56

التصديقيّ للجزاء في هذا الفرض غير معلّق على الشرط؛ لأنّه لم يقصد أصلا.

واُخرى: يكون مصبّ القصد ذات الطلب، وفي هذا الفرض تتمّ دلالة القضيّة الشرطيّة على تعليق(1) المدلول التصديقيّ للجزاء على الشرط بالتبع، بحكم أصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة والدلالة التصوّريّة.

 

هل الأداة تدلّ على تقييد المادّة أو الهيئة؟

الجهة الثالثة: في أنّه بعد ما ثبت أنّ أداة الشرط تدلّ على الربط كما عرفت في الجهة الاُولى، وما تدلّ على ربطه بالشرط مباشرةً هو المدلول التصوّريّ كما عرفت في الجهة الثانية، هل هي تدلّ على ربط المدلول التصوّريّ للمحمول في الجزاء الذيعبّر عنه المحقّق النائينيّ(قدس سره) بالمادّة المنتسبة، أو على ربط المدلول التصوّريّ للنسبة بين الموضوع والمحمول فيه كما عبّرنا بذلك في خلال البحث عن الجهة الثانية؟

 


لكن يبقى سؤال، وهو: أنّه لماذا اختلفت الشرطيّة التي جزاؤها إنشائيّ عن الشرطيّة التي جزاؤها حكائيّ في كون مصبّ الدلالة التصديقيّة الربط الشرطيّ أو الجزاء ولِم لم يتساويا في ذلك؟ حتّى لو كان لازمه أن لا يتكوّن للقضايا الشرطيّة التي جزاؤها إنشائيّ ظهور في الإنشاء.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ الظاهر عرفاً من القضيّة الشرطيّة هو كون مصبّ القصد عبارة عن النسبة الثابتة في الجزاء على تقدير الشرط، لا النسبة بين الشرط والجزاء، بدليل ما نراه من أنّ القضيّة الشرطيّة تتبع ـ في كونها خبريّة أو إنشائيّة ـ جزاءها، وليست دائماً خبريّة، فحينما يكون الجزاء إنشائيّاً لا تحتمل الجملة الشرطيّة الصدق والكذب.


(1) وهنا أيضاً يكون التعليق بمعنى التحصيص والتقويم.

57

الحقّ هو الثاني وهو المشهور. وذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى الأوّل، فلا يرى فرقاً من هذه الجهة ـ أعني: جهة رجوع القيد إلى ذات الواجب ـ بين شرائط الواجب وشرائط الوجوب في عالم الإثبات، وإن كان بينهما فرق في عالم الثبوت. فالوضوء مثلا في عالم الثبوت قيد للصلاة والوقت قيد لوجوبها، لكن في عالم الإثبات يكون كلاهما قيداً للصلاة.

نعم، الفرق بينهما في عالم الإثبات هو: أنّ قيد الواجب كالوضوء قيد له في مرحلة سابقة على الوجوب، فالوجوب طارئ على الصلاة المقيّدة بذلك القيد، فلا محالة يجب تحصيل القيد، وهذا بخلاف قيد الوجوب كقوله: (إذا زالت الشمس فصلّ) وقوله: (إن استطعت فحجّ)، فزوال الشمس أو الاستطاعة في عالم الإثبات قيد للصلاة أو الحجّ، لكنّه ليس قيداً لذلك في المرحلة السابقة على الوجوب، بأن يفرض مثلا أنّه قيّد أوّلا الحجّ بكونه عن استطاعة ثُمّ طرأ عليه الوجوب، فوجب على الناس أن يحجّوا عن استطاعة حتّى يجب تحصيل الاستطاعة، بل طرأ هذا القيد على المادّة في عرض طروّ الوجوب عليها، فأفاد تضييق دائرة الوجوب ولم يجب تحصيله.

والوجه في رجوع قيد الوجوب إلى الواجب لا إلى معنى الهيئة وهو النسبة: أنّ معناها معنى حرفيّ لا يقبل الإطلاق والتقييد. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

وظاهر تقرير بحث الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) أيضاً هو رجوع القيد إلى المادّة. ومن هنا يُعترض عليه بأنّ هذا يعني إرجاع قيود الوجوب إلى قيود الواجب فيجب تحصيل الاستطاعة مثلا للحجّ.

ونقل الشيخ النائينيّ(رحمه الله) عن الميرزا الشيرازيّ أنّ مقصود الشيخ الأنصاريّ لم



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 415 و130 ـ 132، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 479 و179 ـ 183 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

58

يكن إرجاع الشرط إلى المادّة أو إلى الواجب بمعناه البسيط الساذج المفهوم،والذي يعني عدم انقسام الشروط إلى شروط الوجوب وشروط الواجب، بل تبقى شروط الوجوب في لبّ الواقع شروطاً للوجوب وإن لم يمكن بحسب عالم الإثبات والإنشاء إرجاع القيد إلى النسبة. ونكتة الفرق بحسب ما ذكرناه عن الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ما عرفت من أنّ القيد طرأ على المادّة في عرض طروّ الوجوب وعروضه، فلم يدخل تحت دائرة الوجوب حتّى يجب تحصيله.

أقول: إنّ هذا الكلام يشتمل في الحقيقة على مطلبين:

أحدهما: عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة.

والثاني: إمكان رجوع قيود الوجوب إلى المادّة.

أمّا المطلب الأوّل: فالوجه في عدم إمكان تقييد مفاد الهيئة أمران:

أحدهما: أنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ حقيقيّ فلا يعقل فيه الإطلاق والتقييد.

الثاني: أنّ المعنى الحرفيّ ملحوظ آليّاً لا استقلاليّاً، والإطلاق والتقييد يحتاج إلى لحاظ الشيء استقلالا.

وقد ردّ ذلك المحقّق الخراسانيّ(1) والمحقّق العراقيّ(2) والمحقّق الإصفهانيّ(3)ـ قدّست أسرارهم ـ والسيّد الاُستاذ(4) ـ مدّظلّه ـ كلٌّ ببيان.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 153 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 321 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 313 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 2، التعليق رقم: 21، ص 60 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(4) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 320 ـ 321 بحسب الطبعة التي نشرها دار الهادي للمطبوعات بقم.

59

والعجب من السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حيث تصدّى إلى دفع هذه الشبهة من غير تعرّض لعدم موضوع لهذه الشبهة من رأسها، على ما هو مقتضى مبانيه مدّظلّه، حيث إنّه يقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على تعليق المدلول التصديقيّ لا المدلول التصوّريّ، وإنّ المدلول التصديقيّ في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) عبارة عن الحكم بوجوب الإكرام، وهو أمر نفسانيّ وليس معنى حرفيّاً، وعندئذ ـ كما ترى ـ لا مجال لهذا البحث إشكالا وجواباً.

ونقول من باب الحمل على الصحّة: إنّه لعلّه لم يتعرّض لعدم الموضوع لهذه الشبهة على مبانيه؛ لوضوح ذلك(1) وإنّما أشغل نفسه بردّ الإشكال على تقدير تسليم مباني المشهور.

