439

عنوانه، وهذا لا ينافي انطباق عنوان آخر محرّم على نفس مصداق ذاك العنوان فيحرم بالعنوان الآخر.

وإن شئت فقل: إنّ دليل الترخيص إنّما دلّ على أنّه لم يجعل التحريم على هذه الحصّة بواسطة انطباق العنوان الفلانيّ عليه وهذا لا ينافي تحريمها بعنوان آخر.

وبكلمة اُخرى: إنّ المفهوم من دليل الترخيص ليس إلاّ الحكم الحيثيّ، أي: إنّ شرب الحليب ـ مثلا ـ من حيث أنّه شرب الحليب لم يجعل عليه الحرمة، وقد يكون حكمه الفعليّ الحرمة بعنوان الغصب مثلا.

وعندئذ نأتي إلى المقام ونقول: هل المفروض أنّ الأمر بالجامع يقتضي الترخيص في الحصّة بمعنى الترخيص الحيثيّ، أو يقتضي الترخيص الفعليّ فيها؟ فإن فُرض الثاني وقع التعارض بينه وبين النهي عن الغصب، فلم تنطبق عليه نكتة كبرى الأخذ بالدليل الإلزاميّ، وهي عدم التعارض رأساً بالبيان الذي عرفت. وإن فُرض الأوّل إذن لا يمتنع اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ الترخيص الحيثيّ لا يولّد التعارض بينهما، وهذا خلف الفرض فإنّنا نتكلّم مبنيّاً على الامتناع.

إذن، فاتّضح أنّه لا نكتة فنّيّة لتقديم النهي على الأمر. وأمّا بقيّة الكلمات من قبيل: أنّ النهي مقدّم بالاستقراء أو باعتبار أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المفسدة، فلا تستحقّ التعرّض.

 

تحقيق حال العبادات المكروهة:

التنبيه الثامن: في تحقيق حال العبادات المكروهة.

وقد جعلت العبادات المكروهة دليلا إنّيّاً على جواز اجتماع الأمر والنهي حيث يقال: إنّ التضادّ لا يختصّ بالوجوب والحرمة، فكلّ الأحكام الخمسة متضادّة فيما بينها، والعبادات المكروهة قد ثبتت فقهيّاً صحّتها، وهذا يعني أنّها

440

مصداق للمأمور به وفي نفس الوقت ثبتت كراهتها، وهذا يعني اجتماع الأمر والنهي.

وذكر صاحب الكفاية(رحمه الله): أنّ هذه المشكلة يواجهها القائلون بالجواز أيضاً، فإنّ القائل بالجواز الذي يرى أنّ تعدّد العنوان يوجب الجواز(1) لابدّ له أيضاً من حلّ المشكل في الموارد التي ليس هناك عنوانان، بل تعلّق الأمر بالمطلق والنهي الكراهتيّ بالمقيّد من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام).

بل من يرى جواز الاجتماع بملاك أنّ الأمر متعلّق بصِرف الوجود والنهي متعلّق بالحصّة أيضاً يواجه المشكل في المقام، باعتبار أنّه في بعض موارد كراهة العبادة يكون متعلّق الأمر ومتعلّق النهي حصّة واحدة، من قبيل الصوم في يوم عاشوراء.

وقد قسّم البحث في الكفاية إلى قسمين:

القسم الأوّل: العبادات المكروهة التي تعلّق الأمر فيها بالجامع، فلها بدل كالصلاة.

والقسم الثاني: العبادات المكروهة التي ليس لها بدل، كصوم يوم عاشوراء(2).

 


(1) سواءً كان لنفسه أو لكشفه عن تعدّد المعنون.

(2) فإنّ صاحب الكفاية وإن قسّم في كتابه البحث إلى ثلاثة أقسام ثالثها: ما إذا تعدّد العنوان، لكنّه أرجع الثالث بناءً على الامتناع إلى الأوّل، أعني: الأمر بالجامع مع النهي عن الحصّة، فانقسم البحث في الحقيقة إلى قسمين. راجع الكفاية، ج 1، ص 253 ـ 260 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق المشكينيّ في حواشيها.

وعلى أيّ حال فالصحيح في فرض تعدّد العنوان أنّه لو قلنا في فرض النواهي التحريميّة بكفاية تعدّد العنوان في جواز الاجتماع، أو كشفه عن تعدّد المعنون الموجب

441

ويقع الكلام أوّلا: في القسم الأوّل، وفي هذا القسم من يقول بجواز اجتماع الأمر والنهي بملاك أنّ الأمر متعلّق بالجامع والنهي متعلّق بالحصّة فهنا في فسحة من الإشكال. كما أنّ القائل بالامتناع بالملاك الميرزائيّ ـ أعني: بملاك أنّ الأمر بالجامع يقتضي الترخيص في التطبيق، والترخيص في التطبيق لا يجتمع مع النهي ـ أيضاً في فسحة هنا من الإشكال؛ فإنّ النهي الكراهتيّ لا يضادّ الترخيص في التطبيق.

وإنّما يواجه هذه المشكلة من يقول بالامتناع بملاك التضادّ بين نفس الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة، ومن يقول بجواز الاجتماع بملاك تعدّد العنوان أو بملاك أنّ تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون.

 


لجواز الاجتماع، فلا حاجة إلى مزيد بحث في المقام. أمّا لو قلنا في فرض النهي التحريميّ بامتناع الاجتماع رغم تعدّد العنوان وذلك بدعوى وحدة المعنون، فإن كان السبب في ذلك دعوى أنّه مع وحدة المعنون يكون الأمر بالعنوان الواجب مستلزماً للترخيص في التطبيق على ما اتّحد في وجوده مع العنوان الآخر وهو ينافي التحريم، فمن الواضح أنّ هذه النكتة لا تأتي في النهي التنزيهيّ؛ لعدم منافاة الترخيص له.

وإن كان السبب في ذلك دعوى التضادّ المباشر ـ دون وساطة لزوم الترخيص في التطبيق ـ بين الأمر والنهي، فبما أنّ المفروض فيما نحن فيه مسلّميّة صحّة العبادة فقهيّاً تأتي في المقام كلّ النكات التي ستذكر في القسم الأوّل، وهو فرض النهي التنزيهيّ عن الحصّة، زائداً أنّ نكتة صرف النهي عن الحصّة إلى القيد والتحصّص هنا أوضح منه في القسم الأوّل؛ إذ قد يقال: إنّ صرف النهي عن الحصّة إلى التحصّص والقيد خلاف ظاهر دليل النهي الذي ذكرت فيه الحصّة، في حين أنّ النهي في هذا القسم لم يتعلّق في ظاهر العبارة بالحصّة بل تعلّق بعنوان آخر.

442

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أجاب على هذا الإشكال بتأويل الكراهة(1) وحملها على أنّها ليست كراهة مولويّة بل نهي إرشاديّ، إرشادٌ إلى نقص هذا القسم في مصالحها عن المقدار الثابت طبيعيّاً لهذه العبادة من دون افتراض أيّ حزازة في هذه الحصّة، فمثلا الصلاة إذا لوحظت بطبيعتها بما هي هي يكون لها رجحان بمقدار خمس مراتب، وإذا وقعت في المسجد فهذه مزيّة تصعّد درجة الرجحان إلى ستّ مراتب، وإذا وقعت في الحمّام نقصت درجة المزيّة ووصلت إلى أربع مراتب، وأقلّ ما يكتفي به الشارع هو أربع مراتب، ولكن حرص المولى على إرشاد العبد إلى تحصيل المراتب الأكبر فأمر استحبابيّاً بالصلاة في المسجد، ونهى كراهتيّاً عن الصلاة في الحمّام، فهذه الأوامر الاستحبابيّة والنواهي الإرشاديّة ترشد إلى وجود مصلحة زائدة أو إلى فوات بعض المصلحة.

