367

ولنقدّم قبل الشروع في بيان ما هو الحقّ أمرين:

 

حقيقة الخطاب:

الأوّل: في حقيقة الخطاب.

اشتهر في الألسن أنّه عبارة عن قصد تفهيم المخاطب بالكلام، ومن هنا يقال بعدم معقوليّة خطاب المعدوم والغائب؛ لعدم قابليّتهما لقصد التفهيم.

وللمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في تحقيق حقيقة الخطاب كلام في تعليقته على الكفاية(1)، وهو: أنّ التفهيم ليس شرطاً في الخطاب ولا يتقوّم الخطاب به، ولذا يصحّ الخطاب من الله تعالى للعباد مع عدم فهمهم إيّاه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم﴾(2)، ولا يشترط أيضاً في ذلك السماع بالجارحة، ولذا يصحّ الخطاب من العباد لله تعالى مع أنّه لا يسمع بجارحة، ولا مطلق السماع، ولذا قد يُخاطَب الأصمّ بخطاب ويترجم له شخص آخر خطاب المتكلّم بإشارات يفهمها، ولا يشترط أيضاً الاجتماع في مجلس واحد، ولذا تخاطب الشيعة أئمّتها الذين قد ارتحلوا إلى عالم آخر، فهم يخاطبونهم من عالَم إلى عالَم، وإنّما الذي



(1) نهاية الدراية، ج 2، ص 471 ـ 473 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(2) المثال المذكور في عبارة الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) للخطاب بلا تفهيم وتفهّم هو مخاطبة الجماد الحاضر.

ولكن جاء في أثناء كلامه لدى بيان الاجتماع الإحاطيّ قوله: «سواء كان المتكلّم محيطاً كالبارئ تعالى شأنه عند خطابه لعباده وإن لم يلتفت المخاطب إلى الخطاب...»، فكأنّ التمثيل بآية (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم﴾ جرى على لسان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بمناسبة هذا المقطع وإن لم يكن موجوداً في عبارة الشيخ.

368

يكون دخيلاً في تحقّق الخطاب هو الاجتماع بأحد وجوه ثلاثة: الاجتماعالمكانيّ، كما لو خاطب الإنسان مَن هو حاضر في المجلس، والاجتماع السماعيّ كما في مخاطبة الشيعة مع أئمّتها، فإنّه وإن لم يكن بينهما اجتماع مكانيّ حقيقة، أي: أنّهما ليسا في مجلس واحد لكن سماع المخاطب ولو من بعيد يكون بمنزلة حضوره فهو بحكم الاجتماع المكانيّ، والاجتماع الإحاطيّ، ولذا يصحّ مخاطبة الله تعالى الذي هو محيط بالعباد لعباده وبالعكس.

هذا ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره).

وهو ـ كما ترى ـ لا يفيد وجهاً محصّلاً لتصوير حقيقة الخطاب، فإنّه إن أراد: أنّ حقيقة الخطاب هو اجتماع المتكلّم مع غيره فهو بديهيّ البطلان، فإنّه قد يجتمع الإنسان مع شخصين ويخاطب أحدهما دون الآخر، فلو كان الخطاب عبارة عن ذلك لكان كلاهما مخاطبين، مع أنّه ليس كذلك بل يمتاز أحدهما عن الآخر بالخطاب، وما به الامتياز غير ما به الاشتراك، وإن أراد: أنّ الاجتماع شرط في تحقّق الخطاب لم يظهر بذلك حقيقة الخطاب مع أنّه(قدس سره) كان في مقام بيان حقيقة الخطاب.

 

التحقيق في حقيقة الخطاب:

والتحقيق في هذا المقام: أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّه تتحقّق بالخطاب نسبة بين المخاطَب والمخاطِب، وأنّ الخطاب في الحقيقة ربط الكلام بالمخاطب بربط خاصّ وتوجيه إليه بنحو مخصوص فنقول: إنّ هذا الربط والتوجيه إمّا يكون لواقع الكلام، أعني: الصوت الخاصّ الذي أوجده المتكلّم، أو ربط لمضمون الكلام بالمخاطب، أو يكون هذا الربط من الاُمور النفسانيّة الثابتة في نفس المتكلّم:

أمّا الاحتمال الأوّل: فباطل قطعاً، فإنّه من الواضح أنّ الكلام صوت في الفضاء قائم بالمتكلّم ومرتبط به، ولا يعقل ارتباط خاصّ له بشخص آخر.

369

وأمّا الاحتمال الثاني: فأيضاً باطل قطعاً، فإنّه ربّما يكون مضمون الكلام مرتبطاً بغير المخاطب، وربّما يكون المخاطب غير مربوط به مضمون الكلام.

فتعيّن الاحتمال الثالث، وهو: أنّ الخطاب أمر نفسانيّ يرتبط بالمخاطب، وليس ذلك إلّا قصداً مخصوصاً، وليس هو إلّا قصد إعداد الغير للفهم من ناحية هذا الكلام وسدّ باب العدم من ناحية عدم ذلك الكلام بشرط أن يكون في الكلام ما يكون مبرزاً لذلك القصد، فلو قال بحضور المخاطب: ﴿لِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ قاصداً لإعداد المخاطب لفهم وجوب الحجّ عليه لم يكن هذا القصد خطاباً، بخلاف ما لو قال: (يجب عليك الحجّ)، فإنّ الضمير في عليك كان مبرزاً لذلك القصد. نعم، الإعداد للفهم له مراتب: فإنّه تارةً يكون مجرّد الإعداد، واُخرى يكون إعداداً قريباً للفعل، فعلى الأوّل يعمّ الخطاب للغائبين والمعدومين، وعلى الثاني يختصّ بالحاضرين أو الموجودين، وتعيين ذلك ـ أعني: أنّ الخطاب هل هو قصد مطلق الإعداد المبرز باللفظ أو قصد إعداد قريب للفعل مبرز باللفظ ـ مربوط بالاستظهار العرفيّ من أدوات الخطاب وليس عليه برهان عقليّ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ما هو الحقّ فيه.

 

تحرير ما ينبغي أن يكون محلاًّ للنزاع:

الثاني: في تحرير ما ينبغي أن يكون محلاًّ للنزاع.

