88

نعم، الأمر بالأهمّ يتطلّب انهدام موضوع الأمر بالمهمّ. فقد يقال: إنّه إذن لا يعقل كون الأمر بالمهمّ منافياً للأمر بالأهمّ، لكن هذه نكتة مستقلّة للقول بإمكان الترتّب غير مسألة الطوليّة.

 

شبهات جانبيّة حول الترتّب والجواب عنها:

الجهة الخامسة: إنّ الشبهة الرئيسة ـ التي عُقد بحث الترتّب لأجل التحدّث عنها ـ هي: أنّ الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ حتّى مع الترتّب أمرٌ بضدّين، وهو أمر بغير المقدور. إلاّ أنّ هناك شبهات اُخرى جانبيّة لا بأس بالتعرّض لها ولإبطالها حتّى نتفرّغ بعد ذلك للبحث عن الشبهة الرئيسيّة، فنقول:

الشبهة الجانبيّة الاُولى: أنّ الأمر بالمهمّ إن لم يُقيّد بعصيان الأمر بالأهمّ لم يتحقّق الترتّب. وإن قُيّد بعصيان الأمر بالأهمّ، فهذا العصيان إمّا يفرض شرطاً متقدّماً، أو شرطاً متأخّراً، أو شرطاً مقارناً، وكلّها غير صحيح:

أمّا إذا فُرض شرطاً متقدّماً فهذا معناه انتهاء سقوط الأمر بالأهمّ بالعصيان في زمان سابق، ومعه لا إشكال في إمكان الأمر بضدّه. وهذا خارج عن محلّ الخلاف والبحث؛ فإنّهما أمران بضدّين في زمانين، وما يُدّعى استحالته إنّما هو اجتماع أمرين بضدّين في زمان واحد. على أنّ فرض الشرط المتقدّم غير معقول فيما هو المورد المعقول للترتّب، وهو مورد كون الواجبين كليهما مضيّقين؛ إذ لو كان المهمّ موسّعاً صحّ الأمر بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره عرضيّاً، فلا مجال للترتّب. فلنحدّد محلّ البحث بالواجبين المضيّقين، وفي مثل ذلك لا مجال لفرض كون عصيان الأهمّ شرطاً متقدّماً؛ إذ بانتهاء زمان عصيان الأهمّ ينتهي زمان المهمّ أيضاً.

وأمّا إذا فُرض شرطاً متأخّراً فصاحب هذا الإشكال يقول: إنّ الشرط المتأخّر

89

مستحيل. على أنّ هذا يستلزم الوجوب التعليقيّ؛ لأنّ المفروض أنّنا نتكلّم في المضيّقين، فزمان إمكان الانبعاث نحو المهمّ هو زمان عصيان الأهمّ، فلو كان العصيان شرطاً متأخّراً كان معنى ذلك أنّ البعث نحو المهمّ متقدّم على هذا الزمان، ويقال ـ مثلا ـ: إنّ تقدّم البعث على إمكانيّة الانبعاث محال.

وأمّا إذا فُرض شرطاً مقارناً فمعنى ذلك: أنّ زمان امتثال الأمر بالمهمّ مقارن لزمان توجّه الأمر به إلى العبد؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مقارن لعصيان الأهمّ بحسب ما هو المفروض من الشرط المقارن، وعصيان الأهمّ مقارن للإتيان بالمهمّ بحسب ما هو المفروض من التضادّ بين الأهمّ والمهمّ، والتضادّ إنّما يكون مع وحدة الزمان، وكون كلّ منهما بديلا عن الآخر وواقعاً في نفس الزمان الذي كان يُترقّب وقوع الآخر. إذن، فالأمر بالمهمّ مقارن لامتثاله، بينما الأمر بالشيء دائماً يجب أن يتقدّم ولو بزمان قصير جدّاً على امتثاله بأحد البيانات الآتية.

ويرد على ذلك:

أوّلا: أنّ ما ذكر في إبطال الشقّ الثالث ـ من لزوم تقدّم الأمر على زمان الامتثال ـ يستدعي تقدّم البعث دائماً على إمكانيّة الانبعاث، وهذا معناه الالتزام بالوجوب التعليقيّ، وبناءً على كون الوجوب التعليقيّ مستبطناً للشرط المتأخّر، فهذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر، وهذا ينافي ما ذكره في إبطال الشقّ الثاني من استحالة الشرط المتأخّر والوجوب التعليقيّ. إذن، فأحد الشقّين يكون إبطاله في غير محلّه، وبذلك تبطل هذه الشبهة الهادفة لإثبات استحالة الترتّب.

وثانياً: أنّه يمكن الالتزام بالشقّ الثاني، وهو كون العصيان شرطاً متأخّراً، بناءً على ما هو الحقّ من أنّه لا الشرط المتأخّر مستحيل ولا الواجب المعلّق، على ما وضّحناه في محلّه.

وثالثاً: أنّه يمكن الالتزام بالشقّ الثالث، وهو كون العصيان شرطاً مقارناً، وأمّا

90

لزوم تقدّم الأمر على امتثاله زماناً فهو غير صحيح؛ فإنّ غاية ما يمكن أن يقال في تقريب ذلك أحد اُمور:

الأوّل: ما جاء ذكره في الكفاية: من أنّ الامتثال يتوقّف على الإرادة وطيّ مقدّماتها، فما لم يتصوّر الأمر وامتثاله، ولم يتأمّل في الفائدة، ولم يحصل الجزم والعزم ـ مثلا ـ لا يحصل الامتثال، وطيّ هذه الاُمور يحتاج إلى مرور زمان.

وفيه: إنّ هذه الاُمور قد يطويها قبل وقت الوجوب؛ لعلمِه بأنّه سوف يتّجه إليه الأمر، وبنائه على العبوديّة والطاعة، فقد يقارن وقت الامتثال مع أوّل آنات وقت الوجوب.

الثاني: ما جاء ذكره في تقرير بحث المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّه لو كان وقت الأمر مقارناً لوقت الامتثال لزِم: إمّا طلب الحاصل أو طلب المحال؛ إذ لو تطلّب الأمر الامتثال في ظرف الامتثال، لكان طلباً للحاصل. ولو تطلّب الامتثال في ظرف عدم الامتثال، لكان طلباً للمحال؛ إذ تحقّق الوجود في ظرف العدم مستحيل.

ويرد عليه: أنّ الأمر يُفرض ثبوته في ظرف الامتثال الحاصل بنفس هذا الأمر، لا بسبب آخر حتّى يكون طلباً للحاصل، وإلاّ لجاء الإشكال في العلل التكوينيّة التي تكون مقارنة لمعلولاتها، فيقال: لو اقتضت هذه العلّة وجود المعلول في ظرف وجوده فهو تحصيل الحاصل، أو في ظرف عدمه فهو محال.

بل جاء الإشكال أيضاً في الأمر المتقدّم زماناً على الامتثال؛ فإنّ هذا الأمر لو لم يبق إلى زمان الامتثال لم يبق مقتض للامتثال، ولو بقى إلى زمان الامتثال فهو في هذا الزمان طلب للحاصل أو طلب للمحال. بل الأمر المتقدّم أيضاً حينما يتعلّق بشيء متأخّر موجود في وقته، يكون فيه روح طلب الحاصل.

فالصحيح في الحلّ ما عرفت: من أنّ الأمر يتطلّب امتثالا حاصلا بنفس هذا الأمر، وليس هذا تحصيلا للحاصل المحال.

91

الثالث: أنّ الأمر سبب للامتثال، فهو متقدّم عليه.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ الأمر حينما يكون هو السبب للإتيان بمتعلّقه يكون متقدّماً عليه رتبة، ولكن تقدّمه عليه زماناً غير معلوم؛ فإنّ السببيّة لا تتطلّب التقدّم الزمانيّ، وإنّما تتطلّب التقدّم الرتبيّ.