إلاّ أنّ حمل النهي على مجرّد الإرشاد بمعنى تجريده عن أيّ دلالة على الحزازة والمبغوضيّة المولويّة لا يصحّ على مبنى صاحب الكفاية من أنّ الواجب النفسيّ ملاكه ومحبوبيّته ذاتيّان، أي: ليست محبوبيّته لملاك يترتّب عليه، بل هو بنفسه عبارة عن الملاك المحبوب على أساس تعنونه بعنوان حسن(2)، فإنّنا نقول على هذا المبنى: إنّ تأثير خصوصيّة الإيقاع في الحمّام في نقص الدرجات لو كان بمعنى أنّ عدم هذه الخصوصيّة كان مؤثّراً في الدرجة الخامسة من المحبوبيّة ـ مثلا ـ فزالت الدرجة الخامسة بانتقاض هذا العدم، فهذا مستحيل؛ لأنّ العدم بما


(1) هذا هو الجواب الذي خصّ صاحب الكفاية به هذا القسم بعد افتراضه أنّ هذا القسم بإمكانه أن يشترك مع القسم الثاني في الجواب.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 172 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

443

هو عدم لا يكون مؤثّراً في إيجاد شيء أصلا. ومتى ما كان عدم شيء دخيلا في صدور المقتضى من المقتضي فهو من باب أنّ نقيض العدم يكون مانعاً عن تأثير المقتضي في مقتضاه باعتباره مقتضياً لضدّ ما يقتضيه ذلك المقتضي.

ولو كان بمعنى أنّ خصوصيّة الإيقاع في الحمّام تقتضي ما يكون ضدّاً للدرجة الخامسة فهذا يعني أنّها تقتضي الحزازة والمنقصة حتّى تكون مضادّة للدرجة الخامسة، إذن فدخل في الحساب عنصر المبغوضيّة والمنقصة، فلابدّ أن يبحث عن أنّها كيف اجتمعت مع الأمر.

نعم، لو افترضنا أنّ الواجب النفسيّ قد تكون محبوبيّته على أساس أنّ ملاك غير ذاك الواجب يترتّب على ذاك الواجب ارتفع هذا الإشكال؛ فإنّ غاية ما يلزم هي أنّ الصلاة تحدث آثاراً خمسة وأنّ خصوصيّة الحمّاميّة تقتضي ضدّ الأثر الخامس، وهذا الضدّ لا يلزم أن يكون مفسدة وحزازة، فإنّ ضدّ المحبوب لا يلزم أن يكون مبغوضاً، فقد يكون أمران كلاهما في نفسه محبوب؛ لما تترتّب عليه من مصلحة لكنّهما ضدّان، فالأكل ضدّ للصلاة وقد يكونان محبوبين، والتوجّه إلى الله محبوب وهو أحياناً ضدّ للتوجّه إلى الأهل والعيال، وهذا لا يعني كون التوجّه إلى الأهل والعيال غير محبوب(1).

 


(1) لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قد ذكر في بحث الواجب النفسيّ والغيريّ: أنّ أكثر الواجبات من العبادات والتوصّليّات يترتّب عليها فوائد ومصالح ولكن صارت واجباً نفسيّاً لكونها معنونة بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله بل وذمّ تاركه، ولا ينافيه كونه في نفس الوقت مقدّمة لأمر مطلوب واقعاً، وهذا بخلاف الواجب الغيريّ لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمة لواجب نفسيّ، وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه إلاّ أنّه لا دخل له في إيجابه الغيريّ، راجع الكفاية، ج 1، ص 172

444

ثمّ لو قطعنا النظر عن هذا الإشكال وافترضنا أنّ المانعيّة كانت بالنحو المعقول وأنّ الصلاة كانت محبوبة غيريّة فعندئذ نقول: إنّ المرتبة الخامسة من المصلحة محبوبة بحسب الفرض، وقد افترضنا في بحث الضّد أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، أي: إنّ حبّ الشيء يقتضي بغض الضدّ العامّ، إذن فعدم هذه المرتبة الخامسة يكون مبغوضاً، وقد قرأنا أيضاً أنّ علّة المبغوض مبغوضة، وعلّة هذا المبغوض هي خصوصيّة الكون في الحمّام، إذن فانتهينا أيضاً إلى مبغوضيّة مولويّة(1)، وقد صرّح صاحب الكفاية بأنّه كما لا يجوز اجتماع الأمر والنهي


بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

وعليه فبإمكان صاحب الكفاية أن يجيب على هذا الإشكال بأنّنا نفترض أنّ خصوصيّة الحمّاميّة مضادّة لذاك الملاك المترتّب على الصلاة بطبيعتها الأوّليّة لا للمحبوبيّة النفسيّة للصلاة.

(1) لا أدري لماذا افترض اُستاذنا(رحمه الله) في المقام كون الخصوصيّة، أي: خصوصيّة إيقاع الصلاة في الحمّام، علّة للمبغوض، فبالإمكان أن يقول هنا بنفس ما قاله قبل أسطر في بيان عدم ورود الإشكال الأوّل على المبنى المشهور من كون الواجب النفسيّ واجباً لما فيه من الملاك والمصلحة ولا يلزم أن يكون وجوبه للمحبوبيّة الذاتيّة، حيث قال(رحمه الله): إنّ وجدان أحد الضدّين للملاك ومحبوبيّته لا يعني إفناء الضدّ الآخر للملاك ومبغوضيّته، فإنّ محبوبيّة الضدّ لا توجب مبغوضيّة الضدّ الآخر الخاصّ، فهذا في الحقيقة جواب على هذا التطوير للإشكال، فيقال: إنّ خصوصيّة كون الصلاة في الحمّام لا ينحصر أمرها في كونها هي العلّة المفنية لتلك المرتبة من الملاك، بل قد تكون مضادّة لما يحقّق تلك المرتبة من الملاك.

445

النفسيّين كذلك الحال في التكليف الغيريّ(1)، إذن فلا بدّ من التفتيش عن جواب عن الإشكال مع افتراض ثبوت المبغوضيّة.

وتحقيق الحال في هذا القسم من العبادات المكروهة ـ أعني: ما له بدل ـ: أنّ هناك عدّة ظهورات يمكن ادّعاؤها للنهي، ورفع الغائلة يكون برفع اليد عن واحد منها:

الظهور الأوّل: هو ظهور النهي في كونه مولويّاً في مقابل الحمل على الإرشاد، ومعنى المولويّة أن يكون بداعي الزجر حقيقة سواءً كان زجراً إلزاميّاً أو كراهتيّاً. والمقصود من الإرشاديّ أن يكون كجملة خبريّة.

