيّات الدخيلة في الحكمة التي عرفناها إجمالا.

ولكن الحلّ ما عرفته من أنّنا لا نقصد الاستفادة من هذه الحكم بقطع النظرعن الإطلاق في دليل الولاية، فالوليّ الفقيه يتمسّك بإطلاق ولايته في غير الإلزاميّات أو في غير الثوابت، ولكن عليه أن يقترب بقدر الإمكان إلى مصالح


(1) وسائل الشيعة 6: 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث الأول.

(2) الإسلام يقود الحياة: 50 ـ 52.

134

الأُمّة من ناحية وإلى الحِكَم المنظورة في شريعة الإسلام من ناحية أُخرى،وهذه المؤشّرات تهديه إلى حدّ كبير إلى تلك الحكم فعليه أن يأخذ بها.

الرابع من المؤشّرات العامّة: الأهداف التي حدّدت لوليّ الأمر. قال أُستاذنا الشهيد (قدس سره):

«وهذا المؤشّر يعني أنّ الشريعة وضعت في نصوصها العامة وعناصرها الثابتة أهدافاً لوليّ الأمر وكلّفته بتحقيقها أو السعيمن أجل الاقتراب نحوها بقدر الإمكان، وهذه الأهداف تشكّل أساساً لرسم السياسة الاقتصادية وصياغة العناصر المتحركة في الاقتصاد الإسلامي بالصورة التي تحقّق تلك الأهداف أو تجعل المسيرة الاجتماعية متجهة بأقصى قدر ممكن من السرعةنحو تحقيقها.

ومثال ذلك: أنّه جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): أنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا(1).

وكلمة «من عنده» تدلّ على أنّ المسؤولية في هذا المجال متجهة نحو وليّ الأمر بكل إمكاناته لا نحو قلم الزكاة خاصّة من أقلام بيت المال. فهناك إذن هدف ثابت يجب على وليّ الأمر تحقيقه أو السعي في هذا السبيل بما أُوتي من إمكانات وهو توفير حدّ أدنى يحقّق الغنى في مستوى المعيشة لكلّ أفراد المجتمع الاسلامي، وهذا مؤشّر يشكّل


(1) وسائل الشيعة 6: 184 ـ 185، الباب 28 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 3.

135

جزءاً من القاعدة الثابتة التي يقوم عليها البناء العُلْوي للعناصر المتحركة من الاقتصاد الإسلامي فيما إذا لم تف العناصر الثابتة بتحقيق الهدف المذكور»(1).

أقول: الهدف المنصوص لوليّ الأمر كما ورد في هذا النص من تكميله لاستغناء الفقير من عنده يصلح أن يكون هادياً لوليّ الأمر حتى لو لم يفرض إطلاق في دليل الولاية، فإن نفس تحديد هذا الهدف للوليّ تعيين لمورد من موارد الولاية، ولكن الهدف المستنبط كحكمة من النصّ من قبيل ما أشار إليه أُستاذنا (قدس سره)بلحاظ هذا النصّ، وهو توفير حدّ أدنى يحقق الغنى في مستوى المعيشة للكل ( لو قصد به التوفير بسائر سياسات اقتصادية غير التموين من عنده ) يكون مشمولا للنكتة التي ذكرناها في المؤشرات السابقة من أنّه ليس علّة توجب التعدّي الى كل سياسة تنتج نفس الهدف، بل نحتاج في الاستفادة من ذلك إلى إثبات الإطلاق في دليل الولاية أولا، ثم جعل هذه الحكمة هادية لمن ثبتت ولايته كي يقترب إلى تلك الحكمة بقدر الإمكان.

الخامس من المؤشرات العامّة: اتجاه التشريع وهذا هو المؤشّر الأوّل من المؤشّرات وفق ترتيب الحديث في كلام أُستاذنا الشهيد (قدس سره) في كتابه الإسلام يقود الحياة. قال (قدس سره):

«وهذا المؤشّر يعني أن تتواجد في الشريعة وضمن العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلامي أحكام منصوصة في الكتاب والسنّة تتجه كلّها نحو هدف مشترك على نحو يبدو اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف،


(1) الإسلام يقود الحياة: 53 ـ 54.