ذكر المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1): أنّ النزاع في شيئين عقليّ ولفظيّ: فالعقليّ هو أنّه



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 489 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 548 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

370

هل يعقل خطاب المعدوم أو الغائب أو لا؟ واللفظيّ هو أنّه هل وضعت أداةالخطاب لخصوص خطاب الحاضر أو يشمل المعدوم والغائب؟

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1): أنّ النزاع العقليّ غير معقول، فإنّ الخطاب إن كان إنشائيّاً لا مجال لتوهّم عدم معقوليّته بالنسبة للمعدوم والغائب، وإن كان فعليّاً لا مجال لتوهّم معقوليّته بالنسبة لهما، فالنزاع إنّما هو بالنسبة للّفظ، وهو: أنّه هل تكون أداة الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقيّ أو للخطاب الإنشائيّ؟ واختار ـ دامت بركاته ـ بحسب الاستظهار العرفيّ أنّها موضوعة للخطاب الإنشائيّ، وهو إظهار توجيه الكلام نحو مدخول الأداة وهو المخاطب بداع من الدواعي، فإن كان بداعي الجدّ كان الخطاب حقيقيّاً، وإن كان بداع آخر كان إنشائيّاً(2).

أقول: في كلّ من كلاميه ـ أعني: تحريره لمحلّ النزاع واختياره لأحد الشقّين ـ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الخطاب الحقيقيّ إنّما هو قصد الإعداد المخصوص، وهو مدلول تصديقيّ للكلام الخطابيّ، كما أنّ الإخبار الحقيقيّ مدلول تصديقيّ للكلام الإخباريّ، والتمنّي الحقيقيّ مدلول تصديقيّ للكلام الدالّ على التمنّي وهكذا، وليس أحد من المتنازعين غيره ـ دامت بركاته ـ قائلاً بكون اللفظ موضوعاً للمدلول التصديقيّ، وإنّما يكون المدلول التصديقيّ عندهم مستفاداً من الظهور



(1) راجع المصدر الأوّل الذي أشرنا إليه في التخريج السابق تحت الخطّ. وراجع المحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 274 طبعة مطبعة صدر بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 491 تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع المحاضرات، ج 5، ص 276 بحسب الطبعة المشار إليها آنفاً.

371

السياقيّ، فلا معنى لأن يتنازعوا في وضع أداة الخطاب للخطاب الحقيقيّ وعدمه، وإنّما هي موضوعة للمدلول التصوّريّ وهو النسبة الخاصّة بين المخاطَب والمخاطِب، فإن كان استعمالها بداعي الجدّ تحقّق الخطاب الحقيقيّ وهو قصد الإعداد المخصوص، بخلاف ما لو كان بسائر الدواعي كالتحسّر والتحزّن ونحو ذلك، فما جعله محلاًّ للنزاع ليس محلاًّ له.

وبكلمة اُخرى: إن فُرض النزاع فيما وضعت له الأداة لغةً فليس أحد من الطرفين يحتمل وضعها للخطاب الحقيقيّ؛ لأنّ الخطاب الحقيقيّ مدلول تصديقيّ وليس تصوّريّاً. وإن فُرض النزاع في الجدّ وعدمه؛ إذ على الأوّل يفهم الخطاب الحقيقيّ بخلاف الثاني، فهذا أيضاً لا معنى له؛ لأنّهم متّفقون على أصالة الجدّ في كلّ كلام شكّ في جدّيّته، والخطاب أيضاً ككلّ كلام آخر يحمل على الجدّ بلا إشكال، ولا خصوصيّة للخطاب يمتاز بها عمّا عداه من بقيّة الكلام كالإخبار والتمنّي والترجّي وغيرها، فكما أنّ الأصل فيها هو الجدّ كذلك الحال فيما نحن فيه.

ولكن هذا لا يعني أنّنا نعود إذن إلى جعل النزاع عقليّاً صِرفاً في أنّه هل يعقل خطاب المعدوم مثلاً أو لا؛ لوضوح أنّه لو أردنا من الخطاب قصد مطلق الإعداد للفهم المبرز بالكلام كان خطاب المعدوم معقولاً، ولو أردنا قصد الإعداد القريب من الفعل لم يكن ذلك معقولاً.

فالذي ينبغي أن يكون محلاًّ للنزاع هو ما مضت الإشارة إليه في كلامنا من أنّ أدوات الخطاب مُفهمة لقصد الإعداد المطلق أو لقصد خصوص الإعداد القريب من الفعل.

وأمّا الثاني ـ وهو استظهاره العرفيّ لكون أداة الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائيّ، يعني استظهار توجيه الكلام نحو مدخول الأداة وهو المخاطب بداع

372

من الدواعي ـ: فهذا أيضاً كلام لا نفهمه؛ إذ لو قصد بتوجيه الكلام نحو المخاطب توجيهه حقيقةً وتكويناً إليه فلا معنى لذلك إلّا الخطاب الحقيقيّ وقصد الإعداد المخصوص؛ إذ ما عداه وهو ذات الصوت في الفضاء لا معنى لتوجيهه نحو الغير حقيقة كما مرّ، والمفروض أنّه ـ دامت بركاته ـ أنكر وضع أداة الخطاب للخطاب الحقيقيّ، فحمل كلامه على إرادة التوجيه الحقيقيّ والتكوينيّ يستبطن التناقض في كلامه.

ولو قصد بذلك التوجيه الإنشائيّ بمعنى إيجاد الخطاب بالكلام ـ كما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ من أنّ التكلّم بالخطاب إيجاد للخطاب، وبالتمنّي إيجاد للتمنّي ونحو ذلك ـ ورد عليه: أنّ هذا خلاف مبناه في الإنشائيّات، فإنّه يقول ـ وهو الحقّ ـ باستحالة إيجاد المعنى باللفظ.

ولو قصد بذلك ما ذكرناه من المعنى التصوّريّ الذي هو النسبة التصوّريّة الخاصّة بين المخاطِب والمخاطَب ورد عليه: أنّ هذا خلاف مبناه في باب الوضع من أنّ الموضوع له هو المعاني التصديقيّة لا التصوّريّة.

وبعد تقديم هاتين المقدّمتين نقول: قد عرفت أنّ الذي ينبغي أن يكون محلاًّ للنزاع هو: أنّ أداة الخطاب هل هي مُفهمة لقصد إعداد الغير لفهمه من ناحية هذا الكلام إعداداً مطلقاً، أو مُفهِمة لقصد الإعداد القريب من النتيجة ؟

ومن هنا يظهر ما في كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)، حيث فصّل بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة، فادّعى الاختصاص في الأوّل والعموميّة في الثاني، تمسّكاً بأنّ الخطاب وإن كان محتاجاً إلى وجود المخاطب فخطاب المعدوم يحتاج إلى تنزيله منزلة الموجود، لكن القضيّة الحقيقيّة قد اُخذ فيها مع قطع النظر عن أداة الخطاب تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فلا يلزم فيها من ناحية الخطاب ـ لو عمّم

373

للمعدومين ـ مؤونة زائدة، وذلك بخلاف القضايا الخارجيّة(1).