ولا إشكال في أنّ ظاهر النهي هو المولويّة، فهنا يمكن تأويل هذا الظهور وحمله على الإرشاد، فيكون إرشاداً لمن يريد أن يصلّي ـ أي: بعد فرض أصل الصلاة ـ إلى أن لا يوقع صلاته في الحمّام. وهذا الإرشاد قد يكون إرشاداً إلى نقصان الملاك والمصلحة، وقد يكون إرشاداً إلى نقصان ناش من مبغوضيّة مندكّة في مقابل محبوبيّة صِرف الوجود، والإشكال على صاحب الكفاية كان باعتبار أنّه يرى ظاهراً أن لا مبغوضيّة أصلا حتّى بنحو الاندكاك(2).

 


نعم، بالإمكان أن يقال: إنّ هذا خلاف ظاهر تعلّق النهي بتلك الخصوصيّة، فظاهر ذلك أنّ تلك الخصوصيّة بما هي تكون هي المفنية للملاك.

إلاّ أنّ هذا لا يبطل التوجيه الذي توجّه به العبادات المكروهة بعد فرض مسلّميّتها في الفقه. إذن لا تحاشي عندئذ عن ارتكاب مخالفة الظاهر.

(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ(رحمه الله).

(2) لم نعرف نكتةً لهذا الاستظهار من كلام صاحب الكفاية.

446

الظهور الثاني: ظهور النهي في أنّه متعلّق بالحصّة الخاصّة وهي الصلاة في الحمّام، أي: بالمقيّد لا بخصوصيّة الحمّاميّة وهي التقيّد، فنأوّل قوله: (لا تصلّ في الحمّام) ـ بعد تسليم كونه مولويّاً ـ الظاهر في النهي عن المقيّد إلى النهي عن القيد وهو التواجد في الحمّام عند الصلاة، وبذلك تنحلّ المشكلة.

وليس الكون في الحمّام كالكون في المغصوب؛ فإنّ السجود الذي هو إلقاء الثقل على الأرض يعتبر تصرّفاً في المغصوب، فيكون حراماً ولكن ليس نفس إلقاء الثقل هو الكون في المكان كي يكون مكروهاً(1).

الظهور الثالث: ظهور النهي وظهور أيّ خطاب مولويّ في أنّه ناشئ من مبادئ فعليّة من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة لا من مبادئ مغلوبة ومندكّة، فيقال:


(1) لا يخفى أنّ حلّ الإشكال عن طريق أنّ الكون في الحمّام لم يتّحد مع الصلاة ليس حلاّ مطّرداً، فماذا نصنع ـ مثلا ـ فيما لو أوجب المولى عملا يكون من جزئه الكون في المكان، كما لو افترضنا الكون في المكان أحد أعمال الصلاة، ونهى نهياً كراهتيّاً عن إيقاعه في الحمّام؟

وبالإمكان أن يتمسّك للحلّ بأنّه بعد صرف النهي عن كونه نهياً عن الحصّة إلى كونه نهياً عن القيد أصبح الواجب والمكروه متعدّداً عنواناً؛ لأنّ الواجب هو العنوان المنتزع عن الجنس، والمكروه هو العنوان المنتزع عن الفصل، وقد مضى فيما سبق أنّ الأمر بعنوان الجنس مع النهي عن الخصوصيّة الفصليّة وإن كان لا يتمتّع بنكتة تعدّد المعنون؛ لأنّ الجنس والفصل يوجدان خارجاً بوجود واحد، ولكنّه يتمتّع بنكتة تعدّد العنوان، وقد قلنا: إنّ هذا كاف في حلّ الإشكال. نعم، قلنا في التحفّظ الأوّل: إنّنا لا نقبل في العبادات بصحّة العمل مع تنجّز الحرمة، وذلك على أساس الخلل الذي يتّجه إلى التقرّب، لكن هذا الخلل إنّما يكون في فرض الحرمة دون الكراهة، فكراهة الفصل لا تمنع عن التقرّب بالجنس الواجب.

447

إنّ مقتضى الظهور السياقيّ للنهي ـ بعد تسليم كونه نهياً عن الحصّة لا عن الخصوصيّة والقيد ـ كان هو فعليّة المبادئ في الحصّة، بينما المفروض أنّ المبادئ بمقدار تعلّقها بذات الصلاة تكون مغلوبة ومندكّة في مقابل مبادئ وجوب الصلاة وإن كانت بمقدار ارتباطها بالخصوصيّة فعليّة، لكنّنا نرفع اليد عن هذا الظهور السياقيّ ونحمله على نهي ناش عن مبادئ مندكّة، فليس هناك بغض فعليّ، ولكنّه مع هذا يؤثّر هذا البغض الشأنيّ ـ أو قل: المفسدة المندكّة ـ في جعل النهي.

لا يقال: مغلوبيّة المبادئ تنافي عقلا جعل الحكم على طبقها.

فإنّه يقال: إنّ مغلوبيّة المبادئ إنّما تنافي عقلا جعل الحكم على طبقها حينما يكون جعل الحكم على طبقها منافياً لاهتمام المولى بالملاك الغالب، فمثلا (الميسر) فيه مصالح للناس مغلوبة للمفسدة التي فيها، وهذه المصلحة لا يُعقل أن تستتبع حكماً بالاستحباب أو الوجوب، فإنّ هذا يكون تضييعاً للملاك الأهمّ، وهو خلف اهتمام المولى بالملاك الأهمّ. وأمّا فيما نحن فيه فالنهي عن الحصّة الناشئ من مفسدة تكون مغلوبة في مقابل مصلحة أصل الصلاة لا يكون تضييعاً للملاك الأهمّ، فإنّ الملاك الأهمّ إنّما هو في جامع الصلاة، ويمكن حفظه إلى صفّ ذاك النهي التنزيهيّ، وذلك بالأمر الوجوبيّ بأصل الصلاة(1).

 


(1) لا يخفى أنّه بناءً على هذا الكلام لا يكون في المقام ظهور أصلا للنهي في كونه ناشئاً عن مبادئ فعليّة وغير مغلوبة؛ لأنّ منشأ هذا الظهور واضح عند العرف نفسه، وهو عدم إمكان صدور النهي من المبادئ المغلوبة، وهنا من الواضح عند العرف نفسه إمكان الجمع بين المبدأين الغالب والمغلوب بالأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

نعم، لو كان العرف لا يعرف ثبوت أو عدم ثبوت نكتة الظهور في مورد مّا لأمكن أن يقال: إنّ غلبة ثبوت تلك النكتة في نفسها هي المولّدة للظهور فيثبت الظهور، وذلك من

448

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من العبادات المكروهة.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو العبادة التي تعلّق بها النهي التنزيهيّ وليس لها بدل، من قبيل صوم يوم عاشوراء لو قلنا بكراهته، ومن قبيل صوم يومين بعد عيد الفطر، فإنّه مكروه ـ فهنا يتبادر إلى الذهن عدم تماميّة الأجوبة السابقة:

أمّا الجواب بالحمل على الإرشاد إلى أقلّيّة الفضل أو أفضليّة البديل ـ أو قل: إلى الانتقال إلى البديل ـ فلأنّه لا بديل في المقام كي يرشد إلى الانتقال إليه.

وأمّا الجواب بصرف النهي إلى النهي عن الخصوصيّة دون الحصّة فلا أثر لذلك في المقام؛ لأنّ هذا الفرد من الصوم ملازم لتلك الخصوصيّة المنهيّ عنها، فيكون الامتثالان متضادّين دائماً وهو غير معقول.