136

فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشّراً ثابتاً وقد يتطلّب الحفاظ عليه وضع عناصر متحرّكة لكي يضمن بقاء الهدف أو السير به إلى ذروته الممكنة»(1).

ثمّ ذكر (قدس سره) كمثال على هذا المؤشّر مجموعة من الأحكام استظهر منها اتجاه الشريعة الإسلامية إلى استئصال الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل، وذلك من قبيل:

1 ـ لم يسمح الإسلام بالملكية الخاصّة لرقبة المال في مصادر الثروة الطبيعية.

2 ـ ألغى الإسلام الحمى، أي اكتساب الحق في مصدر طبيعي على أساس الحيازة ومجرد السيطرة وبدون إحياء.

3 ـ إذا تلاشى العمل المنفق في مصدر طبيعي وعاد إلى حالته الأُولى كان من حق أيّ فرد آخر غير العامل الأوّل أن يستثمر المصدر من جديد.

4 ـ العمل المنفق في إحياء مصدر طبيعي كالأرض أو استثماره لا ينقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وإنما يؤكّد للعامل حقّ الأولوية في ما أحياه على أساس العمل.

5 ـ الإحياء غيرالمباشر بالطريقة الرأسمالية ـ أي بدفع الأُجور ووسائل العمل إلى الأُجراء ـ لا يكسب حقاً ولا يبرّر للرأسمالي أن يدّعي لنفسه الحق في نتائج الإحياء.

6 ـ الإنتاج الرأسمالي في الصناعات الاستخراجية لا يكسب الرأسمالي حق ملكية السلعة المنتجة، فمن دفع الأُجور مثلا إلى العمّال لاستخراج النفط وزوّدهم بالوسائل والأدوات اللازمة لذلك لا يملك النفط المستخرج عن هذا الطريق.


(1) الإسلام يقود الحياة: 45.

137

7 ـ ملكية وسائل الإنتاج المستخدمة في الصناعات التي تحوّل المتاع من صورة إلى صورة كما في غزل الصوف لا تمنحه حقّاً في السلعة المنتجة، وإنّما له أُجور الانتفاع بتلك الأدوات على الممارسين للعملية.

8 ـ رأس المال النقدي إذا كان مضموناً في عملية الاستثمار فليس من حقّه أن يساهم في الربح؛ لأنّ الربا حرام.

9 ـ لا يجوز للمستأجر أن يربح في إيجار العين المستأجرة بدون إحداثعمل فيها.

10 ـ لا يجوز إشغال ذمّة الغير بمال عن طريق القرض بدون إقباضه مالا حقيقياً؛ لأنّ القبض شرط في عقد القرض وبهذا تبطل كل الأوراق المالية التي تفتّق عنها ذهن الرأسمالي الأُوروبي ووجد فيها فرصته الذهبية لتنمية المال بدون أيّ عمل تنمية رأسمالية بحتة، حيث لاحظ أنّ بإمكانه أن يصدر تعهدات بقيمة عشرة أضعاف ما لديه من أموال حقيقية ويغطّي بها قروضاً للآخرين مادام يعرف أنه لن يطالب بالتزاماته في وقت واحد، وهكذا تتضاعف ثروة الرأسمالي بدون عمل على أساس إلغاء دور القبض في عقد القرض(1).

أقول: نحن نغضّ النظر هنا عن مناقشة كلّ بند من هذه البنود العشرة من الأحكام؛ لأنه يتطلّب بحثاً واسعاً ليس هنا مجاله، ونشير إلى أنّ هكذا نمط من اكتشاف النظرية الأساس في الاقتصاد الإسلامي من البناء العُلْوي المتمثّل في عدّة أحكام هي الطريقة التي اتبعها أُستاذنا الشهيد (قدس سره) في كتاب اقتصادنا،


(1) نقلنا هذه المسائل العشر بتصرّف من الإسلام يقود الحياة: 45 ـ 47.

138

وقد أورد فيه بحثاً مفصّلا حول كثير من الأُسس التي جعلها رضوان اللّه عليه مذهباً اقتصادياً يمكن إضافته إلى الإسلام.

