176

المتعلّق القابل للتقيّد بالسبب، في حين أنّه لا معنى لتقيّد المتعلّق بسبب حكمه.

وثانياً: عدم توضيح ما وضّحناه من نكتة الفرق بين الجواز الحقّيّ والحكميّ.

وثالثاً: عدم ذكر ما هي النكتة الفنّيّة للمطلب، وهي: أنّ المعلّق ليس هو وجود المتعلّق وهو القتل مثلا، حتّى تكون العبرة في إمكان النزاع وعدمه بقبوله التعدّد وعدمه، بل المعلّق هو الحكم الذي تعلّق به، فالعبرة في إمكان النزاع وعدمه تكون بقبول حكمه للتعدّد وعدمه، ومن الممكن أن يكون المتعلّق غير قابل للتعدّد لكن الحكم يكون قابلا للتعدّد؛ لعدم لزوم اللغويّة كما ذكرناه في القسم الثاني.

الجهة الرابعة: في تحقيق أصل المطلب:

ويقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في تداخل الأسباب وعدمه.

والثاني: في تداخل المسبّبات وعدمه.

 

تحقيق المطلب في تداخل الأسباب:

أمّا المقام الأوّل ـ وهو تداخل الأسباب وعدمه ـ: فتارةً: يقع الكلام فيه في مقام الثبوت، واُخرى: في مقام الإثبات:

أمّا الكلام في مقام الثبوت: فمن الممكن أن يدّعى استحالة تداخل الأسباب بعد أن كان المفروض أنّ الجزاء قابل للتعدّد، وبعد أن ثبت أنّ كلّ واحد من الشرطين في نفسه سبب تامّ كاف في ترتّب الجزاء، فيثبت بذلك قهراً حكمان؛ لأنّ المفروض تماميّة فاعليّة الفاعل وتماميّة قابليّة القابل ولا نقص في شيء من الجهتين، فيتحقّق الجزاء مستقلاًّ من ناحية كلّ واحد من السببين لا محالة.

ولكن لا يخفى عليك أنّ تماميّة قابليّة القابل أوّل الكلام، فإنّ ما مضى سابقاً

177

من فرض قابليّة الجزاء للتعدّد إنّما كان المراد به قابليّته للتعدّد على بعض الفروض، في قبال ما إذا كان الجزاء مثل وجوب القتل الذي لا يقبل التعدّد بأيّ فرض من الفروض.

توضيح ذلك: أنّه تارةً: يكون الجزاء بنحو يمكن أن يتعدّد بإرادة حصّة خاصّة من كلّ من الجزاءين كما في مثال الوضوء، حيث إنّ من الممكن وجوب الوضوء مرّتين. واُخرى: يكون بنحو لا يمكن تعدّده حتّى بناءً على إرادة حصّة خاصّة، وذلك كما في وجوب القتل، فإنّه لا يمكن أن يجب القتل مرّتين حتّى لو اُريد تارةً وجوب حصّة خاصّة من القتل كالقتل بالسيف، واُخرى وجوب حصّة اُخرى منه كالقتل بالسكّين مثلا، وكلامنا إنّما هو في الفرض الأوّل لا الثاني، لكن هذا لا يوجب الفراغ عن تماميّة قابليّة القابل وكون الجزاء قابلا للتعدّد؛ إذ من المحتمل مثلا كون وجوب الوضوء وجوباً لصرف الوجود من الوضوء الذي لا يقبل وجوبين، فلابدّ من التكلّم في مقام الإثبات عن أنّه هل هناك قرينة على إرادة حصّة خاصّة حتّى يحصل التعدّد أو لا؟ فتخيّل عدم معقوليّة تداخل الأسباب رأساً ثبوتاً غير صحيح بل كلّ من التداخل وعدمه معقول ثبوتاً.

وأمّا الكلام في مقام الإثبات: فلنذكر قبل تحقيق المطلب نكتة، وهي: أنّه إنّما يتكلّم بعد الفراغ عن سببيّة كلّ من الشرطين، فيبحث عن أنّ السببين هل يتداخلان أو لا؟ فلا وجه لما في التقريرات من ذكره ـ في مقام إثبات مدّعاه وهو عدم التداخل ـ لأمرين: أحدهما ـ وهو الأمر الثاني بحسب التقريرات ـ يأتي بيانه بعد ذلك إن شاء الله، والآخر ـ وهو الأمر الأوّل بحسب التقريرات ـ هو المقصود بالذكر هنا، وهو: أنّه في مثل قوله: (إذا نمت فتوضّأ) يكون مقتضى القاعدة هو عدم التداخل، وليس للهيئة دلالة على الوحدة أو التعدّد، وإنّما هي تابعة في إفادة

178

وجوب واحد أو متعدّد لوحدة الموضوع وتعدّده، وبما أنّ قوله: (إذا نمت) مطلق على نحو الإطلاق الشموليّ لا البدليّ فلا محالة ينحلّ إلى موضوعات وأسباب عديدة، كما أنّ الأمر في القضايا الحقيقيّة كقولنا: (أكرم العالم) أيضاً كذلك، وكما أنّ في هذا المثال يتعدّد وجوب الإكرام لانحلال الموضوع وتعدّده، كذلك في قوله: (إذا نمت فتوضّأ) يتعدّد وجوب الوضوء بتعدّد سببه وهو النوم، فمقتضى القاعدة أنّه إذا نام مرّتين وجب عليه الوضوء مرّتين؛ إذ المفروض تعدّد السبب، هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

ويرد عليه: أنّ تعدّد السبب ممّا يجب أن يفرض الفراغ عنه حتّى يعقل النزاع، وأمّا لو فرضنا مثلا أنّ السبب لوجوب الوضوء إنّما هو النوم الأوّل فلا إشكال في أنّه بتعدّد النوم لا يتعدّد الحكم، لا من ناحية تداخل الأسباب، بل من ناحية أنّه لم يكن في البين إلّا سبب واحد على الفرض، فلابدّ أن يفرض أنّ كلّ نوم سبب لوجوب الوضوء، ثمّ يبحث عن أنّه إذا تكرّر النوم فهل يتكرّر وجوب الوضوء لتعدّد السبب، أو لا يتكرّر لتداخل السببين؟

بقي الكلام في تحقيق أصل المطلب، فنقول: إنّ هناك مباحث ثلاثة:

الأوّل: في أنّه هل هناك ظهور يوجب عدم التداخل أو لا؟

الثاني: في أنّه هل هناك ظهور يوجب التداخل أو لا؟

الثالث: في أنّه بعد تسليم كلا الظهورين ما هو الوجه في حلّ المعارضة الواقعة بينهما؟

أمّا المبحث الأوّل ـ وهو البحث عن ظهور يوجب عدم التداخل ـ: فذلك الظهور



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

179

ـ على ما هو المشهور ـ عبارة عن ظهور كلّ من القضيّتين الشرطيّتين في كون الشرط علّة تامّة للحكم، وفي أنّ المعلول لهذه العلّة التامّة هو أصل الحكم لا حدّه وتأكّده: أمّا ظهورها في العلّيّة التامّة فقد اُخذ مفروغاً عنه فيما سبق، ولذا اُوقع التعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم، وأمّا ظهورها في كون المعلول أصل الحكم فلأنّ الجزاء وهو قولنا مثلا: (توضّأ) كما ترى ظاهره بيان أصل الحكم.

