541

 

 

 

 

 

 

 

قد ذكر الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ في هذا المقام مباحث صغرويّة من قبيل أنّ كلمة (اليد) في آية السرقة مثلاً مجملة أو مبيّنة.

لكن هذه المباحث مربوطة بالفقه، فإنّ وظيفة الفقيه في الفقه هي تشخيص مداليل الكلام واستظهار الأحكام منها، وليس تشخيص الظهور مربوطاً بعلم الاُصول إلّا الظهورات الداخلة تحت قانون كلّيّ من قبيل الإطلاق ومفهوم الشرط ونحو ذلك، فالأولى صرف الكلام هنا عن المباحث الصغرويّة.

وأمّا البحث الكبرويّ عن ذلك: فأمران:

أحدهما: البحث عن حجّيّة المبيّن، وهو على قسمين: نصّ وظاهر، وهذا مربوط ببحث حجّيّة الظواهر وينقّح هناك.

وثانيهما: البحث عن رفع إجمال المجمل بالمبيّن، وهذا البحث قد أهمله الأصحاب ولم ينقّحوه في مورد من موارد الاُصول، وقد مرّ بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة، ولا بأس باستيعاب أقسامه هنا وبيان حكم كلّ واحد منها فنقول:

 

أقسام الإجمال وحكم كلّ واحد منها:

الإجمال تارة: يكون إجمالاً بالذات، واُخرى: يكون إجمالاً بالعرض، والمراد من الأوّل أن يكون الكلام في نفسه مجملاً غير ظاهر في أحد الطرفين، ومن الثاني

542

أن يكون الكلام ظاهراً في معنى لكن رفعنا اليد عن ظهوره لدليل، وعندئذ هليتعيّن حمله على معنى آخر خلاف ظاهره إن كان خلاف ظاهره متعيّناً في معنى واحد أو لا؟ فهنا مقامان ونحن نقدّم هنا بحث المجمل بالعرض فنقول:

المقام الأوّل: في المجمل بالعرض، وأنّه هل يكون ساقطاً عن الحجّيّة بعد معلوميّة عدم إرادة ظاهره، أو يؤخذ فيه بمعناه الخلاف الظاهر إذا كان خلاف ظاهره متعيّناً في معنى واحد؟

التحقيق فيه هو التفصيل بين ما لو كانت الجهة محرزة بالقطع لا بأصالة الجدّ، وما لو لم تكن محرزة بالقطع وإنّما اُثبتت بأصالة الجدّ.

أمّا في القسم الأوّل كقوله تعالى: ﴿الرحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بناءً على كونه ممّا نحن فيه فلا إشكال في حمل الكلام على معناه الخلاف الظاهر، فيقال: إنّ ما تكون الآية ظاهرة فيه من الاستيلاء المادّيّ قد علمنا بالدليل خلافه فنحملها على الاستيلاء المعنويّ، وحجّتنا على ذلك هو قطعنا به؛ إذ المفروض أ نّا نقطع بجهة الصدور ولا نحتمل في القرآن الكريم التقيّة فنقطع بأنّ المراد هو الاستيلاء المعنويّ.

وأمّا في القسم الثاني كأخبار نزح البئر لوقوع الميتة فيه، بناءً على أنّ ظاهرها نجاسة البئر بوقوع الميتة، وأنّ من المحتمل التقيّة وإنّما تحرز الجهة فيها بأصالة الجهة، وأنّ معناها الخلاف الظاهر منحصر في استحباب النزح مثلاً، فهل يتعيّن هذا المعنى بثبوت عاصميّة البئر بالدليل أو لا؟

التحقيق: عدم تعيّنه بذلك، فلا يثبت استحباب النزح كما لم تثبت النجاسة؛ وذلك لأ نّا لسنا قاطعين بالجهة حتّى يحصل لنا القطع بالحكم، فيجب أن يثبت لنا بدليل تعبّديّ، وليس هنا شيء يتوهّم كونه دليلاً تعبّديّاً سوى أصالة الجهة بدعوى

543

أنّها مستلزمة لذلك، ولكن لا يمكن إثبات ذلك بها؛ لأنّ أصالة الجهة لا تثبت شيئاً في المقام، فإنّ معنى أصالة الجهة هي أصالة كون ما اُريد استعمالاً مراداً جدّاً، فيجب أن يكون المراد الاستعماليّ محرزاً في نفسه ثمّ يثبت كونه جدّيّاً بأصالة الجهة، لا أن يثبت المراد الاستعماليّ بنفس أصالة الجهة.