وأمّا الجواب الثالث فأيضاً لا يأتي في المقام، فإنّ ملاك النهي إن فُرض كونه غالباً كان الصوم مبغوضاً بالفعل فكيف يكون عبادة؟ وإن فُرض مغلوباً فلا يعقل أن يستتبع النهي، فإنّ النهي هنا يفوّت الملاك الأهمّ على المولى؛ إذ لا بديل له هنا.

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أجاب بتسليم أنّ النهي متعلّق بالصوم إلاّ أنّه ليس نهياً ناشئاً عن مفسدة ومبغوضيّة قائمة بالصوم، كي يلزم كون الصوم مبغوضاً بالفعل ويستحيل صحّته، وإنّما هو ناشئ من مصلحة قويّة في الترك، فروح النهي يكون


قبيل ظهور النهي في الانحلال الناشئ من غلبة انحلاليّة المفاسد، ففي مورد مّا لو لم يعرف العرف أنّ المفسدة انحلاليّة أو لا، بقي النهي على ظهوره في الانحلال.

أمّا في المقام فمن الواضح عند العرف إمكانيّة الجمع بين المبدأين وصدور النهي عن المبدأ المغلوب، وفي هذا الفرض نمنع بقاء ظهور للنهي في فعليّة المبادئ. نعم، مع حمل النهي على الحرمة وفرض عباديّة المتعلّق يكون المبدأ فعليّاً عند العلم بالحرمة من ناحية عدم إمكانيّة تحصيل ملاك الأمر؛ لأجل عدم تمشّي القربة، وهذا مطلب آخر.

449

طلباً للترك باعتبار محبوبيّته، وغاية ما يلزم من ذلك التزاحم بين ملاك محبوبيّة الفعل وملاك محبوبيّة الترك من دون أن تفترض مبغوضيّة أصلا، وحيث إنّ محبوبيّة الترك أقوى من محبوبيّة الفعل قدّمت عليها وكان الأمر على طبق الأقوى، فالحكم الفعليّ هو الأمر بالترك المعبّر عنه بالنهي، فيسقط طلب الفعل خطاباً ولكنّه باق ملاكاً كما هو الحال في سائر موارد التزاحم، فيمكن تصحيح العبادة بالملاك بلا حاجة إلى الأمر(1). هذا خلاصة مرام صاحب الكفاية مع عزل نكتة لعلّه سوف تأتي الإشارة إليها.

وكأنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهم من هذا التزاحم التزاحم الحقيقيّ الذي هو يقوله، أي: التزاحم في عالم الامتثال لا التزاحم الملاكيّ، فالتكليفان ثابتان على القادر إلاّ أنّهما لا يصبحان فعليّين معاً على المكلّف. ومن هنا أشكلعلى صاحب الكفاية بأنّه لا يُعقل التزاحم في المقام؛ إذ لا يُعقل جعل الاستحباب لكلّ من النقيضين في نفسه، وإذا وُجد ملاكان للمحبوبيّة في كلّ من النقيضين فإن كان أحدهما أقوى تعيّن الحكم على طبقه بالخصوص، وإن تساويا فلا يُعقل جعل الاستحباب لا تعييناً؛ إذ لا يُعقل الجمع بينهما، ولا تخييراً(2)؛


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 256 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) كأنّ هذا التعبير نتج من التبعيّة للتعبير الوارد في أجود التقريرات من قوله: «لاستحالة تعلّق الطلب التخييريّ بالنقيضين» في حين أنّ التعبير الأفضل ليس هو أن نقول: (لا يمكن تعلّق الاستحباب لا بهما تعييناً؛ إذ لا يُعقل الجمع، ولا تخييراً؛ إذ أحدهما ضروريّ الوقوع) بل التعبير الأفضل هو أن يقال: (لا يمكن تعلّق الاستحباب بهما لا عرضاً؛ إذ لا يُعقل الجمع، ولا ترتّباً؛ لضروريّة أحدهما عند عدم الآخر).

450

فإنّ أحدهما ضروريّ الوقوع(1).

بينما صاحب الكفاية إنّما يقصد بالتزاحم التزاحم الملاكيّ ولا يقول بوجود جعلين في المقام، كي يقال: إنّ هذا غير معقول، بل يقول: توجد محبوبيّتان إحداهما أقوى من الاُخرى، ولكنّ الأضعف أيضاً محفوظ في المقام على أيّ حال، فيمكن التقرّب بالملاك.

غير أنّ السيّد الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ كأنّه مشى وفق فهم المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وأراد أن يصوّر التزاحم الحقيقيّ في محلّ الكلام تبريراً لكلام صاحب الكفاية، فقال: إنّ التزاحم بين النقيضين وإن كان غير معقول إلاّ أنّه في المقام نُرجع التزاحم إلى التزاحم بين الضدّين، فإنّ مقصودنا بالضدّين ليس هو الضدّين الفلسفيّين، وإنّما المقصود كلّ حالتين متنافيتين ولهما ثالث، فما لم يكن لهما ثالث لا يعقل التزاحم، وإذا كان لهما ثالث كان التزاحم معقولا، وفي المقام يوجد الثالث؛ لأنّ ملاك الأمر ليس قائماً بمطلق الفعل كي لا يوجد لهما ثالث، وإنّما هو قائم بحصّة خاصّة للفعل وهي الفعل مع قصد القربة، فهناك حالة ثالثة وهي أن يصوم بلا قصد القربة(2).

وهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه كما يظهر ذلك ببيان مقدّمة حاصلها: أنّه كما قلنا في الأوامر الوجوبيّة بأنّ كلّ أمر مقيّد لبّاً بعدم الانشغال بضدّ أهمّ أو مساو، كذلك الأمر الاستحبابيّ مقيّد بذلك بنفس البرهان، وهو: أنّ المولى لو كان هدفه


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 439 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 364 ـ 365 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 364، والمحاضرات، ج 4، ص 318 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

451

من هذا الأمر صرف المكلّف عن الأهمّ أو المساوي فهذا لا وجه له، ولو كان هدفه أن يجمع المكلّف بين العملين فهذا غير معقول؛ لفرض التضادّ.

وعلى هذا نقول في المقام: إنّ الأمر بصوم يوم عاشوراء ـ مثلا ـ لابدّ أن يؤخذ في موضوعه عدم الانشغال بضدّ مساو أو أهمّ، والضدّ هو ترك الصوم، فلابدّ أن يؤخذ عدم الترك ـ وهو الفعل ـ في موضوع الاستحباب، بينما لا معنى للأمر بالفعل في طول وقوعه(1).

وبعد هذا نرجع إلى نفس كلام صاحب الكفاية وهو وقوع التزاحم الملاكيّ بين الفعل والترك، وبما أنّ الترك كان أرجح أصبح الفعل مكروهاً ولكن يمكن الإتيان بالفعل بقصد الملاك.

وقد يورد على ذلك بأنّه إذا كان الأمر الفعليّ متعلّقاً بالترك إذن فبقانون (أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ) يكون الفعل منهيّاً عنه ومبغوضاً، ومعه يستحيل التقرّب به، وبهذا يظهر الفرق بين التزاحم الملاكيّ في النقيضين والتزاحم الملاكيّ في الضدّين، فإنّه في الضدّين لا يصبح الضدّ الآخر مبغوضاً.