ولو كان المقصود بذلك اكتشاف تلك الأُسس على مستوى الإفتاء بها كانت أمام ذلك صعوبتان لابدّ من تذليلهما بقدر الإمكان:

الأُولى: أنّنا لا نبني على حجية ظهور متصيّد من الجمع بين أحكام عديدة أو نصوص عديدة منفصل بعضها عن بعض على بحث مفصّل في ذلك بحثناه سابقاً في بعض أبحاثنا.

وتذليل ذلك يكون ـ مع فرض الإمكان ـ بالإكثار من تجميع الأحكام أو النصوص المشتركة الاتجاه ظاهراً إلى حدّ يورث القطع بذاك الاتجاه وكونه هو المقصود للشريعة، فيكون القطع حجة لا محالة.

والثانية: أنّ عديداً من الأحكام التي جمعها أُستاذنا (قدس سره) تحت عنوان البنى العُلْوية لاكتشاف النظرية الأساس هي فتاوى لعلماء متفرقين آخرين لا يفتي بها هو (قدس سره)، ومن المعلوم أنّ تلك الفتاوى لا حجية لها لمكتشف النظرية الذي لا يؤمن بتلك الفتاوى.

وتذليل ذلك ـ لو أمكن ـ يكون بالإكثار من تجميع الأحكام من مصادرها الأصلية من الكتاب والسنّة إلى حدّ يكتفي به من تجميع الفتاوى.

وعلى أيّ حال فحتى لو ذلّلنا هاتين الصعوبتين لم يمكن التعدّي عن طريق المفتي إلى أحكام أُخرى مشابهة لتلك الأحكام في الاتجاه؛ لأن الاتجاه لا يعدو أن يكون ملحوظاً فيها بأكثر من ملحوظية الحكم والتي لا اطراد فيما تقتضيها من الأحكام لعدم انضباط كلّ القيود والشرائط والموانع عندنا الدخيلة في الحكم،

139

فلابدّ من إعطاء ذاك الاتجاه بيد وليّ الأمر كي يستفيد من صلاحية ولايته المطلقة ويحكم لدى المصلحة بأحكام ولائية منسجمة مع ذاك الاتجاه.

وإذا كان الأمر كذلك فالصعوبتان اللتان أشرنا إليهما تهونان في المقام مادام الوليّ يتكئ في علاج الأمر على إطلاق ولايته.

ثم إنّنا ـ حتى الآن ـ حملنا كلام أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على إرادة أنه متى ما اكتشفنا مؤشّراً في العناصر الثابتة في الشريعة إلى العنصر المتحرّك فلابدّ من تقيد الوليّ في حكمه بالخطّ الذي يؤشّر إليه ذاك المؤشّر ويتحرّك في حكمه نحو ذاك الهدف الذي اكتشفناه، أمّا إذا لم نكتشف في مورد ما شيئاً من هذا القبيل فوليّ الأمر هو الذي يضع اتجاه العناصر المتحرّكة وفق ما يراه من المصلحة مقيّداً بعدم الخروج عن إطار العناصر الثابتة.

أما لو كان مقصوده (قدس سره) أنّ وليّ الأمر يجب أن يلتزم في كلّ مورد يريد ملء منطقة الفراغ بمؤشّرات ثابتة تحدّد له اتجاه عناصر متحرّكة، وتكشف له عن هدف أرادت الشريعة تحقيقه، ففي كلّ مورد لم يكتشف مؤشّراً من هذا القبيل يعجز عن ملء منطقة الفراغ بالولاية، فيرد عليه: أنّه لا دليل على هذا التقييد، وإنّما الوليّ يجب عليه أن يتقيّد في ملء منطقة الفراغ بعدم الخروج عن إطار الإلزامات الأولّية، بمعنى أنّ تغيير الحكم الأوّلي بالحكم الولائي إنما يجوز فيما إذا لم يكن الحكم الأوّلي إلزامياً، وإلاّ لم يجز تبديله من غير أن يتبدّل موضوعه ولو على أساس التزاحم، فإنّ تبديله من دون ذلك معناه الخروج عن النظام الإلزامي الذي وضعه الإسلام، في حين أنّ دليل الولاية الموضوعة في شريعة سوف لن يشمل إطلاقه الخروج عن نظام تلك الشريعة الإلزامي، وكذلك لو فرض الحكم الأوّلي