توضيح البطلان: أنّه إن فرض أنّ أداة الخطاب مُفهِمة لقصد مطلق الإعداد صحّ خطاب المعدوم حتّى في القضايا الخارجيّة، وإن فرض أنّها مُفهِمة لقصد الإعداد القريب من النتيجة لم يعمّ الخطاب بنفسه المعدوم حتّى في القضايا الحقيقيّة، وتنزيل المعدوم منزلة الموجود لا يجعل الإعداد قريباً من النتيجة، فإنّ التنزيل إنّما يثمر ترتّب الآثار الاعتباريّة لا الآثار التكوينيّة.

 

التحقيق في المسألة:

والتحقيق: أن يقال: إنّ المعدوم إن كان ممّا لا يترقّب وجوده بعد ذلك لم يصحّ خطابه حقيقةً في نظر العرف، كفرض خطاب أخ لنوح(عليه السلام) لم يوجد. وإن كان ممّا يترقّب وجوده لم يكن مانع من العرف عن مخاطبته حقيقة، كما لو فرض أنّ شخصاً كان على فراش الموت وله ولد لم يتولّد بعدُ، فإنّه يصحّ له الخطاب مع ولده في المسجِّل مثلاً حتّى يسمعه الولد بعد ذلك، كما أنّه تصحّ مخاطبة الأجيال الآتية قبل وجودها، إلّا أن يشترط في ذلك كون المتكلّم من شأنه ذلك، أعني: مخاطبة الأجيال الآتية، كالشارع، وأمّا إن لم يكن من شأنه ذلك فلا يصحّ له خطابهم لكن لا لضيق في ناحية مدلول أداة الخطاب بل لعدم قابليّة نفس المتكلّم لذلك.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه شمول الخطابات الواردة في شرعنا لنا ولمَن بعدنا،



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 490 ـ 491 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 550 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

374

كشمولها للحاضرين مجلس التخاطب والموجودين في ذلك الزمان ما لم تقم قرينة على الاختصاص.

 

تنبيهان:

 

هل يمكن استفادة العموم من نفس الكلام بناءً على القول بالاختصاص؟

التنبيه الأوّل: أنّه لو قلنا باختصاص الخطاب بالموجودين أو الحاضرين مجلس التخاطب فهل يمكن استفادة عموميّة الحكم لغيرهم من نفس الكلام مع هذا الفرض أو لا؟ وهذا البحث يشبه البحث عن أنّ الأحكام الثابتة في الشريعة المختصّة بالقادر ـ بواسطة المخصّص اللبّيّ ـ هل يمكن إثبات ملاكها بنفس الكلام بالنسبة للعاجز أو لا؟(1). وقد ذكر هناك وجهان لذلك:

أحدهما: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّ مقتضى إطلاق المادّة في قوله مثلاً: (صلّ) في المرتبة السابقة على عروض الهيئة ـ وهي مرتبة الملاك ـ عدم الاختصاص بالقادر(2).

ويرد عليه: أنّ الإطلاق عبارة عن عدم دخل شيء في موضوعيّة الشيء



(1) وذلك لأنّ الحكم ملاك للخطاب، فكما قد يقال بكشف الحكم عن ملاك أوسع منه، فالحكم يختصّ بالقادر ولكن الملاك يشمل العاجز، فلنقل في المقام بكشف الخطاب عن ملاك أوسع منه يشمل مَن لم يشمله الخطاب ـ لغياب أو لعدم الوجود ـ وملاكه هو الحكم فيثبت الحكم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 267 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

375

الكذائيّ للحكم الكذائيّ، فثبوته متوقّف على أن يحكم على موضوع بحكم حتّى يقال: إنّ مقتضى مقدّمات الحكمة عدم دخل شيء خاصّ في ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع، وأنت ترى أنّ المادّة في المرتبة السابقة على عروض الهيئة عليها لم يحكم عليها في الكلام بحكم حتّى يتمسّك بالإطلاق.

والإنصاف أنّ هذا من غرائبه(قدس سره)، فإنّه(رحمه الله) معروف بالفقاهة وجودة الذوق العرفيّ، وهذا الكلام يكون من تلك التدقيقات العقليّة المخالفة للذوق العرفيّ جدّاً.

وثانيهما: ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ(قدس سره) من أنّ قوله مثلاً: (صلّ) دلّ بالدلالة المطابقيّة على وجوب الصلاة وبالدلالة الالتزاميّة على ثبوت الملاك في الصلاة، والدلالة المطابقيّة خصّصت بمخصّص لبّيّ وسقطت بالنسبة للعاجز عن الحجّيّة، وسقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة لا يوجب سقوط الدلالة الالتزاميّة عن الحجّيّة(1).

ويرد عليه: منع عدم سقوط الدلالة الالتزاميّة عن الحجّيّة بسقوط المطابقيّة عنها في مثل المقام على ما هو المحقَّقُ الثابت عندنا في محلّه.

وعلى أيّ حال فالمقصود فيما نحن فيه: أنّه لو فرض تماميّة أحد هذين الوجهين في باب إثبات ملاك الحكم بالنسبة للعاجز فهل يتأتّى ذلك فيما نحن فيه



(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 43 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وكذلك ص 207 تحت الخطّ نقلاً عن تقرير الشيخ الآمليّ لبحث الشيخ العراقيّ، وكذلك المقالات، ج 1، ص 313 ـ 314 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، إلّا أنّه لم يجر في شيء من هذه الموارد التعبير بأنّ دلالة الأمر على التكليف مطابقيّة وعلى الملاك التزاميّة. نعم، قد ورد بيان هذا الوجه بالتعبير بالمطابقيّة والالتزاميّة في المحاضرات للفيّاض عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) عن جماعة من المتأخّرين منهم شيخنا الاُستاذ(قدس سره) (والظاهر أنّه يقصد الشيخ النائينيّ(رحمه الله)). راجع المحاضرات، ج 3، ص 71 ـ 72 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

376

لإثبات ملاك الخطاب بالنسبة لمَن لم يشمله الخطاب من الغائب أو المعدوم ـ وملاك الخطاب هو الحكم ـ أو لا؟

يمكن أن يتمسّك فيما نحن فيه بالوجه الأوّل ويقال: إنّ كلمة (الناس) مثلاً في قوله: (يا أيّها الناس صلّوا) وإن اختصّت في رتبة الخطاب بالحاضرين لكنّا نتمسّك بإطلاقها في الرتبة السابقة على الخطاب لإثبات ملاك الخطاب الذي هو الحكم للمعدومين.

ولكن يرد عليه: أنّه لو تمّ هذا الوجه في باب إثبات ملاك الحكم لا يتمّ فيما نحن فيه، وذلك لوجهين:

أحدهما: أنّ المقيّد لإطلاق الناس هو أداة الخطاب المتّصلة بالكلام، وهي صالحة للقرينيّة على تقييد الناس في جميع المراتب(1).