وبكلمة اُخرى: إنّ ظاهر الكلام يعطي أنّ المراد الاستعماليّ هو المعنى الأوّل الذي رفعنا اليد عنه وأصالة الجهة بالنسبة إليه ساقطة؛ لفرض القطع بأنّه غير مراد جدّاً، فإن اُريد إجراؤها مع قطع النظر عن ذلك الظاهر لم يمكن؛ لعدم ثبوت موضوع لها وهو المراد الاستعماليّ. وإن اُريد إثبات مراد استعماليّ بها غير المعنى الظاهر ورد عليه ما ذكرناه من أنّ أصالة الجهة لا تثبت موضوعها(1).

بقي هنا شيء، وهو: أنّه إذا كان للكلام ظهوران طوليّان كما لو قلنا بأنّ الأمر ظاهر في الوجوب وفي طوله ظاهر في الاستحباب، فلا إشكال في أنّه بنفي الأوّل بدليل يتعيّن الثاني، ولا يرد عليه ما ذكرناه كما هو واضح، ولهذا استقرّت سيرة



(1) لا يخفى أنّ أصالة التطابق بين المدلول الاستعماليّ والمدلول الجدّيّ ليس مصبّها المدلول الاستعماليّ حتّى يقال: إنّه مردّد بين مقطوع البطلان وغير محرز الثبوت، وإنّما مصبّها ظهور حال المتكلّم في أنّ كلامه الذي يتكلّم به ليس فارغاً وتقيّة أو هزلاً أو نحو ذلك، كما نبّه عليه اُستاذنا الشهيد الصدر في دورته المتأخّرة التي عدل فيها عمّا نقلناه في المتن عن دورته السابقة بناءً على نقل السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ عنه في مباحث الدليل اللفظيّ (ج 3، ص 446)، وعليه فحينما تثبت عدم جدّيّة الظهور الأوّليّ فلابدّ أن نرى هل يوجد للكلام ظهور طوليّ في معنى مّا أو لا، فإن كان له ظهور طوليّ ثبت ذاك الظهور أو قل جدّيّته ببركة أصالة الجدّ، وإلّا أصبح الكلام مجملاً؛ لأنّ ظهوره الأوّليّ عرفنا عدم جدّيّته ولا ظهور آخر طوليّ له بحسب الفرض.

544

الأصحاب على حمل الأمر على الاستحباب بورود الرخصة، مع أنّهم كانوا يرونقبل المحقّق النائينيّ(قدس سره) أنّ الوجوب والاستحباب حكمان متغايران.

المقام الثاني: في المجمل بالذات، وهذا على قسمين:

القسم الأوّل: ما إذا كان الدليل متكفّلاً لذكر الجامع فقط من دون نظر إلى أحد القسمين كما لو ورد: (صلاة الليل مطلوبة). والإجمال في هذا القسم في الحقيقة إنّما يكون في الواقع، بمعنى أ نّا لا نفهم من الدليل ما هو الواقع من الوجوب أو الاستحباب، لا في نفس الدليل فإنّه ظاهر في نفس الجامع. وفي هذا القسم لا إشكال في أنّه مع قيام الدليل على انتفاء أحد الأمرين يثبت الآخر تارة بالمطابقة واُخرى بالالتزام، فلو قام الدليل في هذا المثال على عدم وجوب صلاة الليل ثبت استحبابها:

أمّا فرض الدلالة بالمطابقة: فكما لو قلنا بمبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الأحكام ثلاثة: الطلب والزجر والإباحة، غاية الأمر أنّ الطلب إذا وردت معه الرخصة في الترك سمّي بالاستحباب وإلّا سميّ بالوجوب، ونحوه الفرق بين الحرمة والكراهة، وعلى هذا فالوجوب مركّب من الطلب وعدم ورود الرخصة، والاستحباب مركّب من الطلب وورود الرخصة، وعندئذ فإذا ورد: (صلاة الليل مطلوبة) ووردت الرخصة في الترك فقد ثبت الاستحباب بالدليلين بالمطابقة؛ إذ هو مركّب من الطلب الثابت بالدليل الأوّل والرخصة في الترك الثابتة بالدليل الثاني.

