201

 

مفهوم اللقب والعدد

وقد ظهر بما ذكرناه الكلام في اللقب والعدد ونحوهما أيضاً؛ لأنّهما مشتركان في ثبوت المفهوم وعدمه مع الوصف ملاكاً، والنكتة الفنّيّة في الجميع واحد.

فهنا أيضاً نقول: إنّ اللقب مثلا دخل في طرف النسبة التامّة، والحكم محدّد بين طرفيه ومشخّص بهما، فبزواله ينتفي شخص هذا الحكم، ولا يمانع ذلك عن قيام حكم آخر مماثل له مكانه.

بل إنّ الأمر هنا أشدّ من الوصف من ناحية أنّ الوصف له ظهور في كونه قيداً احترازيّاً، فيدلّ على انتفاء الحكم بانتفائه بنحو السالبة الجزئيّة، بخلاف العدد واللقب.

وتوضيح ذلك: أنّه لو قال مثلا: (أكرم العالم العادل) مع فرض وجوب إكرام جميع العلماء لزم أحد اُمور ثلاثة كلّ منها خلاف الظاهر:

الأوّل: أن يكون الموضوع للجعل في عالم الثبوت خصوص العالم بدون دخل العدالة في الحكم أصلا، وهذا خلاف مقتضى أصالة تطابق عالم الإثبات والثبوت.

الثاني: أن يكون وجوب إكرام مطلق العلماء مجعولا بجعل آخر غير جعل وجوب إكرام العالم العادل، ويلزم من ذلك لغويّة جعل وجوب إكرام العالم العادل؛ لحصول الغرض ـ وهو التوصّل إلى ملاك المتعلّق ـ بذلك الجعل المطلق، إلّا أن تفرض نكتة في نفس جعل وجوب إكرام العالم العادل، بأن يكون الملاك ثابتاً في الجعل لا في المتعلّق، وهذا خلاف الظاهر لولا القرينة، فإنّ ظاهر الحكم بوجوب شيء أو حرمته مثلا هو إيجابه أو تحريمه لملاك في نفس المتعلّق.

الثالث: أن يكون جميع العلماء واجبي الإكرام بجعول متعدّدة تشمل بمجموعها جميع العلماء، كأن يجب إكرام العالم العادل ويجب أيضاً إكرام العالم الفاسق، ويلزم من ذلك لغويّة التقييد والتحصيص في الجعل، إلّا أن يفرض ثبوت نكتة في

202

القيد بأن يقال: إنّ ما صدر من المولى من جعل إكرام العالم العادل ليس بتمامهـ من القيد والمقيّد ـ متمحّضاً في التوصّل إلى الملاك الثابت في المتعلّق، بل هناك ملاك في نفس التقييد، وهذا خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر الحكم بحصّة خاصّة من وجوب شيء أو حرمته مثلا هو أنّ الداعي إلى جعل هذه الحصّة الخاصّة إنّما هو ملاك المتعلّق، من دون دخل ملاك ثابت في نفس الجعل أو تحصيصه، ويكون تعدّد الجعل وتحصيصه مع فرض ثبوت الحكم لجميع الأفراد لغواً، إلّا إذا كان ملاك في نفس تعدّد الجعل وتحصيصه وهذا خلاف ذلك الظهور.

وما ادّعيناه من ذلك الظهور ـ أعني: ظهور عدم كون التعدّد والتحصيص لملاك في نفس ذلك ـ إنّما هو في فرض(1) كون التحصيص بعنوان زائد كقوله: (أكرم العالم العادل)، لا في فرض كون التحصيص بما يؤوّل بعد التحليل إلى عنوان زائد، كقوله: (أكرم الرجل) الراجع بعد التحليل إلى قولنا: (أكرم الإنسان المذكّر)، فقوله: (أكرم الرجل) لا يدلّ على عدم وجوب إكرام كلّ إنسان على نحو السالبة الجزئيّة، وهذا هو الوجه في الفرق بين الوصف وغيره من اللقب والعدد.

هذا كلّه بناءً على أنّ الحكم عبارة عن الجعل والاعتبار ـ كما هو المختار ـ وهو فعل اختياريّ للمولى.

أمّا بناءً على كون الحكم الشرعيّ عبارة عن نفس الحبّ والبغض وإنكار وجود حلقة وسطى بين الإرادة والإبراز ـ وهي الحلقة المسمّاة بالجعل والاعتبار ـ فالوصف أيضاً يكون حاله حال اللقب؛ إذ من الممكن ثبوت إرادات متعدّدة، أو قل: ثبوت الشوق والكره المتعدّد بتعدّد العناوين التي يتّصف بها العالم، بأن يكون في كلّ من تلك العناوين ملاك يخصّه يوجب الحكم عليه بالإكرام، ولا مجال هنا لإشكال اللغويّة كما لا يخفى.



(1) بل هذا الظهور ثابت مطلقاً. نعم، هو في اللقب أضعف منه في الوصف، وفي الوصف أضعف منه في العدد.

203

 

مفهوم الغاية

ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ومن تبعه إلى أنّ الغاية إن كانت قيداً للموضوع، كقولنا: (سر في الأرض من هنا إلى الكوفة)، أو للمتعلّق، كقولنا: (صم صياماً مستمرّاً إلى الليل) لم يكن لها مفهوم؛ لأنّها راجعة إلى الوصف للموضوع أو المتعلّق ولا مفهوم للوصف، وأمّا إن كانت قيداً للحكم من قبيل: ﴿أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل﴾ ثبت لها المفهوم؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم مغيّى بالأمر الكذائيّ ومقيّد به، ولا محالة ينتهي المحدود بانتهاء حدّه(1).

والتحقيق: أنّه وإن كان الحكم مقيّداً بالغاية ومحدّداً بها فلا محالة ينتفي الحكم بحصولها، لكنّ الشأن ـ كما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته ـ في أنّه هل المحدّد هو شخص الحكم أو سنخه؟ وقد ذهب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إلى أنّ المرجع في ذلك هو أن نرى أنّ العرف هل يرى الحكم الكذائيّ مهملاً من ناحية غايته أو مطلقاً من تلك الناحية(2).