الرابع: أنّ الامتثال علّة لسقوط الأمر، فهو مقارن زماناً لسقوط الأمر؛ لأنّ العلّة والمعلول متقارنان زماناً، فكيف يكون في نفس الوقت مقارناً لثبوت الأمر؟! فإنّ هذا يؤدّي إلى اجتماع النقيضين في وقت واحد.

وسيأتي جواب ذلك في الردّ على إحدى الشبهات الجانبيّة الآتية إن شاء الله.

ثُمّ إنّ الكلام إلى الآن كان مبنيّاً على افتراض تصوير الترتّب بجعل الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ، ولكن قد يتصوّر الترتّب بجعل الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على عصيان الأهمّ، أو بتعبير سلبيّ: مشروطاً بعدم العزم على امتثال الأهمّ، وعندئذ يقال: إنّه ترتفع جملة من تلك الإشكالات التي ذُكرت على الشقوق الثلاثة، فمثلا لو افترضنا العزم على العصيان شرطاً متقدّماً لم يلزم من ذلك ما مضى: من انتهاء مدّة الأمر بالأهمّ، وخروج المورد عن محلّ النزاع؛ إذ الأمر بالأهمّ إنّما ينتهي بالعصيان لا بالعزم على العصيان. ولو افترضناه شرطاً مقارناً لم يلزم من ذلك ما مضى: من تقارن الأمر بالمهمّ لامتثاله؛ إذ بالإمكان فرض الأمر بالمهمّ قبل امتثاله مقترناً للعزم على ترك الأهمّ؛ فإنّ العزم على ترك أحد الضدّين قد يتقدّم على زمان الضدّ الآخر.

إلاّ أنّ لكلٍّ من المحقّق الإصفهانيّ والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما) كلاماً حول جعل الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على عصيان الأهمّ:

أمّا كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) فهو: أنّه يوجد عندنا اُمور ثلاثة: العزم على عصيان الأهمّ، والأمر بالمهمّ، وعصيان الأهمّ، وقد فُرض العزم على عصيان الأهمّ شرطاً في الأمر بالمهمّ:

92

فإن فُرض الأمر بالمهمّ متأخّراً عن العزم على عصيان الأهمّ ومتقدّماً على العصيان ـ بأن وقع بين الزمانين ـ ابتلينا بمحذور الشرط المتقدّم؛ لتقدّم العزم، وبمحذور الواجب المعلّق؛ لتقدّم زمان الأمر بالمهمّ على زمان عصيان الأهمّ الذي هو بعينه زمان امتثال المهمّ.

وإن فُرض مقارناً للزمان الأوّل تخلّصنا من محذور الشرط المتقدّم، لكن بقي علينا محذور الواجب المعلّق.

وإن فُرض مقارناً للزمان الثاني تخلّصنا من محذور الواجب المعلّق، لكن بقي علينا محذور الشرط المتقدّم.

أقول: إنّ تقييد الأمر بالمهمّ بمجرّد العزم السابق على زمان العصيان والامتثال لا يصحّح الترتّب؛ إذ قد يرجع عن هذا العزم في وقت العصيان ويبني على الامتثال، فيتصادم الأمران في فرض رجوعه عن هذا العزم حتماً، فإن قُيّد بالعزم الواقع في زمان العصيان والامتثال لم يبق موضوعٌ لكلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله).

وبهذا تبيّن أنّ تبديل شرط العصيان بشرط العزم على العصيان لا يؤثّر في دفع شيء ممّا عرفته من الشبهة الجانبيّة؛ إذ التقييد بالعزم ـ الواقع في الظرف الذي هو ظرف للعصيان أو للامتثال ـ كالتقييد بنفس العصيان في كلّ الشقوق الثلاثة، كما هو واضح.

وأمّا كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو: أنّ شرط العصيان لو اُبدل بشرط العزم على العصيان، لتسجّل الإشكال الرئيس الذي عُقد لأجله بحث الترتّب، وهو المطاردة بين أمرين بضدّين؛ وذلك لأنّ تلك المطاردة إنّما تُدفع بفرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ؛ حيث إنّ الأمر بالأهمّ عندئذ يقتضي بذاته(1) هدم


(1) التقييد «بذاته» غير موجود في أجود التقريرات، وإنّما أضافه سيّدنا الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) من باب حمل كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره) على الصحّة؛ لأنّ اقتضاء الأمر بالأهمّ لهدم العزم ـ ولو بالملازمة ـ ثابت بلا إشكال.

93

موضوع الأمر بالمهمّ، وهو عصيان الأهمّ فبذلك يرتفع التنافي. أمّا إذا فُرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على العصيان، فالأمر بالأهمّ لا يقتضي بذاته هدم موضوع الأمر بالمهمّ؛ لأنّ كلّ أمر يقتضي بذاته هدم نقيض متعلّقه، وذلك باقتضائه لفعل متعلّقه، فهو إنّما يقتضي هدم عصيانه، لا هدم العزم على العصيان.

ويرد على ذلك اُمور:

الأوّل: أنّ الأمر بفعل لا يقتضي بذاته تحقّق المتعلّق أو هدم نقيضه؛ فإنّ هذا إنّما يصحّ في المقتضيات التكوينيّة، فلو جُرّ زيد واُدخِل قهراً في المسجد ـ مثلا ـ فهذا مقتض تكوينيّ لدخول زيد في المسجد، يقتضي تحقّق هذا الفعل ويهدم تركه، وأمّا المقتضي التشريعيّ ـ وهو الأمر ـ فالذي يقتضيه أوّلاً وبالذات هو انقداح الداعي إلى الفعل في نفس المكلّف، أي: عزمه عليه لا نفس الفعل، فبهذا يقتضي هدم عدم العزم على الفعل أو العزم على الترك، فليكن الأمر بالمهمّ مشروطاً بعدم العزم على الفعل، أو العزم على العصيان.

فالقول بأنّ الأمر بشيء يقتضي هدم نقيض متعلّقه، خلطٌ بين المقتضيات التشريعيّة والمقتضيات التكوينيّة.

الثاني:أنّه لو غُضّ النظر عن الوجه الأوّل، ففي خصوص العبادات لا إشكال في أنّ الأمر بالشيء يقتضي بالذات العزم على الشيء؛ لأنّ العبادة لابدّ فيها من إرادة واختيار، فإذا كان الأهمّ عباديّاً فالأمر به يقتضي بالذات هدم عدم إرادة الفعل، فليكن الأمر بالمهمّ ـ فيما إذا كان الأهمّ عباديّاً ـ مشروطاً بعدم العزم على فعل الأهمّ.

بل قد يوسّع من دائرة هذا الإشكال فيورد في التوصّليّات أيضاً، بناء على مذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الأمر إنّما يتعلّق بالحصّة الاختياريّة، بأن يقال: إنّه بناءً على هذا يكون الأمر مقتضياً بالذات للعزم على الفعل حتّى في التوصّليّات.

94

إلاّ أنّ هذا التوسيع في غير محلّه؛ لأنّ المقصود باختصاص الأمر بالحصّة الاختياريّة هو: اختصاصه بالحصّة المقدورة لا الحصّة المرادة، وإن كان صدور الفعل عن قدرة ملازماً للإرادة، فالإرادة ليست دخيلة في العمل المطلوب حتّى يكون الأمر مقتضياً لها بالذات.