وعلى أيّة حال فنحن قد تعرّضنا لإشكال عدم إمكان رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وأجبنا عليه في بحث الواجب المطلق والمشروط، وقد اخترنا أنّ معنى الهيئة وهو معنى حرفيّ قابل للإطلاق والتقييد.

وأمّا المطلب الثاني: فالتحقيق عدم إمكان إرجاع قيد الوجوب إلى المادّة. وما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) من إرجاعه إليها ـ بالتقريب الذي عرفت ـ ليس في الغرابة بأدنى ممّا نُسب إلى الشيخ(رحمه الله) من رجوع قيد الوجوب إلى قيد الواجب بالمعنى الساذج.



(1) قد تقول: إنّ الأمر النفسانيّ الذي كشف عنه بالدلالة التصديقيّة وجود خارجيّ جزئيّ نفسيّ، فما معنى تعليقه؟

ولكنّ الواقع أنّ هذا التعليق يكون من سنخ معلّقيّة كلّ معلول خارجيّ على علّته، بناءً على أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، ويكون من سنخ تحصيص كلّ حكم بموضوعه، بناءً على أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة التحصيص.

60

بيان ذلك: أنّه لو أرجعنا قيد الوجوب إلى المادّة مع فرض عدم كونه قيداً لها في المرتبة السابقة على طروّ الوجوب فلا يخلو الأمر من أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون القيد راجعاً إلى ذات المادّة من حيث هي، لا من حيث كونها معروضة للوجوب، فمجيء زيد مثلا قيد لذات الإكرام بما هو إكرام لا بما هو واجب، فطروّ القيد على المادّة يكون في عرض طروّ الوجوب عليها.

ويرد عليه: أنّه بعد أن كان المفروض أنّ المقيّد بهذا القيد ذات الإكرام من حيث هو، لا من حيث كونه معروضاً للوجوب، لا يكون الوجوب عندئذ مضيّقاً باعتبار هذا القيد، وهذا خلاف المفروض من كونه في لبّ الواقع قيداً للوجوب وكون دائرة الوجوب باعتبار الشرط ـ وهو المجيء مثلا ـ مضيّقة، وإن لم تكن مضيّقة فلا محالة يجب تحصيل القيد لتحصيل الواجب.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّنا وإن أرجعنا القيد في كلام المولى إلى الإكرام من باب ضيق الخناق، لكنّنا بقرينة الحكمة ـ أي: من باب صون كلام الحكيم عن اللغويّة ودلالة الاقتضاء ـ نفهم أنّ الوجوب مضيّق، وإلّا للغى تقييد الإكرام بهذا القيد ما لم ينته الأمر إلى شرط الواجب أو شرط الوجوب.

ولكن هذا كما ترى، فإنّ المعنى المستفاد عرفاً من مثل قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) ـ وهو الحكم المضيّق ـ ليس متوقّفاً على توجّه العرف إلى دلالة الاقتضاء، كما يقال في مثل (اسأل القرية): إنّ دلالة الاقتضاء تدلّ على إرادة سؤال أهل القرية، بل يستفاد من طبع القضيّة مع عدم التوجّه والنظر إلى هذه الاُمور.

إذن فالتضييق ثابت حتّى في دائرة المدلول التصوّريّ، ودلالة الاقتضاء إنّما تنفع بالنسبة للمدلول التصديقيّ.

61

والثاني: أن يقال: إنّ القيد لا يرجع مباشرة إلى الإكرام، وإلّا لوقع تحت دائرة الوجوب ووجب تحصيله؛ لما عرفت من عدم معقوليّة العرضيّة بالشكل الذي مضى بيانه في الوجه الأوّل، ولا يرجع إلى النسبة الطلبيّة أو البعثيّة بين زيد والإكرام؛ لما افترضنا من عدم إمكان تقييدها، فيبقى أن يكون المقصود برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة كون القيد راجعاً إلى ربط طلب بالإكرام، فالإكرام بما هو مطلوب تقيّد بمجيء زيد.

فإن كان هذا هو مقصود الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ورد عليه:

أوّلا: أنّ القيد على هذا صار في طول الوجوب، وقد صرّح الشيخ النائينيّ(رحمه الله)بأنّهما في عرض واحد.

وثانياً: أنّ هذا رجع في الحقيقة إلى تقييد النسبة بين الإكرام والطلب؛ لأنّ المفروض أنّه إنّما قيّد الإكرام بمجيء زيد بما هو معروض للطلب، ومعنى تقييده بالمجيء بهذه الحيثيّة ـ لا بما هو ـ ليس إلّا أنّه في الحقيقة قيد لهذه الحيثيّة، وليس هذا إلّا كرّاً على ما فرّ منه، فإنّه(رحمه الله) رفع اليد عن كون القيد قيداً للنسبة بين الإكرام وزيد؛ لأنّها معنى حرفيّ غير قابل للإطلاق والتقييد، وهذا الإشكال عيناً يتأتّى في فرض جعل القيد قيداً للنسبة بين الإكرام والطلب.

وثالثاً: أنّ النسبة بين الإكرام وزيد هي نسبة طلبيّة، وليست هنا نسبة اُخرى بين الإكرام والنسبة الطلبيّة حتّى يفرض القيد قيداً لها. وبالجملة: إنّما الموجود هنا اُمور ثلاثة: الإكرام، وزيد، والنسبة الطلبيّة بينهما. والنسبة بذاتها متقوّمة ومرتبطة بالطرفين، لا أنّها تحتاج في ارتباطها بأحد طرفيها إلى نسبة اُخرى بين تلك النسبة وأحد الطرفين تتقوّم بهما حتّى ترتبط هذه النسبة بذاك الطرف.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ المعلّق هو النسبة لا المادّة المنتسبة.

62

 

هل المعلّق سنخ الحكم أو شخصه؟

وأمّا المقام الثاني: وهو أنّه هل المعلّق سنخ الحكم أو شخصه؟ فهذا في الحقيقة بحث عن أحد الركنين على مذاق المشهور لضابط اقتناص المفهوم، حيث إنّهم جعلوا الضابط له أن يكون المعلّق سنخ الحكم ويكون الشرط علّة منحصرة.

وهنا نعقد بحثين:

أحدهما: في إمكان كون المعلّق سنخ الحكم وعدمه.

والثاني: في أنّه هل هناك دليل على كون المعلّق سنخ الحكم أو لا؟

 

إمكان تعليق سنخ الحكم:

أمّا البحث الأوّل ـ وهو في إمكان كون المعلّق سنخ الحكم وعدمه ـ: فالتحقيق هو إمكانه.

ويمكن القول بعدم إمكانه من ناحية أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ والمعنى الحرفيّ ـ وهو النسبة والربط ـ جزئيّ، فلا يقبل عموماً أو إطلاقاً كي يصبح المعلّق سنخ الحكم.