وأمّا فرض الدلالة بالالتزام: فكما لو قلنا بأنّ الوجوب والاستحباب حصّتان من الطلب متغايرتان بأنفسهما، وورد: (صلاة الليل مطلوبة) ووردت الرخصة في

545

الترك، فدليل الرخصة يدلّ في الحقيقة على قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو كانت صلاة الليل مطلوبة فإنّما هي مطلوبة بالطلب الاستحبابيّ، ودليل مطلوبيّة صلاة الليل يدلّ بالمطابقة على شرط تلك القضيّة فيدلّ بالالتزام على جزائها؛ لمكان التلازم بين الشرط والجزاء.

القسم الثاني: ما إذا كان الدليل متكفّلاً لأحد الأمرين بالخصوص ووقع لنا الشكّ في أنّ أيّهما المراد ـ لإجمال الكلام ـ وقام الدليل على بطلان واحد منهما بالخصوص، وعندئذ: فتارة: تكون الجهة قطعيّة كما في القرآن الكريم، فلا إشكال عند ذاك في تعيّن المجمل في إرادة ذلك الأمر الآخر؛ للقطع بذلك؛ إذ المفروض أ نّا لا نحتمل في القرآن الكريم التقيّة ولا نحتمل فيه الخطأ أيضاً، فلا محالة يحصل القطع بكون المراد ذاك الأمر الآخر.

واُخرى: لا تكون الجهة قطعيّة كما ورد من أنّ الكرّ ستمئة رطل وفرضنا أ نّا نحتمل فيه التقيّة وأنّ أمره دائر بين الرطل العراقيّ والرطل المكّيّ ـ الذي هو ضعف الرطل العراقيّ ـ وفرضنا أنّه قام الدليل على أنّ الكرّ ليس ستمئة رطل عراقيّ، ودار الأمر بين كون المراد من ذاك الحديث الرطل المكّيّ وكون المراد منه الرطل العراقيّ لكن تقيّةً، فيمكن أن يتخيّل تعيّن الأوّل؛ لنفي الثاني بأصالة الجدّ فيثبت الأوّل بالملازمة. لكن التحقيق: أنّه لا يمكن أن يثبت بذلك كون الكرّ ستمئة رطل مكّيّ؛ إذ أصالة الجدّ إنّما تثبت مدلولها وما يلازم مدلولها، وليس كون الكرّ ستمئة رطل مكّيّ على جميع التقادير مدلولاً لأصالة الجدّ أو من لوازم مدلولها، فإنّه وإن كان ذلك مدلولاً لها على تقدير كون المراد الاستعماليّ لذاك الحديث هو المكّيّ، لكن على تقدير كونه العراقيّ ليس ذلك مدلولاً لها ولا من لوازمها كما هو

546

واضح، فلا يمكن في هذا الفرض حمل المجمل على المعنى الآخر لقيام الدليلعلى بطلان أحد المعنيين(1).

نعم، لو أمكن استنباط الحكم مع إبقاء المجمل على إجماله لم يكن به بأس، وذلك كما ورد من أنّ الكرّ ستمئة رطل وورد أيضاً أنّه ألف ومئتا رطل، فنقول: إنّه وإن كان جمعُ الأصحاب بينهما ـ بحمل الأوّل على المكّيّ والثاني على العراقيّ؛ لأنّه بذلك يحصل التوفيق بينهما ـ غير صحيح كما عرفت، لكنّا نستفيد الحكم منهما مع إبقائهما على الإجمال؛ وذلك لأنّ الأوّل يدلّ بالملازمة على جميع تقاديره على عدم كون الكرّ أزيد من ألف ومئتي رطل عراقيّ، والثاني يدلّ بالملازمة على جميع تقاديره على عدم كون الكرّ أقلّ من ألف ومئتي رطل عراقيّ، فالمدلول المطابقيّ لكلّ منهما وإن كان مجملاً لكنّا نأخذ بالمدلولين الالتزاميّين المبيّنين، ويثبت بذلك كون الكرّ عبارة عن ألف ومئتي رطل عراقيّ.

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.



(1) هذا في الحقيقة توسيع للإشكال الذي مضى في القسم السابق، وقد عرفت تعليقنا عليه وعرفت عدول اُستاذنا الشهيد عنه في الدورة المتأخّرة. فالصحيح في المقام هو حمل المجمل على المعنى الآخر ببركة إجراء أصالة الجدّ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.