أقول: مقتضى التحقيق هو: ما برهنّا عليه في الأمر الخامس من الاُمور التي نبّهنا عليها في نهاية بحث مفهوم الشرط: من الفرق بين تقييد النسبة التامّة بنسبة تامّة اُخرى وتعليقها عليها فيثبت المفهوم، وتقييدها بنسبة ناقصة فلا يثبت المفهوم بذلك، وبما أنّه فيما نحن فيه قيّدت النسبة التامّة بنسبة ناقصة غائيّة لا مجال



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 505 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 27، ص 415 ـ 417 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

204

لاقتناص المفهوم؛ إذ النسبة الناقصة اندمجت في النسبة التامّة وحصّصتها، فالحاصل إنّما هي حصّة خاصّة من النسبة التامّة، فغاية ما يلزم من تحقّق الغاية انتفاء تلك الحصّة، ولم تعلّق النسبة التامّة على نسبة تامّة اُخرى حتّى يقال ـ بمقتضى الإطلاق ـ: إنّها علّقت بما هي مطلقة.

ثُمّ إنّنا لو كنّا نؤمن بمفهوم الغاية لكان معنى ذلك في مثل قوله: ﴿أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل﴾ انقطاع الصوم بحلول الليل، وعدم وجود موضوع آخر يحلّ أحياناً محلّ النهار المنصرم فيوجب استمرار الصوم رغم حلول الليل، أمّا أنّ هذا الانتفاء لوجوب الصوم بمجرّد حلول الليل هل سيدوم إلى الأبد أو لا فهذا أمر آخر متفرّع على تحقّق الإطلاق في ذلك وعدمه.

أمّا مادمنا لم نؤمن بمفهوم الغاية فانتفاء الحكم مطلقاً بحلول الغاية غير مستفاد، ولكن انتفاؤه في الجملة وأحياناً بحلول الغاية مستفاد بلا إشكال، والسبب في الإيمان بالانتهاء أحياناً بنحو السلب الجزئيّ هو عين السبب لإيماننا في الوصف بالمفهوم بمقدار السلب الجزئيّ.

فنقول: لولا انقطاع الصوم مثلا بحصول الغاية ولو في بعض الموارد لكانت هذه الغاية لغواً، إلّا أن تفرض نكتة وملاك في نفس القيد، وقد مضى أنّ ذلك خلاف الظاهر، فقوله: (صم إلى الليل) يدلّ في الجملة على انتهاء أمد الصوم بحصول الليل، وإنّما قلنا: إنّه يدلّ على ذلك (في الجملة) لانتفاء اللغويّة بانتفاء الحكم في الجملة، فلو ورد مثلا دليل على أنّ مجيء زيد يوجب وجوب الصوم من أوّل الليل أيضاً ـ مع أنّه كان واجباً في النهار ـ لم يكن ذلك معارضاً لقوله: (صم إلى الليل)؛ لعدم دلالته على الانتفاء مطلقاً.

205

 

مفهوم الاستثناء

إنّ أداة الاستثناء تارةً تقع وصفاً للموضوع، كما في كلمة (غير) وكذلك كلمة (إلّا) في بعض استعمالاتها، كقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، واُخرى لا تقع وصفاً له، بل تستعمل لإخراج بعض الأفراد عن الموضوع، وذلك إخراج لها عنه بوصف أنّه موضوع ويترتّب عليه الحكم، لا إخراج عن ذات الموضوع بأن يقيّد المراد الاستعماليّ، وإلّا لرجع إلى القسم الأوّل وليس الأمر كذلك، ولذا ترى أنّه لا مجازيّة في مثل قولك: (أكلت الدجاجة إلّا رأسها)، مع أنّ شمول الدجاجة للرأس مستفاد من نفس وضع كلمة (الدجاجة)، فلو كانت كلمة (إلّا) استعملت لإخراج الرأس عن ذات المعنى الاستعماليّ لـ (الدجاجة) لزم المجاز، ولم يقل أحد بكون الاستثناء مجازاً ولا مجال لتوهّم المجازيّة.

والخلاصة: أنّه تارةً: يقيّد الموضوع في حدّ ذاته بأداة الاستثناء فيحكم على ما يتحصّل من ذلك بحكم، واُخرى: يحكم على الموضوع بحكم ثمّ يخرج بأداة الاستثناء بعض الأفراد عن الموضوع بوصف أنّه موضوع كما هو الغالب في كلمة (إلّا):

أمّا القسم الأوّل: فلا يزيد عن الوصف وليست فيه نكتة زائدة، فالكلام فيه عين الكلام في مفهوم الوصف.

وأمّا القسم الثاني: فيظهر حاله ممّا عرفت من أنّ أداة الاستثناء المستعملة على النحو الثاني تخرج المستثنى عن الموضوع المستثنى منه لا بما هو، بل بما هو موضوع وحكم عليه الحكم، فلا محالة تدلّ على ارتفاع الحكم السابق عنه، فلا محالة يكون الاستثناء عن الإيجاب سلباً وعن السلب إيجاباً فيثبت المفهوم:

أمّا في الاستثناء عن السلب: فواضح مثل: (لا يجب إكرام العلماء إلّا الفقيه)،

206

فإنّه من الواضح أنّ قوله: (لا يجب إكرام العلماء) نفي لطبيعة وجوب إكرام العلماء، وأنّ قوله: (إلّا الفقيه) رفع لذلك، فهو إثبات لوجوب الإكرام بالنسبة للفقيه.

وأمّا في الاستثناء عن الإيجاب ـ مثل: (يجب إكرام العلماء إلّا الفسّاق) ـ: فيقع الكلام من جهتين:

الاُولى: ما قد يقال: من أنّه وإن كان الاستثناء من الإيجاب سلباً لما مضى، لكن يمكن مع ذلك إنكار أصل دلالته على المفهوم؛ وذلك لأنّ قوله: (يجب إكرام العلماء) في نفسه لا يجري فيه مقدّمات الحكمة لإثبات كون المراد طبيعة الوجوب من حيث هي بلا لحاظ خصوصيّة، وقوله: (إلّا الفسّاق) ليس إلّا نفياً لما ثبت في جملة المستثنى منه، ولم يثبت كون المراد الاستعماليّ في جملة المستثنى منه طبيعيّ الوجوب على الإطلاق حتّى يثبت انتفاء مطلق الوجوب بالنسبة للفسّاق منهم، بل من المحتمل كون الوجوب الخاصّ منتفياً بالنسبة لهم، ولا ينافي ذلك ثبوت وجوب آخر بالنسبة لهم.