وهذا الإشكال قد يجاب عليه بعدّة أجوبة:

منها: مثلا أنّ النهي عن النقيض نهي غيريٌّ لا يوجب بطلان العبادة؛ لأنّه لا بُعد


(1) ولك أن تقول: بما أنّ الأمر بقصد الأمر غير مأخوذ في متعلّق الأمر العباديّ، بل الأمر العباديّ متعلّق بذات الفعل، فقد رجع الأمر بالفعل مع الأمر بالترك إلى الأمر بالنقيضين. ولعلّ عدم ذكر اُستاذنا(رحمه الله) هذا البيان وانتقاله إلى البيان المذكور في المتن ناتج من أنّ هذا البيان متوقّف على تسليم إطلاق الأمر بلحاظ متعلّقه لفرض عدم قصد الأمر، وإن كان الأمر يتجدّد دائماً بعد العمل به ما لم يقصد المكلّف امتثال الأمر، وهذا مبنى خاصّ لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فلم يرد مجادلة الآخرين بمبنى خاصّ له.

452

ولا قُرب بلحاظ الأحكام الغيريّة(1).

ومنها: ما قد يقال: من أنّ المصلحة الغالبة لم تكن في الترك بعنوانه بل في عنوان منطبق عليه كما قال المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، حيث كان يعبّر بعنوان منطبق على الترك(2)، ونقيض ذاك العنوان عدمه لا الفعل، فمثلا لو كان ذاك العنوان (مخالفة بني اُميّة) فنقيضه عدم المخالفة لا الصوم.

إلاّ أنّ المهمّ في الجواب على كلام صاحب الكفاية: أنّ الإتيان بالفعل بداع إلهيّ غير معقول، فإنّ هذا يعني العدول عن الترك ـ الذي لم يكن بنفسه محتاجاً إلى داع ـ إلى الفعل بداع مولويّ، بينما نعلم أنّ المولى يكون عند الترك أشدّ فرحاً(3).

 


(1) ومنها: أن يقال: إنّنا نقصد التقرّب بالملاك، والملاك محبوب وإن لم يكن الفعل محبوباً.

(2) أو ملازم معه، وهذه هي النكتة الإضافيّة التي عُزلت حين نقل كلام صاحب الكفاية واُجّلت إلى هنا.

(3) وأمّا حلّ الإشكال، أعني: إشكال هذا القسم من العبادات المكروهة في نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على ما نقل عنه ـ راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 365 ـ 367 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 439 ـ 441 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم ـ فهو: أنّ متعلّق الأمر هو ذات العمل، بينما متعلّق النهي الكراهتيّ هو التعبّد بهذه العبادة لا ذات العمل، فإنّ ذات العمل لا مفسدة فيه ولا مصلحة في تركه، وإنّما نكتة النهي هي المشابهة والموافقة لبني اُميّة، وهذه عبارة عن التعبّد بهذه العبادة فلم يتّحد المتعلّقان.

نعم، لو كان النهي تحريميّاً لكان مانعاً عن الإتيان بمتعلّقه والتعبّد به وموجباً لتقييد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد؛ لأنّ الحرام يستحيل أن يكون مصداقاً للواجب، ولكنّ

453

ولا يبعد أن تكون هذه النواهي في هذا القسم إرشاديّة أيضاً بلحاظ أنّ المكلّف عادة لا يصوم الدهر كلّه وإنّما يصوم بعض الأيّام دون بعض، فيرشد من يريد أن يصوم بعض الأيّام إلى اختيار غير هذا اليوم، فيصبح حال ذلك من هذه الناحية حال (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)(1).

 


المفروض أنّه تنزيهيّ، والنهي التنزيهيّ عن الإتيان بالفعل بداعي امتثال الأمر المتعلّق به متضمّن للترخيص في الإتيان بالفعل بداعي امتثال الأمر المتعلّق به.

ويرد عليه ـ لو سُلّم أنّ متعلّق الكراهة هو الفعل المتعبّد به لا ذات الفعل ـ:

أوّلا: أنّ المحبوبيّة في العبادات متعلّقة بالفعل الذي يؤتى به بداعي التعبّد، والمفروض أنّ هذا هو متعلّق الكراهة.

وثانياً: أنّه لو غُضّ النظر عن ذلك أمكن أن يقال أيضاً: إنّ هذا الأمر وذاك النهي يستحيل أن يجتمعا؛ لأنّ الأمر لو حرّك لكان معنى تحريكه أنّ العبد يأتي بالعمل بقصد الأمر والتعبّد، وهذا مكروه عند المولى بحسب ما دلّ عليه النهي، فلو أنّ المولى يكره محرّكيّة الأمر فلماذا يأمر؟!

(1) بعد فرض قيام إجماع أو ضرورة على صحّة العمل لابدّ من الحمل على هذا المعنى الذي ذكره سيّدنا الاُستاذ(رحمه الله) أو الحمل على كون الترك المتعنون بعنوان داع معيّن أفضل من الفعل، لا كون مطلق الترك أفضل من الفعل، وذلك بأن يقال مثلا: إنّ ترك الصوم بداعي المخالفة العمليّة لسيرة بني اُميّة أفضل من الصوم، أمّا من لا يوجد في نفسه داع من هذا القبيل ودار أمره بين أن يصوم وبين أن يترك الصوم لا بهذا الداعي، فالصوم بالنسبة إليه أفضل من الترك، وهذان الوجهان يتعيّن المصير إلى أحدهما في هذا القسم متى ما كان إجماع أو ضرورة أو دليل آخر على صحّة العمل، إلاّ أنّ الوجه الثاني لا يطّرد في كلّ الموارد كما هو الحال في كراهة صوم يومين بعد عيد الفطر، فإنّه يتعيّن فيها الأوّل. وقد

454

 

هل يبقى الأمر بعد سقوط الحرمة بالاضطرار؟

التنبيه التاسع: فيما لو سقطت الحرمة بالاضطرار لا بسوء الاختيار أو كانت مترقّبة السقوط لأجل الاضطرار بسوء الاختيار فما هو مصير الأمر حينئذ بحسب القواعد الأوّليّة؟ بعد فرض أنّ الفعل المأمور به لا يوجب ارتكاب حرمة إضافيّة غير ما اضطرّ إليه. والكلام في ذلك يقع في مقامين:

 

الاضطرار لا بسوء الاختيار:

المقام الأوّل: في الاضطرار لا بسوء الاختيار، كما لو اضطرّ إلى التصرّف في الماء المغصوب أو الدخول في البيت المغصوب وافترضنا أنّ الوضوء أو الصلاة ليسا تصرّفاً إضافيّاً، فهل يمكن انبساط الأمر على مادّة الاجتماع بعد فرض عدم إمكان انبساطه عليها لو كانت الحرمة فعليّة، أو لا؟

والكلام في ذلك تارة يقع كبرويّاً، واُخرى يقع صغرويّاً حيث إنّه قد يناقش في الصغرى ويقال مثلا: إنّ الصلاة الكاملة توجب تصرّفات إضافيّة.