ويرد عليه: أنّ ظهوره في العلّيّة التامّة على الإطلاق غير مسلّم؛ وذلك لأنّ استفادة العلّيّة التامّة لم تكن من ناحية وضع الأداة أو القضيّة الشرطيّة لذلك، بل كانت من ناحية الإطلاق الأحواليّ الدالّ على ترتّب الجزاء على الشرط في جميع الأحوال، أي: سواءً كان معه شيء آخر أو لا، والذي ينافي هذا الإطلاق إنّما هو عدم التماميّة في حال الانفراد؛ إذ يلزم من ذلك عدم ترتّب الجزاء عليه في ذلك الحال، وأمّا عدم التماميّة في حال الاجتماع مع شيء آخر، بأن يفرض ذلك الشيء الآخر جزء العلّة فلا ينافيه هذا الإطلاق؛ لعدم لزوم عدم ترتّب الجزاء في هذه الحال، فالتماميّة الثابتة إنّما تفيد فيما مضى من مبحث تعارض إطلاق المنطوق والمفهوم؛ إذ موضوع الكلام في ذلك المبحث هو حال الانفراد، لا في هذا المبحث؛ إذ موضوع الكلام في هذا المبحث هو حال الاجتماع ولم تثبت التماميّة في هذه الحال. هذا.

ولكنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ذكر في المقام بدلا عن ظهور القضيّة الشرطيّة في العلّيّة التامّة لأصل الحكم: ظهورها في الحدوث عند الحدوث(1)، ولعلّه كان



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 315 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

180

لأجل تفطّنه إلى ما ذكرناه، أو لأجل ما اختاره من عدم دلالة القضيّة الشرطيّةأساساً على العلّيّة، فعدل عن دعوى الظهور في العلّيّة التامّة لأصل الحكم إلى دعوى الظهور في الحدوث عند الحدوث، وهذا الظهور ـ بعد ضمّه إلى دعوى ظهور القضيّة في كون الحادث أصل الحكم لا تأكّده، بدلا عمّا مضى من دعوى ظهورها في كون المعلول أصل الحكم لا تأكّده ـ يقتضي أنّه إذا نام ثمّ بال مثلا وجب عليه الوضوء مرّتين؛ إذ لو لم يجب عليه الوضوء إلّا بالسبب الأوّل وهو النوم مثلا لزم عدم حدوث أصل الحكم عند حدوث البول، وهو ينافي ظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث أو في كون الحادث أصل الحكم لا تأكّده.

والتحقيق: أنّ ظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث إنّما يكون ثابتاً فيما إذا كان الجزاء فعلا كما في قولنا مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه)؛ لما أثبتناه في محلّه من دلالة الفعل على الحدوث. وأمّا إن لم يكن فعلا كما في قولنا مثلا: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب)، أو كان فعلا لكن كان ملحقاً بفرض عدم الفعليّة لنكتة، كما في مثل: (إذا خفي الأذان فقصّر)، حيث إنّه وإن كان بلسان الأمر لكنّه في الحقيقة ليس من أدلّة تشريع الصلاة ولا إيجاباً على حدة لذات التقصير، بأن يكون أصل الصلاة واجباً والتقصير واجباً آخر، بل هو إرشاد إلى كون الصلاة قصراً، فكأنّما قال: (إذا خفي الأذان فالصلاة قصر)، فلا دلالة في القضيّة على الحدوث عند الحدوث.

إن قلت: إنّنا وإن كنّا نسلّم في الجملة الاسميّة بعدم الدلالة على الحدوث، لكنّا لا نسلّم كون مثل الأمر بالتقصير في قوله: (إذا خفي الأذان فقصّر) غير دالّ على الحدوث، فإنّه وإن كان إرشاداً إلى كون الصلاة قصراً لكنّه قد أرشدنا إلى ذلك بلغة الفعل، والفعل يدلّ على الحدوث.

قلت: إنّ الحدوث المستفاد من الفعل الماضي أو المستفاد من المستقبل غير

181

مستفاد من قوله: (قصّر)؛ إذ المفروض أنّه أمرٌ لا ماض ولا مستقبل، فلو استفيد منه الحدوث فإنّما يستفاد منه الحدوث البعثيّ لا الماضويّ ولا الاستقباليّ، والمفروض أنّه ليس بداعي البعث حتّى يستفاد منه الحدوث البعثيّ(1).

ثُمّ إنّه في فرض دلالة القضيّة على الحدوث عند الحدوث لو فرض تقارن الشرطين في حدوثهما لم يكن هذا الظهور مقتضياً لعدم التداخل؛ لصدق حدوث أصل الحكم عند حدوث كلّ واحد منهما، وإن فرض أنّه لم يحدث إلّا حكم واحد فهذا الظهور إنّما يفيد في فرض التعاقب.

وفي هذا الفرض أيضاً إنّما يكون مفيداً إذا دلّت القضيّة على دوام الحكم إلى زمان الشرط الثاني، فإنّ المقصود من عدم التداخل ثبوت حكمين في آن واحد بثبوت شرطين، كما لو نام فوجب عليه الوضوء ولم يمتثل هذا الوجوب إلى أن بال مثلا، واستفدنا من إطلاق القضيّة بقاء الوجوب إلى زمان البول، فعندئذ يكون مقتضى ظهور القضيّة في حدوث أصل الحكم عند حدوث الشرط هو عدم التداخل، أي: ثبوت حكمين في زمان واحد؛ لاجتماع شرطين. وأمّا لو فرض



(1) لا أظنّ كون المقصود إبداء فرق في المقام بين المعنى الماضويّ والاستقباليّ والأمريّ، فإنّه(رحمه الله) يحتاط في الغسل بأنّه لو كان هو تحت الماء وأراد الغسل يجب أن يخرج من الماء ويدخل مرّة اُخرى فيه قضاءً لحقّ الحدوث، مع أنّ الموجود في باب الغسل هو البعث والأمر لا الإخبار الماضويّ ولا الاستقباليّ أو الحاليّ.

فكأنّ المقصود: دعوى أنّ الجملة الفعليّة لو سيقت لا للإخبار الماضويّ ولا الاستقباليّ ولا للأمر ـ وهي المداليل الأوّليّة للفعل ـ بل سيقت لمثل الكناية عن شيء آخر ـ لا يدرى أنّه لو كان يصرّح به هل كان يعبّر عنه بالفعل أو بجملة اسميّة ـ فقدت دلالتها على الحدوث.

182

انتهاء أمد الوجوب الأوّل لدى أوّل آنات زمان الشرط الثاني وعدم ثبوت إطلاق للقضيّة الاُولى فمن المعلوم أنّه لا موضوع للتداخل أو عدمه، وصرف الظهور في حدوث أصل الحكم عند الحدوث بدون الظهور في دوام الحكم إلى زمان الشرط الثاني لا يفيد المقصود، فلو احتملنا أنّه لدى ولادة الحدث الثاني وهو البول مثلا يزول أثر الحدث الأوّل ويوجد مكانه الأثر مرّة اُخرى، ولم يكن لدليل الشرطيّة الاُولى ظهور في الدوام لم يكن ظهور الكلام مقتضياً لعدم التداخل.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه ليس للقضيّة الشرطيّة ظهور يقتضي عدم التداخل إلّا في فرض كون الجزاء فعلا وتحقّق الشرطين على التعاقب، ودلالتها على دوام الحكم الأوّل إلى زمان الشرط الثاني.