140

ترخيصيّاً، لكن ثبت بدليل خاصّ أنّ الشريعة لا ترضى بتبدّل ذاك الترخيص إلى الإلزام لمجرّد مصلحة ثانويّة ما لم تصل إلى مستوى وجود مزاحم راجح على مصلحة الترخيص، فذلك يخرج بالتخصيص عن إطلاق دليل الولاية. وهذا القيد لا يعني أكثر من عدم جواز الخروج عن دائرة العناصر الثابتة في الفقه، وهذا لا يختصّ بالقسم الثاني وهو ملء منطقة الفراغ، بل يشمل حتّى القسم الأوّل وهو تحديد الموقف وفق ما يشخّصه من موضوع خارجي، أمّا التقيّد بأكثر من ذلك وهو افتراض عناصر متحرّكة أُشير إليها بمؤشّرات في الفقه لابدّ من التقيّد بها فهذا بحاجة إلى دليل مقيّد؛ لأنّ دليل الولاية مطلق من هذه الناحية فمقتضى إطلاق قوله تعالى: ﴿ النَّبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفُسِهِم ﴾(1) هو الولاية المطلقة للنبي (صلى الله عليه وآله)في دائرة المباحات، ثم مقتضى إطلاق قول النبي (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه»(2) أن يكون ما للنّبيّ من الولاية للإمام، ثمّ مقتضى إطلاق قول الإمام (عليه السلام): «فإنّهم حجّتي عليكم» أن يكون ما للإمام من الولاية للفقيه، ولنفترض أنّ هذا الإطلاق مقيّد بقيدين:

أحدهما: أن يلتزم الوليّ بما يرى فيه مصلحة المولّى عليه، وهذا هو المفهوم من جميع أدلّة الولاية غير ولاية المعصوم وغير المالكيّة بالنسبة للمماليك، فإنّ المنصرف منها بمناسبات الحكم والموضوع لحاظ مصالح المولّى عليه.

وثانيهما: التقييد بالقسم الأوّل ـ وهو ملء منطقة الفراغ ـ بقرينة الاستظهار من كلمة الرواة حيث فرض ظهورها في إرادة الرواة بما هم رواة.


(1) سورة الأحزاب: الآية 6.

(2) راجع البحار 21: 387 و 37: 111، 112، 115، 132، 138، 139، 141، 142 وغيرها.

141

أمّا تقييد الولاية بقيد آخر، وهو انتظار كشف مؤشّرات في الشريعة تؤشّر إلى عناصر متحرّكة لولاها لما أمكن إعمال الولاية بملء منطقة الفراغ بمجرّد ملاحظة عدم الخروج من دائرة الإلزاميّات فهذا بحاجة إلى دليل مفقود، وما أفاده أُستاذنا الشهيد (قدس سره) من المؤشّرات لو تمّت لا تصلح دليلا على ذلك، بل لابدّ من أن تثبت في المرتبة السابقة ضرورة التقيّد بمؤشّرات من هذا القبيل، كي يكون هذا تقييداً لإطلاق دليل الولاية، أو أن يدّعى عدم تماميّة الإطلاق في ذاته، فعندئذ نضطرّ إلى كشف تلك المؤشّرات لكي نتقيّد بها، وقد أشرنا إلى تماميّة الإطلاق، ولم نعثر على مقيّد له.

هذا تمام كلامنا في المسألة الأُولى وهي أصل مسألة ولاية الفقيه.

 

من نتائج البحث:

ومن النتائج التي توصّلنا إليها في هذا البحث ما يلي:

1 ـ أنّ مسألة دخول السلطة في الحكم في حاقّ الشريعة الإسلاميّة وتشابكها مع أحكام الفقه الإسلاميّ أو ضرورة إقامة الدولة لا تنتهي إلى نتيجة ولاية الفقيه إلاّ بضمّ ذلك إلى دعوى القدر المتيقّن ممّن له حقّ التولّي في الأُمور الحسبيّة، أمّا الدليل اللفظي على شرط الفقاهة فغير موجود عدا ما تفترض دلالته بنفسه على مبدأ ولاية الفقيه.