وأورد الشيخ الأعظم ـ رضوان الله عليه على ما ورد في تقرير بحثه ـ على ذلك: النقض بما إذا كان الوجوب مذكوراً بمادّته كأن يقال: (إن جاءك زيد وجب إكرامه)، ففي هذا القسم لا مجال لهذا الإشكال، فرأى أنّ الإشكال مجاله منحصر بما لو بيّن الطلب بلسان هيئة الأمر لا بلسان (يجب).

وفيه: أنّ المعلّق في هذا القسم أيضاً هو مفاد الهيئة، فهذا النقض خلط بين كون المذكور صريحاً مادّة الوجوب وبين كون المعلّق المادّة، والواقع أنّ المعلّق دائماً هو مفاد الهيئة، فتارةً يكون المعلّق مفاد هيئة (أكرم) واُخرى يكون المعلّق مفاد هيئة (يجب إكرامه) مثلا، وهذا لا يوجب فرقاً في البحث كما هو واضح.

63

وعلى أيّة حال فلنتكلّم في تحقيق أصل الإشكال صحّةً وسقماً فنقول:

لو بنينا على مباني السيّد الاُستاذ ـ مدّظله ـ من أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ، وأنّ المدلول التصديقيّ لقوله: (أكرم) مثلا هو الطلب الحاصل في نفس المتكلّم فمن المعلوم أنّ الإشكال بهذا التقريب لا مجال له؛ حيث إنّ المعلّق عندئذ ليس معنىً حرفيّاً، لكن لا محيص حينئذ من القول بأنّ المعلّق إنّما هو شخص الحكم ولا يعقل تعليق السنخ، فإنّ المفروض أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ وأنّه عبارة عن الطلب الحاصل في نفس المولى مثلا، ومن المعلوم أنّ هذا الطلب الحاصل في نفس المولى شخص من أشخاص الطلب لا طبيعيّ الطلب بما هو، إلّا أن يثبت أنّ المعلّق هو شخص الحكم بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ.

ولكن مباني السيّد الاُستاذ في الوضع ودلالته على المدلول التصديقيّ غير صحيحة عندنا.

وإذا بنينا على المباني المشهورة تصل النوبة إلى البحث عن هذا الإشكال بهذا النحو من التقريب، وهو: أنّه لا يمكن تعليق سنخ الحكم، من جهة أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ، وهو جزئيّ لا يقبل الإطلاق أو الحمل على السنخ.

واستراح المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من هذا الإشكال بما تفرّد به من منع كون المعنى الحرفيّ جزئيّاً، فهو يقول: إنّ الحروف والهيئات وضعها عامّ والموضوع له فيها عامّ وتستعمل في ذلك المعنى العامّ، فلا إشكال في المقام.

نعم، مثل قوله: (أكرم) إيجاد للنسبة الطلبيّة على ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) من أنّ الإنشائيّات موجدة لمفاهيمها من النسبة المقصودة، والإيجاد ـ لا محالة ـ يساوق التشخّص، لكن هذا التشخّص ناش من الاستعمال فهو في طول الاستعمال ولا يعقل فرضه في المرتبة السابقة على الاستعمال، بأن يكون الشخص مأخوذاً في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه.

64

فالحرف والهيئة يستعملان في معناهما الذي هو عامّ وإن كان يطرأ التشخّص في طول الاستعمال فإنّ هذا غير كون المفاد جزئيّاً ومشخّصاً.

أقول: ولكنّنا بيّنّا في محلّه فساد المبنى الذي تفرّد به الخراسانيّ من كون الحروف والهيئات موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له العامّ وقلنا: إنّ النسبة متقوّمة ذاتاً بالطرفين بحيث يكون الطرفان داخلين في قوامها وحقيقتها، فلا محالة تكون النسبة بين كلّ موضوع ومحمول مباينة بالذات والحقيقة للنسبة بين موضوع ومحمول آخر أو بين ذلك المحمول وموضوع آخر ولو فرضت النسبة بين الموضوعين عموماً مطلق أو من وجه.

فالنسبة في قولنا: (النار حارّة) مع النسبة في قولنا: (نار الكبريت محرقة) مثلا متباينتان؛ لحصول التبدّل فيما هو داخل في قوامها وحقيقتها، ولا يمكن أخذ جامع حقيقيّ بين النسب؛ لأنّ أخذ الجامع يكون بإلغاء الخصوصيّات، والمفروض أنّ خصوصيّة الموضوع والمحمول داخلة في قوام النسبة وحقيقتها، فإلغاؤُها مساوق لإلغاء حقيقتها، وبما أنّ الحروف والهيئات ـ كما برهنّا عليه في محلّه ـ موضوعة للنسبة، فلا محالة ليست من قبيل ما يكون الوضع فيه عامّاً والموضوع له فيه عامّاً، بل من قبيل ما يكون الوضع فيه عامّاً والموضوع له فيه خاصّاً، حيث عرفت أنّ كلّ نسبة مباينة للنسبة الاُخرى بحقيقتها؛ للتقريب الذي عرفت على ما برهنّا عليه في محلّه، فالواضع إنّما تصوّر جامعاً انتزاعيّاًـ على تصوّراتهم في الوضع ـ مشيراً به إلى الأفراد المختلفة الحقيقة ووضع الحرف أو الهيئة بإزائها، وهذا هو معنى كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وإذا كان الأمر كذلك وقع الإشكال في تصوير كون المعلّق سنخ الحكم؛ لفرض كون الموضوع له جزئيّاً. وحلّه بحلّ المغالطة.

وعين هذا الإشكال وقع في الجهة الثالثة من المقام الأوّل حيث يقال:إنّ المعلّق

65

على الشرط لا يعقل أن يكون هو مفاد الهيئة من النسبة؛ لأنّه جزئيّ لا يقبل التعليق(1).

وقد تفصّى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) عن هذا الإشكال بالنسبة للمقام الأوّل بالالتزام بأنّ النسبة كما ربما تكون متقوّمة بطرفين كذلك ربما تكون متقوّمة بثلاثة أطراف: المسند والمسند إليه والشرط، فالنسبة في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) متقوّمة بالإكرام وفاعل الإكرام والشرط، بحيث إذا اُسقط هذا الشرط وقيل: (أكرم زيداً) تغيّرت ماهيّة النسبة وحدثت نسبة اُخرى متقوّمة بطرفين.

وعلى هذا فيرتفع الإشكال، فإنّ النسبة ليست في الحقيقة معلّقة على الشرط حتّى يقال: كيف يمكن تعليقها؟ بل متقوّمة به كتقوّمها بالطرفين الآخرين، وكم فرق بين التقويم والتعليق. هذا ما أجاب به المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هناك عن الإشكال(2).