الثالث: أنّ نكتة إمكان الترتّب التي هي في نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): عدم لزوم طلب الجمع؛ لأنّ الأمر بالأهمّ يقتضي هدم عصيانه الذي هو موضوعٌ للمهمّ، فلا يوجد طلب الجمع؛ فإنّه لو أتى ـ محالا ـ بكلا الفعلين لم يقعا معاً بصفة المطلوبيّة، هذه النكتة لا يشترط فيها كون الأمر بالأهمّ مقتضياً لهدم موضوع الأمر بالمهمّ بذاته، بل يكفي فيها كونه مقتضياً لما يساوق هدم موضوع الأمر بالمهمّ، سواءً كان بالعينيّة أو بالملازمة؛ فإنّه على أيّ حال لو أتى محالا بكلا الفعلين لم يقعا على صفة المطلوبيّة، والعزم على العصيان أو عدم العزم على الفعل يستلزم العصيان لا محالة، فهدم العصيان مساوقٌ لهدمه: أمّا في الفعل المتقوّم بالإرادة ـ كالتحيّة ـ فواضح. وأمّا في غيره فقد يقال: إنّ تقييد الأمر بالمهمّ بالعزم على العصيان لا يكفي لرفع الغائلة؛ إذ قد يعزم على العصيان لكنّه يصدر منه الأهمّ بلا اختيار، وفي مثله لا يعقل توجيه الأمر بالمهمّ إليه؛ لأنّه يلزم من ذلك طلب غير المقدور.

والجواب: إنّنا نقيّد العزم على العصيان عندئذ بصورة القدرة على الفعل والترك ونقول: إنّ الأمر بالمهمّ مشروط بالعزم على العصيان، مع القدرة على العصيان والامتثال، وهذا يستلزم العصيان لا محالة، فهدم العصيان يساوق هدمه.

نعم، لو جُعلت نكتة إمكان الترتّب كون الأمر بالمهمّ في طول الأمر بالأهمّ، أمكن الفرق بين تقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ، وتقييده بالعزم على العصيان، فيقال: إنّ الأوّل يرفع المحذور؛ لأنّ الأمر بالمهمّ في طول العصيان الذي هو في طول الأمر بالأهمّ، فالأمران طوليّان، فلا منافاة بينهما.

95

أمّا إذا جُعل الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على العصيان أو عدم العزم على الامتثال، فهذا لا يقتضي كون الأمر بالمهمّ في طول الأمر بالأهمّ: أمّا على تقدير جعله مشروطاً بعدم العزم على الامتثال فواضح؛ إذ عدم العزم على امتثال الأمر قد يكون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. وأمّا على تقدير جعله مشروطاً بالعزم على العصيان فلأنّ العزم على العصيان ليس كالعصيان، فالعصيان بوجوده الخارجيّ يتوقّف على الأمر خارجاً؛ إذ لو لا الأمر لم يُعقل عصيان، ولكنّ العزم على العصيان غير متوقّف على الوجود الخارجيّ للأمر، ويكفي وجود الأمر في اُفق هذا العزم ولو خطأً، فالمتجرّي أيضاً يصدر منه العزم على العصيان مع عدم وجود الأمر حقيقة.

نعم، كلّ تقريب لإمكان الترتّب يعجز عن تصحيح الترتّب على العزم، ويختصّ بتصحيح الترتّب على العصيان، يكون نفس أدائه إلى هذا التفصيل كاشفاً إنّيّاً وجدانيّاً عن خلل فيه؛ لأنّ الوجدان الحاكم بإمكان الترتّب ـ على خلاف وجدان القائل بالاستحالة ـ لا يفرّق في نكتة الإمكان بين تقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ أو بما يستلزم عصيانه.

الشبهة الجانبيّة الثانية: تبتني على ما عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، فإذا استحال أحدهما استحال الآخر. فقد تُطبّق هذه القاعدة في المقام لإثبات استحالة الترتّب بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يقال: إنّ إطلاق الأمر بالمهمّ لصورة امتثال الأهمّ غير معقول؛ للزوم التكليف بضدّين في عرض واحد، فتقييده بما يقابل ذاك الإطلاق ـ وهو التقييد بعصيان الأهمّ أيضاً ـ غير معقول؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فإذا استحال أحدهما استحال الآخر، وبهذا يستحيل الترتّب.

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّه يلزم من ذلك أن نضرب بالشريعة عرض الجدار بكلّ ما فيها

96

من تكاليف؛ فإنّ إطلاق التكليف لصورة العجز غير معقول، فتقييده بما يقابل هذا الإطلاق ـ وهو التقييد بالقدرة ـ أيضاً غير معقول، فيصبح أصل التكليف غير معقول.

وثانياً: الحلّ بأنّ تلك القاعدة لو سلّمت فإنّما تعني: أنّ استحالة التقييد تستوجب استحالة الإطلاق، ولا تعني: أنّ استحالة الإطلاق تستوجب استحالة التقييد؛ فإنّه في تقابل العدم والملكة اُخذت القابليّة للأمر الوجوديّ في موضوع الأمر العدميّ، فباستحالته يستحيل العدميّ، ولم تؤخذ قابليّة للأمر العدميّ في موضوع الأمر الوجوديّ حتّى يستحيل الوجوديّ باستحالة العدميّ، فالعمى ـ مثلا ـ عبارة عن عدم البصر فيما يمكن أن يكون بصيراً، فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فالجدار الذي يستحيل في حقّه البصر يستحيل في حقّه العمى، لكنّ الله تعالى الذي يستحيل في حقّه العمى لا يستحيل في حقّه البصر، بل هو البصير بعباده. وفيما نحن فيه الإطلاق هو الأمر العدميّ، والتقييد هو الأمر الوجوديّ، فاستحالة التقييد ـ مثلا ـ توجب استحالة الإطلاق لا العكس.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ تقييد الأمر بالمهمّ بامتثال الأهمّ غير معقول؛ للزوم الأمر بالمحال، فإطلاقه ـ بمعنى رفض قيد امتثال الأهمّ أيضاً ـ غير معقول لأنّه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق، في حين أنّ القائل بالترتّب يحتاج إلى رفض قيد امتثال الأهمّ؛ إذ لو لا رفض هذا القيد لم يُعقل ثبوت الأمر بالمهمّ في حالة عصيان الأهمّ الذي هو ما يهدف إليه القائل بالترتّب.

وهذا التقريب يمتاز عن التقريب الأوّل من ناحية انطلاقه ـ في فرض الاستحالة ـ من طرف التقييد، لا من طرف الإطلاق.

إلاّ أنّه يرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّه يلزم من ذلك أن نضرب بالشريعة عرض الجدار بكلّ ما فيها من تكاليف؛ فإنّ تقييد التكليف بصورة العجز غير معقول، فرفض هذا القيد ـ الذي

97

نحتاج إليه في مقام ثبوت التكليف للقادر أيضاً ـ غير معقول، فيصبح أصل التكليف غير معقول.

وثانياً: الحلّ بأنّ ثبوت التكليف لحصّة يتصوّر بأحد نحوين:

الأوّل: ثبوته للجامع بينها وبين حصّة اُخرى، المرفوض فيه قيد الحصّة الاُخرى، فلا محالة يسري ذلك الحكم من الجامع إلى تلك الحصّة. وهذا هو الثبوت الإطلاقيّ الذي يقال: إنّه يستحيل باستحالة التقييد؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

والثاني: ثبوته ابتداءً على تلك الحصّة، بأن يؤخذ في موضوعه قيد تلك الحصّة. وهذا هو الثبوت الاختصاصيّ، وليس هو الذي يستحيل باستحالة التقييد بالحصّة المقابلة.

وفيما نحن فيه يدّعي القائل بالترتّب بأنّ الأمر بالمهمّ يثبت لعاصي الأهمّ، ثبوتاً اختصاصيّاً لا ثبوتاً إطلاقيّاً. كما أنّه في باب القدرة والعجز أيضاً نقول: إنّ التكليف يثبت للقادر ثبوتاً اختصاصيّاً لا ثبوتاً إطلاقيّاً.