2 ـ أنّ حديث: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم» دلالته على ولاية الفقيه تامّة في كلا القسمين، أعني: ملء منطقة الفراغ واتخاذ الموقف على أساس تشخيص الموضوع، إلاّ في موارد نادرة. ولو لم نحتمل الفرق فقهيّاً بلحاظ تلك الموارد النادرة تمّت الدلالة ولو بالالتزام في تلك الموارد أيضاً.

142

3 ـ سيتّضح في المسألة الثانية أنّه لا يوجد دليل مطلق على الانتخاب يشمل انتخاب غير الفقيه كي يعارض به التوقيع الشريف الدال على ولاية الفقيه، أمّا لو فرض وجود دليل من هذا القبيل فمقتضى الجمع بينه وبين التوقيع وجوب كون المنتخب الولي منحصراً في دائرة الفقهاء.

143

 

المسألة الثانية:

 

 

مدى دخل الانتخاب

في الولاية

 

 

· دليل الانتخاب مع إطلاق المنتخب.

· دليل الانتخاب مع إجمال المنتخب.

· الترجيح بالانتخاب بعد فرض صلاحيّة الولاية.

· التمسّك بما ورد في ( الرضا من آل محمد ).

· انتخاب غير الفقيه.

· الفقيه غير المنتخب.

 

 

 

145

 

 

 

 

 

المسألة الثانية: في مدى دخل الانتخاب في الولاية أو عدم دخله:

تارة يفترض وجود دليل على صحّة انتخاب الأُمّة لمن يلي أمرها وفقاً لفقه الإسلام مع فرض الإطلاق في ذاك الدليل لما إذا كان المنتخب غير فقيه، وغاية الأمر هي أن المنتخب لو كان غير فقيه يجب عليه الرجوع إلى فقيه بقدر ما يتّصل الأمر بالفقه، فلو ثبت دليل على شرط الفقاهة كان ذلك تخصيصاً لدليل الانتخاب.

وأُخرى يفترض أنّ أمر الولاية وإن كان منحصراً في الفقهاء ـ إمّا بدليل خاص أو من باب القدر المتيقّن ـ ولكن دليل الانتخاب دلّ على أنّ شخص الوليّ يتحدّد بالانتخاب، وهو وإن لم يكن له إطلاق لانتخاب غير الفقيه ولكن أثره خروج كلّ فقيه آخر غير من انتخب من دائرة الولاية.

 

دليل الانتخاب مع إطلاق المنتخب:

 

أمّا الفرض الأوّل ـ وهو افتراض دليل مطلق على الانتخاب يشمل حتى انتخاب غير الفقيه ـ فهذا هو الظاهر من عبائر أُستاذنا الشهيد (قدس سره) حيث كتب يقول: «فخطّ الشهادة يتحمّل مسؤوليته المرجع على أساس أنّ المرجعية امتداد للنبوة والإمامة على هذا الخط...» إلى أن يشرح (قدس سره) اندماج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة

146

في شخص المرجع ما دامت الأُمّة محكومة للطاغوت ومقصيّة عن حقّها في الخلافة العامّة ثم يقول ما نصّه:

«وأما إذا حرّرت الأُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الأُمّة بتطبيق أحكام اللّه وعلى أساس الركائز المتقدّمة للاستخلاف الربّاني، وتمارس الأُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين:

﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾(1).

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ ﴾(2).

فإنّ النصّ الأوّل يعطي للأُمّة صلاحية ممارسة أُمورها عن طريق الشورى ما لم يردْ نصّ خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية وأنّ كلّ مؤمن وليّ الآخرين، ويريد بالولاية تولّى أُموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية.

وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.

وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطّين بين المرجع والأُمّة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأُمّة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها، ويشرف على سلامة المسيرة، ويحدّد لها معالم


(1) سورة الشورى: الآية 38.