وحلّ هذا الإشكال: أنّ الإطلاق إنّما لا يجري في النسبة الثابتة في جملة المستثنى منه في حدّ نفسها ومع قطع النظر عن الاستثناء؛ لعدم نتيجة لجريان الإطلاق فيها، لكن بما أنّها تكون جملة مستثنى منها ووقع الاستثناء بقوله مثلا: (إلّا الفسّاق) يجري الإطلاق لكونه منتجاً، فنقول: إنّ قوله: (يجب إكرام العلماء) بحسب عالم اللفظ لا يدلّ إلّا على ماهيّة الوجوب الجامعة بين المطلق والمقيّد، وقوله: (إلّا الفسّاق) استثناء من المراد الاستعماليّ في جملة المستثنى منه، فبحسب عالم اللفظ يكون (الفسّاق) مستثنى من ماهيّة الوجوب الجامعة بين المطلق والمقيّد، فلو كان مراده الاستعماليّ استثناء ذلك من وجوب خاصّ، والمفروض عدم ذكر تلك الخصوصيّة في اللفظ يلزم عدم تطابق عالم الإثبات

207

لعالم الثبوت، ومقتضى تطابقهما كون المراد الاستعماليّ للمولى نفس الماهيّة الجامعة بين المطلق والمقيّد بلا دخل أيّ خصوصيّة في ذلك، وإن كانت الخصوصيّة دخيلة في المراد الجدّيّ يقيناً؛ فإنّ وجوب إكرام العلماء ناش من ملاك خاصّ بلا إشكال.

وبكلمة اُخرى: إنّ قوله: (يجب إكرام العلماء إلّا الفسّاق) في جريان الإطلاق كقوله: (أستثني الفسّاق من وجوب الإكرام)، ولا ينبغي أن يقاس بمثل: (يجب إكرام العلماء) بدون ضمّ الاستثناء إليه.

فتحصّل: أنّه كما يكون الاستثناء من النفي دالّاً على المفهوم كذلك يكون الاستثناء من الإيجاب أيضاً دالّاً على المفهوم(1)، فلو ورد: (إن جاءك زيد وجب إكرام جميع العلماء) كان ذلك معارضاً لقوله: (يجب إكرام العلماء إلّا الفسّاق).

الثانية: أنّه لا إشكال في أنّ الحكم في قوله: (يجب إكرام العالم إلّا الفاسق) مقيّد بالإكرام المقيّد بالعالم، فهل الثابت في جانب المفهوم انتفاء طبيعة وجوب إكرام العالم بما هو عالم بالنسبة للفاسق، أو انتفاء طبيعة وجوب إكرام العالم



(1) يبقى الإشكال بأنّ الاستثناء لعلّه يحصّص النسبة في المستثنى منه، فلا يبقى له مفهوم كما مضى شرحه بالنسبة لأيّ نسبة ناقصة تندكّ في جنب النسبة التامّة.

وجواب ذلك وارد في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) لبحث اُستاذنا الشهيد (الجزء الثالث، بحث مفهوم الاستثناء، ص 213 ـ 214) وهو: أنّ الاستثناء من شؤون النسب التامّة الحقيقيّة في الذهن، وأمّا في الخارج فلا اقتطاع ولا حكم، فهي كالعطف والإضراب ونحو ذلك من النسب الثانويّة الذهنيّة، وليست أوّليّة خارجيّة كي تكون ناقصة، ويشهد لذلك الوجدان القاضي بأنّ كلام المتكلّم إذا خالف الواقع في جملة المستثنى والمستثنى منه معاً كما إذا قال: (كلّ إنسان أسود إلّا الزنجيّ) كان المتكلّم قد كذب بذلك كذبتين.

208

بالنسبة له وإن لم يكن بما هو عالم؟ وبكلمة اُخرى: لو دلّ دليل على وجوب إكرام الهاشميّ وإن كان عالماً فاسقاً، لكن بما هو هاشميّ لا بما هو عالم هل يكون ذلك معارضاً لمفهوم الكلام الأوّل أو لا؟

الإنصاف: أنّ مقتضى الفهم العرفيّ هو عدم المعارضة، وأنّ المنتفي بالنسبة إلى الفاسق إنّما هو وجوب إكرام العالم بما هو عالم، كما أنّ مقتضى الفنّ أيضاً ذلك؛ لأنّ الاستثناء إخراج عمّا ثبت في المستثنى منه، والثابت في المستثنى منه ـ بحسب ظاهر الكلام ـ وجوب إكرام العالم بما هو عالم؛ لأنّ مقتضى أصالة تطابق عالم الإثبات لعالم الثبوت دخل عنوان العالم في الحكم.

هذا آخر ما أردنا ذكره في المفاهيم.

 

209

مباحث الألفاظ

5

 

 

 

 

المقصد الرابع: في العامّ والخاصّ

 

○ العموم.

○ التخصيص.

 

211

 

 

 

 

 

 

 

العموم

ويقع البحث فيه من جهات:

 

تعريف العموم

الجهة الاُولى: في تعريف العموم.

قد عرّفه صاحب الكفاية(رحمه الله) بأنّه شمول المفهوم واستيعابه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه من أفراده(1).

في حين أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) جعل العموم في مقالاته عبارة عن استيعاب المفهوم لجميع أفراد مدخوله يعني مدخول أداة العموم، ولم يفترضه استيعاباً لجميع أفراد نفسه(2) كما فعله في الكفاية.