لكنّا لم نرتض هذا الجواب وأجبنا عنه بجواب آخر، وهو: أنّه ليست جزئيّة المعنى الحرفيّ جزئيّة وجوديّة، كما هو ظاهر تقريرات الشيخ الأعظم أو صريحه وهو الذي فهمه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) من التقريرات، بأن يكون جزئيّاً بخصوصيّة



(1) وهنا لم يتعرّض اُستاذنا(رحمه الله) لإشكال آليّة المعنى الحرفيّ كما تعرّض لإشكال جزئيّته، في حين أنّه تعرّض في الجهة الثالثة من المقام الأوّل لكلا الإشكالين، وكأنّ هذا مرتبط بالفرق الجوهريّ الموجود بين البحثين، وهو: أنّ البحث السابق كان مصبّه أصل تعليق النسبة ودعوى ضرورة رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة، فقيل: إنّ تعليقها غير ممكن: إمّا لآليّتها وإمّا لجزئيّتها. أمّا هنا فمصّب البحث ليس أصل تعليق النسبة، وإنّما مصبّه السنخيّة، والسنخيّة تضادّ الجزئيّة فيقال: إنّ النسبة جزئيّة، فكيف يمكن أن تعطي معنى سنخ الحكم؟ وذلك بعد فرض الفراغ عن إمكان تعليقها.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، التعليق رقم: 21، ص 60 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

66

الوجود الخارجيّ أو الذهنيّ أو الإنشائيّ، بل جزئيّتها تكون باعتبار طرفيها، حيث إنّ طرفيها كانا داخلين في قوامها، فلا محالة تكون كلّ نسبة مغايرة لنسبة اُخرى في حقيقتها وذاتها.

وأمّا بالنسبة للتقسيمات الطارئة عليها بعد فرض تقوّمها بالطرفين فيعقل فيها الإطلاق والتقييد، فمن الممكن أن تقيّد بالشرط وتعلّق عليه والشرط ليس مقوّماً لها، وإنّما المقوّم لها الأطراف الرئيسة أعني: المسند والمسند إليه.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّه إن بنينا في المقام الأوّل على ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ففيما نحن فيه لا محيص من الالتزام بعدم إمكان تصوير كون المعلّق سنخ الحكم، فإنّ المفروض أنّ ماهيّة النسبة في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) منذ خلقت كانت متقوّمة بأطراف ثلاثة: المسند والمسند إليه والشرط، لا أنّ النسبة مع قطع النظر عن الشرط وفي الرتبة السابقة على الشرط كانت مطلقة فقيّدت بالشرط وعلّقت عليه حتّى يقال: إنّ النسبة المطلقة وسنخ الحكم قد علّق على الشرط.

وهذا بخلاف المسلك الذي سلكناه هناك، فإنّه على ذلك المسلك يكون إمكان تعليق السنخ في غاية الوضوح؛ لما ذكرناه من أنّ النسبة قوامها بالطرفين وهي في حدّ ذاتها قابلة للإطلاق والتقييد، فيمكن أن تفرض هذه النسبة التي تكون في المرحلة السابقة على الشرط مطلقة مقيّدة بالشرط ومعلّقة عليه، فقد علّق سنخ الحكم على الشرط.

 

الدليل على تعليق سنخ الحكم:

وأمّا البحث الثاني: فالظاهر من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنّه ـ بعد تسليم إمكان كون المعلّق سنخ الحكم ـ لا إشكال بحسب الإثبات بمقتضى جريان مقدّمات الحكمة في أنّ المعلّق هو السنخ. ومن هنا تراهم إنّما يستشكلون

67

ويتباحثون في أنّه هل يمكن تعليق سنخ الحكم أو لا، ولا يتكلّمون في أنّه بعدفرض إمكانه هل هنا إشكال في الإطلاق أو لا؟

ولكن قد يقال: إنّ جريان مقدّمات الحكمة وثبوت الإطلاق فيما نحن فيه لا يخلو من شوب إشكال، بيان ذلك: أنّ جريان مقدّمات الحكمة وثبوت الإطلاق موقوف على أن يكون القيد ممّا يمكن بيانه بنحو لا يخرج الكلام بذلك عن سلك المحاورة العرفيّة، كما أنّه موقوف أيضاً على عدم القطع بعدم كون المولى في مقام بيان القيد لو كان هنا قيد، وعلى هذا فلو ادُّعِيَ أنّ تقييد الحكم مثلا بالملاك الكذائيّ ليس موافقاً للمحاورة العرفيّة لم يتمّ الإطلاق، كما أنّه لو ادّعي أنّ الشارع لم يكن في مقام بيان هذا القيد ـ بشهادة التتبّع في كلماته، مع العلم إجمالاً بثبوت هذا القيد في كثير من أحكامه، ولعلّ الوجه في عدم كونه في مقام بيانه عدم كون التقييد به داخلا في المحاورات العرفيّة ـ لم يتمّ الإطلاق أيضاً.

وعدم استشكال الأصحاب في الإطلاق بعد فرض إمكان تعليق السنخ ثبوتاً إمّا يكون ناشئاً من تماميّة الإطلاق في نظر العرف وعدم تماميّة هاتين الدعويين، أو يكون ناشئاً من عدم التفاتهم إلى ذلك.

هذا. ولكن الإنصاف عدم تماميّة شيء من هذين الإشكالين، فيمكن بيان التقييد بالملاك الخاصّ ببيان عرفيّ، كقوله تعالى في آية النبأ: ﴿أَن تُصِيبُواْ قَوْمَاً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِين﴾ وغير ذلك ممّا يوجد كثيراً في كلمات الشرع، وبيان ملاك الحكم في كلمات الموالي العرفيّة وكلمات الشارع أكثر من أن يحصى، وضمّ الشرط مثلا لا يوجب صيرورة بيان الملاك خارجاً عن المحاورة العرفيّة.

كما أنّ دعوى العلم بعدم كون الشارع في مقام بيان ذلك، بشهادة التتبّع مع العلم

68

إجمالاً بثبوت هذا القيد في كثير من أحكامه ممّا لا ينبغي، فإنّه لو فرضت شهادة التتبّع في كلماته بعدم وجود هذا القيد في تلك الكلمات فمن أين يحصل العلم الإجماليّ بثبوت هذا القيد كثيراً في الواقع حتّى يعلم أنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة؟

ثُمّ إنّه بعد تماميّة جريان الإطلاق في مفاد الجزاء وثبوت كون المعلّق سنخ الحكم، إن بنينا على أنّ مفاد مقدّمات الحكمة هو الإطلاق على نحو مطلق الوجود ـ من قبيل العموم الاستغراقيّ ـ فهذا وحده كاف في اقتناص المفهوم ويثبت أنّ القضيّة الشرطيّة ذات مفهوم.

لكنّ هذا المبنى غير صحيح عندنا، فصِرف كون مفاد الجزاء سنخ الحكم لا يكفي في كون القضيّة الشرطيّة دالّة على المفهوم، والمفروض غمض العين فعلا عن دلالة القضيّة على العلّيّة الانحصاريّة لسنخ الحكم، وسنتكلّم ـ إن شاء الله ـ عن ذلك في المقام الثالث، فنقول هنا: إنّ كون الجزاء سنخ الحكم بمقتضى الإطلاق بنفسه لا يكفي في دلالة القضيّة على المفهوم، بل يحتاج في ذلك إلى ضمّ أمرين:

الأوّل: أن تكون القضيّة الشرطيّة دالّة على اللزوم، وثبوت الطبيعة صدفة عند شيء لا ينافي ثبوتها صدفة عند شيء آخر أيضاً.