(2) سورة التوبة: الآية 71.

147

الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأُخرى أن يحصر الخطّين معاً في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقاً أي معصوماً»(1).

أقول: الذي يبدو من هذا النصّ أنّه (قدس سره) يؤمن بأنّ قوله تعالى: ﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾ دليل على الانتخاب.

وقد يورد على هذا الدليل بدعوى الإجمال في الآية، حيث إنها لو كانت بصدد تشريع الانتخاب فهي لم تبيّن ما هو المقياس لدى الاختلاف، هل المقياس كمّي أو كيفي؟ أي لو فرض أنّ أكثرية السواد العامّ انتخبت شخصاً، ولكن وجوه القوم المحنّكون كان أكثرهم ضمن الأقليّة التي انتخبت شخصاً آخر فأ يّهما هو المتعيّن للولاية في المقام، هل الأوّل للترجيح الكمّي الموجود في ناخبيه، أو الثاني للترجيح الكيفي الموجود في ناخبيه؟ ولو أن الإسلام كان يتّجه إلى الانتخاب لكان عليه أن يوضّح المقياس في نفوذ الانتخاب، هل هو الترجيح الكمّيأو الكيفي؟

فكأنّ أُستاذنا الشهيد (قدس سره) كان بصدد الجواب على هذا الاعتراض، فأراد رفع الإجمال بضمّ آية أُخرى إلى آية الشورى وهي قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ ﴾فحمل (رحمه الله) الولاية في هذه الآية على تولّى الأُمور بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها، وعندئذ فالنصّ ظاهر في سريان الولاية بالمعنى المطلوب في المقام بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية، وهذا يعني عدم تأثير للترجيح الكيفي لبعض على بعض في الحساب، فالمرجّح كمّي بحت.


(1) الإسلام يقود الحياة: 160 ـ 161.

148

ولعلّه (رحمه الله) إنّما لم يستدلّ مستقلا على الانتخاب بقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ﴾ بأن يثبت بذلك الولاية الكاملة للأُمّة ـ وهذا لا يكون إلاّ بتأثير الكلّ في الانتخاب ـ بنكتة أنّ الإطلاق الشمولي في المحمول غير جار، فلا يمكن إثبات الولاية الكاملة بالإطلاق في هذه الآية، فلعلّها ولاية بقدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا، فرأى (رحمه الله) أنّ الأنسب هو الاستدلال بمجموع الآيتين بأن يقال: إنّ تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ولاية بعضهم لبعض يناسب افتراض كبرى واسعة فرّع عليها هذا الفرع، وتلك الكبرى الواسعة التي يسهل تصوّرها في المقام هي افتراض أنّ كلّ ولاية تثبت للمؤمنين فهي للكلّ، أي أنّ الكلّ شركاء فيها، فإذا ضممنا ذلك إلى ولاية الشورى المستفادة من قوله تعالى: ﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾ ثبت أنّ هذه الولاية للكلّ، وإذن فالعبرة تكون بالأكثرية الكميّة لا محالة.

أقول: إنّ الاستشهاد بقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ﴾ على المعنى الذي عرفت غير صحيح، وذلك لأنّ كلمة الولاية وردت في اللغة بمعنيين: بمعنى الأولويّة في التصرّف ونفوذ الأمر، وبمعنى النصرة والمؤازرة، وربط هذه الآية بما نحن فيه يتوقّف على حمل الولاية على المعنى الأوّل؛ لأنّ مجرّد النصرة والمؤازرة أجنبية عن المقام، وتفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يناسب المعنى الأوّل كذلك يناسب المعنى الثاني أيضاً، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو تسديد عن الخطأ نوع تآزر ونصرة، وكأنّ التعبير بالأمر والنهي هو الذي يراه أُستاذنا قرينة على إرادة المعنى الأوّل للولاية؛ لأنّ الأمر والنهي يتفرّعان على المولوية بذلك المعنى، ولكنّ الواقع أنّ

149

هذا ليس قرينة على إرادة المعنى الأوّل، فإنّ الأمر والنهي لا يتوقّفان على فرض الولاية ونفوذ الكلمة بمعنى وجوب طاعته، بل يكفي ـ مناسبةً للاستعلاء والتأمّر ـ أنّ الطرف المقابل إنسان منحرف قد نكب عن الطريق الصحيح، فيستعلي عليه المؤمن ويأمره بالمعروف ويزجره عن المنكر.

