363

 

الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد

المقام الأوّل: ما إذا كان الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، فهل تأتي هنا نكات الاستحالة الماضية أو لا؟

من الواضح عدم تأتّي النكتتين الاُوليين؛ لأنّ المكلّف قادر على الجمع بين الامتثالين، بأن يصلّي في غير الحمّام ولا يصلّي في الحمّام، وبالتالي يمكن تحريكه نحو كلا الأمرين.

وأمّا النكتة الثالثة ـ وهي التضادّ في المبادئ ـ فتارة ندرسها هنا بلحاظ عالم المعروض بالذات واُخرى بلحاظ عالم المعروض بالعرض:

أمّا بلحاظ عالم المعروض بالذات فقد يقال بثبوت التضادّ في المبادئ في المقام؛ لأنّ الصلاة التي هي في ضمن الصلاة في الحمّام مبغوضة بالبغض الضمنيّ ومحبوبة بالحبّ الاستقلاليّ، والحبّ والبغض متضادّان ولو فُرض أحدهما ضمنيّاً والآخر استقلاليّاً، ولذا لا يمكن أن تُفرض التكبيرة ـ مثلا ـ محبوبة في ضمن الصلاة ومبغوضة في نفس الوقت على الإطلاق بالاستقلال.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ هناك فرقاً بين الحبّ والبغض، فالمحبوب بالاستقلال يمكن افتراض طروّ البغض على مركّب مشتمل على ذاك المحبوب، من دون وقوع تناف ذاتيّ بينهما، بخلاف العكس.

وهذا إضافةً إلى وجدانيّته يمكن أن يوضّح بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أنّ الحبّ إذا عرض على مركّب انحلّ على أجزائه لا بمعنى تحقّق عدّة أفراد من الحبّ حقيقة، بل بمعنى التعمّل العقليّ والتجزئة أي: إنّ هذا الحبّ الواحد منبسط على الأجزاء، فكلّ جزء هو محبوب ضمناً.

أمّا البغض إذا عرض على مركّب فهو لا ينحلّ على الأجزاء، بأن يصبح كلّ

364

جزء مبغوضاً بالبغض الضمنيّ، وآية ذلك: أنّ مقتضى الحبّ ـ وهو التحرّك نحو الفعل ـ منحلّ إلى تحرّكات ضمنيّة نحو الأجزاء، بينما مقتضى البغض ـ وهو الانزجار والترك ـ لا ينحلّ إلى انزجارات وابتعادات ضمنيّة عن الأجزاء؛ إذ يكفي الابتعاد عن جزء واحد على سبيل البدل، فالمبغوض هو المجموع من دون أن تصيب كلَّ جزء حصّة من البغض الضمنيّ(1).

البيان الثاني: أنّ الحبّ والبغض إنّما يتنافيان إذا تنافيا في مقام حفظ ما يترقّبه كلّ واحد منهما، ولولا تنافي الفعل والترك لما تنافى الحبّ والبغض، إذن فالحبّ الاستقلاليّ والبغض الضمنيّ لا يتنافيان في المقام؛ لأنّ الحبّ الاستقلاليّ يقتضي إيجاد الصلاة، ولكنّ البغض الضمنيّ يستحيل أن يقتضي إعدامها؛ فإنّ البغض الاستقلاليّ الذي كان هذا من ضمنه لم يكن يقتضي ذلك.

وأمّا بلحاظ عالم المعروض بالعرض حيث يقال: إنّ الأحكام إنّما تعرض على العناوين بما لها من مرآتيّة للخارج، فقد يقال بوجود التضادّ في المقام؛ لأنّ الصلاة في الحمّام وجودٌ واحد خارجاً، وهذا الوجود بما هو وجود للمطلق محبوب، وبما هو وجود للمقيّد مبغوض، وهذا يعني اجتماع الضدّين.

والجواب: إنّ المفروض في المقام أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود والإطلاق البدليّ، فما هو مفنيّ فيه بالعرض ليس هو هذا الفرد بالذات ولا ذاك


(1) فإن قلت: إنّ بغض المجموع يستلزم بغض كلّ جزء على تقدير تحقّق الجزء الآخر، فهذا البغض يزاحم ذاك الحبّ.

قلت: هذا إنّما يكون في الجزءين العرضيّين لا في الحصّة والمطلق الذي هو جزء تحليليّ للحصّة؛ فإنّ استلزام بغض الحصّة لبغض تحقّق المطلق على تقدير الحصّة لا معنى له، فإنّ تقدير تحقّق الحصّة مساوق لتقدير تحقّق المطلق.

365

الفرد بالذات، وإنّما المفنيّ فيه هو صِرف الوجود لا تمام الأفراد، وصرف الوجود قابل للانطباق على الفرد، فالفرد مصداق للمفنيّ فيه لا عين المفنيّ فيه، ولا يسري منها الحبّ ولو بالعرض إلى هذا الفرد ولا إلى ذاك الفرد، ولذا لو أتى بالفرد بقصد وجوبه بما هو فرد لكان تشريعاً. إذن فلم يلزم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة على مركز واحد.