الشبهة الجانبيّة الثالثة: أن يقال: إنّ العصيان إمّا يُفرض شرطاً متأخّراً أو متقدّماً أو مقارناً:

فبلحاظ الشرط المتأخّر أو المتقدّم يورد ما مضى في الشبهة الجانبيّة الاُولى فيقال: إنّ الشرط المتأخّر مستحيل، والشرط المتقدّم خروج عن محلّ الكلام: من تعاصر الأمرين بضدّين. مع أنّه غير معقول؛ إذ بانتهاء زمان عصيان الأهمّ ينتهي زمان المهمّ أيضاً؛ لأنّهما مضيّقان.

وأمّا الشرط المقارن فيرد عليه: أنّه أيضاً خروج عن محلّ الكلام: من تعاصر الأمرين بضدّين؛ لأنّ الأمر بالمهمّ معاصر ـ بحسب الفرض ـ لعصيان الأمر بالأهمّ، والعصيان علّة للسقوط، والعلّة تعاصر المعلول، فعصيان الأمر بالأهمّ

98

معاصر لسقوط الأمر بالأهمّ. إذن، فالأمر بالمهمّ أصبح معاصراً لسقوط الأمر بالأهمّ لا لثبوته، فلم يتعاصر الأمران حتّى يتكلّم في أنّه هل يمكن الأمر بضدّين في زمان واحد على نحو الترتّب، أو لا؟

والجواب ـ بغضّ النظر عن عدم استحالة الشرط المتأخّر ـ: أنّه يمكن افتراض العصيان شرطاً مقارناً، وقولك: إنّ العصيان مسقط للأمر غير صحيح؛ إذ لا مبرّر لفرض كون العصيان مسقطاً للأمر. نعم، يسقط الأمر بحصول العجز وانتفاء القدرة، والعصيان ليس مقارناً للعجز وانتفاء القدرة؛ إذ العصيان إعمالٌ للقدرة في طرف العدم، فإنّه ضدّ للامتثال، وكلّ منهما إعمالٌ للقدرة، أحدهما في طرف الوجود، والآخر في طرف العدم، وإعمال القدرة لا يُعقل من دون وجود القدرة.

إذن، فإنّ العصيان هو آن القدرة لا آن العجز، ولا يمكن فرض اجتماع القدرة والعجز بفرضهما طوليّين؛ فإنّهما ضدّان بلحاظ عمود الزمان، وتعدّد الرتبة لا يعالج التضادّ، فالعجز وعدم القدرة وسقوط الأمر إنّما يكون في الآن المتأخّر عن آن المعصية المباشر له(1).

 

برهان المحقّق النائينيّ على إمكان الترتّب:

الجهة السادسة: في برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على إمكان الترتّب. وقد ذكر(رحمه الله)في المقام خمس مقدّمات، وكلامه وإن كان لا يخلو عن مؤاخذات ـ كما سيتّضح


(1) وكذلك نقول في دفع الشبهة الجانبيّة الاُولى: إنّ الامتثال هو إعمال للقدرة، وإعمال القدرة لتحقيق المأمور به لا يُعقل أن يكون في ظرف سقوط المأمور به، بل يكون في الآن الذي قبله. وبكلمة اُخرى: إنّ مسقطيّة الامتثال تكون بمعنى أنّ الأمر قد أثّر أثره، فلا معنى لتأثيره مرّة اُخرى، ومن الواضح أنّ زمان التأثير يكون قبل زمان سقوطه عن التأثير.

99

إن شاء الله ـ إلاّ أنّه مع ذلك قد تجلّى روح إمكان الترتّب على أساس بياناته(رحمه الله)بالرغم من ضياعه في خضمّ مطالب غير صحيحة وغير مفيدة:

المقدّمة الاُولى: تهدف بيان حال الأمرين ـ أعني: الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ ـ على تقدير إمكان الترتّب، وحالهما على تقدير عدم إمكانه.

المقدّمة الثانية: تهدف بيان عدم مزاحمة الأمر بالمهمّ للأمر بالأهمّ.

المقدّمة الثالثة: تهدف بيان عدم توقّف إمكان الترتّب على الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، أي: ما أسميناه بالشبهات الجانبيّة.

المقدّمة الرابعة: تهدف بيان عدم مزاحمة الأمر بالأهمّ للأمر بالمهمّ.

المقدّمة الخامسة: تهدف استنتاج صحّة الترتّب مع دفع بعض الإشكالات.

أمّا المقدّمة الثالثة: وهي عدم توقّف إمكان الترتّب على الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، فقد مضى تحقيق الحال فيها في الجهة الخامسة التي عقدناها لدفع الشبهات الجانبيّة.

وأمّا المقدّمة الاُولى: وهي بيان حال أحد الأمرين مع الآخر، فقد مضى منّا تحقيقه في الجهة الاُولى، حيث ذكرنا: إنّ ثمرة البحث هي أنّ الأمرين يتعارضان على القول بعدم إمكان الترتّب، ولا يتعارضان على القول بإمكانه.

وأكبر الظنّ أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) يقصد في المقام نفس هذا المعنى، وإن كانت صياغة بيانه توحي إلى الخلاف، حيث يقول(رحمه الله): إنّه بناءً على إمكان الترتّب لا نرفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهمّ إلاّ بمقدار فرض امتثال الأهمّ، في حين أنّه بناءً على عدم إمكانه نرفع اليد عن إطلاقه بمقدار تنجّز الأهمّ. وهذا ـ كما ترى ـ يوحي إلى أنّ الأمرين يتعارضان على كلّ حال؛ إذ قد فُرض أنّه لابدّ من رفع اليد عن مقدار من إطلاق الأمر بالمهمّ. إذن، فهناك تكاذب بينهما، إلاّ أنّ التكاذب بناءً على الإمكان يكون في جزء يسير من الأمر بالمهمّ، وبناءً على عدم الإمكان يكون أوسع.

100

ولكنّ الواقع ليس هو هذا؛ فإنّنا بناءً على إمكان الترتّب لا نرفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهمّ؛ فإنّه من أوّل الأمر لا إطلاق له لفرض عدم القدرة؛ للمخصّص اللبّيّ المتّصل الارتكازيّ أو السياقيّ، وهو على تقدير امتثال الأهمّ تنتفي عنه القدرة على امتثال المهمّ، بالمعنى الذي دلّ ذلك الدليل على اشتراطه الذي سيأتي شرحه ـ إن شاء الله ـ في بحث التزاحم.

وبناءً على عدم إمكان الترتّب يقع التعارض بلحاظ إطلاق الأمر بالمهمّ لصورة تنجّز الأهمّ؛ لأنّ رفع اليد عن هذا الإطلاق تخصيص جديد، فالصحيح ما قلناه ـ عند بيان ثمرة البحث ـ: من أنّه بناءً على إمكان الترتّب لا يتعارضان، وبناءً على عدم إمكانه يتعارضان. وهذا هو مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)لا ما يوحي إليه كلامه.

وأمّا المقدّمة الثانية: وهي بيان أنّ الأمر بالمهمّ لا يزاحم الأمر بالأهمّ، فقد عنونها بعنوان: أنّ الواجب المشروط لا يخرج بحصول شرطه عن كونه مشروطاً، وتوضيح الكلام في ذلك: أنّ الشرائط في الواجبات المشروطة ـ كالاستطاعة في الحجّ، وزوال الشمس في وجوب الصلاة ـ يمكن تفسيرها بأحد تفسيرين:

التفسير الأوّل: أن تكون شرائط حقيقيّة ومؤثّرات تكوينيّة في إيجاد الحكم. وهذا له أحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن تكون هي الموجِدة تكويناً للحكم، بحيث لا يكون للمولى أيّ دور في إيجاد الحكم.

2 ـ أن تكون هي الموجدة تكويناً للحكم، ويكون دور المولى في إيجاد الحكم أنّه هو الذي شرّع سببيّة هذا السبب للحكم، بناءً على أنّ السببيّة من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل.