وأمّا المبحث الثاني ـ وهو البحث عن ظهور يوجب التداخل ـ: فالمشهور أنّ مفاد المادّة يكون موجباً له، فإنّه لو فرض مثلا وجوبان فلابدّ من القول بكون المتعلّق الحقيقيّ لأحدهما مغايراً له في الآخر، سواء كان ذلك بالتحصيص المنافي للإطلاق أو بفرض تعدّد العنوان، حتّى لا يلزم اجتماع المثلين على أمر واحد، وكلّ هذا خلاف الظاهر.

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) سلّم هذا الظهور لكنّه قدّم الظهور الأوّل على هذا الظهور.

وأمّا المحقّق النائينيّ(قدس سره) فقد أنكر هذا الظهور رأساً، ووجّه ذلك بتقريب فنّيّ هو أنّه(رحمه الله) أنكر في هذا البحث ما اشتهر من أنّ الإطلاق إمّا يكون شموليّاً أو على نحو صرف الوجود، وذكر أنّ الأمر يكون متعلّقاً بأصل الطبيعة، وأنّ ذلك يقتضي الإتيان بصرف الوجود لا أنّ صرف الوجود مأخوذ في الرتبة السابقة على الأمر.

توضيح ذلك: أنّ عنوان صرف الوجود ـ الذي هو عند المشهور ومنهم المحقّق

183

النائينيّ(قدس سره) لا ينطبق إلّا على فرد واحد ـ غير مدلول بالهيئة ولا بالمادّة، وإنّما مفاد الهيئة هو الطلب أو النسبة الطلبيّة، ومفاد المادّة هو الطبيعة، نعم، بما أنّ الطبيعة ـ لا محالة ـ تحصل بالفرد الأوّل يكفي في امتثال الأمر الإتيان بالفرد الأوّل.

والخلاصة: أنّ الوجوبين لم يتعلّقا بصرف الوجود حتّى يقال: إنّه يلزم من ذلك اجتماع مثلين على شيء واحد، فلابدّ من الالتزام بالتحصيص دفعاً لهذا المحال حتّى يكون إطلاق المادّة مقتضياً للتداخل، بل الوجوبان تعلّقا بذات الطبيعة، وذلك يقتضي ثبوت حصّتين من الطبيعة، ولكن ليس هذا التحصيص في الرتبة السابقة على الوجوب حتّى يكون منافياً لإطلاق المادّة، بل في الرتبة المتأخّرة عنه؛ لأنّ المعلول لا يتحصّص بعلّته في الرتبة السابقة على العلّة، وإنّما يتحصّص في الرتبة المتأخّرة عنها، فكما أنّه يقال في العلل التكوينيّة: إذا تعدّدت العلّة وتعدّد المعلول بتعدّدها، كما لو تعدّد الصوت بتعدّد اصطكاك حجر على حجر لم يكن هذا التحصيص في ناحية المعلول في الرتبة السابقة على العلّة، بأن يكون كلّ من الاصطكاكين مقتضياً لحصّة خاصّة من الطبيعة، بل كلّ واحد منهما يقتضي ذات الطبيعة لكن يحصل ـ لا محالة ـ من كلّ منهما ما يكون متحصّصاً بكونه صادراً من تلك العلّة، وهذا تحصيص في طول العلّيّة، كذلك فيما نحن فيه نقول: ليس كلّ من الوجوبين متعلّقاً بحصّة خاصّة حتّى يكون ذلك منافياً للإطلاق، بل هما متعلّقان بذات الطبيعة وإنّما يحصل التحصيص في الرتبة المتأخّرة عن الوجوب(1).



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

184

ويرد عليه: أنّ نسبة الوجوب إلى الفعل الصادر من المكلّف ليست نسبة العلّة إلى المعلول، وقياس ذلك بباب العلل التكوينيّة قياس مع الفارق، وليس التحصيص في الطبيعة حاصلا من نفس كونها معلولة لهذا الوجوب أو ذاك الوجوب، بل إنّما يلزم الإتيان بحصّتين لو فرض تعلّق الوجوب بحصّتين، وهو خلاف الإطلاق. وأمّا لو فرض تعلّق كلّ من الوجوبين بذات الطبيعة فبعد فرض أنّ الوجوب بنفسه ليس علّة للامتثال فالطبيعة لا تتحصّص في طول هذا الوجوب ضمن فرد مّا تحصُّص المعلول بعلّته، ويكون اجتماع وجوبين على الطبيعة اجتماعاً للمثلين وهو مستحيل.

فتحصّل: أنّ الحقّ تسليم الظهور المقتضي للتداخل.

وأمّا المبحث الثالث ـ وهو أنّه لو سلّم كلا الظهورين فما هو مقتضى حلّ المعارضة؟ ـ: فقد أفاد المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية أنّ الظهور الأوّل مقدّم على الظهور الثاني من ناحية كون الظهور الثاني بلحاظ عدم التحصيص بمقدّمات الحكمة، ومن مقدّماتها عدم البيان، والظهور الأوّل ـ الذي ليس بمقدّمات الحكمة ـ بيان رافع لموضوع الظهور الثاني(1).

أقول: لا يخفى أنّه إن جعل الظهور الأوّل عبارة عن ظهور القضيّة في كون الشرط علّة تامّة لأصل الحكم فهو أيضاً بمقدّمات الحكمة؛ إذ التماميّة لم تستفد من ظهور وضعيّ أو عرفيّ، وإنّما استفيدت من الإطلاق الأحواليّ.

وأمّا إن جعل عبارة عن ظهور القضيّة في حدوث أصل الحكم عند حدوث



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 318 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق المشكينيّ.

185

الشرط، فهذا الظهور بنفسه وإن لم يكن مستفاداً من مقدّمات الحكمة لكن هذا وحده لا يكفي في الدلالة على عدم التداخل؛ لما عرفت من أنّ ثبوت التداخل بذلك يتوقّف على تعاقب الشرطين وبقاء الحكم الأوّل إلى زمان الشرط الثاني، فنقول عندئذ: إنّه إن ثبت بقاء الحكم الأوّل بالإطلاق الأزمانيّ وقعت المعارضة أيضاً بين إطلاقين، فلا وجه لتقديم الظهور الأوّل على الثاني من ناحية كونه رافعاً لموضوعه، وإن لم يثبت البقاء بالإطلاق بل قطعنا به من الخارج صحّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من حيث الصغرى، أي: أنّ التعارض وقع بين ظهور وضعيّ وظهور إطلاقيّ، ولكن يبقى الكلام هنا بلحاظ الكبرى، أي: أنّ الظهور الوضعيّ هذا هل يرفع موضوع الظهور الإطلاقيّ كما ورد في الكفاية أو لا؟

وقد اعترض صاحب الكفاية(رحمه الله) على كلام نفسه هنا في تعليقته على الكفاية بأنّ كون الظهور الوضعيّ بياناً رافعاً لموضوع الإطلاق إنّما يتمّ في البيان المتّصل وليس في البيان المنفصل؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم البيان المتّصل لا بعدم البيان مطلقاً، خلافاً للشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) الذي ذهب إلى كون الإطلاق معلّقاً على عدم البيان ولو منفصلا، وفيما نحن فيه يكون الظهور في كلّ من القضيّتين معارضاً للإطلاق في القضيّة الاُخرى. وفي مثل ذلك لا يصحّ تقديم الظهور على الإطلاق بحجّة كونه بياناً رافعاً لموضوع الإطلاق.