والمعروف بين المحقّقين دلالة أداة الشرط بالوضع على اللزوم، استشهاداً بما نرى وجداناً من المؤونة والكلفة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة، كقولنا: (إن جاءك زيد نهق الحمار)، مع أنّ المفروض عدم الملازمة بين مجيء زيد ونهيق الحمار.

ولكن هذا الاستشهاد منقوض بما نراه وجداناً من عدم المؤونة والكلفة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة التي جيئت بها للإخبار عن الماضي دون المستقبل، كما إذا قيل: (مهما جاءني زيد نزل المطر) إخباراً عن أنّه كان يتّفق نزول المطر مع

69

زمان مجيء زيد. فلا نشعر بأيّ مؤونة وكلفة في مثل هذا الكلام مع انتفاء الملازمة، ولو كانت أداة الشرط دالّة بالوضع على اللزوم لم يكن فرق بين القضايا الشرطيّة الماضية والقضايا الشرطيّة الاستقباليّة(1).

فالتحقيق: أنّ أداة الشرط لا تدلّ بالوضع على اللزوم، وإنّما تدلّ القضيّة الشرطيّة على اللزوم إذا كانت استقباليّة من ناحية الظهور السياقيّ للدلالة التصديقيّة، حيث إنّ الإخبار عن ترتّب الجزاء على الشرط في القضايا الاستقباليّة مع فرض الصدق لا يمكن إلّا بأحد وجهين: العلم بالملازمة، والعلم من ناحية أمر غير متعارف بأنّه مهما يجيء زيد مثلا ينهق الحمار اتّفاقاً وصدفة، وبما أنّ الثاني بعيد جدّاً يتحقّق للمدلول التصديقيّ للقضيّة ظهور سياقيّ في الفرض الأوّل وهو اللزوم(2).

الثاني: أن تدلّ القضيّة الشرطيّة على التعليق، وإلّا لما دلّت على المفهوم، حيث



(1) قد تقول: إنّ كلمة (مهما) تدلّ على الظرفيّة وهي متعلّقة بالجزاء، فيصبح الشرط مأخوذاً في موضوع الجزاء فينتفي المفهوم، وهذا هو السبب في عدم الإحساس بالمؤونة والكلفة رغم انتفاء الملازمة.

والجواب: أنّ كلمة (مهما) رغم دلالتها على الظرفيّة وتعلّقها بالجزاء ـ وهذا يوجب انتفاء المفهوم ـ تستعمل كثيراً بمعنى الشرط مع الاحتفاظ بظرفيّتها، فكأنّ معناها منحلّ إلى معنيين، وحينما تستعمل كذلك لا نحسّ أيضاً بالمؤونة، رغم أنّها وإن كانت تعطي معنى الظرف وتتعلّق بالجزاء فلا تدلّ على مفهوم، لكنّها في نفس الوقت تستبطن معنى الشرط، فكان المفروض أن نحسّ بالمؤونة ولا ينافي ذلك عدم المفهوم.

(2) والأمر أوضح في القضايا الحقيقيّة، فإنّ الصدفة والاتّفاق لا تكون على نهج القضايا الحقيقيّة.

70

إنّ المفروض عدم دلالتها على العلّيّة الانحصاريّة التي سيتكلّم فيها ـ إن شاء الله ـ في المقام الثالث.

وتوضيح الأمر: أنّه بعد أن فرغنا عن دلالة القضيّة الشرطيّة على اللزوم قلنا: تارةً يفرض لحاظ الربط اللزوميّ من ناحية الشرط وارتباطه بالجزاء، واُخرى يفرض لحاظه من ناحية الجزاء وارتباطه بالشرط. نظير أنّه تارةً يقال: (طلوع الشمس مستلزم لوجود النهار)، واُخرى يقال: (وجود النهار معلّق على طلوع الشمس).

وإن شئت فعبّر بأنّ الربط واللزوم في القضيّة الشرطيّة تارةً ينظر إليه بالعين اليمنى فيسمّى بهذا الاسم وهو اللزوم مثلا، واُخرى ينظر إليه بالعين اليسرى فيسمّى باسم التعليق.

وبكلمة اُخرى: تارةً يفرض أنّ مركز الثقل في ناحية الشرط، واُخرى يفرض أنّه في ناحية الجزاء. فإذا كان في ناحية الجزاء دلّت القضيّة على المفهوم، وإذا كان في ناحية الشرط لم تدلّ عليه ما لم تثبت العلّيّة الانحصاريّة.

ولا يخفى أنّ هذين في الحقيقة قسمان من الربط لا قسم واحد حتّى يقال: إنّ اختلاف الأمر باختلاف النظر ـ بالعين اليمنى أو اليسرى ـ إلى ربط واحد لا معنى له.

والظاهر: أنّ الواضع إنّما وضع الأداة لذات الربط من حيث هو بلا نظر إلى لحاظه بالعين اليمنى(1) أو لحاظه بالعين اليسرى، كما أنّ الظهور السياقيّ إنّما دلّ



(1) نعم هو كذلك، فإنّ الانقسام إلى لحاظه بالنظر إلى العين اليمنى أو اليسرى إنّما يكون بعد فرض الدلالة على اللزوم، فإنّه الذي تارةً ينظر إليه من هذا الطرف واُخرى من ذاك الطرف ويختلف معناه في كلّ من النظرين عن الآخر، دون مجرّد الربط الذي ينسجم مع التصادف المحض. وقد سبق أنّ الأداة لا تدلّ وضعاً على اللزوم.

71

على ذات اللزوم بلا نظر إلى لحاظه بالعين اليمنى أو لحاظه بالعين اليسرى(1). فكون مركز الثقل هذا الطرف أو ذاك الطرف يختلف باختلاف الموارد، ولابدّ من إثباته بالقرائن ولا أرى ضابطاً عامّاً لذلك. نعم، لعلّ تقديم الجزاء على الشرط كقولنا: (أكرم زيداً إن جاءك) يكون باعتبار لحاظ الربط والنظر إليه بالعين اليسرى(2).

وقد تحقّق من جميع ما ذكرناه: أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم بنكتة تعليق سنخ الحكم أمر صحيح في الجملة، ونقصه أنّه لا ينضبط فنّيّاً بعنوان خاصّ منطبق على موارده، وإنّما يختلف الأمر باختلاف الموارد والقرائن باعتبار الخصوصيّات؛ لأنّ مقصودنا بتعليق سنخ الحكم تعليق ذات طبيعة الحكم تعليقاً منظوراً إليه بالعين اليسرى ولا ضابط كلّيّ لذلك.

 

الكلام في دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة

المقام الثالث: في دلالة القضيّة على العلّيّة الانحصاريّة وعدمها.