وثانيهما: أنّنا لو غضضنا النظر عن الإشكال السابق فمن الواضح أنّ البيان الماضي عن الشيخ النائينيّ في باب الحكم لا يجري في باب الخطاب بمثل: (صلّوا) أو: (أنتم صلّوا) ونحو ذلك ممّا كان نفس الحكم فيه مبيّناً بصيغة الخطاب.

ونعمّم هذا الإشكال حتّى فيما لو اقترن الحكم المبيّن بصيغة الخطاب بمثل كلمة: (يا أيّها الناس) فقال مثلاً: (يا أيّها الناس صلّوا)؛ لأنّ المقصود من التمسّك بإطلاق كلمة (الناس) إثبات الحكم للمعدومين، والحكم إنّما ثبت بقوله: (صلّوا) وهو مصاغ بصيغة الخطاب، فلا يمكن تعميمه للمعدوم.



(1) في حين أنّ المقيّد في باب الأمر الدالّ على الاختصاص بالقادر كان لبّيّاً، فلو غفلنا هناك عن أنّ هذا المقيّد اللبّيّ ـ وهو حكم العقل بعدم شمول الحكم للعاجز ـ يعتبر بديهيّاً كالمتّصل، فمن الواضح في المقام اتّصال أداة الخطاب.

377

بل نعمّم هذا الإشكال لجميع الموارد حتّى في مثل: (يا أيّها الناس تجب الصلاة)، فإنّنا لو آمنّا بإطلاق (تجب الصلاة) لشمول المعدوم رغم اكتنافه بــ (يا أيّها الناس) فنفس هذا الإطلاق يكفينا، ولا حاجة إلى فرض إطلاق للناس في الرتبة السابقة على الخطاب. ولو لم نؤمن بذلك أصبح حال هذا الكلام حال (يا أيّها الناس صلّوا).

وأمّا التمسّك بالوجه الثاني الذي مضى عن المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ بعد فرض تماميّته في باب الأمر ـ فأيضاً غير صحيح؛ إذ لو اُريد فيما نحن فيه التمسّك بهيئة الخطاب فهذا تمسّك بالدلالة المطابقيّة لا الالتزاميّة، وهيئة الخطاب مختصّة فرضاً بالحاضرين أو الموجودين فكيف يتمسّك بها للمعدومين؟ وإن اُريد التمسّك بهيئة الحكم فالحكم منصبّ على الموضوع الذي ضيّق بواسطة الخطاب، فهيئة الحكم لا تشمل من أوّل الأمر المعدومين، لا أنّها تشملهم ولكن سقطت حجّيّة الدلالة المطابقيّة بالنسبة إليهم حتّى يقال ببقاء الدلالة الالتزاميّة على حجّيّتها. هذا.

والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) قد تعرّض في مقالاته لمسألة التمسّك بعموم العنوان الذي دخلت عليه أداة الخطاب بناءً على عدم شمول الخطاب للمعدومين، قياساً لذلك بالتمسّك بعموم المادّة للعاجز مع قصور الهيئة في الأوامر عن الشمول لغير القادر، وهذا نصّه:

«..غاية الأمر قصور الخطاب عن الشمول لغير الحاضر، وذلك لا ينافي مع الأخذ بعموم العنوان الذي دخلت عليه هذه الأداة مثل: (الذين آمنوا) وأمثاله، نظير التشبّث بإطلاق المادّة مع قصور الهيئة في الأوامر عن الشمول لغير القادر».

ثمّ أورد على ذلك بما نصّه:

«ـ مضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعى؛ إذ لا يشمل هذا الوجه ما لا يكون في

378

طيّ الأداة عنوان عامّ، بل الخطاب بالهيئة أو أداته كــ (كاف) الخطاب بنفسهما حاكيان عن الموضوع ـ: إنّ اللفظ الحاكي عن الموضوع إذا وقع في طيّ هيئة قاصرة عن الشمول لمصداق يستحيل أن يحكي بأزيد من الدائرة الواقعة في طيّ الهيئة؛ لاستحالة أوسعيّة دائرة الموضوع لبّاً عن حكمه. نعم، بالنسبة إلى مقتضيات الحكم وإن كان قابلاً لأوسعيّة الموضوع عن دائرة حكمه الفعليّ ولكن مع اقترانه بمثل هذه الهيئة القاصرة عن الشمول للعاجز لا يبقى للمادّة المقرونة بها ظهور في الشمول له حتّى من حيث مقتضيات الحكم، بملاحظة اتّصال المادّة بمثل هذه الهيئة القاصرة الصالحة للقرينيّة.

وتوهّم أنّ الهيئة قاصرة عن الشمول من جهة اقتضاء فعليّة التكليف، وأمّا من حيث دلالتها على المقتضي فلا قصور في اقتضائها أوسعيّة دائرة المصلحة عن دائرة فعليّة التكليف، فلا يمنع عن الأخذ بإطلاق المادّة بل الهيئة حينئذ في هذا المقام، مدفوع بأنّ اقتضاء الهيئة للمصلحة إنّما هو بتبع اقتضائها فعليّة التكليف، وكيف يمكن اقتضاؤها أوسعيّة دائرة المصلحة عن فعليّته؟ غاية الأمر لا تدلّ أيضاً على ضيق دائرة المصلحة لا أنّها تدلّ على سعتها، فإذا كانت الهيئة المزبورة قاصرة عن الدلالة على السعة فمع اقترانها بالمادّة كانت من باب اتّصال المادّة بما يصلح للقرينيّة وإن لم يكن بقرينة، وهذا المقدار يكفي لمنع ظهور المادّة في الإطلاق.

ولذلك أعرضنا عن هذا الوجه في وجه الأخذ بإطلاق الأوامر لاستكشاف المصلحة في حقّ العاجز، والتزمنا بظهور الهيئة أيضاً في الإطلاق المحرز قابليّة المحلّ من جهة القدرة ما لم تقم قرينة خارجيّة على عدم القدرة، وهذا أيضاً لو بنينا على جواز التمسّك عند الشكّ في مصداق المخصّص اللبّيّ، وإلّا فعلى

379

المختار فلا مجال للتمسّك بإطلاق الخطاب أيضاً، بل لابدّ من إجراء حكم القدرة عند الشكّ به من طريق آخر، كما شرحنا في طيّ الواجب المشروط في مقدّمة الواجب.

وعلى أيّ حال لا يجري هذا الوجه في المقام؛ إذ الهيئة بنفسها ظاهرة في المخاطبين ولا دلالة لها على أوسعيّة مدلول الهيئة عن خصوص الخطاب كي يكون تخصيصها به بدليل منفصل كما هو الشأن في هيئة الأوامر بالنسبة إلى القدرة...»(1).

وفي كلامه(قدس سره) مواضع للنظر:

أحدها: قوله: «مضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعى؛ إذ لا يشمل هذا الوجه...»، فإنّك قد عرفت أنّ هذا الإشكال ينبغي تعميمه لجميع الموارد، ولا يختصّ ببعضها حتّى يقال: إنّ الدليل أخصّ من المدّعى، بل يفيد بطلان إسراء الدليل إلى ما نحن فيه رأساً.