أقول: إنّ إشكاله(رحمه الله) الوارد في تعليقته على الكفاية واضح الصحّة فيما إذا افترض الشرطان قد تقارنا حدوثاً؛ بداهة أنّ كلّ واحدة من القضيّتين لو كانت وحدها لم يكن تعارض فيها بين ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث وظهور مادّة الجزاء في الإطلاق وعدم التحصيص؛ لإمكان صدقهما معاً، ولكن بما أنّ ظهور المادّة في الإطلاق وعدم التحصيص لا يجتمع صدقه مع صدق اُمور ثلاثة:

186

أحدها: ظهور شرطها في الحدوث عند الحدوث، والآخر: ظهور الشرط الآخر أيضاً في الحدوث عند الحدوث، والثالث: ظهور مادّة الجزاء في الشرط الآخر أيضاً في الإطلاق وعدم التحصيص، إذن فالمعارض لإطلاق كلّ واحدة من المادّتين مركّب من متّصل ومنفصل، والمركّب من المتّصل والمنفصل منفصل، فلا يمكن إجراء قاعدة أنّ العموم يرفع موضوع الإطلاق المتقوّم بعدم البيان بسبب كون العموم بياناً؛ لما عرفت من أنّ الإطلاق إنّما يكون متقوّماً بعدم البيان المتّصل وليس بمطلق عدم البيان، خلافاً للشيخ الأنصاريّ(رحمه الله).

ولكن قد يتراءى أنّ هذا الإشكال لا يرد فيما إذا تعاقب الشرطان ولم يقترنا في الحدوث؛ وذلك لأنّه حينما حدث الشرط الأوّل لا نحتمل فقهيّاً عدم حدوث أصل الحكم لذات الطبيعة بلا تحصيص عند حدوث الشرط الأوّل، فلا محالة يكون طرف المعارضة لإطلاق المادّة في القضيّة الثانية خصوص ظهور تلك القضيّة في حدوث أصل الحكم عند حدوث الشرط، وهو معارض متّصل وليس معارضاً مركّباً من المتّصل والمنفصل.

إلّا أنّ الصحيح أنّ الكلام في فرض التعاقب هو عين الكلام في فرض التقارن؛ لأنّ المسلّميّة الفقهيّة التي أشرنا إليها إنّما هي لمدّة ما قبل حدوث الشرط الثاني، أمّا بعد ما حدث الشرط الثاني خارجاً فيحتمل ـ لا محالة ـ تبدّل الحكم الأوّل من كونه عبارة عن أصل الحكم إلى كونه عبارة عن تأكّد الحكم، كما يحتمل أيضاً تبدّل الواجب من كونه عبارة عن طبيعيّ المادّة إلى الحصّة بعنوان (فرد آخر)، فيكون المعارض مرّة اُخرى مركّباً من المتّصل والمنفصل، والمركّب من المتّصل والمنفصل منفصل.

ثُمّ إنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أفاد في تعليقته على الكفاية: أنّ الظهور المقتضي لعدم التداخل يقدّم على الظهور المقتضي للتداخل بالأقوائيّة.

187

وما أفاده(قدس سره) في غاية المتانة؛ وذلك لأنّه بعد أن فرضنا أنّ الظهور الأوّل المقتضي لعدم التداخل عبارة عن الظهور في الحدوث عند الحدوث، وأنّ هذا يقتضي عدم التداخل إمّا مطلقاً ـ كما هو مختار صاحب الكفاية ـ أو في دائرة الشروط الثلاثة التي نحن بيّنّاها، أعني: فرض كون الجزاء فعلا، وتحقّق الشرطين على التعاقب لا بالاقتران منذ البدء، ودلالتها بالإطلاق على دوام الحكم الأوّل إلى زمان الشرط الثاني، قلنا: إنّ هذا الظهور في دائرة تأثيره وضعيّ عرفيّ، في حين أنّ الظهور الثاني ظهور إطلاقيّ؛ لإمكان حمل القضيّة الثانية على إرادة حصّة خاصّة من مادّة الجزاء ولو بعنوان (فرد آخر)، والدافع لهذا الحمل إنّما هو الإطلاق، والظهور الوضعيّ أقوى من الإطلاق أو الظهور الحكميّ.

ولا أقصد بذلك أنّ الظهور الوضعيّ دائماً أقوى من الظهور أو الإطلاق الحكميّ، بل ربّما ينقلب الأمر أو يتساويان، وإنّما أقصد أنّ الظهور الوضعيّ بطبيعته أقوى من الظهور الحكميّ بطبيعته، وأنّ العكس أو التساوي قد ينبع من نكات خاصّة حاليّة أو مقاليّة، وبما أنّه لا توجد في المقام نكتة خاصّة، فالصحيح تقديم الظهور الأوّل الوضعيّ على الظهور الثاني الحكميّ، وبهذا يثبت أنّ الأصل لدى تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء هو عدم التداخل في الأسباب.

نعم، لو قلنا: إنّ الظهور الأوّل المقتضي لعدم التداخل هو الظهور في العلّيّة التامّة؛ لأنّه مع التداخل يصبح كلّ من الشرطين جزء علّة أو يصبح أحدهما علّة لتأكّد الحكم وحدّه لا لذات الحكم، فهذا الظهور أيضاً إطلاقيّ، وذلك بسبب الإطلاق الأحواليّ، فقد يقال: لا مبرّر لتقدّمه على الظهور الثاني.

ولكن قد يقول قائل هنا أيضاً: إنّ ظهور القضيّة في العلّيّة التامّة للشرط مقدّم على ظهور المادّة في عدم التحصيص رغم أنّهما معاً إطلاقيّان، بدعوى: أنّ الذوق

188

العرفيّ يقتضي كون الإطلاق الثابت في ناحية الشرط مقدّماً على الإطلاق الثابت في ناحية الجزاء. ويمكن أن تكون النكتة في ذلك أنّ الجزاء تابع للشرط ثبوتاً فتابَعه إثباتاً أيضاً، ولكن هذا البيان كما ترى ليس فنّيّاً وإنّما هو صرف دعوى لأقوائيّة أحد الظهورين، وإن كان لا يبعد صحّتها في نفسها. وعلى أيّة حال فلا يهمّنا ذلك؛ إذ نحن لم نجعل الظهور الدالّ على عدم التداخل عبارة عن هذا الظهور ولا المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) قَبِل هذا الظهور، وإنّما الظهور المقبول في الجملة عندنا ومطلقاً عنده هو الظهور في الحدوث عند الحدوث وهو ظهور وضعيّ عرفيّ، فيتقدّم على إطلاق مادّة الجزاء بالأقوائيّة.