أمّا الكلام في الكبرى: فلا إشكال من ناحية الحكم التكليفيّ في سقوط الحرمة بالاضطرار عقلا وكذلك شرعاً؛ لما دلّ على رفع ما يضطرّ إليه من المحظورات، وإنّما الكلام يقع في جانب الحكم الوضعيّ من زاوية الأمر فهل


يكون الوجه الثاني أظهر من الوجه الأوّل كما قد يقال واستظهرناه في كراهة أعمال البرّ الماليّة للزوجة بلا إذن الزوج: إنّ تركها بداعي الانصياع لإذن الزوج أفضل من الفعل. وقد يُفرض الوجهان متساويين، ولعلّ صوم يوم عاشوراء من هذا القبيل.

455

يمكن أن يقال: إنّه لم يبق محذور في شمول الأمر لمادّة الاجتماع، فيقع الفعلصحيحاً ومجزياً، أو أنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة هو البطلان؟

ذهب المشهور إلى أنّ إطلاق دليل الأمر شامل لمادّة الاجتماع لوجود المقتضي وعدم المانع، فإنّ دليل الأمر بنفسه لم يكن مقيّداً بعدم غصب الماء أو المكان مثلا، وإنّما كان المانع عن التمسّك بالإطلاق هو الحرمة وقد سقطت. وبهذا فرّق المشهور بين المانعيّة المتحصّلة من الحكم التكليفيّ كما في محلّ الفرض، بنكتة عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي، والمانعيّة المستفادة من النهي الإرشاديّ كخطاب (لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه): ففي الأوّل مقتضى القاعدة عند ثبوت الاضطرار وسقوط الحرمة الصحّة، بينما في الثاني مقتضى إطلاق دليل المانعيّة ثبوتها حتّى مع الاضطرار. ولو دلّ دليل خاصّ على وجوب الباقي بقاعدة (الميسور)، أو (أنّ الصلاة لا تسقط بحال)، أو غير ذلك التزم به على خلاف القاعدة.

والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) خالف في ذلك فذكر أنّ البطلان المستفاد من النهي التكليفيّ أيضاً يشمل في حدّ ذاته فرض الاضطرار ما لم يدلّ دليل خاصّ على الصحّة، ويمكن أن يُقرَّب ذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: ما نقله السيّد الاُستاذ عنه في أجود التقريرات من أنّ النهي علّة لأمرين: أحدهما حرمة مادّة الاجتماع، والآخر عدم وجوبها؛ لأنّ الوجوب والحرمة متضادّان وكلّ ما يكون علّة لأحد الضدّين يكون علّة لعدم الآخر. والاضطرار إنّما ينافي المعلول الأوّل و هو الحرمة، و أمّا المعلول الثاني فلا يأباه الاضطرر، فالمقتضي للمعلول الثاني ـ وهو النهي ـ موجود والمانع مفقود، بناءً على أنّ هذين المعلولين في رتبة واحدة؛ لأنّ وجود أحد الضدّين مع عدم الآخر معلولان لشيء واحد، فيكونان في رتبة واحدة، وليست المانعيّة معلولة للحرمة

456

كي تزول بزوالها(1).

واعترض السيّد الاُستاذ على ذلك بما يكون ظاهره وجود اعتراضين عليه:

الاعتراض الأوّل(2): أنّ كشف النهي عن الحرمة يكون بالمدلول المطابقيّ وكشفه عن عدم الوجوب يكون بالالتزام، فالكشفان يكونان طوليّين لا عرضيّين، وما ذكر في بحث الضدّ من عرضيّة أحد الضدّين مع عدم الآخر إنّما هو العرضيّة بحسب عالم الثبوت لا بحسب عالم الإثبات.

والسيّد الاُستاذ فهم من كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أنّ النهي يكون علّة للحرمة وعدم الوجوب بحسب مقام الإثبات والكشف. والذي أوقع السيّد الاُستاذ في هذا الفهم هو التعبير بعلّيّة النهي للحرمة، فإنّه من الواضح أنّ النهي ليس علّة ثبوتيّة للحرمة وإنّما هو علّة إثباتيّة، أي: كاشف عن الحرمة، ومبنيّاً على هذا الفهم اعترض على المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بما عرفت.

الاعتراض الثاني(3): هو أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة أيضاً لا في الوجود فحسب، وحيث إنّ الدلالة المطابقيّة سقطت عن الحجّيّة في المقام فالدلالة الالتزاميّة أيضاً تسقط.

وهنا يوجد تعليقان على كلام السيّد الاُستاذ:

التعليق الأوّل: مربوط بالاعتراض الأوّل وحاصله: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لو


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 372 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع نفس المصدر، ص 371، تحت الخطّ، وراجع المحاضرات، ج 4، ص 349 ـ 351.

(3) راجع نفس المصدرين.

457

أراد بالعرضيّة: العرضيّة بحسب مقام الإثبات والكشف، لكان الاعتراض الأوّل وارداً، إلاّ أنّ أكبر الظنّ أنّ مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو العرضيّة بحسب مقام الثبوت، والتعبير بعلّيّة النهي للحرمة لعلّه جاء مسامحة، بقرينة ما جاء في فوائد الاُصول الذي يكون أيضاً تقريراً لبحث المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فإنّه لم يعبّر بعلّيّة النهي للحرمة وعدم الوجوب، بل عبّر بعلّيّة الملاك للحرمة وعدم الوجوب(1).

فيكون المقام صغرى من صغريات ما ذكر في بحث الضدّ من أنّ وجود أحد الضدّين مع عدم الضدّ الآخر معلولان لعلّة واحدة، فيصبح الكلام منسجماً ولا يرد عليه من اعتراضي السيّد الاُستاذ إلاّ اعتراضه الثاني، فلو أحرزنا ملاك الحرمة تمّ كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، إلاّ أنّنا إنّما أحرزنا ملاك الحرمة بالدلالة الالتزاميّة للنهي، فإذا سقط المدلول المطابقيّ عن الحجّيّة سقط الالتزاميّ أيضاً عن الحجّيّة كما قاله السيّد الاُستاذ في الاعتراض الثاني.

التعليق الثاني: تعليق على منهجة هذين الاعتراضين؛ إذ لو فهمنا من كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)العرضيّة في عالم الكشف فلو غُضّ النظر عن الاعتراض الأوّل وسُلّم بالعرضيّة في عالم الكشف لم تكن الدلالة الثانية التزاميّة كي يرد الاعتراض الثاني. ولو فهمنا من كلامه العرضيّة ثبوتاً لم يرد الاعتراض الأوّل(2). ثُمّ لو بنينا


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 و 2، ص 445 و 468 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) الظاهر أنّ شيئاً من التعليقين على كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ليس في محلّه؛ وذلك لأنّ الظاهر من عبارة السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تعليقه على أجود التقريرات وكذلك في المحاضرات أنّه لا يهدف إلاّ إيراد إشكال واحد، وهو: أنّ دلالة النهي على الحرمة وعلى عدم الوجوب ليستا عرضيّتين بل الاُولى مطابقيّة والثانية التزاميّة، وإذا سقطت المطابقيّة

458

على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الدلالة الالتزاميّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة لم يتمّ شيء من الاعتراضين عليه بناءً على أن يكون مراده العرضيّة ثبوتاً، هذا.