وفي مقابل هذا الكلام يوجد بيانان لو تمّ أيّ واحد منهما لكان برهاناً على الامتناع:

البيان الأوّل: ما ذكرته مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) معترفين بعدم التضادّ بالذات في المقام؛ لأنّ مركز الحبّ هو صِرف الوجود ومركز البغض هو الحصّة، ولكنّهم يدّعون التنافي بالعرض؛ لأنّ الأمر بصِرف الوجود لازمه هو ترخيص المولى في تطبيق الامتثال على أيّ حصّة من الحصص، فكأنّه قال: (ائت بأيّ صلاة شئت) وهذا اللازم ينافي مبغوضيّة حصّة معيّنة.

والفارق العمليّ بين القول بالتنافي الذاتيّ والتنافي بالعرض هو: أنّه على الأوّل لا يجتمع الأمر بالجامع مع النهي عن بعض الحصص ولو نهياً كراهتيّاً، وعلى الثاني يختصّ الامتناع بالنهي التحريميّ؛ لأنّ الترخيص في التطبيق يجتمع مع الكراهة، ومن هنا أجاب الميرزا والميرزائيّون عن إشكال الكراهة في العبادات بهذا الجواب.

والجواب: إنّ الأمر بصِرف الوجود لا يعني الترخيص في كلّ حصّة؛ فإنّ إطلاق المتعلّق ليس معناه إلاّ أنّ الطبيعة بلا قيد هي تمام معروض الأمر، ولازم هذا أنّه من قِبَل شخص هذا الوجوب لا مانع من تطبيق الجامع على أيّ حصّة من الحصص، لا أنّه لا مانع من قِبَل المولى في ذلك ولو من سائر الجهات. وإن شئت فقل: إنّ الترخيص في التطبيق هنا وضعيّ لا تكليفيّ، فهذا البيان فيه خلط بين الترخيص الوضعيّ والتكليفيّ.

366

وحينما بيّنّا هذا لهؤلاء حوّلوا دعواهم الثبوتيّة إلى دعوى إثباتيّة وأنّ الإطلاق البدليّ وإن كان لا يلزم منه الترخيص بالملازمة العقليّة إلاّ أنّ الظاهر العرفيّ هو الترخيص(1).

البيان الثاني: أن يقال: إنّ الحبّ المتعلّق بالجامع بنحو صِرف الوجود يلازم تكويناً حبّ حصّة على تقدير عدم الحصص الاُخرى(2)، أي: إنّ التخيير العقليّ دائماً يستلزم التخيير الشرعيّ لكن لا بحسب عالم الجعل والإلزام ـ الذي هو عمل اختياريّ للمولى ـ وإنّما بحسب عالم الحبّ، وعليه فسوف تكون الصلاة في الحمّام محبوبة ولو على تقدير، وفي نفس الوقت مبغوضة على كلّ تقدير.

أمّا التلازم بين حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود وحبّ كلّ حصّة على تقدير عدم باقي الحصص فلا برهان عليه ولكنّه وجدانيّ للإنسان، فالإنسان الذي يحبّ الماء لكونه عطشاناً يستأنس روحيّاً بنفس الماء الذي يشربه، ولا يمكن أن يقال له: إنّ هذا الماء لا تحبّه وإنّما هو مصداق لما تحبّه(3).

 


(1) وهذه الدعوى أيضاً في غير محلّها.

(2) فإن قلت: هذا يعني أنّه لو لم تحصل أ يّة حصّة أحبّ كلّ الحصص.

قلت: ليس المقصود كون الحبّ متوقّفاً على عدم باقي الحصص، بحيث لو لم توجد باقي الحصص لأحبّ هذه الحصّة حبّاً تنجيزيّاً، بل المقصود وجود حبّ كلّ حصّة من الحصص من أوّل الأمر في النفس بالفعل حبّاً تعليقيّاً وعلى تقدير، وإن شئت فسمّه بحبّ القضايا الشرطيّة.

(3) إن كان المقصود بوجدانيّة سراية الحبّ بالملازمة من صِرف الوجود إلى الحصص بهذا الشكل: ما يعمّ تقليل البغض أو إفناؤه في الحصّة؛ لوقوع التزاحم بين سراية الحبّ إلى الحصّة والبغض الموجود في الحصّة، فلو كان البغض هو الغالب ـ مثلا ـ منع عن

367


سراية الحبّ إلى تلك الحصّة، أعني: الحبّ المعلّق على تقدير عدم الإتيان بحصّة اُخرى، وخفّ البغض من دون دعوى انحسار الحبّ عن الجامع إلى الحبّ التنجيزيّ للجامع بين الحصص الاُخرى، فهذا لا يضرّ بعدم وقوع التصادم بين (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، فيبقى الجامع بحدّه الجامعيّ محبوباً وتبقى الحصّة مبغوضة. وبالتالي لو أتى بتلك الحصّة فقد أتى بالمبغوض وفي نفس الوقت أتى بمصداق المحبوب.