وهي في نظر المشهور أحد ركني اقتناص المفهوم، ونحن نقول: إنّ الضابط على ما مضى هو كون الشرط علّة منحصرة لذات طبيعة الحكم، أمّا افتراض كون الجزاء مطلق وجود الحكم فهو وحده يحقّق المفهوم دون حاجة إلى بحث العلّيّة الانحصاريّة.



(1) فإنّ الظهور السياقيّ قائم على أساس دلالة القرائن والأحوال، فقد يختلف الأمر من حال إلى حال.

(2) يمكن أن يكون المفهوم في موارد تقديم الجزاء على الشرط بسبب دلالة تقديم ما حقّه التأخير على الحصر.

72

وقد ذكروا لإثبات العلّيّة الانحصاريّة وجوهاً ويظهر لك من التأمّل فيها أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم كانت مفروغاً عنها عندهم بحسب الفهم العرفيّ، فصاروا بصدد التفتيش عن النكتة الفنّيّة لذلك فاستدلّوا على المفهوم بما استدلّوا، فمثلا نقول: هل كان من المحتمل أن يتشبّث في إثبات المفهوم بقاعدة (أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد) مع أنّه يدّعى أنّ المفهوم ظهور عرفيّ؟ فمثل هذا الكلام ناش من مسلّميّة أصل النتيجة.

ثُمّ إنّا نرى وجداناً ـ بحسب الذوق العرفيّ ـ عدم ثبوت المفهوم في القضايا الإخباريّة، مثلا إن قيل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود)، أو قيل: (إذا جاور الماء النار اكتسب الحرارة)، لم يتوهّم العرف أنّ هذا الكلام يدلّ على انتفاء وجود النهار أو اكتساب الحرارة بانتفاء الشرط، وجميع ما استدلّوا به لإثبات العلّيّة الانحصاريّة تكون بحيث لو تمّ واحد منها لأنتج ثبوت المفهوم حتّى في القضايا الإخباريّة.

ولنا تقريب خاصّ لإثبات العلّيّة الانحصاريّة يمتاز عن تقريبات القوم بأنّه إنّما يثبت ذلك في الأحكام دون الإخباريّات، ولنذكر ذلك التقريب أوّلا، ثمّ نذكر ـ ان شاء الله ـ سائر التقريبات مع إبطالها، فنقول ومن الله التوفيق:

 

التحقيق في دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة:

التحقيق: أنّ القضيّة الشرطيّة في باب الأحكام تدلّ على اللزوم العلّيّ الانحصاريّ لطبيعة الحكم فيثبت المفهوم:

أمّا دلالتها على اللزوم: فلما عرفت من الظهور السياقيّ للمدلول التصديقيّ، فإنّ الشارع حينما يحكم بشيء كأن يقول: (إن جاءك زيد فأكرمه) ليس بصدد

73

التكلّم عن علم بالغيب، ومقتضى ظاهر كلامه الملازمة بين مجيء زيد ووجوب إكرامه، وفَرض أنّ الموضوع لوجوب الإكرام شيء آخر يكون دائماً مصادفاً لمجيء زيد من باب الاتّفاق يكون خلاف الظهور السياقيّ، فإنّه لا يعلم ذلك عادة إلّا بوسيلة العلم بالغيب.

وأمّا دلالتها على العلّيّة: فلخصوصيّة في باب الأحكام توجب ثبوت العلّيّة ولا توجد تلك الخصوصيّة في الإخباريّات.

بيان ذلك: أنّ المدلول التصديقيّ في الإخباريّات عبارة عن قصد الحكاية، وكما يمكن الحكاية عن وجود شيء عند وجود علّته، كذلك يمكن الحكاية عن وجود شيء عند ما يكون هو مع ذلك الشيء معلولا لشيء ثالث مثلا، بل ربّما لا يكون المتكلّم مطّلعاً على علّة مجيء عمرو، وإنّما هو مطّلع على أنّه مهما جاء زيد جاء عمرو. هذا في الإخباريّات.

وأمّا في الأحكام فالدلالة التصديقيّة لمثل قوله: (أكرم زيداً) بحسب الفهم العرفيّ من ظاهر الكلام ليست عبارة عن قصد الحكاية عن جعل الوجوب بل نفس جعل الوجوب، ولذا لا يشكّ العرف في أنّ مثل هذا الكلام لا يتّصف بالصدق والكذب. وعلى هذا فيثبت أنّ نفس الجعل مقيّد بالشرط الذي هو مجيؤه مثلا، لا قصد الحكاية عن الجعل، والمقيّد للجعل إنّما هو موضوع الحكم وعلّته، ولا يعقل تقيّده بما يلازم موضوع الحكم وعلّته.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد أن ثبت ـ بمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ ـ أنّ المدلول التصديقيّ ـ وهو عبارة عن الجعل ـ مقيّد بالشرط، ومعنى تقيّده به أنّه يكون تقدير الشرط مقوّماً لوجوده، نقول: إنّه على ما حقّقناه في محلّه ليس للمجعول وجود آخر في الخارج عند وجود الشرط، حتّى يفرض كون

74

الشرط تارةً علّة حقيقيّة له واُخرى ملازماً لعلّته، كما كان يفرض في باب الحكاية، حيث إنّ المحكيّ عنه له وجود خارجيّ عند وجود الشرط، فيفرض أنّ الشرط علّة حقيقيّة له تارةً وملازم له اُخرى، بل المجعول وجوده عين وجود الجعل، فمعنى كون الشرط علّة للحكم إنّما هو عبارة عن كون تقدير الشرط مقوّماً للجعل وكون المقدَّر محصّصاً للمجعول، وهذا هو معنى الموضوعيّة ولا نعني بالعلّيّة في باب الأحكام إلّا هذا.

ففرق كبير بين باب الحكاية وباب الحكم، ففي باب الحكاية حتّى لو كانت الدلالة التصديقيّة موازية للجزاء لا للربط الشرطيّ فالشرط قيّد تلك الدلالة قلنا: كما يمكن تضييق الحكاية بما يكون علّة للمحكيّ كذلك يمكن تضييقها بما يلازم المحكيّ، وكلّ ما يلزم من ذلك هو انتفاء الحكاية بانتفاء الشرط وليس انتفاء المحكيّ بانتفائه.

أمّا في باب الجعل فليس للمجعول وجود على حدة حتّى يعقل أن تضيّق دائرة الجعل تارةً بعلّة المجعول واُخرى بملازمه، بل المجعول وجوده عين وجود الجعل، وما ضيّق الجعل بتقديره ليس هو إلّا المحصّص للمجعول وهو الموضوع للحكم، وليس مقصودنا بالعلّيّة في باب الأحكام إلّا الموضوعيّة لا غير.