3 ـ أن تكون هي الباعثة بوجودها العلميّ للداعي في نفس المولى إلى جعل الحكم، كما هو الحال في المصلحة والمفسدة.

101

التفسير الثاني: أن لا تكون شرائط حقيقيّة للحكم، وإنّما تكون دخيلةً في مصبّ الحكم ومقدّرة الوجود عند الحكم، فالمولى قد أوجب الحجّ على المكلّف المفروض كونه مستطيعاً، وأوجب الصلاة على المكلّف بتقدير زوال الشمس. وهذا هو الصحيح، وهذا هو معنى: أنّ كلّ شرط يرجع إلى الموضوع، وكلّ موضوع يرجع إلى الشرط. وقد تقدّم شطر من الكلام في ذلك في مبحث الواجب المطلق والمشروط.

وهذا هو المختار للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) ويدّعي أنّ هذا ينتج أنّ الواجب المشروط لا يخرج بتحقّق شرطه خارجاً عن كونه واجباً مشروطاً، وأنّ هذا له دخلٌ في تصحيح الترتّب. وهذه الدعوى يمكن تقريبها بعدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: أن يقال: إنّ المقصود هو أنّ الشرط لو كان شرطاً حقيقيّاً، بمعنى كونه علّة تكوينيّة لوجود الحكم، لا راجعاً إلى الموضوع، إذن كان موضوع الأمر بالمهمّ هو المكلّف، وعصيان الأهمّ إنّما هو حيثيّة تعليليّة، كما أنّ موضوع الأمر بالأهمّ أيضاً هو المكلّف، فالأمران اجتمعا على موضوع واحد، فيتصادمان. بينما لو كان الشرط راجعاً إلى الموضوع، فموضوع الأمر بالمهمّ يصبح هو العاصي، لا مطلق المكلّف، فيكون كلّ من الأمرين على موضوع غير موضوع الآخر، فلا يتصادمان.

وهذا التقريب غير صحيح؛ فإنّ تصادم الأمرين لم يكن بلحاظ عروضهما في عالم الذهن على عنوان واحد حتّى يرفع بتعديد العنوان، وإنّما كان بلحاظ محرّكيّة كلّ منهما بحسب الخارج لشخص واحد إلى جهة غير جهة تحريك الآخر، والتحريك إنّما هو بلحاظ الشخص الخارجيّ، لا بلحاظ العناوين الذهنيّة، فيكفي في الصدام كون العنوانين منطبقين بحسب الخارج على شخص واحد، ومن المعلوم أنّ العاصي والمكلّف في المقام شخص واحد.

102

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ المقصود هو أنّ الشرط كان علّة تكوينيّة، فبحصوله لا تبقى حالة منتظرة ولا يبقى توقّف، بينما لو كان موضوعاً ومعروضاً للحكم فبحصوله لا يخرج عن كونه موضوعاً ومعروضاً له، فالجسم ـ مثلا ـ لو كان معروضاً للبياض، فبتحقّقه خارجاً لا يخرج عن كونه معروضاً له، بل معروضيّته له تكون في ظرف وجوده، بينما لو كان شيء علّة للبياض، فبتحقّقه ينتهي التوقّف ولا تبقى حالة منتظرة.

وهذا معنى: أنّ المشروط بناءً على رجوع الشرط إلى الموضوع لا يخرج بتحقّق الشرط عن كونه مشروطاً، ولكنّه بناءً على خلاف ذلك يخرج بتحقّق الشرط عن كونه مشروطاً. وهذا له أثر في إمكان الترتّب وامتناعه؛ لأنّ نكتة إمكان الترتّب هي: أنّ الأمر بالمهمّ لا يقتضي هدم امتثال الأهمّ؛ لكونه مشروطاً بعدم امتثاله، فإذا بقي مشروطاً بذلك عند تحقّق الشرط فهذه النكتة محفوظة، فيصحّ الترتّب، وإلاّ لم تنحفظ النكتة، فلا يصحّ الترتّب. وهذا هو التقريب الذي يناسب بعض عبائر التقريرات.

إلاّ أنّ هذا التقريب أيضاً غير صحيح؛ فإنّه كما أنّ الموضوع لا يخرج بتحقّقه عن كونه موضوعاً، وتبقى الشرطيّة محفوظة، كذلك العلّة لا تخرج بتحقّقها عن كونها علّة، ويبقى التوقّف محفوظاً، فلو كان عصيان الأهمّ هو العلّة لوجوب المهمّ، فوجوب المهمّ يستحيل أن يقتضي هدم امتثال الأهمّ.

وبكلمة اُخرى: إنّ نكتة صحّة الترتّب هي أنّ المشروط لا يقتضي تحقّق شرطه؛ لأنّ المفروض تحقّقه في مرتبة سابقة، فلو اقتضى المشروط تحقّقه لزم الدور. إذن، فالأمر بالمهمّ لا يقتضي عصيان الأهمّ. وهذا التقريب بعينه يأتي في العلّة؛ فإنّ المعلول لا يقتضي تحقّق علّته؛ لأنّ المفروض أنّ العلّة تحقّقت في مرتبة سابقة، فتحقّق المعلول، فلو اقتضى حصول علّته للزم الدور.

103

التقريب الثالث: أن يقال: إنّ النظر ليس إلى فرضيّة كون الشرط شرطاً حقيقيّاً بكلّ شقوقه الثلاثة الماضية، وإنّما النظر إلى الشقّ الثالث فقط، وهو كون الشرط بوجوده العلميّ باعثاً للدّاعي في نفس المولى نحو جعل الحكم، فيقال: لو بنينا على هذا بطل الترتّب، ولو بنينا على أنّ الشرط يرجع إلى الموضوع صحّ الترتّب.

وتوضيح ذلك: أنّه لو رجع الشرط إلى الموضوع فالأمر بالمهمّ مقيّد بعصيان الأهمّ، فيستحيل أن يكون بنفسه داعياً إلى العصيان وحافظاً لشرطه حتّى يزاحم الأهمّ. بينما لو كان الشرط بوجوده العمليّ شرطاً ـ أي: داعياً للمولى نحو جعل الحكم ـ فمعنى ذلك أنّ المولى بنفسه يحرز تحقّق عصيان الأهمّ، فيحكم بالإتيان بالمهمّ، وهذا الحكم ليس مقيّداً بالعصيان، كما هو الشأن في كلّ شرط يحرزه المولى بنفسه ثمّ يحكم من دون أن يأخذ ذلك الشرط قيداً في موضوع الحكم. فمثلا لو أحرز المولى أنّ زيداً فقير فأمر عمرواً بإكرام زيد، وجب على عمرو الامتثال، ولو كان يعلم بخطأ المولى، فإذا لم يكن الأمر بالمهمّ مقيّداً بفرض عصيان الأهمّ، فهو لا محالة يقتضي عصيان الأهمّ ويتصادم مع الأمر بالأهمّ.

وهذا التقريب يناسب بعضاً آخر من عبائر التقريرات، حيث إنّ العبارة مشوّشة وغير مضبوطة. وهذا التقريب صحيح إلاّ أنّه لم يكن ينبغي هنا أن يتعرّض المحقّق النائينيّ(رحمه الله) للتكلّم في هذا المطلب الجانبيّ، وهو: أنّ الشرط هل هو راجع إلى الموضوع وقيوده، أو هو شرط حقيقيّ؟ بل كان ينبغي فرض الفراغ عن كون الشرط قيداً للموضوع، ويبحث رأساً عن النتيجة بأن يقال: إنّ الأمر بالمهمّ حيث إنّه مشروط بعصيان الأهمّ لا يقتضي عصيان الأهمّ؛ لأنّ الحكم المشروط لا يُعقل أن يحفظ شرطه وموضوعه. إذن، فالأمر بالمهمّ لا يصادم الأمر بالأهمّ.