وإن كان المقصود بوجدانيّة سراية الحبّ بالملازمة إلى الحصّة: أنّه لو لم يمكن هذه السراية ـ لغلبة مفسدة الحصّة مثلا ـ لم يمكن بقاء الحبّ على الجامع، بل ينتقل الحبّ تنجيزاً على الجامع بين الحصص الاُخرى، فهذا باطل.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارة نفترض أنّ الحصّة المبغوضة غير مشتملة أصلا على ملاك الواجب، وهذا يعني أنّه من أوّل الأمر لم يكن مقتض لتعلّق الوجوب بالجامع، وإنّما الوجوب يتعلّق بالحصّة الاُخرى سواء كانت هناك مفسدة في الحصّة الاُولى أو لا، وهذا خروج عن موضع البحث؛ إذ ليس هذا من موارد اجتماع الأمر والنهي أصلا.

واُخرى نفترض أنّ الحصّة المبغوضة تحقّق مصلحة الواجب ولكن لم يمكن سراية الحبّ إليها ولو على تقدير ترك الحصّة الاُخرى؛ لما فيها من مفسدة وبغض، وفي هذا الفرض لا يُعقل انسحاب الحبّ من الجامع بحدّه الجامعيّ نهائيّاً واستقراره على الحصّة الاُخرى تنجيزاً؛ لأنّ هذا يعني حبّ الحصّة الاُخرى على كلّ تقدير، أي: حتّى على تقدير الإتيان بالحصّة المبغوضة، مع أنّه على هذا التقدير قد تحقّقت المصلحة بالحصّة المبغوضة، فلا معنى لحبّ الحصّة الاُخرى على هذا التقدير.

وقد ظهر بهذا كلّه: أنّه لا موجب للتعارض بين مثل: (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) وتقييد المطلق ما لم يكن المقيّد إرشاداً إلى المانعيّة بل كان نهياً نفسيّاً مستقلاًّ، ولم يكن

368


وجهٌ لبطلان الجامع ضمن تلك الحصّة ما لم يكن قربيّاً وكان النهي منافياً للقربة.

وأمّا ما قد يقال: من دعوى أنّ المبغوض يستحيل أن يقع مصداقاً للجامع المحبوب فلا ينبغي أن يصغى إليه، إلاّ إذا رجع إلى دعوى سراية الحبّ من الجامع إلى حصصه، أو دعوى الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ كلّ حصّة حبّاً على تقدير، وقد عرفت جوابهما.

ثمّ إنّني بعد أن كتبت هنا الإشكال على سيّدنا الاُستاذ(رحمه الله) في إنكاره لجواز اجتماع الأمر والنهي على شكل الأمر بصرف الوجود والنهي عن الحصّة، بدعوى الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ الحصص على البدل اطّلعت على أنّه(رحمه الله) بيّن بعد فترة من الزمن: أنّ الإشكال على اجتماع الأمر والنهي بهذا الشكل إنّما هو إشكال إثباتيّ حينما يكون الدليل على الأمر والنهي لفظيّين، وأمّا إذا كان الدليلان لبّيّين أو أحدهما لبّيّاً فلا بأس باجتماع الأمر والنهي بهذا الشكل.

وتوضيح ذلك: أنّ حبّ الجامع وإن كان يستلزم حبّ الحصص على سبيل البدل ولكن إذا كانت في حصّة مّا مفسدة موجبة للبغض: فتارة نفترض أنّ المفسدة بالقياس إلى المصلحة مغلوبة، فلم تؤثّر في رفع الحبّ وإنّما أثّرت ـ بعد الكسر والانكسار ـ في تقليل الحبّ، ولكن مع هذا قد ينهى المولى عن هذه الحصّة رغم عدم فعليّة البغض، وذلك طلباً للتفصّي عن تلك المفسدة؛ فإنّ هذه المفسدة رغم مغلوبيّتها يمكن أن توجب صدور النهي على أساس أنّ صدور النهي لا يعني فوات المصلحة الغالبة، فأثر هذا النهي أن يوجِد في نفس المكلّف الداعي إلى العدول عن هذه الحصّة إلى حصّة اُخرى، كي يجتمع إحراز المصلحة مع التحرّز عن المفسدة. أمّا لو ارتكب المكلّف هذه الحصّة فقد أتى بالجامع الواجب المحبوب.