ولنتّجه الآن إلى كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بصياغته التي اتّضحت لك بعد فرض تبديل التعبير بعلّيّة النهي إلى التعبير بعلّيّة الملاك وفرض إرادة العرضيّة الثبوتيّة، فيمكن أن نلخّص كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في دعويين:

الاُولى: أنّ ملاك الحرمة متى ما وُجد كان علّة للحرمة وعدم الوجوب في عرض واحد، فإذا تعذّرت الحرمة فلماذا لا يؤثّر في المعلول الآخر.

الثانية: أنّ هذا الملاك نحرزه بالدلالة الالتزاميّة للنهي، وسقوط الدلالة المطابقيّة لا يوجب سقوط الالتزاميّة.

ويمكن توجيه عدّة اعتراضات على كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ضمن هذه الصياغة:

الأوّل: منع الدعوى الثانية؛ لأنّ الصحيح تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة(1).

 


عن الحجّيّة سقطت الالتزاميّة أيضاً عن الحجّيّة. لا أنّ عدم العرضيّة إشكال، وتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة إشكال آخر، ولم يثبت من عبارته في التعليق على كلام اُستاذه أنّه فهم من كلام اُستاذه العرضيّة الإثباتيّة، وإشكاله هذا يرد حتّى لو جعلت العرضيّة ثبوتيّة فيقال مثلا: إنّ العرضيّة الثبوتيّة وإن كانت مسلّمة لكن هذا لا يكفي لإثبات هدف المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من ثبوت المانعيّة؛ إذ بعد عدم العرضيّة إثباتاً وتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة لا يبقى كاشف عن المانعيّة.

(1) لا يخفى أنّه في مثل الاضطرار العقليّ الدلالة المطابقيّة منتفية بالمقيّد الارتكازيّ الذي هو كالمتّصل فتنتفي الالتزاميّة؛ إذ لا أقلّ من تبعيّتها للمطابقيّة في الوجود. نعم، بإمكان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أن يتمسّك بإطلاق المادّة المثبت للملاك بحسب مبناه هو.

459

الثاني: يرجع إلى الدعوى الاُولى، وهو: أنّه صحيح أنّ الضدّ مع ضدّه الآخر معلولان لشيء واحد ولكن هذا ليس بمعنى أنّ الشيء الواحد أثّر في الأمرين أي: أنشأهما، سنخ تأثير شيء في أمرين وجوديّين حتّى يقال: لو حجب عن تأثيره في الأمر الأوّل فلماذا لا يؤثّر في الأمر الثاني، فإنّه قد تقدّم في بحث الضدّ أنّ هذا المعنى غير معقول، فإنّ علّيّة الأمر الوجوديّ للأمر العدميّ ـ كعلّيّة الأمر العدميّ للأمر الوجوديّ ـ مستحيلة، وإنّما المعنى المعقول لعلّيّة علّة أحد الضدّين لعدم الضدّ الآخر هو مانعيّتها عن تأثير مقتضي الضدّ الآخر، ففي الحقيقة علّة الضدّ لها تأثير واحد وهو إيجاد هذا الضدّ، وحيث إنّه يستحيل أن يجتمع هذا الضدّ مع ذاك الضدّ فبقدر ما يقرّب إلى وجود هذا الضدّ يبعّد عن الضدّ الآخر، فيمنع عن تأثير مقتضي الضدّ الآخر، وحينئذ إذا تعطّلت هذه المقرّبيّة فلا موجب لتبعيده عن الضدّ الآخر؛ لأنّها بتأثير وحدانيّ لا بتأثيرين.

الثالث: راجع إلى منهجة كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو: أنّه لو كانت الدعوى الثانية صحيحة فلا نحتاج إلى إثبات الدعوى الاُولى، فإنّه يقال بأنّ دليل النهي يدلّ على الحرمة مطابقة ويدلّ على المانعيّة التزاميّاً، وإذا سقطت الدلالة الاُولى عن الحجّيّة بقيت الثانية على الحجّيّة بلا حاجة في ذلك إلى المقدّمة الاُولى(1) ولو


(1) لعلّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) يقول: إنّه لو كانت المانعيّة معلولة للحرمة فنحن نقطع بزوال هذه الحصّة من المانعيّة المدلول عليها التزاماً؛ وذلك للقطع بزوال الحرمة، وإنّما يتمّ القول ببقاء الدلالة الالتزاميّة على الحجّيّة رغم سقوط المطابقيّة في إحدى حالتين:

الاُولى: فيما إذا لم نقطع بانتفاء ما دلّت عليه المطابقيّة في الواقع، غاية الأمر أنّ الدلالة سقطت عن الحجّيّة فنبقى نحتمل صدق الدلالة الالتزاميّة حتّى ولو كان المدلول الالتزاميّ معلولا للمدلول المطابقيّ وفي طوله.

460


والثانية: فيما إذا كان المدلول الالتزاميّ في الواقع في عرض المدلول المطابقيّ وبنحو نحتمل ثبوته واقعاً حتّى على فرض انتفاء المدلول المطابقيّ واقعاً.

وبعد فلكي ينتهي التشويش الموجود في هذا البحث نلخّص ما ينبغي أن يقال حول كلام الشيخ النائينيّ(رحمه الله)في المقام، وخلاصة الكلام ما يلي:

ورد في التقريرين عن الشيخ النائينيّ(رحمه الله) اعتراض على مقالة المشهور التي ترى صحّة الصلاة في المقام؛ لوجود المقتضي ـ وهو إطلاق دليل الأمر بالصلاة ـ وانتفاء المانع ـ وهي الحرمة ـ: بأنّ الحرمة مع البطلان أو مع عدم الأمر لم تكن النسبة بينهما نسبة العلّة إلى المعلول، بأن تكون الحرمة هي العلّة لعدم الأمر وبالتالي البطلان كي يقال: إذا انتفت الحرمة انتفى ما ينجم عنها من عدم الضدّ الآخر ـ وهو الوجوب ـ وبالتالي انتفى البطلان، وإنّما هما معلولان لشيء واحد، وهو النهي على التعبير الوارد في أجود التقريرات، أو الملاك على التعبير الوارد في فوائد الاُصول، ولا مقدّميّة بين أحد الضدّين وعدم الضدّ الآخر، وأحدهما انتفى بالاضطرار وهي الحرمة، ولا نكتة في انتفاء الثاني وهو عدم الأمر أو البطلان؛ فإنّ الاضطرار يمنع عن الأوّل دون الثاني.

وهذا المقدار من الكلام لولا نكتة مستترة في المقام لا يرجع إلى محصّل، فهب أنّ الاضطرار إنّما دلّ على ارتفاع الحرمة ولم يدلّ على الصحّة أو على ارتفاع عدم الوجوب، لكن يأتي السؤال عمّا هو الدليل على البطلان أو عدم الوجوب؟ ونحن نحتمل بشأن مراد المحقّق النائينيّ أو إبراز تلك النكتة المستترة أحد أمرين:

الأوّل: أنّه إذا لم يكن ارتفاع الحرمة دليلا على انبساط الوجوب أثبتنا عدم الوجوب بالدلالة الالتزاميّة للنهي ـ رغم سقوط دلالته المطابقيّة ـ على الحرمة؛ لأنّ الالتزاميّة لا تتبع المطابقيّة في الحجّيّة. ولعلّ هذا هو المفهوم من أجود التقريرات بنكتة تعبيره بكون

461


الحرمة معلولة للنهي، ونحن نعلم أنّ الحرمة ليست معلولة للنهي وإنّما هي مدلول عليها بالنهي.