وأمّا دلالتها على كون العلّة علّة منحصرة لطبيعة الجزاء: فتثبت بمعونة نكتتين:

النكتة الاُولى: جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة بلحاظ الجزاء، فيثبت بذلك أنّ المعلّق في لبّ الواقع طبيعة النسبة لا حصّة خاصّة منها. وتوضيح المقصود:

أنّه لا إشكال في أنّ المدلول التصوّريّ للجزاء وهو قوله مثلا: (أكرمه) هو ذات النسبة بين إكرام زيد والفاعل بلا أيّ قيد. لا أقول ذلك بحكم الإطلاق، فإنّ الإطلاق لا يجري بلحاظ المدلول التصوّريّ، بل أقول: إنّ المدلول التصوّريّ

75

لقوله: (أكرمه) تكويناً ذلك، فإنّ المفروض أنّه لا يوجد في كلامه في مقام الانتساب إلّا إكرام زيد والفاعل المستتر، فقهراً ليس المدلول التصوّريّ إلّا طبيعة النسبة بين إكرام زيد والفاعل وهو المخاطب.

وبما أنّ المدلول التصديقيّ لذلك هو الجعل الثابت في نفس المولى نقول هنا: إنّنا نستفيد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ببيان أنّ مقتضى تطابق عالم الإثبات والثبوت هو أنّه كما لم يكن الموجود في عالم الإثبات إلّا طبيعة النسبة بلا دخل خصوصيّة في التعليق، كذلك في عالم الثبوت ـ وهو ما في نفس المولى ـ ليست خصوصيّة دخيلة في التعليق. فهذا الجعل المنكشف بهذا الكلام وإن كان في نفسه جعلا واحداً لكنّه معلّق بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ بحكم الإطلاق وأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت، وإن شئت فعبّر بأصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ.

ثُمّ إنّ مقصودنا بكون هذا الجعل معلّقاً بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ من دون دخل خصوصيّة في التعليق هو: نفي احتمال دخل خصوص بعض ملاكات أشخاص الحكم في التعليق، وبقاء بعض الملاكات على إطلاقها، وبالتالي ثبوت بعض حصص الحكم غير مشروط بالشرط.

فإن قلت: تعليق الشارع لحكم على شرط لا يكون إلّا بسبب اقتضاء ملاكه لذلك، فأصل دخل الملاك في التعليق مقطوع به، وإنّما الشكّ في أنّ خصوصيّة الدخل هل هي مخصوصة بملاك معيّن أو شاملة لجميع الملاكات، وأيّ ترجيح للثاني على الأوّل؟

فلو قال مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه) يكون لملاك الإكرام دخل في التعليق، وهنا احتمالان: أحدهما: أن يكون الدخيل في التعليق جميع ملاكاته، فيكون

76

المعلّق في لبّ الواقع جميع الحصص الناجمة عن تعدّد الملاكات. والثاني: أن يكون الدخيل في التعليق ملاك خاصّ من ملاكات وجوب الإكرام، فلا يكون المعلّق إلّا حصّة معيّنه من النسبة، وكلاهما مشتمل على نوع تقييد، فكيف يمكن تعيين الاحتمال الأوّل بالإطلاق؟

نعم، لو فرضنا أنّ التعليق لا يقتضيه الملاك بل يقتضيه نفس الحكم، ولكن احتملنا وجود مانع في بعض حصص الحكم عن التعليق أمكن أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الحكم هو أنّ المعلّق ذات طبيعة الحكم بلا دخل للحصّة الفارغة عن ذاك المانع في التعليق، ولكن من المقطوع به في القضايا الشرطيّة في شرعنا كلاًّ أو جلاًّ أنّ الأمر ليس كذلك.

قلنا: أوّلا: لو تمّ هذا الكلام فإنّما يتمّ لو فرض أنّ محتملات التعليق منحصرة في أمرين: أحدهما دخل ملاك خاصّ من ملاكات الحكم في التعليق، والآخر دخل كلّ الملاكات فيه، ولكن هنا احتمال ثالث وهو كون الدخيل: الجامع بين الملاكات، وعندئذ نقول: إنّ الجزاء مقيّد قطعاً بأحد هذه الملاكات على جميع المحتملات الثلاثة، وعنوان أحد الملاكات ينطبق على كلّ واحد منها على سبيل البدل، وقد شككنا في قيد زائد وهو تقيّده بملاك خاصّ من تلك الملاكات ـ الذي هو عبارة عن الاحتمال الأوّل ـ أو تقيّده بجميع تلك الملاكات، أعني: دخل كلّ منها في التعليق ـ وهو عبارة عن الاحتمال الثاني ـ والشكّ في القيد الزائد ينفى بالإطلاق.

وثانياً: لو فرض الأمر منحصراً في الاحتمالين الأوّلين يقال هنا كلام آخر، وهو: أنّه لو فرض دخل جميع الملاكات في التعليق فلا حاجة في نظر العرف إلى بيان القيد؛ لأنّ المفروض عندئذ أنّ جميع حصص النسبة معلّقة لا حصّة خاصّة.

77

ولو فُرض دخل ملاك خاصّ وقع الاحتياج إلى بيان القيد؛ لأنّ المفروض أنّ المعلّق عندئذ حصّة خاصّة من النسبة، فلابدّ من تخصيصها بالذكر.

والخلاصة: أنّ الاحتمال الأوّل والثاني وإن كان كلاهما مساوقاً للتقييد لكن القيد على النحو الثاني لا حاجة في نظر العرف إلى بيانه، بخلافه على النحو الأوّل، فينفى التقييد على النحو الأوّل بعدم البيان، والتقييد على النحو الثاني يكون مناسباً للمفهوم لا منافياً له(1).

إن قلت: أيّ فرق بين قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) وقوله: (أكرم زيداً العالم)، ونحوه قوله: (أكرم زيداً) مثلا؟ فلو كان مقتضى الإطلاق كون المعلّق على الشرط طبيعة الحكم لا حصّة خاصّة مثلا، كان مقتضى الإطلاق في المعلّق على أيّ شيء ـ شرطاً كان أو وصفاً أو لقباً أو غيرها ـ ذلك، ولا وجه للتفصيل بين تعليق وتعليق، مع أنّهم أنكروا المفهوم للوصف واللقب، خصوصاً الثاني وهو اللقب.



(1) لا يخفى أنّ خصوصيّة ملاك مّا لو كانت دخيلة في التعليق فهي حيثيّة تعليليّة للتعليق، وليست قيداً في الجعل المعلّق أو الحكم، كتقيّد الحكم ـ بالصلاة المعلّق على زوال الشمس ـ بالخلوّ من الحيض مثلا، فلا معنى لنفيه بالإطلاق. وترتّب جعل واحد ناشئ من أحد الملاكات على الشرط كاف في صدق ترتّب طبيعيّ الجعل بما هو عليه؛ لأنّ الملاك ـ كما قلنا ـ لم يكن قيداً في هويّة الجعل أو الحكم.

نعم، لو كان المدّعى ثبوت التعليق بمعنى التوقّف ـ وهو الربط المنظور إليه بالعين اليسرى ـ لم يكن يكفي توقّف فرد من الطبيعيّ على الشرط في توقّف الطبيعيّ عليه؛ إذ يكفي في عدم توقّفه عليه وجود فرد آخر خارج حدوده، إلّا أنّ هذا رجوع إلى وجه آخر لإثبات المفهوم فرغنا قبلا عن عدم تماميّته غير وجه العلّيّة الانحصاريّة التي نتكلّم عنها فعلا.