ثانيها: قوله: «إنّ اللفظ الحاكي عن الموضوع إذا وقع في طيّ هيئة...»، فقد أورد هذا الإشكال على أصل استدلال الشيخ النائينيّ(رحمه الله) لإحراز ثبوت الملاك بشأن العاجز في باب الأوامر، في حين أنّه كان ينبغي له أن يخصّص هذا الإشكال بالتعدّي من ذاك الباب إلى ما نحن فيه؛ لكون أداة الخطاب متّصلة بالكلام في المقام، وأمّا في باب الأوامر فحكم العقل باختصاص الوجوب بالقادر لو فرضه مقيّداً منفصلاً لم يرد هذا الإشكال هناك، ولو فرضه متّصلاً فكما أنّ هذا الإشكال يبطل وجه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)لإحراز الملاك بشأن العاجز في باب الأوامر،



(1) المقالات، ج 1، ص 460 ـ 461 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

380

كذلك يبطل وجهه هو لإحراز الملاك بشأن العاجز في باب الأوامر، في حين أنّه قد تقدّم منه في المقالات في بحث الأوامر(1) التصريح بكون حكم العقل بشرط القدرة مقيّداً منفصلاً، وأنّه نحرز ـ إذن ـ الملاك بشأن العاجز بإطلاق الكلام.

والخلاصة: أنّ الجمع بين عدّ هذا المخصّص اللبّيّ منفصلاً والقول بصحّة الوجه الثاني لإحراز الملاك بشأن العاجز في باب الأوامر جمع بين المتضادّين.

ثالثها: قوله: «مدفوع بأنّ اقتضاء الهيئة للمصلحة...»، فإنّ هذا الكلام إنكار للوجه الثاني أساساً لإحراز الملاك بشأن العاجز، في حين أنّه أقرّه في نفس المقالات في بحث الأوامر(2).

رابعها: قوله: «فمع اقترانها بالمادّة كانت من باب اتّصال المادّة بما يصلح للقرينيّة...»، فإنّ هذا مبتن على ما لا يقرّه من أنّ المخصّص اللبّيّ المخرج للعجز يعتبر كالمتّصل.

خامسها: قوله: «والتزمنا بظهور الهيئة أيضاً في الإطلاق المحرز قابليّة المحلّ من جهة القدرة ما لم تقم قرينة خارجيّة على عدم القدرة، وهذا أيضاً لو بنينا على جواز التمسّك عند الشكّ في مصداق المخصّص اللبّيّ...»، فإنّ تسليم هذا الإطلاق بناءً على جواز التمسّك بالمخصّص اللبّيّ لدى الشكّ في مصداقه يعدّ المخصّص اللبّيّ المُخرج للعاجز منفصلاً لا يجتمع مع المنع عن الإطلاق السابق بدعوى اقتران الكلام بما يصلح للقرينيّة، فإنّ هذا المخصّص إمّا يمنع عن كلا



(1) في الجزء الأوّل، المقالة: 19، ص 313 ـ 314 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

(2) المصدر السابق.

381

الإطلاقين(1) أو لا يمنع عن شيء منهما، ولا معنى للتفكيك بينهما، فهل هذا إلّا تهافت غريب؟

 

ثمرة النزاع في المسألة:

التنبيه الثاني: في ثمرة أصل النزاع. قد ذكرت لذلك ثمرتان:

الاُولى: ثمرة مبنيّة على مبنىً للمحقّق القمّيّ(رحمه الله) وهو اختصاص حجّيّة الظهورات بمَن قصد إفهامه، فيقال على هذا: إنّه لو كان الخطاب شاملاً لنا فنحن داخلون في مَن قصد إفهامه فظهور الكلام حجّة لنا، وإلّا فلا نعلم بدخولنا في مَن قصد إفهامه فليس ظهوره حجّة لنا.

وهذا المبنى وإن كان ممنوعاً عندنا لكن هذا لا يعني الاعتراض على هذه الثمرة، فإنّ المفروض كونها ثمرة بنائيّة، أي: بناء على هذا المبنى، وهي على مبناها صحيحة.

نعم، إنّما تترتّب هذه الثمرة بين تعميم الخطاب الحقيقيّ للمعدومين وعدمه، فعلى الأوّل يكون ظهور الكلام حجّة لنا؛ للعلم بكوننا مقصودين بالإفهام. وعلى الثاني لا يكون كذلك. أمّا بناءً على مبنى مَن يقول بأنّ المعمّم لنا إنّما هو الخطاب الإنشائيّ ـ بأيّ معنى فرضناه ـ لا الحقيقيّ فلم يعلم أيضاً كوننا داخلين في مَن قصد إفهامه حتّى يكن الظهور حجّة بالنسبة لنا، فلا تغفل.

الثانية: أنّ الظهور الذي هو حجّة حتّى لغير مَن قصد إفهامه ـ كما هو الحقّ ـ إنّما



(1) أي: الإطلاق الذي يثبت عدم دخل القدرة في الملاك، والإطلاق الذي يثبت تحقّق القدرة لدى الشكّ فيها.

382

يفيدنا في الأحكام الواردة بلسان الخطاب ويثبت به الحكم لنا بناءً على شمولالخطاب لنا، أمّا بناءً على اختصاصه بالموجودين أو الحاضرين مجلس التخاطب فلا ظهور في ثبوت الحكم بالنسبة لنا أصلاً كما هو واضح.

فعلى الأوّل ـ أعني: شمول الخطاب للمعدومين ـ يثبت الحكم لنا بنفس الكلام الوارد بلا حاجة إلى ضمّ شيء آخر عليه.

وأمّا على الثاني ـ أعني: عدم شموله للمعدومين ـ فنحتاج في إثبات الحكم لنا بذلك إلى ضمّ قاعدة الاشتراك الثابتة بالإجماع. وقاعدة الاشتراك إنّما تجري مع فرض الاتّفاق في الصنف، أي: مع فرض عدم فقدنا لوصف ثابت فيهم يحتمل دخله في الحكم، كوصف كونهم في زمان الحضور المحتمل دخله مثلاً في وجوب صلاة الجمعة.

نعم، لو كان الوصف الذي فقدناه وكان ثابتاً فيهم ممّا كان بالنسبة لهم في معرض الزوال كصفة الفقر مثلاً التي يفقدها كثير من المسلمين في هذا اليوم، وكانت في أوّل الإسلام ثابتة للمسلمين ولكنّها كانت في معرض الزوال كما قد زالت بعد مدّة، فهذا الوصف لو احتملنا دخله في الحكم تمسّكنا بإطلاق دليل الحكم بالنسبة لهم وأثبتنا تحقّق الحكم لهم حتّى مع فرض الغنى، وبعد ذلك تمسّكنا بقاعدة الاشتراك لإسراء الحكم إلينا.