واُخرى نفترض أنّ المفسدة كانت هي الغالبة فأوجبت زوال الحبّ عن الجامع بين

369


تمام الأفراد بما فيها هذا الفرد، ولكن مع هذا لا بأس بأن يُبقي المولى أمره على الجامع رغم حرمة هذه الحصّة ولا يخصّ أمره بالجامع بين باقي الحصص؛ وذلك بنكتة أنّ المكلّف لو أتى بهذه الحصّة المحرّمة فقد حصل الملاك المطلوب، ولا معنى لكونه مأموراً بعد ذلك بحصّة اُخرى.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّه لو كان دليل الأمر بصِرف الوجود ودليل النهي عن الحصّة لفظيّين، بحيث استظهر منهما نشوؤهما عن الحبّ والبغض الفعليّين لم يمكن الجمع بينهما؛ إذ لا يمكن اجتماع حبّ الجامع مع بغض الحصّة. أمّا لو كان أحد الدليلين لبّيّاً فلا بأس باجتماع الأمر والنهي بملاك كون الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

فان قلت: إنّه إذا كان الدليلان لفظيّين فليتعارضا فقط في دلالتهما الالتزاميّة على فعليّة الحبّ وفعليّة البغض، من دون أن يتساقطا بالنسبة لأصل إثبات الأمر والنهي.

قلنا: إنّ العرف لا يمكنه أن يفكّك بين وجوب الشيء ومحبوبيّته أو حرمة الشيء ومبغوضيّته، فتسري المعارضة من الدلالة الالتزاميّة إلى المطابقيّة. هذا كلّ ما نقل عنه(رحمه الله)في المقام.

أقول: سوف يأتي منّا ـ إن شاء الله ـ إنّ دلالة النهي في المقام على فعليّة البغض إنّما هي بلحاظ إطلاقه لحالة ما إذا لم يكن المكلّف يأتي بحصّة اُخرى غير الحصّة المنهيّة على كلّ حال.

وعلى أيّ حال فمن الغريب أنّه(رحمه الله) لم يمش في هذا البحث إلى نهاية الشوط، فآمن بإمكان بقاء الأمر على الجامع رغم بغض الحصّة؛ لأنّ الحصّة المبغوضة أيضاً تحقّق الملاك المطلوب، ولكن لم يلتفت إلى أنّه في الواقع يبقى الجامع محبوباً؛ إذ لو انسحب الحبّ من الجامع بين كلّ الحصص بحدّه إلى الجامع بين باقي الحصص بحدّه كان معنى

370

 

 


ذلك انقلاب حبّ باقي الحصص ـ على تقدير عدم الإتيان بالحصّة المبغوضة ـ إلى حبّها مطلقاً، أي: حتّى على تقدير الإتيان بالحصّة المبغوضة، بينما من الواضح أنّه على هذا التقدير لا يحبّ باقي الحصص؛ لأنّ هذا التقدير يساوق تقدير حصول الملاك.

أمّا لو ادّعى أنّ بغض الحصّة أوجب زوال الحبّ عن الجامع من دون انسحابه إلى باقي الحصص فهذا أيضاً غريب؛ فإنّ الحبّ التقديريّ لباقي الحصص إنّما كان بتبع حبّ الجامع، فلو زال من دون انتقال فكيف بقي الحبّ التقديريّ لباقي الحصص؟

ولو ادّعى أنّ حبّ الجامع انتقل إلى باقي الحصص ولكنّه على شكل الحبّ التقديريّ فهذا أيضاً غريب؛ فإنّ تقديريّة الحبّ عبارة اُخرى عن بدليّة المحبوب، والمفروض سقوط الحصّة المبغوضة عن المحبوبيّة، فلا بدل لباقي الحصص. وإن شئت فقل: إنّ الحبّ المشروط يساوق حبّ الجامع بين الجزاء وعدم الشرط، فحبّ باقي الحصص على تقدير عدم الحصّة المبغوضة يساوق حبّ الجامع بينها.

ومقصودنا من كلّ ما ذكرناه تنبيه الوجدان إلى بقاء حبّ الجامع على حاله لا البرهنة عليه. ولو لا ما ذكرناه لما كنّا نؤمن بظهور الأمر بالجامع في محبوبيّة الجامع بحدّه الجامعيّ، مادام من الممكن نشوؤه من المصلحة في الجامع رغم مغلوبيّتها في بعض الحصص للمفسدة، وإنّما يستكشف حبّ الجامع بحدّه من مجموع الأمر بالجامع وعدم النهي عن الحصّة؛ إذ لا منشأ لهذا الظهور إلاّ هذه الملازمة، فإنّ هذه الملازمة لو كانت مفقودة واقعاً فهي مفقودة عند العرف أيضاً؛ لأنّ الحبّ أمر وجدانيّ ومن المعلومات الحضوريّة للنفس يدركه العرف بالوجدان في نفسه مع ما يلازمه من حبّ الحصص، إذن فنصل أيضاً إلى جواز اجتماع الأمر والنهي ولو كانا بدليلين لفظيّين مادام الأمر أمراً بصِرف الوجود والنهي نهياً عن الحصّة.

371

 

الاختلاف بين الأمر والنهي في العنوان

المقام الثاني: ما إذا كان الاختلاف عبارة عن التغاير في العنوان من قبيل (الصلاة) و(الغصب)(1).