إن قلت: إنّ هذا التقريب إنّما يتمّ في فرض تقارن الشرطين حدوثاً بعد فرض ثبوت الظهور الموجب لعدم التداخل في هذا الفرض، وأمّا في فرض تعاقبهما فقد مضى أنّ صرف ظهور القضيّة في حدوث أصل الحكم عند الحدوث لا يكفي في مقام المعارضة، بل نحتاج إلى الإطلاق الأزمانيّ للقضيّة الاُولى لإثبات دوام حكمها إلى حين تحقّق الشرط الثاني، فتقع المعارضة بين الإطلاقين.

قلت: إنّ هذا الكلام وإن كان تامّاً لا إشكال فيه بالنسبة لأصل المطلب لكن في خصوص القضايا التي تكون محلّ ابتلائنا ـ أعني: المسائل الفقهيّة ـ لا نحتاج إلى إثبات بقاء الحكم الأوّل بالإطلاق حتّى يقال: إنّه وقع التعارض بين الإطلاقين، بل نقطع فقهيّاً بالبقاء، ولذا ترى أنّه إنّما وقع النزاع بين الطائفتين في أنّه هل يتحقّق بعد السبب الثاني حكمان فيمتثلان بامتثالين أو بامتثال واحد بناءً على تداخل المسبّب، أو أنّ السببين يتداخلان فالحكم الثابت بعد السبب الثاني مستند إلى كلا السببين: إمّا بصيرورة كلّ منهما جزء السبب، أو بكون كلّ منهما سبباً لحدّ من حدود الحكم، ولكن على كلا الفرضين تتسالم كلتا الطائفتين على أنّه يمكن أن

189

يمتثل الحكم الأوّل بعد السبب الثاني، وإنّما الكلام بينهما في أنّه هل حدث حكم ثان أو لا؟ فمثلا: إذا حدثت الجنابة ثمّ حدث مسّ الميّت فلا إشكال في صحّة غسل الجنابة بعد حدوث مسّ الميّت، وإنّما الكلام في أنّه هل عليه حكم آخر لأجل مسّ الميّت بحسب القاعدة، أو أنّ مقتضى القاعدة هو التداخل وعدم حدوث حكم آخر، وهذا كما ترى شاهد على أنّ بقاء الحكم الأوّل مفروغ عنه وإلّا لم يعقل امتثاله بعد السبب الثاني؛ لفرض ارتفاعه بالسبب الثاني أو قبله.

إن قلت: سلّمنا ذلك، لكن لو فرض تقييد شرطيّة الشرط في القضيّة الثانية بعدم مسبوقيّته بالشرط الأوّل ارتفعت المعارضة، فإطلاق الشرط من ناحية مسبوقيّته بالشرط الأوّل وعدمها داخل في دائرة المعارضة، فقد وقعت المعارضة أيضاً بين إطلاقين: إطلاق الشرط من هذه الناحية، وإطلاق المادّة في الجزاء، ولا مرجّح فنّيّاً لأحدهما على الآخر.

قلت: إذا دار الأمر بين كذب أحد هذين الإطلاقين فإطلاق مادّة الجزاء معلوم الكذب تفصيلا إمّا تخصيصاً أو تخصّصاً؛ إذ لو كان إطلاق الشرط وشموله لحال مسبوقيّته بالشرط الأوّل صادقاً فإطلاق مادّة الجزاء كاذب تخصيصاً، ولو كان إطلاق الشرط كاذباً فإطلاق مادّة الجزاء كاذب تخصّصاً؛ لانتفاء موضوعه؛ إذ في حال المسبوقيّة بالشرط الأوّل لاجزاء على الفرض حتّى يكون لمادّته إطلاق، وبكلمة اُخرى نقول: إنّ تقديم إطلاق الشرط على إطلاق مادّة الجزاء ممكن، لكنّ العكس غير ممكن؛ إذ التحفّظ على إطلاق مادّة الجزاء المستلزم لسقوط إطلاق الشرط مستلزم لسقوط نفس إطلاق مادّة الجزاء وعدم التحفّظ عليه؛ لارتفاع موضوعه برفع اليد عن إطلاق الشرط، وما يلزم من وجوده عدمه باطل.

إن قلت: لا نسلّم أنّ رفع اليد عن إطلاق الشرط وشموله لفرض المسبوقيّة

190

يستلزم انتفاء إطلاق المادّة تخصّصاً؛ إذ الجزاء في فرض سبق هذا الشرط علىالشرط الأوّل لا مسبوقيّته به ثابت، فيثبت الإطلاق لمادّته.

قلت: إطلاق المادّة بهذا المقدار لا يوجب التداخل، وإنّما الذي يوجب التداخل هو إطلاقها في فرض المسبوقيّة، وهو ينتفي موضوعاً برفع اليد عن إطلاق الشرط، فلابدّ من التحفّظ على إطلاق الشرط ورفع اليد عن إطلاق مادّة الجزاء.

إن قلت: إنّ إطلاق المادّة دائماً يكون وارداً على ظهور القضيّة في حدوث أصل الحكم عند الحدوث؛ لأنّ القضيّة إنّما تكون ظاهرة في ذلك في فرض إمكان تعدّد الحكم، فتدلّ على ثبوت حكم جديد، بحيث لو كان حكم آخر ثابتاً من السابق فقد ثبت حكمان. وأمّا في فرض عدم إمكان تعدّد الحكم فلا تدلّ القضيّة على الحدوث عند الحدوث بمعنى نفي سبب آخر متقدّم عليه، ولذا نرى وجداناً ـ في مورد القطع بعدم التعدّد، كما في مسألة الوضوء المقطوع فيها فقهيّاً عدم تعدّده بتعدّد الحدث ـ أنّ مثل قوله: (البائل يتوضّأ) ليست له دلالة على عدم كون النوم السابق على البول موجباً للوضوء، وإطلاق المادّة يقتضي عدم إمكان تعدّد الحكم، فيرتفع موضوع الظهور في حدوث الحكم عند الحدوث.

قلت: لو فرض ثبوت عدم إمكان التعدّد بالقطع لا بالإطلاق لم يكن للكلام ظهور في الحدوث عند الحدوث؛ لعدم فائدة فيه بحسب المدلول المنطوقيّ؛ للعلم بعدم تحقّق حكمين، وأمّا لو فرض أنّ التعدّد في نفسه أمر ممكن ولا نقطع بخلافه وإنّما اقتضى إطلاق المادّة خلافه، فظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث ثابت، وفائدته إثبات طروّ حكم جديد غير الحكم الثابت سابقاً، وإطلاق المادّة يقتضي خلاف ذلك فيتعارضان ويقدّم الأوّل على الثاني بالأقوائيّة.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: موافقة المشهور في أنّه مهما وجد الظهور المقتضي لعدم التداخل قدّم على الظهور المقتضي للتداخل، ومخالفتهم فيما ذهبوا

191

إليه من وجود الظهور المقتضي لعدم التداخل على الإطلاق، بل هو ثابت فيخصوص فرض التعاقب وكون الجزاء فعلا، فما ادّعاه المشهور من أنّ مقتضى القاعدة عدم التداخل مطلقاً، وكذا ما ادّعاه غيرهم من أنّ مقتضى القاعدة التداخل مطلقاً غير صحيح، بل الصحيح هو التفصيل كما عرفت.

وفي نهاية المطاف ننبّه على أنّ ذكرنا لمثال (توضّأ) أو (اغتسل) إنّما هو من باب المثال، كأن يفرض أنّ الوضوء أو الغسل بنفسه حكم تكليفيّ يثبت عند النوم أو الجنابة.