وأمّا المقدّمة الرابعة: فبيانها يكون بذكر ثلاث نقاط:

النقطة الاُولى: أنّ انحفاظ الحكم في أيّ حال وتقدير يكون بأحد أنحاء ثلاثة:

104

1 ـ انحفاظه بما يسمّيه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بالإطلاق اللحاظيّ أو التقييد اللحاظيّ، وهو في جميع موارد الانقسامات الأوّليّة ـ أي: الثابتة بقطع النظر عن الحكم ـ باستثناء مورد واحد يأتي ذكره إن شاء الله. فانحفاظ الحكم بوجوب إكرام العالم ـ مثلا ـ في تقدير كونه عادلا يكون بالتقييد اللحاظيّ، كأن يقول: أكرم العالم العادل، أو الإطلاق اللحاظيّ، كأن يقول: أكرم العالم سواءً كان عادلا أو لا.

2 ـ انحفاظه بما يسمّيه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بالإطلاق والتقييد الذاتيّ أو الملاكيّ، أو نتيجة الإطلاق ونتيجة التقييد، وهذا في موارد الانقسامات الثانويّة التي هي في طول الحكم، من قبيل انقسام المكلّف إلى العالم بالحكم وغيره، فهنا لا يعقل التقييد اللحاظيّ؛ لاستحالة تقييد الحكم بما في طوله، ولا الإطلاق اللحاظيّ؛ لأنّ الإطلاق يمتنع بعين امتناع التقييد؛ لكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فانحفاظ الحكم في صورة العلم به ـ مثلا ـ يكون بنتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد، ويتمّم الخطاب بمتمّم الجعل.

3 ـ انحفاظه بذاته، لا بالإطلاق أو التقييد اللحاظيّ ولا النتيجيّ، وهذا مثاله منحصر بثبوت الحكم على تقدير امتثاله وعصيانه، أي: على تقدير منشأ انتزاعهما وهو الفعل والترك، فإنّه وإن كان من الانقسامات الأوّليّة، إلاّ أنّه يستثنى من موارد النحو الأوّل من الانحفاظ، ويكون انحفاظ الحكم على تقدير الفعل أو الترك بذاته لا بالتقييد أو الإطلاق اللحاظيّ أو النتيجيّ، فالتقييد غير معقول؛ إذ التقييد بالفعل لغوٌ أو تحصيل للحاصل والتقييد بالترك لغوٌ أو تحصيل للمحال.

فبهذا البيان يرى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أنّ التقييد غير معقول بكلا شكليه، ويرى أنّ ما يقابل كلّ واحد من التقييدين من الإطلاق أيضاً يصبح غير معقول، إمّا بتقريب: أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق، أو بتقريب: أنّه إذا كان التقييد بتقدير الفعل تحصيلا للحاصل، وبتقدير الترك تحصيلا

105

للمحال، فالإطلاق الذي يشمل كلا التقديرين يشتمل على كلا المحذورين: من تحصيل الحاصل وتحصيل المحال.

فانحفاظ الحكم على تقدير الفعل والترك ليس بالتقييد ولا بالإطلاق، بل بذاته، أي: أنّ الحكم بذاته يتعرّض لهذين التقديرين، فهو بذاته يبني الفعل ويتطلّبه، ويهدم الترك ويرفضه. بينما في موارد القسمين الأوّلين ليس الحكم بذاته متعرّضاً لتلك التقادير، فالحكم بوجوب إكرام العالم ـ مثلا ـ لا يتعرّض لتقدير عدالته، أو لتقدير علم المكلّف بهذا الحكم بذاته، وإنّما يتعرّض له بالإطلاق أو التقييد اللحاظيّ أو بمتمّم الجعل. بينما الحكم بذاته يتعرّض لتقدير الفعل ويطلبه، ولتقدير الترك ويهدمه.

النقطة الثانية: أنّه يترتّب على انحفاظ الحكم بالنحو الثالث ـ أي: بذاته ـ وانحفاظه بالنحوين الأوّلين ـ أي: بالإطلاق والتقييد اللحاظيّ أو النتيجيّ ـ فارقان:

الأوّل: أنّ نسبة التقدير الذي ينحفظ فيه الحكم إلى الحكم في النحوين الأوّلين نسبة العلّة إلى المعلول: أمّا على فرض التقييد بأحد النحوين فواضح؛ لأنّ الحكم مقيّد به، فهو في طوله ومتأخّر عنه تأخّر الحكم عن موضوعه؛ فإنّ مرجع كلّ تقدير ـ كان الخطاب مشروطاً به ـ إلى كونه مأخوذاً في موضوعه، والموضوع مقدّم رتبة على الحكم. وأمّا على فرض الإطلاق المقابل لكلّ واحد من التقييدين، فلأنّ الإطلاق بديل للتقييد، فهو في رتبته، فإذا كانت مرتبة التقييد سابقة على مرتبة الحكم المقيّد به، كانت مرتبة الإطلاق أيضاً كذلك.

وأمّا في النحو الثالث من الانحفاظ فنسبة التقدير الذي ينحفظ فيه الحكم إلى الحكم نسبة المعلول إلى العلّة؛ لأنّ الفعل يتحقّق في طول الحكم وبسببه، والترك بديل للفعل وفي مرتبته.

والثاني: أنّه إذا كانت نسبة التقدير الذي ينحفظ فيه الحكم إلى الحكم في

106

النحوين الأوّلين نسبة العلّة إلى المعلول، فيستحيل أن يتعرّض الحكم لحاله هدماً أو بناءً؛ لأنّ المعلول لا يرفع رأسه وينظر إلى علّته ويهدمها أو يبنيها. وهذا بخلاف النحو الثالث، فإنّ نسبة الحكم إلى تقديري الامتثال والعصيان نسبة العلّة إلى المعلول، فيكون له تعرّض لحالهما ويهدم أحدهما ويبني الآخر.

النقطة الثالثة: في بيان تأثير هذا المطلب في تصحيح الترتّب فنقول: إنّه إذا ترك المكلّف الأهمّ فقد اجتمع في حقّه الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ في آن واحد، وكان الأمران منحفظين على تقدير ترك الأهمّ، إلاّ أنّ انحفاظ أحدهما على هذا التقدير يختلف سنخاً عن انحفاظ الآخر على هذا التقدير، فالأمر بالمهمّ منحفظ على هذا التقدير بالتقييد به، ولكنّ الأمر بالأهمّ منحفظ على هذا التقدير بذاته، وعندئذ لا يبقى تصادم بينهما.

وتقريب عدم التصادم ـ على ما يظهر من عبارة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وإن لم تكن صريحة فيه ـ هو: أنّ كلاًّ من الأمرين قد اقتضى ما لا يتصادم مع مقتضى الآخر، فإذا لم يكن تصادم بين المقتضيين فلا وجه للتصادم بين الأمرين؛ فإنّ ما يقتضيه الأمر بالمهمّ إنّما هو فعل المهمّ على تقدير ترك الأهمّ، لا ترك الأهمّ؛ لما عرفت من أنّ انحفاظ الأمر بالمهمّ على هذا التقدير إنّما هو بالتقييد، فنسبته إليه نسبة المعلول إلى العلّة، فيستحيل أن ينظر إليه ويهدمه أو يبنيه. وما يقتضيه الأمر بالأهمّ إنّما هو فعل الأهمّ وهدم تركه؛ لأنّ انحفاظه على هذا التقدير إنّما هو بالانحفاظ الذاتيّ، فهو بالقياس إلى هذا التقدير نسبته نسبة العلّة إلى المعلول، وله الهدم والبناء. وأمّا الإتيان بالمهمّ على تقدير عصيانه فلا نظر له إليه ولا يتعرّض لحاله هدماً وبناءً، فلو استفتينا الأمر بالأهمّ وقلنا له: ما رأيك في أن نصلّي على تقدير مخالفتك بترك الإزالة؟ لقال: إنّني اُريد أن تزيل النجاسة، أمّا إذا لم تزل فلا يفرّق بحالي أن تصلّي أو لا تصلّي، فإذا اتّضح أنّ المقتضيين لا مساس

107

لأحدهما بالآخر، فلا معنى للتصادم بين الأمرين المقتضيين.