فقد يقال بأنّ مجرّد الاختلاف في العناوين يوجب في المقام رفع التضادّ حتّى ولو فُرض الاتّحاد في الوجود الخارجيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام في الحقيقة إنّما تعرض على الصور الذهنيّة للعناوين لا الوجودات الخارجيّة.

ويمكن إثبات عروضها على الصور الذهنيّة بأحد تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ الحكم يتوجّه إلى الممتثل والعاصي معاً، بينما في فرض العصيان لا يتحقّق الوجود الخارجيّ للمأمور به، إذن لابدّ من التفتيش عن معروض آخر للحكم غير الوجود الخارجيّ مشتركاً بين فرض الامتثال والعصيان، وليس إلاّ الوجود الذهنيّ.

الثاني: أنّ الحكم يحرّك نحو العمل، فهو من مبادئ وجوده ومتقدّم عليه، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنه تأخّر العارض عن المعروض؟ وهذا معنى ما يقال من أنّ العلّية تنافي العروض.

وأجاب على ذلك المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) بأنّ العلّة لوجود الصلاة هو الأمر بوجوده العلميّ، وما يعرض على الصلاة هو الأمر بوجوده الواقعيّ، فلم يلزم التهافت(2).


(1) وهنا أيضاً لا إشكال من ناحية القدرة والتحريك، فيجب أن يقع البحث من ناحية مشكلة المبادئ.

(2) نهاية الدراية، ج 2: 312 ـ 313 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

372

والجواب: إنّ الأمر إذا كان بوجوده الواقعيّ متأخّراً عن وجود الصلاة فيستحيل أن يكون العلم به محرّكاً؛ لأنّ العلم إنّما يكون محرّكاً باعتبار كاشفيّته وتنجيزه لمعلومه، والمعلوم الذي يكون في طول وجود الفعل لا يقبل التنجيز. وبتعبير آخر: العلم بالأمر الفعليّ يكون منجّزاً لا العلم بالأمر التعليقيّ، والأمر لا يكون فعليّاً إلاّ بعد تحقّق معروضه؛ فإنّ فعليّة العارض فرع فعليّة معروضه(1).

الثالث: أنّ الأحكام الشرعيّة من الصفات ذات الإضافة، والصفات التي من هذا القبيل متقوّمة في مرتبة ذاتها بالمضاف إليه، فلا يعقل ـ مثلا ـ حبّ بلا محبوب ولو في مرتبته، اذن فالمضاف إليه يجب أن يكون موجوداً بنفس وجود الصفة وفي صُقعها؛ إذ لو كان موجوداً بوجود مستقلّ لكانت الإضافة عرضيّة قابلة للانفكاك بحسب الذات(2).

إلاّ أنّه يقال في مقابل هذا البيان لجواز اجتماع الأمر والنهي: إنّ مجرّد التغاير في العناوين لا يكفي لرفع الغائلة؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت متعلّقة في واقعها بالعناوين الذهنيّة ولكن لا بما هي هي، بل باعتبارها فانية في الخارج، ولولا فناؤها لما أحبّ المولى شيئاً من هذه العناوين، إذن فمستقرّ الأحكام في


(1) وبكلمة اُخرى: الأمر بوجوده الواقعيّ جُعل بهدف أن يصبح علّة للعلم به الذي هو علّة للعمل، فكيف يتأخّر علّة علّة العمل عن العمل تأخّر العارض عن معروضه؟!

(2) قد يدّعى أنّ معروض الأحكام هي ماهيّة العمل في صُقع التقرّر لا الوجود الخارجيّ ولا الوجود الذهنيّ، وهذا وإن كان لا يبطله الدليل الأوّل والثاني ولكن يبطله الدليل الثالث، وهو أنّ الأحكام من الاُمور الذهنيّة ذات الإضافة، فهي متقوّمة بالمضاف إليه في مرتبة ذاتها.

على أنّه لو لم يمكن إبطال ذلك لا يضرّنا؛ لأنّ الماهيّتين في ذاتهما مختلفتان، فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي أو الحبّ والبغض على مركز واحد.

373

الحقيقة هو المعنونات، فميزان رفع الغائلة هو تعدّد الخارج، ومن هنا قالوا: إنّ المقياس هو أن نرى هل التركيب اتّحاديّ أو انضماميّ؟ وكأنّ هذا المقدار من البيان يشترك فيه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ وإن اختلفوا في كون التركيب الخارجيّ اتّحاديّاً أو انضماميّاً، وفي حدود الاتّحاديّة والانضماميّة على ما سيأتي إن شاء الله.