وأمّا لو كان الوصف المحتمل دخله في الحكم ممّا لم يكن في معرض الزوال بالنسبة لهم، كوصف التشرّف بخدمة المعصوم الذي لا يقبل الارتفاع إلى الأبد بعد أن تحقّق في وقت من الأوقات؛ لأنّ الواقع لا ينقلب عن وقوعه ففي مثل هذا الفرض تظهر ثمرة النزاع في اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه.

ولا يرد على ذلك ما أورده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1): من أنّ خصوصيّة الخطاب



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 34، ص 462 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

383

مغفول عنها، ولعلّ مقصوده من ذلك: أنّ العرف لا يرضى بكون خصوصيّة الخطاب دخيلة في الحكم، أي: أنّه لو بيّن المولى حكماً لشخص بلسان الخطاب لا يحتمل أحد من العرف كون نفس مخاطَبيّته دخيلة في الحكم، فالعرف يفهم من نفس الكلام عموميّة الحكم، نظير إلغائه لكثير من خصوصيّات المورد، فمثلاً لو سئل الإمام(عليه السلام) عن حبّ ماء واقع على باب المسجد هل يطهر المتنجّس بالملاقاة معه أو لا؟ فقال: نعم، لم يحتمل أحد من العرف كون وقوعه على باب المسجد دخيلاً في الحكم، بل يفهم العرف من الكلام أنّه مهما كان الماء بذلك المقدار كان مطهّراً، وخصوصيّة الخطاب في نظر العرف من هذا القبيل.

وأنت ترى أنّ هذا الكلام غير خال من النظر، فإنّه ليس المقصود دعوى احتمال دخل نفس عنوان الخطاب في الحكم، بل المقصود دعوى احتمال دخل الوجود الخاصّ الذي كان ملازماً لهم في الرتبة السابقة لفرض اختصاص الخطاب بالموجودين.

384

 

تعقّب العامّ بضمير في جملة ثانية يرجع إلى بعض أفراده

الجهة السادسة: في أنّه إذا تعقّب العامّ بضمير اُريد به الخصوص كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾، للعلم باختصاص الحكم الثاني بالرجعيّات، فهل يؤخذ مع ذلك بعموم العامّ في الحكم الأوّل أو يوجب ذاك الضمير تخصيصه؟

هذا الأمر له فرضان:

أحدهما: أن يفرض حصول العلم بكون المراد الاستعماليّ من الضمير هو الخصوص.

وثانيهما: أن يفرض أنّه لم يحصل العلم بكون المراد الاستعماليّ منه الخصوص، وإنّما حصل العلم بكون المراد الجدّيّ منه الخصوص. والآية الشريفة من هذا القبيل، بل كلّما كان في شريعتنا من قبيل ما نحن فيه فهو داخل في الفرض الثاني ولا يوجد فيها مورد نعلم بكون المراد الاستعماليّ للضمير الراجع إلى العامّ هو الخصوص. وعلى أيّة حال يقع الكلام في مقامين:

 

الكلام فيما لو علم أنّ المراد الاستعماليّ من الضمير هو الخصوص:

المقام الأوّل: فيما لو علم بكون المراد الاستعماليّ من الضمير الراجع إلى العامّ هو الخصوص.

قد ذهب المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ(قدس سرهم) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى أنّ أصالة عدم الاستخدام في ذلك غير صالحة للمعارضة مع أصالة العموم، فهم بين قائل بعدم ابتلاء أصالة العموم بمعارض أصلاً، وقائل بابتلائها بمعارض آخر غير أصالة عدم الاستخدام.

385

والوجه في عدم صلاحيّتها للمعارضة ـ على ما ذكروه ـ هو: أنّ أصالة عدمالاستخدام إنّما تجري في فرض عدم العلم بالمراد ليتعيّن بها المراد، لا في فرض العلم بالمراد والشكّ في كونه مبنيّاً على وجه الاستخدام أو لا، فإنّ أصالة الحقيقة وجميع فروع أصالة الظهور إنّما تجري في الشكّ في المراد دون الشكّ في الاستناد.

والسرّ في ذلك على ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو العمل بها عند الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد(1).

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ ظاهره تسليم ظهور كاشف للاستناد ككشف سائر الظهورات الكلاميّة عن مداليلها، ودعوى أنّ هذا الظهور ليس حجّة، وإلّا كان المناسب هو التعليل بعدم الظهور لا بعدم ثبوت البناء على العمل من قِبل العقلاء.

والمحقّق النائينيّ(قدس سره) أيضاً علّل المطلب بما يكون ظاهراً في ذلك، أعني: تسليم الظهور وإنكار حجّيّته(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 362 ـ 363 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 493 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 553 ـ 554 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وحاصل ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في المتن: من أنّ أصالة عدم الاستخدام لا ثمرة عمليّة لها في مدلول الكلام المطابقيّ حتّى تصبح حجّة حتّى نتعدّى بعد ذلك إلى تخصيص العموم من باب حجّيّة لوازم الاُصول اللفظيّة، فإنّ معنى حجّيّة لوازم الاُصول اللفظيّة هو أنّه بعد أن أصبح الأصل اللفظيّ حجّة في مدلول الكلام المطابقيّ تثبت أيضاً لوازمه، وهنا لا حجّيّة للمدلول المطابقيّ؛ لعدم ترتّب أثر عمليّ في مورده فلا يثبت لازمه أيضاً. وهذا ـ كما ترى ـ واضح في التفصيل في حجّيّة الظهور مع تسليم أصل الظهور.

386

وقد تكرّر في كلمات السيّد المرتضى(قدس سره) الاستدلال بأصالة الحقيقة عند معلوميّة المراد على كونه معنى حقيقيّاً للّفظ، وأوردوا عليه بأنّ أصالة الحقيقة إنّما تجري عند الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّه تارة: نفترض أنّ لفظ (أسد) مثلاً نعلم بكونه موضوعاً للحيوان المفترس، ونشكّ في أنّه هل هو موضوع أيضاً لما استعمله فيه المتكلّم من الرجل الشجاع أو لا، وفي هذا الفرض لا معنى للتمسّك بأصالة الحقيقة، فإنّ أصالة الحقيقة في نفسها ليست أصلاً برأسه عند العقلاء في قبال الظهور وإنّما مرجعها إلى حجّيّة الظهور. ولفظ (أسد) الصادر من المتكلّم لم يثبت له أصلاً ظهور يكون حجّة، فإنّ ظهوره في الحيوان المفترس المعلوم عندنا مقطوع الكذب على الفرض، وظهوره في الرجل الشجاع مشكوك رأساً؛ لفرض عدم العلم بوضعه له.