إلاّ أنّ الظاهر أنّ مشكلة إجمال آية الشورى وعدم وضوح كون المقياس في ولاية الشورى هو الترجيح الكمّي أو الكيفي في نفسها محلولة بلا حاجة إلى مراجعة آية الولاية، وتأكيدنا على هذا الإشكال في كتاب أساس الحكومة الإسلامية في غير محلّه، وذلك لأنّ المفهوم عرفاً من ولاية الشورى لو تمّت إنما هي ولاية الأكثرية، فإنها هي التي تصلح مقياساً منضبطاً عند العرف، أما الترجيح الكيفي فهو لا ينضبط عادة، فكلّ جهة أو فئة من النّاس قد تدعي الترجيح الكيفي لنفسها، فلا معنى لافتراض ترجيح رأي الأقلية بحجة الترجيح الكيفي، فإنّ في الأكثرية من ينكر الترجيح الكيفي في جانب الأقلية أو يدّعيه لنفسه، فالضابط المعقول لحسم النزاع إنما هو الترجيح الكمّي لا الكيفي.

إلاّ أنّ الشأن في أصل دلالة آية الشورى على ولاية الشورى، وتوضيحذلك:

أن الشورى: تارة يُقصد بها تنفيذ رأي الأكثرية، وهذا ما قد نعبّر عنه بولاية الشورى، وأُخرى يُقصد بها مجرّد الاستضاءة بالأفكار والاستنارة بها من دون افتراض تضمّن الحجية ووجوب طاعة رأي الأكثرية، وقد يقال: أنّ قوله تعالى: ﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾ ظاهر في المعنى الأوّل بقرينة أنّ الضمير ظاهر في الرجوع إلى كل المؤمنين، ولا يتصوّر معنىً للاستنارة في أمر ما بأفكار الكلّ،

150

فكأنّ المقصود ـ واللّه العالم ـ هو انتخاب الوليّ الذي هو أمر يمسّ الكلّ والذي لا يكون إلاّ بمعنى تحكيم رأي الأكثريّة.

إلاّ أنّ هذا الاستظهار لو تمّ في نفسه يقابله استظهار آخر، وهو أنّ الآية الشريفة بصدد بيان صفات من ادّخر لهم متاع الحياة الآخرة، قال اللّه تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِنْ شَيْء فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾(1)، وهي ظاهرة في صفات تقبل الفعليّة في زمن صدور الآية، وكلّها فعليّة وقتئذ إلاّ العمل بالشورى لو فسّر بمعنى الانتخاب وتحكيم رأي الأكثريّة، فهذا لا يمكن أن يكون فعليّاً وقتئذ؛ لأنّ من ضروريّات الإسلام أنّه لا معنى للانتخاب وتحكيم رأي الأكثريّة في فرض وجود الوليّ المنصوب من قبل اللّه تعالى، قال اللّه عزّ وجل: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُم الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾(2)، وقال عزّ من قائل: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾(3)، فقد تكون هذه قرينة على حمل الآية على إرادة الاستضاءة بأفكار الآخرين بالشكل المعقول من دون إرادة الاستشارة مع الكلّ؛ إذ هذا غير معقول في الاستضاءة بالأفكار، فيصبح وزان الآية وزان آية أُخرى صريحة في هذا المعنى، وهي قوله تعالى:


(1) سورة الشورى: الآية 36 ـ 39.

(2) سورة الأحزاب: الآية 36.

(3) سورة الأحزاب: الآية 6.

151

﴿ فَبِمَا رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾(1) فهذه الآية واضحة في عدم إرادة ولاية الشورى؛ لأنّها نسبت العزم إلى شخص الرسول (صلى الله عليه وآله) وقال: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾ فالمقصود بها مجرّد الاستشارة والاستضاءة بالأفكار ولو بهدف تعويد الأُمّة على ذلك أو بهدف إشراكهم في المسؤوليّة وتحسيسهم بتحمّل العبء(2).