وفي الحقيقة ليس مثال الوضوء أو الغسل دالّاً على الحدوث عند الحدوث؛ لأنّ قوله: (توضّأ) أو (اغتسل) إرشاد إلى ثبوت الحدث لا أمر مولويّ، فحاله في هذه الجهة حال مثال: (إذا خفي الأذان فقصّر) والذي قلنا فيه: إنّه بمنزلة غير الجملة الفعليّة ولا يدلّ على الحدوث.

وعلى أيّة حال فقد تحصّل: أنّ الصحيح في مورد اجتماع الظهور الذي ينفي التداخل والظهور الذي يقتضي التداخل هو أنّ القضيّتين تدلاّن على عدم التداخل.

هذا كلّه بحسب القاعدة. وأمّا فرض قيام دليل خاصّ على التداخل ـ كما في الوضوء أو الأغسال ـ أو على عدمه ـ كما في كفّارات الإحرام ـ فهو مطلب آخر.

 

تحقيق المطلب في تداخل المسبّبات:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو تداخل المسبّبات وعدمه الذي هو في الحقيقة عبارة عن التداخل في عالم الامتثال وعدمه بعد الفراغ عن فرض تعدّد الحكم ـ: فهنا يمكن استظهار عدم التداخل؛ لأنّ الوجوبين بما أنّهما متماثلان ولا يجتمعان على شيء واحد لابدّ أن يقيّد أحدهما أو كلاهما بكون متعلّقه غير ما يمتثل به الآخر،

192

وإذا قيّد أحدهما أو كلاهما بذلك كان من الواضح عدم إمكان امتثالهما بفرد واحد؛ لاستحالة كون ذلك الفرد هو وفرداً آخر، والمفروض أنّ أحد المتعلّقين أو كليهما مقيّد بعنوان (الآخر)، فأحدهما المقيّد بذلك لا ينطبق على هذا الفرد، وإنّما ينطبق عليه أحدهما غير المقيّد، وإذا فرض تقيّد كليهما فشيء منهما لا ينطبق عليه وإن كان يسقط به أحد الحكمين لا محالة؛ لحصول غرض واحد ويبقى حكم واحد على الإجمال.

والوجه فيما ذكرناه: من أنّه إذا كان أحدهما مقيّداً والآخر غير مقيّد تعيّن هذا الفرد مصداقاً لغير المقيّد دون المقيّد واضح، وهو: أنّ انطباق غير المقيّد عليه خال عن المانع، وبانطباقه عليه يثبت خروجه عن تحت متعلّق الحكم الآخر؛ لفرض تقيّده بكونه غير ما يمتثل به الأوّل، وهذا الفرد هو الذي يمتثل به الأوّل. وعلى أيّة حال فالنتيجة: أنّه بمقتضى تقيّد أحدهما أو كليهما بعنوان (الآخر) يستحيل تداخل المسبّبات. هذا.

ولكن في قبال هذا التقريب يقال: إنّه ليس رفع غائلة اجتماع المثلين منحصراً بفرض أحد الحكمين مقيّداً بعنوان (الآخر)، بل يمكن رفعه بفرض أنّ الوجوبين للوضوء مثلا يكون كلّ واحد منهما متعلّقاً بعنوان غير متعلّق الآخر، بحيث أنّ هذين العنوانين وإن اتّحدا في لوح الوجود الخارجيّ لكنّهما علاوة على تعدّدهما في لوح الاعتبار والتشريع متعدّدان في حقيقتهما الواقعيّة، بأن يفرض مثلا أنّ الواجب بالنوم عنوان رفع حالة نفسانيّة خاصّة حاصلة من النوم، والواجب بالبول عنوان رفع حالة نفسانيّة خاصّة اُخرى غير الحالة الاُولى حاصلة بالبول، فترتفع بذلك غائلة اجتماع المثلين بدون لزوم ارتكاب التحصيص ورفع اليد عن إطلاق المادّة، ويتحقّق امتثال كلا الحكمين بوضوء واحد؛ لتصادق العنوانين في الخارج

193

على فرد واحد.

وهذا الوجه إمكانه ثبوتاً متوقّف على القول بجواز الاجتماع بمجرّد تعدّد العنوان في لوح الواقع وفي الحقيقة وإن تصادقا في لوح الوجود الخارجيّ على فرد واحد، فإن لم نقل بذلك استحال هذا الوجه وتعيّن الوجه الأوّل.

اللّهمّ إلّا أن يلتزم بما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّ امتناع اجتماع الأمر والنهي ليس بالتضادّ بين نفس الحكمين، بل لأجل التضادّ بين النهي والترخيص في التطبيق المستفاد من الأمر، وأمّا نفس الحكمين فلا تضادّ بينهما ولا استحالة في اجتماعهما لولا هذه الجهة، وعلى هذا فبما أنّه فيما نحن فيه يكون كلا الحكمين وجوباً وليس في البين نهي لا محذور في الاجتماع؛ لأنّ الترخيص في التطبيق إنّما يضادّ النهي لا الأمر.

وعلى أيّ حال فتحقيق إمكان هذا الوجه ـ أعني: فرض كون كلّ من الحكمين متعلّقاً بعنوان غير ما تعلّق به الآخر ـ وعدمه مربوط بمبحث جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه. هذا كلّه بحسب الثبوت.

وأمّا بحسب الإثبات: فالتحقيق هو الوجه الأوّل ـ أعني: الالتزام بالتقييد بعنوان (الآخر) ـ فيثبت عدم التداخل؛ وذلك لأنّه وإن كان للوجه الثاني مزيّة على الوجه الأوّل من حيث عدم استلزامه لرفع اليد عن إطلاق المادّة، لكنّه في نفسه خلاف الظاهر؛ إذ ظاهر قوله مثلا: (توضّأ) تعلّق الوجوب بنفس الوضوء؛ لأنّ مقتضى أصالة تطابق عالم الثبوت والإثبات أنّ المذكور في عالم الإثبات وهو الوضوء ثابت في عالم الثبوت أيضاً، فللوجه الأوّل أيضاً مزيّة على الوجه الثاني وهو عدم مخالفته لهذا الظهور، بخلاف الوجه الثاني، ففي الحقيقة يقع التعارض بين هذا الظهور وظهور المادّة في الإطلاق، وهذان الظهوران وإن كان كلاهما

194

مستفاداً من أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت، لكنّ الظهور في تعلّق الوجوب بنفس الوضوء مقدّم على ظهور المادّة في عدم التحصيص؛ لأنّ الأوّل مستفاد من أصالة تطابق عالم الإثبات مع عالم الثبوت، بمعنى أنّ ما هو موجود فيه موجود في عالم الثبوت أيضاً، والثاني مستفاد من أصالة تطابقهما، بمعنى أنّ ما هو غير موجود في عالم الإثبات غير موجود في عالم الثبوت أيضاً، وأصالة تطابق الوجود مع الوجود أقوى من أصالة تطابق العدم مع العدم، كما هو ثابت ارتكازيّاً عند العلماء، ولذا يقدّمون المقيّد على المطلق عند تعارضهما، ولا يتصرّفون في ظهور المقيّد بحمله على بيان بعض الأفراد لنكتة.