والواقع: أنّ استيعاب الأفراد في المعنى اللفظيّ يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يكون نتيجة إدخال أداة حرفيّ يعطي للّفظ معنى النسبة الاستيعابيّة،



(1) الكفاية، ج 1، ص 232 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) المقالات، ج 1، المقالة: 30، ص 429 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

212

من قبيل صيغة الجمع المحلاّة بالأداة ـ لو آمنّا بكونها من صيغ العموم ـ كقوله:(أكرم العلماء)، أو من قبيل اسم الجنس الذي دخل عليه اللام، كـ (العالم)، لو قلنا بدلالة ذلك على العموم.

الثاني: أن تكون أداة العموم اسماً ويكون مفاده مفهوماً مستوعباً لأفراد مدخوله، من قبيل كلمة: (كلّ) و(جميع) ونحوهما.

ولا إشكال في أنّ تعريف المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) شامل للقسم الأوّل؛ لأنّ اسم الجنس مثلا أصبح مفهومه ـ ببركة تطعيمه بمفاد النسبة الشموليّة بواسطة اللام ـ مستوعباً لأفراده، ولكنّه ليس شاملا للقسم الثاني؛ لمباينة المفهوم المستوعب وهو مفهوم (كلّ) مثلا للمفهوم المستوعب أفراده وهو مفهوم (العالم) مثلا، فلا يمكن أن يقال: إنّ مفهوم كلمة (عالم) أصبح بواسطة كلمة (كلّ) في: (أكرم كلّ عالم) مستوعباً لجميع أفراده؛ إذ ليست كلمة (كلّ) أداة تفيد نسبة الاستيعاب وتجعل (العالم) مستوعباً لجميع أفراده من قبيل اللام لو قيل بدلالتها على العموم، بل هو بنفسه اسمٌ مفاده مفهوم مستوعب لأفراد مفهوم آخر وهو مدخوله، فلا ينطبق تعريف صاحب الكفاية على هذا القسم، بخلاف تعريف المحقّق العراقيّ(رحمه الله).

ويشهد لما قلناه: من أنّ كلمة (كلّ) تختلف عن مثل حرف اللام أو لام الجمع، ما نراه: من أنّه يعامل مع تلك الكلمة معاملة الأسماء كالابتداء به مثلا، فيعلم أنّها ليست حرفاً توجب استيعاب مدخولها لأفراده، فالمستوعِب هو مفهوم اسميّ والمستوعَب هو أفراد مفهوم آخر.

وأمّا الاستيعاب بالمعنى الحرفيّ فقد أصبح مندكّاً في مفهوم كلمة (كلّ) أي: أنّ كلمة (كلّ) تدلّ على مفهوم مستوعب بما هو مستوعب.

213

وممّا ذكرناه ظهر جواب إشكال ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته مع جوابه:

أمّا الإشكال فهو: أنّ العموم لو كان هو الاستيعاب ـ وهو نسبة بين المستوعِب بالكسر والمستوعَب بالفتح ـ فأداة العموم لابدّ أن تكون حرفاً، مع أ نّا نرى أنّه يعامل مع بعضها ـ كـ (كلّ) و(جميع) ـ معاملة الأسماء كالابتداء به.

وأمّا جوابه فهو ـ كما أفاده في المقالات ـ: أنّه لا يلزم أن تكون أداة العموم دائماً متمحّضة في إفادة الاستيعاب بالمعنى الحرفيّ، بل يمكن أن يكون مفادها بنفسه مفهوماً مستوعِباً فيستفاد منها الاستيعاب لا محالة(1).

الثالث: أن يكون استيعاب حكم لأفراد موضوعه، وذلك كما في وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي بناءً على إفادته للعموم، فإنّ هذا ليس داخلا في القسم الأوّل بأن يكون المستوعَب أفراد نفس المستوعِب، بأن تكون النكرة مستوعِبة لأفرادها، فإنّ النكرة لا تستوعب أفرادها إلّا بدليّاً، ووقوع النكرة في سياق النفي أو النهي بناءً على إفادته للعموم يفيد العموم الاستغراقيّ لا البدليّ. وليس داخلا في القسم الثاني، فإنّه ليس هنا مفهوم آخر غير النكرة يستوعب أفراد النكرة، فلم يبق في البين إلّا أنّ الحكم مستوعب لأفراد موضوعه.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ تعريف صاحب الكفاية لا يشمل إلّا القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة، وتعريف صاحب المقالات لا يشمل إلّا الأوّلين منها.



(1) راجع المصدر السابق، وراجع أيضاً نهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 504 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

214

والتعريف الصحيح أن يقال: «إنّ العموم هو الاستيعاب المفهوميّ»(1) بلا فرق بين أن يكون المستوعِب مفهوماً والمستوعَب أفراد ذلك المفهوم أو مفهوم آخر، أو يكون المستوعِب حكماً والمستوعَب أفراد موضوعه(2).



(1) يعني: في قبال الاستيعاب الخارجيّ، أو يعني: في قبال الاستيعاب في مرحلة تطبيق العمل المحفوظ في باب المطلق.

(2) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ هناك قسماً رابعاً للاستيعاب وهو استيعاب معاني لفظ واحد، كما لو قال المولى: (أكرم كلّ زيد)، ولم يُرد بكلمة (زيد) معنى كلّيّاً ذا أفراد، بل أراد لفظه. أو قال: (أكرم كلّ زيد له ولد)، وأراد وجوب إكرام كلّ معاني هذه العبارة، ولم يكن هناك مضاف محذوف بأن تقدّر كلمة (معاني) مثلا.

وطبعاً هذا التفسير وهو إرادة استيعاب كلّ معاني اللفظ خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من مثل هذا الكلام استعمال المدخول في معنىً كلّيّ انتزاعيّ مجازاً لا عدم استعماله في معنىً وإرادة لفظه. انتهى ما أفاده(رحمه الله).

215

 

أقسام العموم

الجهة الثانية: في أقسام العموم.