أقول: إنّ كلّ واحدة من هذه النقاط الثلاث ـ التي جزّأنا إليها كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ لا تخلو من مناقشة:

أمّا النقطة الاُولى: فحاصلها أنّ انحفاظ الحكم في موارد التقسيمات الأوّليّة بالإطلاق والتقييد الأوّليّين، وفي موارد التقسيمات الثانويّة بمتمّم الجعل، وبلحاظ الفعل والترك بالذات.

أقول: أمّا كون الانحفاظ في التقسيمات الثانويّة بمتمّم الجعل لا بالإطلاق والتقييد الأوّليّين، فقد طبّقه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أيضاً في بحث التعبّديّ والتوصّليّ على قصد الامتثال، بدعوى: أنّ الانقسام إلى قصد امتثال الأمر وعدمه انقسام ثانويّ. وقد وضّحنا هناك: أنّه في كلّ مورد لم يكن برهان على استحالة التقييد، فالتقييد والإطلاق كلاهما ممكن. وفي كلّ مورد أمكن البرهنة على بطلان التقييد تعيّن الإطلاق، على ما هو المختار من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس هو تقابل العدم والملكة، بل تقابل السلب والإيجاب.

وأمّا كون الانحفاظ بلحاظ الفعل والترك ذاتيّاً لا بالإطلاق والتقييد، فهذا الكلام ينحلّ إلى جانب سلبيّ، وهو عدم معقوليّة الإطلاق والتقييد في المقام، وجانب إيجابيّ، وهو الانحفاظ الذاتيّ للحكم:

أمّا الجانب السلبيّ فما اشتمل عليه من عدم معقوليّة التقييد واضح، فلا يعقل تقييد وجوب الإكرام ـ مثلا ـ بالإكرام أو بتركه. وأمّا عدم معقوليّة الإطلاق فقد جاء في عبارة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) تعبيران لتوضيحه:

أحدهما: امتناع الإطلاق بامتناع التقييد، من باب أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وهذا ممنوع؛ لما نقّحناه في محلّه من أنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب، لا العدم والملكة.

108

والآخر: امتناعه باعتباره واجداً لكلا محذوري التقييدين، أي: التقييد بالفعل والتقييد بالترك. وهذا أيضاً ممنوع؛ فإنّ المحذور في التقييد متى ما كان مصبّه ذات تلك الحصّة من الحكم، كما هو الحال في محذور تقييد الحكم بالعاجز، ثبت ذلك المحذور في الإطلاق أيضاً. أمّا إذا كان المحذور في التقييد كما هو الحال فيما نحن فيه، فهذا المحذور لا يسري إلى الإطلاق؛ فإنّ الإطلاق رفض للقيود وليس تجميعاً لها.

وأمّا الجانب الإيجابيّ ـ وهو الانحفاظ الذاتيّ للحكم على تقديري الفعل والترك، بدعوى: أنّه بذاته يتعرّض إلى حال هذين التقديرين، ببناء أحدهما وهدم الآخر ـ فيرد عليه: أنّ هدم الحكم لأحدهما وبناءه للآخر فرع وجوده في ذينك التقديرين، ووجود الحكم في تقدير فرع أن ينطبق عليه موضوعه الذي جُعل الحكم على تقديره بنحو القضيّة الحقيقيّة، وانطباق الموضوع على أيّ فرض وتقدير لا يكون إلاّ بتقيّده به أو بإطلاقه له، والانحفاظ الذاتيّ لا معنى له.

وأمّا النقطة الثانية: فحاصلها أنّ نسبة التقادير ـ التي يثبت الحكم عليها ـ إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول في الأوّلين، ونسبة المعلول إلى العلّة في الأخير. ففي الأوّلين لا يتعرّض الحكم لهدم ذلك التقدير أو بنائه، بخلافه في الأخير.

أقول: إنّه في صورة التقييد نقبل كون نسبة التقدير ـ الذي قيّد به الحكم ـ إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول؛ لأنّه دخل في موضوعه وصار الحكم معلّقاً عليه، فإذا قُيّد الحكم بوجوب إكرام العالم بالعدالة، كان الحكم في طول العدالة. أمّا إذا اُطلق الحكم بوجوب إكرام العالم، فلا معنى لكون الحكم في طول العدالة؛ إذ لا توقّف له على العدالة.

وما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في مقام إلحاق الإطلاق بالتقييد: من أنّ الإطلاق بديلٌ للتقييد، فهو في مرتبته، فإذا كان ثبوت الحكم في مورد بالتقييد في طول

109

التقييد، كذلك يكون ثبوته في مورد بالإطلاق في طول الإطلاق، في غير محلّه:

فإنّه إن قصد بالإطلاق والتقييد: ما هو فعل المولى، فمن الواضح أنّ ثبوت الحكم في مورد بالإطلاق في طول الإطلاق، كثبوته فيه بالتقييد الذي هو في طول التقييد، وليس هذا ثابتاً عن طريق معرفة كون الإطلاق بديلا للتقييد، بل هو ثابت في نفسه، كثبوته في التقييد بغضّ النظر عن كونه بديلا عنه. إلاّ أنّ هذا خروج عمّا نحن فيه؛ فإنّ الكلام كان في نسبة الحكم إلى التقادير التي يثبت الحكم فيها، لا نسبته إلى الإطلاق والتقييد.

وإن قصد بالإطلاق والتقييد: التقادير التي يثبت الحكم فيها عند الإطلاق أو التقييد، فمن الواضح ما قلناه: من أنّ العدالة ـ مثلا ـ إنّما تكون متقدّمة على الحكم بالإكرام لو كان مقيّداً بها، أمّا لو لم يكن مقيّداً بها فلا مبرّر لتقدّمها عليه، وليس الحكم متوقّفاً عليها، وليس تقدّمها على الحكم عند التقييد دليلا على تقدّمها عليه عند الإطلاق، وكون الإطلاق بديلا للتقييد لا يمتّ إلى هذا المطلب بصلة. هذا هو الحال في القسمين الأوّلين.

وأمّا في القسم الثالث فكون الأمر في مرتبة العلّة للفعل ـ بمعنى كونه محرّكاً نحو الفعل ـ أمر مفهوم لدينا، لكنّ كونه في مرتبة العلّة للترك شيء لا نفهمه. وكون الترك بديلا للفعل لا يفيد ذلك؛ لعدم صحّة فكرة كون بديل المتأخّر متأخّراً؛ فإنّ الرتبة الثابتة لشيء بالقياس إلى شيء لا يلزم ثبوتها لبديله بالقياس إلى ذلك الشيء، كما اتّضح ذلك في بعض الأبحاث السابقة.

وأمّا النقطة الثالثة: وهي أنّه ما هو دور هذه المطالب في إثبات إمكان الترتّب؟

فإن كان مقصوده(رحمه الله)من كلامه فيها ما هو ظاهر عبارته: من عدم المنافاة بين الأمرين؛ لأجل عدم المنافاة بين المقتضيين، فهذا ممنوع؛ فإنّ مقتضى الأمر بالمهمّ هو الإتيان بالمهمّ على تقدير ترك الأهمّ، ومقتضى الأمر بالأهمّ هو الإتيان

110

بالأهمّ، وهذان المقتضيان متنافيان لا محالة.