وهذا يرد عليه:

أوّلا: الإشكال المبنائيّ، حيث نؤمن نحن بتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة كما تتبعها في الوجود، وإذا سقطت رجعنا إلى إطلاق دليل الأمر بالصلاة وصحّت صلاته كما قاله المشهور.

وثانياً: الإشكال البنائىّ، وهو في موارد الاضطرار العقليّ دون مجرّد الحرج، وهو: أنّه مع الاضطرار العقليّ تكون الدلالة المطابقيّة على الحرمة ساقطة في أصلها لا في خصوص حجّيّتها؛ لأنّ الارتكاز العقليّ القائل بعدم معقوليّة التكليف بغير المقدور يعتبر قرينة كالمتّصل ويُنهي أصل الظهور لا حجّيّة الظهور، وبذلك تنتفي الدلالة الالتزاميّة بلا شكّ.

الثاني: أنّنا نثبت عدم الوجوب بالملاك؛ لأنّ الملاك ثابت رغم سقوط الحرمة، وذلك بإطلاق المادّة؛ فإنّ إطلاق المادّة كان يقتضي إطلاق الحرمة وإطلاق الملاك، وقد عرفنا سقوط إطلاق الحرمة بالاضطرار ولم نعرف سقوط إطلاق الملاك، فإنّ الاضطرار إنّما رفع الحرمة، أي: أنّه قيّد الهيئة ولكن يبقى متعلّق الهيئة ذات المادّة بلا قيد وإن اختصّت الحرمة بفرض القدرة. ففرقٌ بين أن نقول: الغصب المقدور حرام، أو نقول: الغصب حرام حرمة مختصّة بفرض القدرة، فبما أنّ الحرمة انصبّت في الكلام الثاني على ذات الغصب دلّ ذلك على أنّ الملاك يكون في ذات الغصب لا في الغصب المقدور، فإذا ثبت إطلاق الملاك ثبت البطلان وعدم الوجوب.

وهذا الكلام أيضاً باطل مبنىً وبناءً:

أمّا بطلانه مبنىً فلأ نّا نرى أنّ تقييد الهيئة يسري إلى المادّة ولا معنى لافتراض بقاء

462

لم تتمّ الدعوى الثانية فالدعوى الاُولى غير كافية؛ إذ من أين نحرز ملاك الحرمة إذا لم نقل بعدم تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة.

التقريب الثاني: مركّب من أمرين:

الأوّل: دعوى إمكان إثبات الملاك في المقام بالرغم من سقوط الحرمة لا بالدلالة الالتزاميّة ـ كما هو الحال في التقريب الأوّل كي يقال: إنّها سقطت بسقوط المطابقيّة ـ بل بحديث الرفع المسوق للامتنان حيث يقال: إنّه لو


المادّة مطلقة بلحاظ الملاك.

وأمّا بطلانه بناءً فلأنّه هب أنّ الملاك باق ولكنّ الملاك لم يكن يخلق عدم الوجوب على شاكلة خلقه للحرمة حتّى يقال: إنّه إذا عجز عن خلق الحرمة لعدم قدرة المكلّف، يبقى يخلق عدم الوجوب إذ لا مانع من ذلك، فإنّنا وإن كنّا نقبل أنّ الضدّ وعدم الضدّ الآخر متلازمان وعرضيّان ومعلولان لشيء واحد، وليس أحدهما علّة للآخر كما نقّح ذلك في بحث الضدّ، لكن لا يعني هذا أنّه يصدر عن تلك العلّة أحد الضدّين وعدم الضدّ الآخر على شكل خلق الأثر، فإنّ هذا مستحيل؛ لأنّه كما يستحيل صدور الوجود من العدم لعدم التسانخ بين الوجود والعدم، كذلك يستحيل صدور العدم من الوجود بنفس دليل لزوم التسانخ بين العلّة والمعلول، وإنّما نقول بأنّ علّة الضدّ علّة لعدم الضدّ الآخر بمعنى مانعيّته عن تأثير علّة الضدّ الآخر؛ لأنّ المقرّب إلى أحد الضدّين مبعّد عن الضدّ الآخر بحسب التباعد الموجود بين الضدّين، فكلّ تقريب إلى أحد الضدّين تبعيد عن الضدّ الآخر بفعّاليّة واحدة، وليس هذا التقريب وذاك التبعيد بفعّاليّتين، فإن عجزت العلّة لمانع عن التقريب إلى أحد الضدّين ـ وهو الحرمة في المقام ـ عجزت لا محالة عن التبعيد عن الضدّ الآخر وهو الوجوب، فيثبت انبساط الوجوب على مادّة الاجتماع وتصحّ الصلاة كما قاله المشهور.

463

لا المقتضي للحرمة فلا امتنان في الرفع، فهذا بنفسه دليل على أنّ المقتضي للحرمة ـ وهو الملاك ـ موجود ولكنّ المولى مع ذلك رفع الحكم شفقةً على المكلّفين.

الثاني: أنّه إذا ثبت ملاك الحرمة أوجب ذلك بطلان العمل، ويمكن بيان ذلك بإحدى صيغتين:

الاُولى: أن يقال: ما دمنا أثبتنا ملاك الحرمة في مادّة الاجتماع فلا يمكن التقرّب به إلى المولى. وهذه الصيغة تختصّ بالعبادات.

الثانية: أن يقال: إنّه بعد أن ثبت بحديث الرفع وجود مبادئ الحرمة لا يُعقل ثبوت الأمر؛ وذلك لأنّ نكتة امتناع اجتماع الأمر والنهي لو كانت مبنيّة على مسلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) القائل بأنّ الامتناع إنّما هو باعتبار أنّ إطلاق الأمر يستلزم الترخيص في التطبيق على كلّ فرد وهو ينافي الحرمة، فهذه النكتة تزول بزوال الحرمة وإن كان الملاك موجوداً.

وأمّا إذا افترضنا أنّ نكتة الامتناع إنّما هي التنافي بين الأمر المتعلّق بصِرف وجود الصلاة والنهي المتعلّق بالغصب بلحاظ مبادئهما ـ لأنّ الشيء الواحد لا يُعقل أن يكون مصبّاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة معاً ـ فهنا لا ترتفع المانعيّة بارتفاع الحرمة؛ لأنّ مبادئ الحرمة موجودة بحسب الفرض. وهذه الصيغة لو تمّت فلا تختصّ بالعبادات.

وكلا الأمرين قابلان للمناقشة:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ هذا الذي قالوه قياسٌ للشارع بالنماذج العرفيّة للمولى، فإنّ المولى العرفيّ إنّما يحكم لأجل مصلحة نفسه فيقال: إنّه لو رفع يده عن مصلحة نفسه شفقةً على العبد كان امتناناً، أمّا لو ترك الحكم لعدم مصلحة له فيه فلا امتنان في ذلك. إلاّ أنّ المولى الحقيقيّ ليس كذلك، فإنّ الشارع إنّما يأمر وينهى رعاية لشؤون نفس العبد، ففي مثل ذلك لابدّ وأن يحسب المولى حساب المكلّف