يقسّم العموم على ثلاثة أقسام: استغراقيّ ومجموعيّ وبدليّ.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية أنّه ليس المائز بين هذه الأقسام في نفس العموم والاستيعاب، بل هي في الحقيقة أقسام لتعلّق الحكم بالأفراد المستوعبة، فإنّ نفس العموم ليس إلّا عبارة عن الاستيعاب والانبساط، وبعد فرض تماميّة الاستيعاب لجميع الأفراد تارةً يكون الحكم متعلّقاً بكلّ فرد فرد منها، واُخرى يكون متعلّقاً بالمجموع من حيث المجموع، وثالثة يكون متعلّقاً بواحد منها على سبيل البدل، فعلى الأوّل يسمّى العموم استغراقيّاً، وعلى الثاني مجموعيّاً، وعلى الثالث بدليّاً، فهذه أقسام للعموم باعتبار تعلّق الحكم(1). هذا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

ويحتمل أن يكون مراده من ذلك التنبيه على نكتة، وهي: أنّه لا مجال للبحث في أنّ الأداة الفلانيّة للعموم هل تدلّ على ذات العموم فقط الذي هو الجامع بين الأقسام الثلاثة، أو تدلّ أيضاً على كونه استغراقيّاً أو مجموعيّاً أو بدليّاً؛ وذلك لأنّ العموم في الحقيقة قسم واحد، وليست هذه الأقسام لأجل وجود مائز في ماهيّة العموم، بل هذه أقسام لتعلّق الحكم بالعامّ.

أقول: لو كان حقّاً مراده(رحمه الله) هو التنبيه على ذلك ورد عليه: أنّ هذا الكلام غير صحيح، توضيحه: أنّه بعد أن كان للعامّ في الخارج ثلاثة أفراد مثلا، فمن الممكن



(1) راجع الكفاية ج 1، ص 332 بحسب طبعة المشكينيّ.

216

أن توضع أداة خاصّة تدلّ على فرد خاصّ من تلك الأفراد، سواء كان المائز بينها ثابتاً في حقيقة العموم أو كان ناشئاً من تعلّق الحكم به.

ألا ترى أنّ هيئة تقدّم المسند على المسند إليه ربّما تدلّ على كون الموضوع محصوراً فيه الحكم، مع أنّ انقسام الموضوع إلى المحصور فيه الحكم وعدمه ليس انقساماً ذاتيّاً، بل يكون ناشئاً من ناحية الحكم. ومن الممكن أن تكون أداة العموم ونظير هذه الهيئة تدلّ على قسم خاصّ من العموم ينشأ انقسامه إليه وإلى غيره من ناحية الحكم، وذلك بأن تدلّ أداة العموم على أنّ الحكم تعلّق بموضوعه بهذا النحو من التعلّق.

فظهر: أنّه لا يفترق الأمر في ذلك ـ أي: في ثبوت المجال للبحث عن دلالة أداة العموم على خصوص قسم خاصّ ـ بين كون المائز ثابتاً في ذات العموم أو في تعلّق الحكم(1).

بقي الكلام في أصل ما أفاده(رحمه الله) من كون هذا التقسيم باعتبار تعلّق الحكم



(1) لا يخفى أنّ لصاحب الكفاية تعليقاً على كلامه هنا في كفايته صريحاً في أنّه(رحمه الله)لم يتوهّم في المقام كون رجوع هذه الأقسام إلى كيفيّة تعلّق الحكم مانعاً عن إمكانيّة اختلاف أدوات العموم لغةً في إفادة البدليّة والاستغراقيّة والمجموعيّة، ونصّ عبارته(رحمه الله)في تعليقه على الكفاية في المقام ما يلي:

«إن قلت: كيف ذلك، يعني كيف تكون هذه الأقسام باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام لا أقساماً ذاتيّة للعموم، ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل: (أيّ رجل) للبدليّ، و(كلّ رجل) للاستغراقيّ؟!

قلت: نعم، ولكنّه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له لا بملاحظة اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام؛ لعدم إمكان تطرّق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة، فتأمّل جيّداً».

217

لا باعتبار نفس العموم والاستيعاب، وقد ذهب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) هنا إلى تفصيل، بيانه: أنّه(رحمه الله) سلّم عدم كون المائز بين الأقسام ثابتاً في نفس الاستيعاب، لكنّه قال: إنّ كون العموم بدليّاً أو غيره ناشئ من خصوصيّة في مدخوله، فإن كان مدخول أداة العموم نكرة فلا محالة يكون العموم بدليّاً لا استغراقيّاً أو مجموعيّاً؛ إذ النكرة يستحيل انطباقها على أفرادها واستيعابها لها عرضيّاً حتّى يكون العموم استغراقيّاً أو مجموعيّاً، وذلك لمكان أخذ قيد الوحدة في النكرة، فمهما انطبقت على جميع أفرادها كان انطباقها عليها واستيعابها لها على نحو البدل، وإن كان مدخولها اسم جنس كان العموم غير بدليّ؛ لأنّ انطباق اسم الجنس على أفراده عرضيّ.

ثُمّ بعد فرض تحقّق الاستيعاب العرضيّ تارةً يكون الحكم واحداً ثابتاً للمجموع، واُخرى يكون أحكاماً متعدّدة بعدد الأفراد، فعلى الأوّل يكون العامّ مجموعيّاً، وعلى الثاني استغراقيّاً.

فتحصّل: أنّ الفرق بين العموم البدليّ وغيره يكون من ناحية مدخوله، والفرق بين العموم الاستغراقيّ والمجموعيّ يكون من ناحية الحكم. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات(1).

وليعلم أنّ كون الخصوصيّة ناشئة من مدخول العموم أيضاً حاله حال كونها ناشئة من الحكم أو من نفس العموم في إمكان افتراض استفادة الخصوصيّة من أداة العموم وعدمها، ألا ترى أنّ كون المدخول نكرة أو اسم جنسليس في نفسه ظاهراً بلا نظر إلى الأداة، فإنّ تنوين التنكير والتمكّن كلاهما بشكل واحد.



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 430 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

218

وعلى أيّة حال فنحن يقع كلامنا هنا في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ الفرق بين البدليّ وغيره هل هو ناش من خصوصيّة في نفس العموم أو من خصوصيّة في شيء آخر؟ قد عرفت أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)ذهب إلى نشوئه من خصوصيّة في كيفيّة تعلّق الحكم بالعامّ.