إلاّ أنّ الصحيح أنّنا وإن كنّا نؤمن بصحّة عبارة: «أنّ الأحكام الشرعيّة تتعلّق بالعناوين الذهنيّة بما هي فانية في الخارج» على إجمالها، ولكن ليس معنى لحاظها بما هي فانية في الخارج سريان الحكم حقيقة إلى الخارج، بحيث يكون العنوان قنطرة حقيقة لوصول الحكم إلى المعنون، فإنّ هذا مستحيل، سواء اُريد به أنّ الحكم يسري إلى خارج عالم الذهن والإدراك ويعرض على ما في الخارج، أو اُريد به أنّ ما في الخارج يدخل في عالم الذهن والإدراك بوسيلة الصور المُدركة فيعرض عليه الحكم: أمّا الأوّل فهو مستحيل؛ لما تقدّم من الأدلّة على استحالة تقوّم الحكم بالوجود الخارجيّ. وأمّا الثاني فلاستحالة دخول الخارج إلى عالم الذهن والإدراك، وإنّما المدرَك هو الصورة الذهنيّة.

وليس معنى الفناء إنّ الصورة الذهنيّة حيثيّة تعليليّة لإدراك الخارج، وإنّما معنى الفناء أنّ الصورة الذهنيّة إنّما عرض عليها الحكم بما هي ملحوظة بالنظر التصوّريّ، أو قل: بالحمل الأوّليّ، لا بما هي ملحوظة بالنظر التصديقيّ، أو قل: بالحمل الشايع، كما تقدّم شرح ذلك في الأبحاث السابقة. إذن، فالحكم غير سار إلى الخارج وإنّما هو متعلّق بالصور بما هي مرئيّة عين الخارج. وحينئذ نقول: إنّ هذه العناوين لا إشكال في تعدّدها ومجرّد أنّها تُرى خارجيّة لا يخرجها عن تعدّدها، فلا بأس بتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالفناء الحقيقيّ فيمتنع حينئذ اجتماع الأمر والنهي؛ إذ لا يوجد في الخارج إلاّ

374

وجودٌ واحد لو كان التركيب اتّحاديّاً، فكيف يكون مبغوضاً ومحبوباً معاً؟(1).

فتحصّل إلى هنا أنّ مجرّد الاختلاف في العناوين الذهنيّة يكفي في حلّ غائلة اجتماع الضدّين.

إلاّ أنّه يجب أن نلحظ: أنّ البيانين اللذين ذكرناهما أخيراً في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) كتقريب للتعارض وعدم انحلال الغائلة على تقدير تماميّتهما هناك، هل يمكن إسراؤهما إلى ما نحن فيه، أو لا؟


(1) في الواقع يوجد وجهان لدعوى استحالة اجتماع الأمر والنهي:

أحدهما: دعوى سريان الحكم إلى ما في الخارج.

وهذا جوابه:

أوّلا: ما بيّن في المتن من عدم إمكان السريان الحقيقيّ.

وثانياً: أنّه لو فُرض السريان إلى ما في الخارج فالذي يسري إليه إنّما هو النهي لكونه شموليّاً، وأمّا الأمر فلا يمكن أن يسري إلى الخارج بمعنى الفرد الخارجيّ، وغاية الأمر افتراض سريانه إلى واقع الطبيعة ويبقى عندئذ واقفاً على الطبيعة؛ لأنّها اُخذت بدليّة.

وثانيهما: دعوى أنّ الفناء بمعناه الصحيح كاف في وقوع التضادّ بين الأمر والنهي أو الحبّ والبغض؛ لأنّ الآمر والناهي أو المحبّ والمبغض حينما ينظر إلى العنوانين بالنظر التصوّريّ أو الحمل الأوّليّ أو النظر الفنائيّ يرى المعنون الذي هو واحد، فلا يستطيع أن يحبّه ويبغضه في آن واحد أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ولذا لو قال: (صلّ بكلّ صلاة) وقال: (لا تغصب)، لوقع التضادّ بينهما.

والجواب: أنّ الفناء في الفرد أو في الحصّة إنّما هو ثابت في طرف النهي فقط ـ وهو: (لا تغصب) ـ لشموليّته، وأمّا في طرف الأمر ـ وهو: (صلّ) ـ فلا فناء بلحاظ الأفراد أو الحصص؛ لأنّه اُخذ بدليّاً فلا يفنى مفهومه الذهنيّ إلاّ في ذات الطبيعة والماهيّة، لا في أفرادها وحصصها.

375

فنقول: أمّا البيان الأوّل وهو دعوى أنّ الإطلاق يدلّ بالملازمة على الترخيص في التطبيق على أيّ حصّة أرادها المكلّف فيتصادم مع النهي، فلو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ لأنّ غاية ما يمكن أن يُفرض هي دلالة الإطلاق بالملازمة على التطبيق على الحصّة، أي: على التحصيص، فلو كان النهي نهياً عن التحصيص كما في (لا تصلّ في الحمّام) وقع الانصدام. أمّا لو كان النهي عن القيد كما في (لا تغصب) فلا انصدام بين الترخيص في تحصيص الصلاة بالغصب ـ مثلا ـ وعدم الترخيص في نفس الغصب، فإنّه عنوان مستقلّ والترخيص في التقيّد غير الترخيص في القيد. نعم، لو كان الترخيص في التقيّد والتحصيص وارداً في دليل مستقلّ أصبحت له دلالة التزاميّة عرفيّة على الترخيص في القيد، ولكنّ الترخيص بدلالة التزاميّة للإطلاق ليس له دلالة التزاميّة من هذا القبيل، فتحصّل: أنّه لا يوجد أيّ تناف بين الترخيص في الإضافة وعدم الترخيص في نفس المضاف إليه.