واُخرى: يفترض أ نّا نعلم إجمالاً بوضع لفظ (أسد) لمعنى، ونحتمل كونه نفس ما استعمله المتكلّم فيه وهو الرجل الشجاع، ففي هذا الفرض يمكن إثبات ما ذهب إليه السيّد المرتضى(رحمه الله) من دعوى كون هذا الاستعمال دليلاً على الحقيقة؛ وذلك لأ نّا نعلم إجمالاً بظهور هذا اللفظ في شيء وهذا الظهور لم يثبت لنا كذبه، فهو غير ساقط عن الحجّيّة كما كان ساقطاً عنها في الفرض الأوّل، فنضمّ هذا الظهور إلى علمنا الخارجيّ بكون ما استعمله المتكلّم فيه هو الرجل الشجاع، فيثبت بالملازمة كون هذا اللفظ حقيقة في الرجل الشجاع؛ لأنّه لا يعقل الجمع بين عدم كذب الظهور الثابت ببناء العقلاء وعدم مخالفة هذا القطع الخارجيّ للواقع الثابت للشخص القاطع (إذ لا يحتمل القاطع خطأه في القطع) إلّا بفرض كون اللفظ حقيقة في الرجل الشجاع.

387

ولا يرد على ذلك ما مرّ عن المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): من أنّ القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو العمل بأصالة الحقيقة عند الشكّ في المراد لا الاستناد؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء ليس جزافيّاً، فإذا فرض اختصاص بنائهم في حجّيّة الظهور بغير ما نحن فيه وعدم حكمه بحجّيّته فيما نحن فيه فلابدّ لذلك من نكتة ثابتة في أذهانهم ولو إجمالاً، فلا يتمّ لنا صِرف دعوى أنّ العقلاء يحكمون باختصاص حجّيّة الظهور بغير ما نحن فيه بدون ذكر نكتة لذلك، ولو كانت هناك نكتة فلابدّ من أن نظفر بها لفرض ثبوتها ولو إجمالاً في ذهننا.

والخلاصة: أنّ حجّيّة الظهور ليست ثابتة بتعبّد صِرف من الشارع حتّى لا ندرك ملاكها ونحتمل اختصاصها تعبّداً ببعض الموارد دون بعض، بل هي ثابتة بنظر العقلاء ويسوغ لنا دعوى درك عدم اختصاص ملاكها بغير ما نحن فيه، ونحن ندّعي ذلك، فظهر: أنّ الإيراد على هذا التقريب ـ بأنّ بناء العقلاء إنّما ثبت عند الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد ـ غير صحيح.

كما أنّ الإيراد عليه بما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) في هذا المبحث ـ أعني: مبحث تعقّب العامّ بضمير اُريد به الخاصّ ـ: من أنّ ظهور الضمير في عدم كونه على وجه الاستخدام بعد أن لم يكن حجّة بمدلوله المطابقيّ ـ لعدم ثبوت ثمرة فيه ـ لا يكون حجّة في إثبات لازمه وهو كون المراد من العامّ أيضاً الخصوص، فإنّ إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم، غير صحيح أيضاً؛ إذ لا يشترط في حجّيّة الأمارة ثبوت الثمرة لها بلحاظ المدلول المطابقيّ بل يكفي ثبوتها لها بلحاظ ما يلزم مدلولها، مثلاً: لو شهدت البيّنة بموت الحيوان الكذائيّ وعلمنا من الخارج بأنّه لو كان هذا الحيوان قد مات فقد مات في الظرف الفلانيّ وتنجّس ماؤه، لا إشكال في حجّيّة هذه البيّنة وثبوت نجاسة ذلك الماء، مع أنّه لا تترتّب ثمرة بلحاظ

388

المدلول المطابقيّ للبيّنة، فهذا الإشكال أيضاً غير وارد على ما مضى من التقريب.

والتحقيق في ردّ ذلك التقريب: أن يقال: إنّ الكلام إنّما يكون حجّة فيما يكون مدلولاً له بمقتضى ظهوره ولو بالملازمة، أي: أنّ الظهور حجّة في إثبات مدلوله وجميع ملازمات مدلوله، وأمّا ما يلازم عنوان كون الظهور مراداً من دون أن يدخل في ملازمات مدلول الظهور فلا يثبت.

وبكلمة اُخرى: إنّ كون لفظ (أسد) حقيقة في الرجل الشجاع وإن كان من لوازم عدم كذب ظهور اللفظ بعد العلم بأنّ المتكلّم استعمله في الرجل الشجاع، لكن الظهور المردّد بين ذاك الظهور الذي نعلم يقيناً بكذبه والظهور الآخر لا يقول لنا: أنا ذاك الظهور الآخر الذي ليس كاذباً.

وبغضّ النظر عن هذا نقول: إنّ لنا بياناً آخر لنفي دلالة الاستعمال على الحقيقة، وهو: أنّ كلّ دليل دلّ على أحد الشيئين وعلمنا من الخارج انتفاء أحدهما بالخصوص، فإن كان ذلك الدليل دالّاً على نفس الجامع بين الأمرين ثبت ذلك الشيء الآخر، وإن كان دالّاً على أحدهما بالخصوص لكنّا لم نعلمه بعينه لم يثبت ذلك الشيء الآخر. فمثلاً لو لم يكن لدينا علم بوجوب صلاة في ظهر الجمعة ولكنّه ورد عن الإمام أنّه تجب في ظهر الجمعة الصلاة وعلمنا من الخارج بعدم وجوب صلاة الجمعة، ثبت بذلك وجوب صلاة الظهر؛ لأنّه يوجد لنا علم بقضيّة شرطيّة وهي: أنّه لو وجبت صلاة في يوم الجمعة فهي صلاة الظهر، وقد دلّ الحديث بالمطابقة على الشرط فقد دلّ بالالتزام على الجزاء.

وأمّا لو روى الراوي لنا عن الإمام أنّه بيّن وجوب صلاة في يوم الجمعة ونسينا أنّه هل بيّن وجوب صلاة الظهر أو بيّن وجوب صلاة الجمعة، ونحن نعلم أنّه على التقدير الثاني كانت الرواية تقيّة، فهنا علمنا بعدم وجوب صلاة الجمعة لا يثبت لنا

389

وجوب الظهر، ولا تجري في الرواية أصالة الجهة ولا يثبت وجوب الظهر علينا، ولا يمكن أن يثبت بالحديث شيء بل يكون ساقطاً عن الحجّيّة؛ لأنّه لا يمكن أن يثبت به الفرد المردّد عندنا بين صلاة الظهر والجمعة بالدلالة المطابقيّة ولا خصوص الظهر بالالتزاميّة:

أمّا الأوّل: فلعدم الترديد عندنا والقطع بعدم وجوب صلاة الجمعة على ما هو المفروض، فلا معنى للتعبّد بوجوب إحداهما المردّدة عندنا.