ويرد عليه: أنّ نفس الاستيعاب مع قطع النظر عن طروّ أيّ حكم عليه تارةً يتصوّر عرضيّاً واُخرى يتصوّر بدليّاً، فإنّك ترى وجداناً الفرق بين مفهوم (كلّ الأشياء)و(جميع الأشياء)، ومفهوم (أحد الأشياء) قبل أن يحكم عليه بحكم، ثُمّ ترى الحكم الذي يطرأ على الأفراد: تارةً يطرأ على الأفراد التي لوحظت بدليّاً، واُخرى على الأفراد التي لوحظت عرضيّاً، فالفرق بينهما سابقٌ على الحكم وليس من خصوصيّات الحكم.

كما أنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من نشوئه من خصوصيّة في مدخول العموم أيضاً غير صحيح، فيمكن أن يفرض المدخول نكرة مع كون الاستيعاب عرضيّاً، وذلك بأن لا يكون المستوعب لأفرادها نفس تلك النكرة ـ حتّى يقال باستحالة ذلك لتقيّد النكرة بقيد الوحدة ـ بل يكون المستوعب لأفرادها عرضيّاً مفهوماً آخر كمفهوم كلّ، فلو فُرض (رجل) في قوله: (أكرم كلّ رجل) نكرة لم يكن ذلك مانعاً عن العموم العرضيّ؛ لأنّ المستوعب هو كلمة (كلّ) لا كلمة (رجل)، ولا استحالة في كون كلمة مقيّدةً بقيد الوحدة مع استيعاب شيء آخر لأفرادها عرضيّاً، بل هو واقع في النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي بناءً على إفادة ذلك للعموم، فإنّ النكرة مقيّدة بقيد الوحدة لكنّ العموم واستيعاب الحكم للأفراد استغراقيّ.

ويمكن أيضاً أن يُفرض المدخول اسم جنس مع فرض الاستيعاب بدليّاً:

أمّا أوّلا: فلأنّ اسم الجنس لا يجب أن يكون استيعابه للأفراد ـ مهما

219

استوعب ـ عرضيّاً، وإنّما فرقه مع النكرة أنّ النكرة لا يجوز استيعابها للأفراد عرضيّاً؛ لتقيّدها بقيد الوحدة، واسم الجنس يجوز استيعابها للأفراد عرضيّاً.

وأمّا ثانياً: فلأنّه لو سلّمنا أنّ اسم الجنس يجب أن يكون استيعابه للأفراد ـ مهما استوعب ـ عرضيّاً لا بدليّاً، قلنا: من الممكن فرض كون المستوعِب مفهوماً آخر، بأن يضع الواضع أداة تفيد مفهوماً اسميّاً مستوعِباً لأفراد مدخوله على نحو البدل وإن كان مدخوله اسم الجنس.

والتحقيق: أنّ انقسام العموم إلى البدليّة والعرضيّة ذاتيّ، فإنّ العموم عبارة عن الاستيعاب، والاستيعاب عبارة عن التطبيقات العديدة بعدد الأفراد، وهذه التطبيقات العديدة تارةً تُفرض في عرض واحد، واُخرى تُفرض لا في عرض واحد بل على سبيل البدل.

المقام الثاني: في أنّ المائز بين العموم الاستغراقيّ والمجموعيّ هل هو ثابت في ذات العموم أو في شيء آخر؟ قد عرفت توافق المحقّق الخراسانيّ والمحقّق العراقيّ على أنّ انقسام العموم إليهما إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم لا باعتبار نفسه.

أقول: لا مجال للشكّ في أمرين:

أحدهما: أنّه بعد أن فُرض استيعاب تمام الأفراد عرضيّاً: تارةً يحكم على المجموع بحكم واحد، واُخرى يحكم على كلّ فرد بحكم على حدة، وهذان كيفيّتان لتعلّق الحكم.

ثانيهما: أنّه يمكن أن يقسّم العامّ في نفسه مع قطع النظر عن تعلّق حكم به إلى ما لوحظ فيه التركيب بين أفراده تركيباً اعتباريّاً وما لم يلاحظ فيه ذلك ـ كما نرى وجداناً الفرق بين مفهوم (مجموع الأشياء) ومفهوم (جميع الأشياء) ـ وأن يسمّى الأوّل بالمجموعيّ والثاني بالاستغراقيّ.

220

وإنّما الذي ينبغي أن يقع محلاًّ للبحث هو: أنّه مهما اُريد جعل تمام أفراد العامّ موضوعاً لحكم واحد لا لأحكام متعدّدة بعدد الأفراد، فهل اللازم جعل تلك الأفراد واحداً مركّباً بالاعتبار حتّى يمكن الحكم عليها بحكم واحد، أو يحكم عليها بحكم واحد بدون صيرورتها واحداً مركّباً اعتباريّاً قبل الحكم وإن صارت كذلك بالنظر إلى الحكم؟

وهذا البحث ينتج في جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وعدمه، ونحيل تحقيقه مع كيفيّة استنتاج تلك النتيجة منه إلى مبحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. هذا تمام الكلام في الأقسام الثلاثة للعموم بلحاظ عالم الثبوت.

وأمّا بلحاظ عالم الإثبات فبعض ألفاظ العموم ظاهر في خصوص الاستغراقيّة كلفظة (كلّ) و(جميع) ولام الجمع بناءً على إفادته للعموم(1)، وبعضها ظاهر في خصوص المجموعيّة كلفظة (مجموع)، ولعلّ كلمة (أيّ) تفيد خصوص العموم البدليّ.

وعلى أيّة حال فالجهة الإثباتيّة تختلف باختلاف الأدوات والمقامات والقرائن الخاصّة.