وأمّا البيان الثاني وهو أنّ حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود يستلزم حبّ كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً، أي: على تقدير عدم الإتيان بسائر الحصص، فهذا أيضاً إنّما يوجب التصادم في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) لا في مثل المقام؛ وذلك لأنّ حبّ الحصّة على تقدير إنّما ينافي بُغض الحصّة على كلّ تقدير المستفاد من (لا تصلّ في الحمّام) ولا ينافي بُغض القيد المستفاد من (لا تغصب).

وقد تحصّل: أنّ المختار كفاية تعدّد العنوان في جواز اجتماع الأمر والنهي، إلاّ أنّه توجد لدينا حول هذا المختار تحفّظات:

الأوّل: أنّنا لا نقول بصحّة العمل في العبادات كما في الصلاة؛ وذلك لا بنكتة استحالة أن يكون الفرد الواحد مصداقاً للحرام والواجب معاً، بل بنكتة أنّ الواجب إذا كان عباديّاً لم يصحّ إلاّ إذا اُتي به على وجه قربيّ، وبعد فرض وحدة الفعل خارجاً ووجود المندوحة يستقلّ العقل بعدم جواز هذه الحركة وقبحها، ومعه

376

يستحيل أن يكون هذا الفعل مقرّباً من قِبَل العقل إلى المولى فلا يقع عبادة، وهذا بخلاف الحال في التوصّليّات.

ويترتّب على هذا التحفّظ بعض آثار عمليّة سوف يأتي في التنبيهات إن شاء الله، وذلك كما في فرض عدم تنجّز الحرمة، فإنّ العقل حينئذ لا يحكم بقبحه فيمكن التقرّب به، بينما بناءً على عدم جواز الاجتماع ـ بنكتة أنّ الحبّ والبغض متضادّان فلا يجتمعان على المجمع ـ لا أثر لموضوع التنجّز وعدمه، فكما لا يجوز اجتماع الضدّين مع علم المكلّف، كذلك لا يجوز مع جهله على تحقيق وتفصيل يأتي في تنبيهات المسألة إن شاء الله.

الثاني: أنّه لو كان العنوان الجامع عنواناً رمزيّاً كعنوان (أحدها) لا حقيقيّاً فلا يجوز الاجتماع، فإنّ الأمر متعلّق في الواقع بذي الرمز، فإذا أمر بإحدى الخصال الثلاث فلا يمكن أن ينهى عن إطعام ستّين مسكيناً(1).

الثالث: أنّه قد يفترض عنوانان متغايران لكنّهما يشتركان في ركن أساس كعنوان (القيام لتعظيم العادل) و(القيام لتعظيم الفاسق)، فهما يشتركان في أصل القيام إلاّ أنّ أحدهما مقيّد بخصوصيّة والآخر مقيّد بخصوصيّة اُخرى، فلو اجتمع العنوانان في معنون واحد فالصحيح أنّه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي، فإنّ القيام بعنوانه يكون تحت الحبّ ولو حبّاً ضمنيّاً، والقيام تعظيماً للفاسق مبغوض فيدخل تحت المطلق والمقيّد لاتحت تغاير العنوانين.


(1) وبكلمة اُخرى: إنّ الجامع لو كان حقيقيّاً فالحبّ منصبّ على صِرف الوجود ويقع الكلام في أنّه هل يستلزم ذلك حبّ كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً أو لا، في حين أنّه لو كان الجامع رمزيّاً فالحبّ أوّلا وبالذات منصبّ على كلّ حصّة حبّاً تقديريّاً، ويقع الكلام في أنّه هل يستلزم ذلك حبّاً مطلقاً للجامع الرمزيّ المنتزع أو لا.