وأمّا الثاني: فلأنّ هذا الحديث لا يدلّ على أيّ تقدير من التقادير على وجوب صلاة الظهر بالدلالة الالتزاميّة؛ لأنّه ليس مدلوله وجوب الجامع، بل مدلوله إمّا وجوب صلاة الجمعة بالخصوص أو وجوب صلاة الظهر بالخصوص، فعلى الأوّل لا يدلّ على وجوب صلاة الظهر لا مطابقة ولا التزاماً، وعلى الثاني يدلّ على وجوب صلاة الظهر مطابقةً لا التزاماً.

فظهر: أنّ إثبات وجوب صلاة الظهر بهذا الحديث غير معقول لا بالدلالة الالتزاميّة؛ للقطع بعدمها، ولا بالدلالة المطابقيّة؛ لعدم القطع بها.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه إذا استعمل المتكلّم لفظة (أسد) في الرجل الشجاع وشككنا في أنّه هل هو حقيقة فيه أو في الحيوان المفترس لم يكن ظهور الكلام في إرادة المعنى الحقيقيّ بما هو معنى حقيقيّ نافعاً؛ لأنّه ليس المستفاد منه مفهوم كلمة (المعنى الحقيقي) حتّى يكون دالّاً على الجامع، وإنّما هو ظاهر فيما هو واقع المعنى الحقيقيّ، فهو دالّ على أحدهما بالخصوص، أعني: الرجل الشجاع والحيوان المفترس بما هو معنى حقيقيّ، وليس ذلك حجّة في الفرد المردّد عند المخاطب؛ لفرض عدم الترديد، ولا في إثبات كون المراد الرجل الشجاع بما هو معنى حقيقيّ لهذا الكلام، فإنّ ذلك ليس لازماً للمدلول المطابقيّ الواقعيّ للكلام

390

على جميع التقادير، بل هو على تقدير ظهوره في الرجل الشجاع مدلول مطابقيّ له وهو مشكوك، وعلى فرض كونه ظاهراً في الحيوان المفترس ليس من لوازم ذلك كون المراد الرجل الشجاع بما هو معنى حقيقيّ كما لا يخفى.

كما أنّه لو فرض كون المستفاد من اللفظ مفهوم كلمة (المعنى الحقيقيّ) لم يثبت المدّعى بذلك أيضاً، أعني: كونه حقيقة في الرجل الشجاع، بل يلزم أن لا يستفاد منه الرجل الشجاع ولا الحيوان المفترس بل معنى ثالث وهو مفهوم (المعنى الحقيقيّ).

والبيان الذي ذكرناه في أصالة الحقيقة يأتي أيضاً فيما نحن فيه، فإنّ أصالة عدم الاستخدام مفادها أحد الشيئين بالخصوص وهو عموم الضمير أو خصوصه، فلو سلّم مثلاً كون مفادها العموم أو الخصوص بما أنّه يطابق الضمير بذلك مرجعه، فإن اُريد إثبات أحدهما المردّد فلا ترديد عندنا؛ للعلم بإرادة الخصوص، وإن اُريد إثبات الخصوص بما أنّه يطابق الضمير بذلك مرجعه لم يمكن؛ لأنّه ليس ذلك ثابتاً على كلا التقديرين بل على تقدير واحد.

وهذا الذي ذكرناه يثمر أيضاً في باب المجمل والمبيّن فنقول: إن كان المجمل دالّاً على الجامع صحّ حمله على المبيّن، وإن كان دالّاً على أحد الطرفين بالخصوص وإن تردّد عندنا بالإجمال سقط عن الحجّيّة.

وعلى أيّة حال فقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ أصالة العموم غير معارضة بأصالة عدم الاستخدام؛ وذلك لمنع الدلالة الالتزاميّة رأساً، لا لإنكار حجّيّتها رغم ثبوتها في مقابل عموم العامّ كما قالوا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ذهب إلى أنّ أصالة عدم الاستخدام لو فرضت أصلاً مستقلاًّ عن مرجع الضمير منصبّاً على نفس الضمير فقد يقال بعدم حجّيّتها؛ لعدم

391

معلوميّة حجّيّة أمثال هذه الاُصول عند الشكّ في الاستناد، وإنّما حجّيّتها المسلّمة تكون لدى الشكّ في المراد، أو لعدم ترتّب أثر عمليّ على دلالتها المطابقيّة. ولكن بالإمكان دعوى ظهور منصبّ على مجموع الطرفين: الضمير ومرجعه، أي: أنّه ظهور قائم بالطرفين، وهو ظهور سياقيّ في الاتّحاد بين الضمير ومرجعه، فهذا الظهور تارة ينظر إليه بالعين اليسرى ويقال: إنّ الضمير مطابق لمرجعه، واُخرى ينظر إليه بالعين اليمنى ويقال: إنّ المرجع مطابق لضميره، والمفروض العلم بإرادة الخصوص من الضمير، فهذا الظهور باعتبار النظر إليه بالعين اليمنى يدلّ على إرادة الخصوص من العامّ، فيقع التعارض بينه وبين عموم العامّ ويؤدّي إلى الإجمال(1).

 


(1) والخلاصة: أنّه إن نظرنا إلى هذا الظهور بالعين اليسرى وقلنا: الضمير مطابق لمرجعه وسمّي ذلك بأصالة عدم الاستخدام فقد يقال على حدّ تعبير الآخوند: إنّ الحجّيّة العقلائيّة للظهور متيقّنة لدى الشكّ في المراد، والشكّ هنا في الاستناد، أو يقال على حدّ التعبير الميرزائيّ: إنّه لا أثر لدلالته المطابقيّة؛ للعلم بإرادة الخصوص من الضمير، أو يقال على حدّ تعبير اُستاذنا الشهيد: إنّ هذا الظهور مردّد بين واقع ظهور مقطوع الكذب، وهو الظهور في الرجوع إلى العموم، وواقع ظهور صادق، وهو الخصوص إذا كان المرجع أيضاً خاصّاً، والظهور لا يقول لنا أبداً: إنّي أنا واقع ذاك الظهور الصادق. أمّا حينما ننظر إليه بالعين اليمنى فكلّ هذه الإشكالات ترتفع، فإنّ حمل العامّ على إرادة الخصوص بقرينة كون الضمير خاصّاً يعيّن المراد، والشكّ فيه وليس في الاستناد، ودلالته المطابقيّة ذات أثر عمليّ وهو اختصاص العدّة بالرجعيّات مثلاً، وليس الظهور مردّداً بين واقع ظهور نقطع بكذبه وظهور آخر.

للمحقّق العراقيّ(رحمه الله) فيما نسب إليه في نهاية الأفكار بيان آخر، فهو لم يذكر في هذا