هذا، وهناك وجهان آخران ـ غير دليل الشورى ـ يمكن فرض إطلاقهما لانتخاب غير الفقيه، وهو ما سيأتي من الوجه الثالث والرابع من الوجوه التي سننقلها عن كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» وستأتي مناقشتهما أيضاً.


(1) سورة آل عمران: الآية 159.

(2) إن قلت: إنّ قوله: ﴿ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ يمكن حمله على ولاية الشورى مع افتراض قابليّة هذا الوصف للفعليّة وقتئذ ولو بلحاظ قضايا جزئيّة، كجماعة اشتركوا في سفر أو مال أو في تجارة وما إلى ذلك، فيكون ﴿ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ ولو استحباباً، وخصوص فرد من أفراد ولاية الشورى ـ وهو تعيين ولي الأمر بالشورى ـ تأجّل إلى زمان الغيبة، وهذا لا يضرّ بظهور الآية في أصل قابلية هذا الوصف للفعليّة وقتئذ، وهذا الفرد بالذات غير قابل للحمل على الاستحباب، فإنّ المنتخب للإمرة إمّا أن يكون وليّاً واجب الطاعة أو لا قيمة لأمره، ولا يكون في سلطانه ـ لدى العمد والالتفات ـ إلاّ طاغوتاً، أمّا احتمال الاستحباب في ذلك فغير وارد فقهيّاً.

قلت: لا إشكال فقهيّاً في عدم ولاية الشورى في مثل موارد الاشتراك في أمر، غاية الأمر أنّهم إن أجمعوا جميعاً على رأي ولو على رأي الأخذ بما تصوّبه الأكثريّة سلّمت شركتهم، وإلاّ فسخوها لا محالة، والمصداق المحتمل لولاية الشورى إنّما هي القضايا الراجعة إلى السلطة والحكم وسن القوانين وما إلى ذلك.

152

دليل الانتخاب مع إجمال المنتخب:

 

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو افتراض دليل على الانتخاب ولو لم يكن له إطلاق من ناحية شروط المنتخب، فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو انتخاب الفقيه ـ فهو عبارة عن أكثر الوجوه التي جاء ذكرها في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»(1) فإنّها لو تمّت لا ينعقد لها إطلاق بالنسبة لشروط المنتخب، وأقصد بأكثر الوجوه ما عدا ما سيأتي من الوجه الثالث والرابع والخامس، وعلى أية حال فخلاصة تلك الوجوه الواردة في ذاك الكتاب ما يلي:

الوجه الأوّل: حكم العقل، فإنه يحكم من ناحية بوجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامّة الاجتماعية وحرمة الهرج والفتنة وضرورة دفع ذلك، وكلّ هذا لا يتمّ إلاّ عن طريق إقامة دولة صالحة، و ـ من ناحية أُخرى ـ بأنّ إقامة الدولة فيما لو لم يكن نصب معيّن من قبل اللّه سبحانه لو كانت بقهر قاهر على الأُمة لكان ذلك ظلماً قبيحاً، فينحصر الأمر في أن تكون بالانتخاب.

وهذا الوجه غريب، فإنه أوّلا لو فرض حكم العقل بقبح إقامة الدولة عن طريق القهر والغلبة فهذا متحقّق حتى في الانتخاب بالنسبة لمن يخالف انتخاب من انتخبته الأكثريّة، ولا يقبل بمبدأ حكم الأكثريّة عليه، فهذا لا يكون خضوعه للدولة المنتخبة للأكثريّة إلاّ بالقهر والغلبة، وكذا الحال بالنسبة لغير الواجدين لشرائط الاشتراك في الانتخاب في حينه، فإنّ كثيراً منهم سيأتي يوم تتكامل فيه شرائط الاشتراك في الانتخاب، لكنه يبقى مقهوراً تحت رأي أكثرية الواجدين لشرائط الانتخاب الماضي إلى أن يحين زمان انتخاب جديد.


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 493 ـ 529.