وقوله: إنّ الأمر بالمهمّ لا يقتضي ترك الأهمّ؛ لكونه مشروطاً بترك الأهمّ، صحيح، لكن ماذا يقصد بقوله: إنّ الأمر بالأهمّ لا يقتضي ترك المهمّ على تقدير ترك الأهمّ؟ إن قصد بذلك أنّه لا يقتضي ترك المهمّ اقتضاءً مقيّداً بتقدير ترك الأهمّ، فهذا صحيح، لكن يكفي لفرض المنافاة بين المقتضيين كون الأمر بالأهمّ مقتضياً لترك المهمّ في ظرف ترك الأهمّ، لا مقيّداً بترك الأهمّ، بل مطلقاً. وإن قصد بذلك أنّه لا يقتضي ترك المهمّ في هذا الظرف ولو مطلقاً، فهذا غير صحيح؛ إذ الأمر بالأهمّ في ظرف ترك الأهمّ موجود، إمّا بالإطلاق كما نحن نقول، أو بذاته كما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فهو ـ لا محالة ـ يقتضي التقريب إلى فعل الأهمّ، وبالتالي يقتضي التبعيد عن ضدّه وهو المهمّ، على حدّ اقتضائه للتبعيد عن الضدّ فيما لو كان الأمران عرضيّين الموجب لمصادمة الأمرين.

وإن كان مقصوده(رحمه الله) أنّه لا تصادم بين الاقتضاءين بالرغم من ثبوت المنافاة بين المقتضيين؛ وذلك لأنّه متى ما كان أحد الاقتضاءين متوقّفاً على عدم تأثير اقتضاء الآخر، لم يتصادم الاقتضاءان، على ما سوف يأتي بيانه ـ إن شاء الله ـ عند ذكر التقريب المختار لإمكان الترتّب. وما نحن فيه من هذا القبيل، فاقتضاء الأمر بالمهمّ قد رُتّب على عدم تأثير الأمر بالأهمّ، فلا منافاة بينهما.

فهذا الكلام صحيح، إلاّ أنّ هذا لا يمتّ إلى كون انحفاظ الأمر بالأهمّ في ظرف تركه، بالإطلاق الأوّليّ أو النتيجيّ أو بذاته، بصلة. فسواءً فُرض انحفاظه بالإطلاق أو بنتيجة الإطلاق أو بذاته، فمادام الأمر بالمهمّ كان مشروطاً بترك الأهمّ، فنكتة إمكان اجتماع الأمرين محفوظة؛ حيث إنّ اقتضاءه موقوف على عدم تأثير اقتضاء الآخر، فلا يتنافى الأمران. واختلاف الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ في سنخ انحفاظهما على تقدير ترك الأهمّ ليس له أيّ تأثير في ذلك؛

111

ولهذا لو لم يقيّد الأمر بالمهمّ بترك الأهمّ وبقى مطلقاً، لم يصحّ اجتماعهما بالرغم من أنّ نفس الاختلاف في سنخ الانحفاظ بينهما موجود؛ فإنّ انحفاظ الأمر بالمهمّ على هذا التقدير يكون بالإطلاق، وانحفاظ الأمر بالأهمّ على هذا التقدير يكون ـ على رأي المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ بذاته، ومع ذلك ترى أنّ هذا لا يشفع لإمكان اجتماع الأمرين. فكلّ هذه المطالب ليس لها أيّ دور في إمكان الترتّب.

وأمّا المقدّمة الخامسة: فشطرٌ منها مضى الكلام فيه في الجهة الثانية.وشطرٌ منها عبارة عن إشكالات الخصم على الترتّب، وسوف يأتي الكلام عنها ـ إن شاء الله ـ فيما بعد، وبعد إسقاط هذا وذاك لا تبقى في هذه المقدّمة إلاّنكتة واحدة.

وكان مقتضى سياق المقدّمات أن تكون هذه المقدّمة استنتاجاً ممّا مضى؛ حيث إنّه برهن في المقدّمة الثانية على أنّ الأمر بالمهمّ لا يطارد الأمر بالأهمّ. وبرهن في المقدّمة الرابعة على أنّ الأمر بالأهمّ لا يطارد الأمر بالمهمّ، ومقتضى هذا السياق هو كون هذه المقدّمة استنتاجاً ممّا مضى، إلاّ أنّه كأنّه يذكر هنا نكتة جديدة، وهي: أنّ المحذور في الأمر بالضدّين إنّما هو لزوم طلب الجمع، أمّا إذا لم يلزم إلاّ مجرّد الجمع في الطلب ـ لا طلب الجمع ـ فلا محذور في ذلك، وطلب الجمع إنّما يلزم ـ في غير فرض تعلّق الأمر بالجمع بين الضدّين بعنوانه ـ في إحدى حالات ثلاث:

1 ـ أن يكون متعلّق الأمر في كلّ واحد من الضدّين مقيّداً بالإتيان بالآخر.

2 ـ أن يكون متعلّق الأمر في أحدهما مقيّداً بالإتيان بالآخر.

3 ـ أن يكون كلّ من الأمرين مطلقاً من ناحية الإتيان بالآخر.

ففي هذه الحالات الثلاث يلزم طلب واقع الجمع.

112

أمّا إذا لم يكن شيء من هذه الفروض، بل كان أحد الأمرين مشروطاً بترك الآخر ـ كما هو المفروض ـ فلا يلزم طلب الجمع، بدليل أنّه لو أتى المكلّف محالا بهما لم يقعا معاً على صفة المطلوبيّة، ببرهان أنّه لو فُرض تحقّق ترك الأهمّ لزم اجتماع النقيضين، ولو فُرض عدم تحقّقه ومع ذلك كان المهمّ مطلوباً لزم وجود المعلول بلا علّة؛ لأنّ مطلوبيّة المهمّ تتفرّع على ترك الأهمّ بحسب الفرض.

أقول: إنّ هذا الكلام أيضاً يجب إرجاعه إلى ما أشرنا إليه وسوف يأتي توضيحه: من أنّ أحد المقتضيين إذا كان موقوفاً على عدم تأثير الآخر استحال التصادم بينهما، أمّا إذا لم يرجع إلى ذاك أمكن لمغالط أن يغالط ويقول: إنّه لو فُرض محالا أنّ المكلّف جمع بين الضدّين، فهل يُفرض أيضاً محالا الجمع بين النقيضين ـ أعني: فعل الأهمّ مع تركه ـ أو لا؟ فإن فُرض الجمع بين النقيضين أيضاً، فقد اتّصف كلا الضدّين بصفة المطلوبيّة؛ فإنّ مطلوبيّة المهمّ قد تحقّق شرطها، وهو ترك الأهمّ. وإن لم يُفرض ذلك فعدم اتّصاف المهمّ الذي أتى به بالمطلوبيّة، إنّما هو من باب عدم إتيانه بالمطلوب بكلّ قيوده؛ فإنّ قيد الوجوب يكون أيضاً قيداً للمادّة، بمعنى أنّه لا يبقى للمادّة إطلاق لفرض عدم ذاك القيد، فكأنّما المطلوب هو المهمّ المقيّد بعدم الأهمّ، فعدم اتّصاف ما أتى به المكلّف بالمطلوبيّة يكون من ناحية قصور في فعل المكلّف لا في الطلب. فهذا يكون من قبيل ما لو تعلّق أمران عرضيّان: أحدهما بالأهمّ، والثاني بالمهمّ المقيّد بترك الأهمّ، ومن الواضح أنّ هذا لا يجوز بالرغم من أنّه لو أتى المكلّف بالأهمّ والمهمّ معاً لم يقع كلا فعليه على صفة المطلوبيّة.

والجواب على هذه المغالطة يجرّنا إلى بيان ما ذكرناه: من أنّ أحد الاقتضاءين قد قُيّد بعدم تأثير الاقتضاء الآخر. وهذا أيضاً من إفادات المحقّق النائينيّ(رحمه الله).