(1) الظاهر عدم دلالة هذه الألفاظ على خصوص الاستغراقيّة في مقابل المجموعيّة، وإنّما قد تنفى المجموعيّة بنكتة اُخرى، وهي: أنّه لو فُرضت المجموعيّة بمعنى اعتبار الوحدة التركيبيّة بين الأفراد فهي مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة ومع عدمها تنفى، ولو فُرضت بمعنى عدم انحلاليّة الحكم فالحكم بالانحلال وعدمه ـ بعد عدم أخذ المجموعيّة الاعتباريّة في طرف الموضوع ـ يختلف باختلاف الموارد بحسب مناسبات الحكم والموضوع، وغلبةُ الانحلال في القضايا العرفيّة ـ خاصّة الحقيقيّة ـ تقتضي الظهور في الانحلال ما لم تقتض المناسبات أو أيّة قرينة اُخرى عدم الانحلال.

221

 

وجه الفرق بين أسماء العدد وأدوات العموم

الجهة الثالثة: فيما صار مورداً للاشتباه مع أداة العموم.

إنّ العموم ـ وهو الاستيعاب ـ لا يختصّ باستيعاب الأفراد، بل قد يكون استيعاباً للأجزاء، كقولك: (قرأت كلّ الكتاب)، و(يجب إمساك جميع اليوم). ومن هنا وقع الاشتباه بين أسماء العدد وأداة العموم، فربّما يشكل الفرق بين كلمة (عشرة) مثلا وأداة العموم؛ إذ إنّ كلمة (عشرة) مستوعبة لأجزائها.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في حلّ هذا الإشكال: أنّ العموم عبارة عن شمول الأفراد لا الأجزاء(1).

ويرد عليه: منع ذلك، بل العموم معناه الاستيعاب سواء كان استيعاباً للأفراد، كقولك: (إقرأ كلّ كتاب)، أو كان استيعاباً للأجزاء، كقولك: (إقرأ كلّ الكتاب) ولا مبرّر لتخصيص العموم بالأوّل.

وذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في حلّه: أنّ العموم عبارة عن استيعاب المدخول، بمعنى أنّ المستوعَب بالفتح غير أداة الاستيعاب، وفي مثل كلمة (عشرة) يكون المستوعَب نفس أداة الاستيعاب(2).

ويرد عليه أيضاً: أنّ العموم إنّما هو الاستيعاب، ولو فُرض لفظ يدلّ بنفسه على الاستيعاب والمستوعِب والمستوعَب جميعاً فليس هنا وجه فنّيّ لعدم عدّه من



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 332 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 30، ص 431 ـ 432 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

222

أدوات العموم، كما أنّ كلام المحقّق الخراسانيّ أيضاً لم يكن له وجه فنّيّ.

اللّهمّ إلّا أن يكون المراد لكلّ واحد منهما ذكر اصطلاح، ولا مُشاحّة في الاصطلاح، لكن يبقى عليهما عندئذ أنّه لو كانت كلمة (عشرة) ونحوها من أسماء الأعداد متضمّنة لمعنى الاستيعاب كان هناك مجال لعدّها من أدوات العموم، ثُمّ الجواب بدعوى تقيّد العموم بكونه استيعاباً للأفراد، أو كون المستوعَب غير أداة الاستيعاب، لكنّها غير متضمّنة لمعنى الاستيعاب، فلا يصحّ أصل الإشكال ولا يصحّ الجواب عنه بأنّ كلمة (عشرة) مثلا مستوعبة للأجزاء لا للأفراد، أو بأنّها مستوعبة لنفس مفاد أداة الاستيعاب لا لمدخولها، وإنّما هي موضوعة لمفهوم مركّب، واستيعاب المركّب لأجزائه يكون من أحكامه التكوينيّة لا أنّه داخل في نفس المفهوم، ونظير ذلك أنّ المركّب يكون محكوماً تكويناً بكونه أكبر من جزئه مع أنّ هذه الأكبريّة ليست مفهوماً للفظ.

والخلاصة: أنّ أداة العموم ما يكون دالّاً على نفس الاستيعاب كــ (لام الجمع) بناءً على كونه من أداة العموم، وككلمة (كلّ)، أمّا دلالة مثل (لام الجمع) على نفس الاستيعاب بناءً على أنّه من أدوات العموم فواضح، فإنّه حرف وضع لإفادة النسبة الاستيعابيّة. وأمّا دلالة مثل كلمة (كلّ) على نفس الاستيعاب فلأنّه وإن كان موضوعاً لمفهوم اسميّ لكنّه موضوع للمفهوم المستوعب بما أنّه مستوعب، بحيث لو قطعنا النظر عن جهة استيعابه لم يبق شيء يكون مفهوماً له، إذن فلا محالة يكون مفاده هو الاستيعاب.

وأمّا كلمة (عشرة) ونحوها فحالها حال سائر الألفاظ الموضوعة للمركّبات كالكتاب والدار وغيرهما، أفهل يتخيّل أحد أنّ كلمة (كتاب) أو (دار) من أدوات العموم لكونه مستوعباً لأجزائه؟ كلاّ! فإنّ لفظة كتاب ودار لم توضع لإفادة

223

الاستيعاب، بل وضعت لمركّب يكون من أحكامه التكوينيّة الاستيعاب، فيقال: إنّ كلّ مركّب مستوعب لأجزائه، كما يقال: إنّ كلّ مركّب أكبر من جزئه، بدون أن يكون ذلك داخلا في مفهوم اللفظ، وأسماء الأعداد من هذا القبيل، فإنّها لم توضع للاستيعاب، بل وضعت لمفهوم مركّب، سواء قلنا بأنّها مفاهيم حقيقيّة مركّبة بالتركيب الحقيقيّ ـ كما عليه الفلاسفة ـ أو قلنا بأنّها مفاهيم انتزاعيّة. فكلمة (عشرة) ليست بنفسها من أدوات العموم.

 

دخول كلمة (كلّ) على مثل كلمة (عشرة):

نعم، تدخل على كلمة (عشرة) أداة العموم كما تدخل على كلمات اُخرى فيقال مثلا: (اقرأ كلّ العشرة)، أو (اقرأ كلّ عشرة)، أو (اقرأ كلّ واحد من العشرة). وإنّما مثّلنا بثلاثة أمثلة لما بينها من الفرق، فإنّ الأوّل والثالث يفيدان استيعاب أجزاء عشرة واحدة، والثاني يفيد استيعاب أفراد العشرة، أعني: أنّه يدلّ على وجوب قراءة تمام العشرات، كما أنّ هناك فرقاً بين الأوّل والثالث، وهو أنّه لو قيل: إنّ كلمة (العشرة) بنفسها ظاهرة في المجموعيّة أو مجملة من هذه الجهة فبإدخال كلمة (كلّ) عليها لا يتبدّل معنى الكلام من ذلك إلى الاستغراقيّة، لكن يتبدّل إليها بإدخال كلمة (كلّ واحد) بأن يقال: (اقرأ كلّ واحد من العشرة).