وفي نهاية هذا التنبيه نشير إلى أنّ التعارض في ناحية تداخل السبب وعدمه، والتعارض في ناحية تداخل المسبّب وعدمه كلاهما معاً في الحقيقة تعارض واحد ذو أطراف ثلاثة: الأوّل: الظهور المقتضي لعدم التداخل في الأسباب. الثاني: ظهور القضيّة في كون متعلّق الحكم نفس الوضوء مثلا. الثالث: إطلاق المادّة. فإن رفعنا اليد عن الأوّل ثبت التداخل في الأسباب، وإن رفعنا اليد عن الثاني ثبت التداخل في المسبّبات، وإن رفعنا اليد عن الثالث لم يتحقّق التداخل لا في الأسباب ولا في المسبّبات.

وقد ظهر ممّا مضى: أنّ الظهور الثاني والثالث ثابتان في حدّ أنفسهما دائماً، وأمّا الظهور الأوّل ففي بعض الموارد غير ثابت في نفسه، فيثبت التداخل في الأسباب، وفي بعض الموارد ثابت في نفسه، وعندئذ نرفع اليد عن الظهور الثالث؛ لأقوائيّة الظهور الأوّل منه بكونه ظهوراً وضعيّاً، والظهور الثاني منه بكونه مستفاداً من أصالة تطابق الوجود مع الوجود، بخلاف الظهور الثالث، فإنّه مستفاد من أصالة تطابق العدم مع العدم، فيثبت عدم التداخل في كلتا الجهتين.

195

 

هل يسقط المفهوم عن الحجّيّة بعد العلم بخروج مورد من حكمه؟

الأمر السابع: لو علمنا بتقييد المفهوم، كما لو قال: (إن جاءك زيد فأكرمه)، وعلمنا من الخارج بوجوب إكرامه عند مرضه، فهل يسقط المفهوم بذلك رأساً فلا يؤخذ به حتّى في غير مورد التقييد، أو يؤخذ بالمفهوم في غير مورد التقييد، كما هو الحال في تقييد إطلاق المنطوقات؟

التحقيق: أنّ ذلك يختلف باختلاف المباني في اقتناص المفهوم.

فعلى كلّ مبنى استفدنا فيه لاقتناص المفهوم من الإطلاق أو من تجميع ظهورات عديدة جارية في قبال كلّ تقييد تقييد فالمفهوم لا يسقط رأساً بتقييده، بل نأخذ به في غير مورد التقييد.

وعلى كلّ مبنى استفدنا فيه من ظهور يخلفه ـ بعد سقوطه ـ ظهور طوليّ، كما لو قلنا باستفادة المفهوم من انصراف المطلق إلى الأكمل فالأكمل، فعلى هذا أيضاً لا يسقط المفهوم بالتقييد رأساً وإنّما يتقيّد.

وعلى كلّ مبنى اتّكأ فقط على دليل عقليّ أو ظهور لفظيّ لا يخلفه ـ بعد فرض سقوطه ـ ظهور طوليّ يعمل عمله يسقط المفهوم نهائيّاً بالعلم بخروج مورد مّا من حكم المفهوم.

 

الكلام في ثبوت المفهوم للروايات الواردة بلسان الإخبار عن الجعل:

الأمر الثامن: قد مضى عدم ثبوت المفهوم للقضايا الإخباريّة وثبوته للقضايا المتكفّلة لبيان الجعل. والكلام هنا يقع في أنّه هل يكون للروايات الواردة بلسان الإخبار عن الجعل مفهوم، من قبيل: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) أو لا؟

196

ولو لم يكن لها مفهوم قلّت فائدة مفهوم الشرط، فإنّ كثيراً من رواياتنا تكون من هذا القبيل.

والظاهر عرفاً عدم الفرق بين تلك الأخبار والأخبار الواردة بنحو الإنشاء، فإن ثبت عدم المفهوم لتلك الأخبار كان ذلك نقضاً لأصل ثبوت المفهوم للشرط.

وهذا النقض غير قابل للدفع عن السيّد الاُستاذ دامت بركاته؛ لأنّ الذي دعاه إلى القول بعدم ثبوت المفهوم للقضايا الإخباريّة هو مبنى أنّ الوضع عنده عبارة عن التعهّد، وأنّ الدلالة التصديقيّة للكلام بنفسها هي المعنى الموضوع له، والتعليق في القضيّة الشرطيّة راجع إلى المعنى الموضوع له، وغاية ما يلزم من ذلك انتفاء الحكاية بانتفاء الشرط، دون انتفاء المحكيّ بانتفائه، وهذا الوجه ـ كما ترى ـ بعينه جار في القضيّة الشرطيّة التي سيقت للإخبار عن الجعل، فيلزم عدم ثبوت المفهوم لها.

وأمّا نحن فلا نرى الدلالة التصديقيّة إلّا ظهوراً حاليّاً ناشئاً من الغلبة، والغالب في المشرّع الحاكي عن تشريعه هو إرادة إبراز نفس تشريعه، فلا توصف عادةً حكايته هذه بالصدق والكذب، فحينما ربط الحكاية عن الجعل بالشرط فكأنّه ربط الجعل بالشرط وحاله حاله عرفاً على الإطلاق(1).



(1) أقول هنا ـ حفظاً للأمانة ـ: إنّ بيانه(رحمه الله) للمطلب لم يكن بهذا الشكل، بل كان بشكل يناسب مبناه في الدورة السابقة لتفسير مفهوم الشرط والتي على أساسها قرّرنا بحثه(رحمه الله) لمفهوم الشرط، ولكنّا في آخر البحث وضّحنا التغييرات التي تحقّقت بحسب نقل بعض الناقلين عن الدورة المتأخّرة، فراجع ما مضى من بحث أصل مفهوم الشرط، وصُغنا هنا الكلام بصياغة تنسجم حتّى مع تلك التغييرات، فجاءت الصياغة غير مطابقة تماماً لما في كتاباتنا الخطّيّة والتي تحكي كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بشكل دقيق.

197

 

مفهوم الوصف

التحقيق: عدم ثبوت المفهوم للوصف؛ وذلك لأنّ اقتناص المفهوم ـ كما عرفت ـ يتوقّف على جريان الإطلاق في الحكم، ولا إشكال في جريانه في القضايا الشرطيّة كما مرّ، وأمّا في القضايا الوصفيّة كقولنا: (أكرم العالم العادل) فلا مجال لجريانه؛ إذ العادل قيد لـ (العالم)، والعالم قيد لـ (أكرم)، وقيد القيد قيد، فلا محالة يكون الحكم مقيّداً.