78

قلت: إنّ مقتضى التحقيق في هذا المقام هو أن يقال: إنّ الإكرام في قوله مثلا: (أكرم زيداً) له نسبتان: نسبة تامّة بعثيّة أو طلبيّة بينه وبين المخاطب، ونسبة ناقصة بينه وبين زيد. فهناك جملتان: جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، وجملة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ولا تفيد سوى معنى إفراديّ وهو إكرام زيد، ومن المستحيل أن تكون هذه النسبة الناقصة في عرض النسبة التامّة، ببرهان: أنّه لو كان كذلك لكان قوله: (أكرم زيداً) ممّا لا يصحّ السكوت عليه؛ لاشتماله على جملتين: إحداهما يصحّ السكوت عليها والاُخرى لا يصحّ السكوت عليها، وهذا كما ترى بديهيّ البطلان.

وبذلك يتنقّح أنّه مهما اجتمعت نسبة تامّة ونسبة ناقصة على شيء واحد ـ كما في هذا المثال، حيث إنّهما اجتمعتا على كلمة (الإكرام) ـ كانت النسبة الناقصة مأخوذة في طرف النسبة التامّة، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ النسبة ليست عارضة على طرفيها كعروض العرض على محلّه، بل طرفاها مقوّمان لها، وعليه فلا يعقل أن يجري الإطلاق في النسبة بالنظر إلى طرفيها. نعم، بعد فرض تقوّمها بالطرفين وتحقّقها لو علّقت على شيء أمكن دعوى الإطلاق فيها بالنظر إلى ما علّقت عليه.

فظهر: أنّ نسبة الإكرام إلى المخاطب لا يتصوّر فيها الإطلاق بالنظر إلى الإكرام والمخاطب؛ لأنّهما مقوّمان لها لا أنّها معلّقة عليهما، ولا بالنظر إلى زيد الذي هو الواجب إكرامه؛ لما عرفت من أنّ النسبة الناقصة اُخذت في موضوع النسبة التامّة، فهي مقوّمة للنسبة التامّة لا أنّ النسبة التامّة معلّقة عليها، فحال اللقب بالنظر إلى هذه النسبة التامّة حال المقوّم لا المعلّق عليه، ونحوه الوصف بخلاف الشرط.

وفي نهاية الكلام نشير إلى أنّ ما ذكرناه من التقريب للإطلاق في الجزاء في باب الأحكام إنّما يتمّ بناءً على ما هو المختار من أنّ الجعل والحكم عبارة عمّا في

79

عالم نفس المولى ويكون قوله: (أكرمه) كاشفاً عنه. وأمّا إذا بنينا على أنّه بقوله مثلا: (أكرمه) يوجد الحكم والجعل فلا يتمّ هذا التقريب، فإنّه مضى أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري بلحاظ المدلول التصديقيّ وعالم الثبوت بدعوى أصالة تطابق عالم الإثبات معه، فيثبت أنّ ما في نفس المولى من الجعل مطابق لما في كلامه، ولكن لو فُرض أنّه ليس في نفس المولى جعل فكيف نقول: إنّ مقتضى الأصل تطابق عالم الإثبات مع عالم الثبوت؟ وأين عالم الثبوت حتّى يكون عالم الإثبات مطابقاً له؟

النكتة الثانية: بعد أن عرفت أنّ المعلّق بمعنى المترتّب على الشرط هو شخص الحكم ولكنّه لا بما هو شخص الحكم، بل بما هو قد انطبقت عليه طبيعة الحكم، فالتعليق في لبّ الواقع سرى إلى طبيعة الحكم، بقي في المقام نقص آخر في اقتناص المفهوم، وهو: أنّ طبيعة الحكم يمكن أن تكون مترتّبة على هذا الشرط وهو مجيء زيد مثلا الموجب لإكرامه، وتكون في نفس الوقت مترتّبة على شرط آخر أيضاً وهو مرضه الموجب أيضاً لإكرامه، فكيف نثبت انحصاريّة العلّة؟

والجواب: قد ظهر ممّا سبق أنّ المعلّق في جعله هذا هو شخص الحكم، وإن سرى التعليق في لبّ الواقع إلى ذات الطبيعة. ولا شكّ في أنّ الشرط في شخص كلّ حكم أو كلّ جعل علّة منحصرة بالنسبة لذاك الشخص؛ إذ قد مضى منّا برهان ملفّق(1) على أنّ الموضوع لشخص الحكم يكون علّة منحصرة له، وهو: أنّه لو لم



(1) مضى ذلك في بحث مناقشة كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، حيث مضى تحليل كلام المحقّق العراقيّ إلى دعاوى أربعة مع مناقشة جميع تلك الدعاوى، وقد ذكر الكلام المذكور هنا لدى مناقشة دعواه الثانية.

80

يكن الموضوع لشخص الحكم خصوص عنوان (المجيء) مثلا فلا يخلو الأمر من أحد أمرين: الأوّل: أن يكون للمجيء عِدل وهو المرض مثلا، وهذا خلف فرض كون المعلّق شخص الحكم، فإنّه يستحيل أن يكونا معاً موضوعاً لشخص واحد من الحكم، بأن يكون كلّ واحد منهما تمام الموضوع له؛ فإنّ الجعل الواحد لا يعقل له إلّا موضوع واحد. والثاني: أن لا يكون الموضوع للحكم عنوان المجيء بل عنوان أحدهما، أي: واحد من المجيء والمرض مثلا، وهذا خلاف ظاهر الكلام، فإنّ ظاهره أنّ نفس عنوان المجيء موضوع، فقد تنقّح أنّ الشرط علّة منحصرة لشخص الحكم الذي يحمله الجزاء، فإذا سرى التعليق في لبّ الواقع إلى طبيعة الحكم علمنا أنّ الشرط علّة منحصرة لطبيعة الحكم.

وإن شئت فعبّر بأنّ التعليق على شكل العلّيّة الانحصاريّة يسري من هذا الشخص من الحكم ـ الذي ثبت له ذلك بوصفه مصداقاً لطبيعة الحكم ـ إلى كلّ شخص آخر مماثل له(1).



(1) لا يخفى أنّ هذا البرهان على ثبوت المفهوم للشرط قد قام على أساس افتراض كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء، فتكون تلك الدلالة معلّقة تبعاً على الشرط أو مترتّبة على الشرط بتبع التصوّريّة، وعندئذ نثبت بالإطلاق كون الحكم معلّقاً أو مترتّباً على الشرط بما هو ذات طبيعة الحكم، ثمّ نثبت انحصار العلّة به وعدم وجود بديل لهذا الشرط بالبيان الذي عرفت.

لكنّنا لدينا نقاش في أصل دعوى كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء دون الجملة الشرطيّة.

توضيح ذلك: أنّ البرهان الذي مضى لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ظهور الجملة الشرطيّة