هذا كلّه بحسب الاستظهار العرفيّ المفيد للفقيه في مقام الاستنباط.

بقي هنا بحث علميّ، وهو: أنّه ما هو السرّ في أنّ إدخال كلمة (كلّ) على مثل كلمة (عشرة) معرّفة باللام يفيد استيعاب الأجزاء، وإدخاله عليها منكّرة يفيد استيعاب الأفراد؟

أفاد المحقّق العراقيّ(رحمه الله): أنّ السرّ في ذلك هو أنّ اللام وإن كان غير مختصّ

224

بالعهد، لكنّ العهد كأنّه هو الأصل في اللام والمرتكز منه في الأذهان، فصار ذلكقرينة عامّة على إرادة استيعاب الأجزاء دون الأفراد حتّى عند عدم وجود عهد، وكون كلمة (العشرة) إشارة إلى عشرة معهودة ومتعيّنة يمتنع اجتماعه مع إرادة استيعاب أفراد العشرة ـ كما هو واضح ـ وقد صار ذلك منشأً لصيرورة مطلق قولنا: (كلّ العشرة) ظاهراً في استيعاب الأجزاء لا الأفراد وإن لم يكن هناك عهد، وهذا بخلاف ما لو لم تكن معرّفة باللام فيكون الكلام عندئذ ظاهراً في استيعاب الأفراد. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1).

أقول: إن أراد(رحمه الله) أنّ مطلق التعيّن ينافي استيعاب الأفراد فغير صحيح، فإنّ لام الجنس أيضاً يفيد نوعاً من التعيّن ولا ينافي استيعاب الأفراد. وإن أراد أنّ التعيّن العهديّ ينافي استيعاب الأفراد فهذا صحيح، لكن ليس الفرق ثابتاً بين خصوص كلمة (العشرة) المعرّفة باللام والمجرّدة عن اللام، بل الفرق ثابت بين مطلق ما لو كانت معرّفة ولو بغير اللام أو نكرة، فإنّك ترى أنّه لو قيل: (قرأتُ كلّ كتاب زيد)، كان معناه استيعاب أجزاء كتاب واحد، ولو قيل: (قرأتُ كلّ كتاب أدب)، أو (قرأت كلّ كتاب أديب)، ونحو ذلك، كان معناه استيعاب الأفراد، فلابدّ من نكتة للفرق بين فرض كون كلمة (العشرة) ونحوها معرفة أو نكرة، لا بين خصوص كونها معرفة باللام أو نكرة.

وتحقيق الكلام: أن يقال: إنّ الأصل في لفظة (كلّ) هو استيعاب الأجزاء لا الأفراد؛ لأنّ مدخوله ـ أيّ شيء كان ـ فإنّما يحكي عن أجزاء نفسه لا عن أفراده، وهذا هو السرّ في أنّ كلمة (كلّ) إذا دخلت على اسم العدد معرّفاً ـ بل على أيّ معرفة ـ أفادت استيعاب الأجزاء لا الأفراد.



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 30، ص 433 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

225

لكنّ الذي يظهر من ملاحظة الظهورات هو أنّ كلمة (كلّ) دائماً تكون معاندة لبدليّة مدخولها، أعني: أنّه مهما كان مدخولها يفيد البدليّة فكلمة (كلّ) تحكم على هذه البدليّة وتقضي عليها، فالسرّ فيما وقع من الفرق بين دخول كلمة (كلّ) على المعرفة أو النكرة عدداً كان المدخول أو غيره ـ فعلى الأوّل يفيد استيعاب الأجزاء وعلى الثاني يفيد استيعاب الأفراد ـ هو أنّ النكرة في نفسها تقتضي البدليّة والمعرفة لا تقتضيها(1).

ثُمّ لا يخفى أنّه لا يرد على ما ذكرناه النقض بقوله تعالى: ?كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيل﴾ بدعوى أنّه في هذه الآية أفاد استيعاب الأفراد مع أنّه دخل على المعرفة؛ وذلك لأنّ مفهوم الطعام يكون بنحو يمكن عدّ أفراده أجزاءً له، أعني: أنّ صدقه على الكثير كصدقه على القليل، نظير مفهوم الماء، وكلّ ما كان من هذا القبيل فإدخال كلمة (كلّ) عليه يدلّ على استيعاب الجميع، كما في قولنا: (كلّ الماء حلال شربه)، أو (كلّ الجبن حلال أكله) ونحو ذلك، ولكن لا يقال مثلا: (كلّ الإنسان حيوان ناطق)، بل يقال: (كلّ إنسان حيوان ناطق).



(1) أقول: لعلّ الأولى هو العكس، بأن يقال: إنّ الأصل في كلمة (كلّ) إرادة استيعاب الأفراد، ولهذا صارت معاندة لبدليّة مدخولها وقاضية عليها، ولكن حينما يكون معرفة فبما أنّ المعرفة تشير عادة إلى فرد معيّن ينصرف الكلام إلى استيعاب أجزاء الفرد؛ إذ لا معنى لاستيعاب أفراد الفرد. وبكلمة اُخرى: إنّ المعرفة بما هي معرفة لا يتصوّر لمفهومها أفراد حتّى تفيد كلمة (كلّ) استيعابها فتنصرف إلى استيعاب الأجزاء. وهذا يشمل حتّى المعرّف بلام الجنس، فإنّه بما هو معرّفٌ لا يفترض له أفراد فينصرف الأمر إلى استيعاب الأجزاء. وهذا البيان أقرب إلى كلام الشيخ العراقيّ(رحمه الله) منه إلى كلام اُستاذنا الشهيد(قدس سره).