وبتعبير فنّيّ نقول: إنّ الفرق بين القضيّة الشرطيّة والوصفيّة هو أنّ في قولنا مثلا: (إن كان العالم عادلا فأكرمه) تكون النسبة الطلبيّة أو البعثيّة بين الإكرام والمخاطب غير مقيّدة في حدّ ذاتها بالعدالة؛ إذ التقييد بذلك نشأ من ناحية تعليق هذه النسبة التامّة على ذلك، فلا يعقل كون ذات المعلّق مقيّداً بذلك، وتعليق وجوب إكرام العالم العادل على العدالة ممّا لا معنى له كما هو واضح. وهذا بخلاف قولنا: (أكرم العالم العادل)؛ إذ في هذا الكلام توجد نسبتان: نسبة تامّة بين الإكرام والمخاطب وهي النسبة البعثيّة أو الطلبيّة، ونسبة ناقصة بين الإكرام والعالم العادل، ومهما اجتمعت النسبة التامّة والناقصة على شيء، بأن كان شيء واحد طرفاً لكلتا النسبتين فلا محالة تندكّ النسبة الناقصة في جنب النسبة التامّة وتقع طرفاً لها، ولذا ترى عدم وجود نقصان في الكلام، وإذا كان كذلك فأحد طرفي النسبة البعثيّة أو الطلبيّة في هذا المثال هو إكرام العالم العادل والطرف الآخر هو المخاطب، وغاية ما يلزم من انتفاء الوصف هو انتفاء هذا الوجوب الخاصّ، وأيّ مجال لإجراء الإطلاق بعد أن كان الحكم مقيّداً بخصوص العالم العادل بمعنى دخوله في أحد طرفيه؟ هذا هو الذي ينبغي أن يقال فيما نحن فيه وقد مضى ذلك في خلال مباحث مفهوم الشرط.

198

وممّا ذكرنا يظهر وجه النظر في الكلمات التي أفادها الأعلام في هذا المقام:

فمنها: ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وهو: أنّ الوجه في عدم ثبوت المفهوم للوصف هو أنّ الحكم يلحظ بمقتضى نظر العرف مهملاً بالنسبة إلى الوصف لا مطلقاً ولا مقيّداً، وهذا بخلاف الشرط، فإنّه يلحظ بالنسبة إليه مطلقاً(1).

وفيه: ما عرفت من أنّ الحكم في القضيّة الوصفيّة مقيّد ـ لا محالة ـ ولا يمكن إطلاقه ولا إهماله.

ومنها: ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)، وهو: أنّه يمكن توجيه مفهوم الوصف بأنّ ظاهر القضيّة كون الوصف المذكور بعنوانه دخيلا في الحكم، وفرض كون الدخيل في الحكم هو الجامع بينه وبين شيء آخر حتّى يثبت الحكم عند ثبوت ذلك الشيء الآخر وإن لم يثبت هذا الوصف خلاف الظاهر(2).

ثُمّ حاول(قدس سره) الجواب عن ذلك بالمناقشة الصغرويّة في المقام(3).

ويرد عليه: أنّ ما حصل هو حصّة خاصّة من الحكم، فغاية الأمر أنّه بانتفاء الوصف تنتفي هذه الحصّة؛ لأنّه بعنوانه دخيل لا بعنوان أعمّ، ولكن انتفاء الحصّة لا يفيد شيئاً؛ إذ من الممكن ثبوت حصّة اُخرى لو لم يعلّق مطلق الحكم على الوصف.

وهذا الإيراد إنّما يرد عليه لو اقتصرنا على مجرّد ما هو وارد في منطوق كلامه من استظهار دخل الوصف بعنوانه؛ إذ نقول عندئذ كما عرفت: إنّ دخل الوصف كان في شخص هذا الحكم المتقوّم في أحد طرفيه بهذا الوصف، أمّا لو ضممنا إليه



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 26، ص 411 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 435 ـ 436 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(3) لعلّ المقصود المناقشة في استظهار دخل الوصف بعنوانه.

199

ما ضممناه إليه في بحث مفهوم الشرط ـ توجيهاً لكلامه ـ من قاعدة (استحالةصدور الواحد بالنوع عن الكثير بالنوع) فلا يرد عليه الإشكال الذي ذكرناه.

وهو(رحمه الله) في بحث مفهوم الشرط أيضاً لم يذكر هذه القاعدة في عبارته في مقام الاستدلال على مفهوم الشرط، وإنّما نحن ذكرناه لتوجيه كلامه، أمّا هو فقد اقتصر في عبارته على ذكر أنّ ظاهر الكلام هو دخل الشرط بعنوانه في الحكم لا بعنوان أعمّ.

وعلى أيّ حال فهنا أيضاً لو ضممنا تلك القاعدة إلى عبارته ارتفع الإشكال الذي ذكرناه؛ لأنّه وإن كانت القضيّة الوصفيّة دلّت في منطوق العبارة على دخل الوصف بعنوانه في هذا الشخص من الحكم، ولكن لو فرضنا دخل شيء آخر بدلا عن هذا الوصف في شخص آخر من الحكم قلنا: إنّ شخصين من الحكم متّحدان في النوع، فلو اختلف ما هو المؤثّر فيه من الأوصاف من حصّة إلى حصّة لزم صدور الواحد بالنوع عن المتعدّد بالنوع وهو مستحيل.

نعم، يرد عليه ما أوردناه في بحث مفهوم الشرط في مقام توضيح بطلان هذا الوجه من وجوه اقتناص المفهوم.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المقام: من أنّ الوصف يدلّ على المفهوم لو تمّ أحد أمرين:

الأوّل: أن يثبت كون الوصف علّة، وأضاف السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ قيد الانحصار.

والثاني: أن يثبت كون الوصف ـ وهو كلمة (العادل) مثلا ـ قيداً للحكم لا للموضوع أو المتعلّق، وعندئذ يدلّ الوصف على المفهوم لا محالة؛ لأنّ المقيّد عدمٌ عند عدم قيده(1).



(1) راجع أجود التقريرات المشتمل على تعاليق السيّد الخوئيّ، ج 1، ص 435.

200

ويرد عليه: عدم إمكان اقتناص المفهوم حتّى مع فرض ثبوت أحد الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل ـ وهو كون الوصف علّة للحكم ولنضف إلى ذلك قيد الانحصار ـ فثبوته إنّما يوجب انتفاء الحكم المذكور بانتفائه كما هو واضح، وقد عرفت أنّ الوصف قد حصّص الحكم، فبانتفائه تنتفي هذه الحصّة.

وأمّا الأمر الثاني: فلأنّه لو ثبت كون كلمة (العادل) مثلا قيداً للحكم لم يثبت بذلك المفهوم؛ لأنّ تقييد النسبة بغير أدوات الشرط لا يوجب تحقّق المفهوم، كما مضى الاستدلال على ذلك في الأمر الخامس من الاُمور التي نبّهنا عليها في ذيل مبحث مفهوم الشرط. هذا.

ولا يخفى أنّ أصل كون كلمة (العادل) مثلا قيداً للحكم بالمعنى المقابل لتقييد الموضوع والمتعلّق ـ أعني: تقييد الحكم به بلا واسطة ـ غير ممكن؛ وذلك لأنّ الشيء إنّما يتقيّد بما يلائمه ويكون من حالاته، وعنوان (العادل) مثلا إنّما يلائم كلمة (العالم) بصيرورته وصفاً له، فإنّ العدالة من حالات العالم لا من حالات الحكم، ويقيّد العالم به لا الحكم. نعم، يعقل تقييد الحكم بكونه في زمان العدالة مثلا، وهذا العنوان غير عنوان نفس العدالة.

إلّا أن يكون المقصود بفرض كون (العادل) قيداً للحكم هو هذا المعنى، أعني: كون الحكم مقيّداً بزمان العدالة ولكن عُبّر بتعبير (أكرم العالم العادل) الظاهر في تقييد الموضوع بعنوان العدالة مسامحةً.