377

إلى هنا قد أثبتنا ـ مع التحفّظات التي مضت ـ جواز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين بعدم الفناء الحقيقيّ للعنوان في المعنون. والآن نتنزّل عن هذا ونفترض الفناء لكن غاية ما يمكن أن يتنزّل إليه هي افتراض أنّ الذهن يدرك الخارج بواسطة الصورة الذهنيّة، فكأنّه انتقل من رؤية العنوان إلى رؤية المعنون وعندئذ نقول: إنّه رغم هذا التنازل يكون تعدّد العنوان كافياً في رفع الغائلة بلا حاجة إلى إثبات تعدّد المعنون بالدقّةِ، وهذا خلافاً للآخَرين، فإنّه إذا فسّرنا الفناء بهذا التفسير، أي: إنّه يُرى العنوان أوّلاً وبواسطته يُرى المعنون، فمن الواضح أنّه إنّما يُرى المعنون بمقدار ما يحكي عنه العنوان لا بالمقدار الموجود في الخارج، وعندئذ نقول: إنّ هذه العناوين تنقسم إلى قسمين: عناوين ذاتيّة، وعناوين انتزاعيّة. والأوّل له قسمان:

الأوّل: عناوين ذاتيّة نوعيّة، أي: ما هو تمام الماهيّة، كعنوان الإنسان بالنسبة لأفراده، فهو يحكي تمام ماهيّة الوجود الخارجيّ.

والثاني: عناوين ذاتيّة جنسيّة وفصليّة، كالحيوان أو الناطق بالنسبة لأفراد الإنسان، فعنوان من هذا القبيل يفنى في الوجود الخارجيّ لا بمعنى إراءته لتمام الوجود الخارجيّ لزيد مثلا، بل بمعنى إراءته حيثيّة ضمنيّة لهذا الوجود، فالوجود الخارجيّ وإن كان لا يتبعّض في الخارج ولكنّه يتبعّض في الذهن وفيما دخل إليه من عالم الإدراك، فأحياناً لا يُرى الوجود الخارجيّ بتمام حجمه؛ إذ من الضروريّ أنّ ما يراه الذهن بالإنسانيّة يختلف عمّا يراه الذهن بالحيوانيّة، إذن فلا محذور في أن يتعلق الأمر بأحد العنوانين والنهي بالعنوان الآخر.

وأمّا العناوين العرضيّة الانتزاعيّة ـ مثل التقدّم والتأخّر ـ فأيضاً يجوز فيها اجتماع الأمر والنهي على عنوانين، كأن يتعلّق الأمر بتقدّم الصلاة على التسبيح وينهى عن تقدّم الصلاة على الأكل، فقدّم المكلّف الصلاة على التسبيح و الأكل

378

معاً، والصلاة فعل واحد، فهنا أيضاً نقول: إنّ السراية والفناء لا يقتضيان إلاّ رؤية معنون هذا العنوان، ومعنون ذاك العنوان، ومعنون كلّ منهما حيثيّة واقعيّة تكون خارجيّة بنفسها لا بوجودها، وليس مجرّد أمر اعتباريّ ينشئه العقل، وعندئذ فمعنون كلّ من العنوانين حيثيّة مغايرة لمعنون الآخر وإن كانت كلتا الحيثيّتين قائمة بذات الصلاة، فلو فُرض أنّ العنوان صار سبباً لرؤية المعنون فالمعنون ليس هو وجود الصلاة، وإنّما هو تلك الحيثيّة الواقعيّة، وهي متعدّدة في لوح الواقع.

ثُمّ إنّنا وإن أثبتنا جواز اجتماع الأمر والنهي بمجرّد تغاير الصور الذهنيّة بلا حاجة إلى إثبات التغاير في الوجود الخارجيّ، ولكن بما أنّنا استثنينا من ذلك باب العبادات على أساس ما فيها من قصد القربة فنحن أيضاً بحاجة عن البحث عن التغاير وعدمه في الوجود الخارجيّ وأنّ التركيب هل هو اتّحاديّ أو انضماميّ؟

وقد ذهب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى اتّحاديّة التركيب ووحدة الوجود الخارجيّ.

ولكنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر مقياساً لاتّحاديّة التركيب وانضماميّته، وهو: أنّه متى ما كانت حيثيّة صدق العنوان على المعنون وحمله عليه حيثيّة تعليليّة فالتركيب اتّحاديّ؛ لأنّ تعدّد الحيثيّات التعليليّة لا يُعدّد الشيء، وهذا هو الحال في العناوين الاشتقاقيّة، فحيثيّة صدق (العالم) أو (الفاسق) على الشخص عبارة عن قيام المبدء به، والمبدء حيثيّة تعليليّة، فليس المبدء هو الذي يُحمل عليه العنوان الاشتقاقيّ كي يكون حيثيّة تقييديّة، وإنّما يُحمل العنوان الاشتقاقيّ على الذات التي قام بها المبدء، فقيام المبدء بها إنّما هو علّة لصدق العنوان الاشتقاقيّ على الذات، وتعدّد علل الصدق طبعاً لا يوجب تعدّد الذات.

أمّا في نفس مبادئ الاشتقاق كـ (العلم) و(الفسق) و(الصلاة) و(الغصب) فصدق

379

العنوان على الحالة المخصوصة تكون حيثيّته عبارة عن نفس تلك الحالة المخصوصة، وهذا يعني أنّ حيثيّة الصدق تقييديّة وتعدّد الحيثيّة التقييديّة يُعدِّد لا محالة المصداق.

يبقى أن نعرف أنّ حيثيّة صدق أحد العنوانين متى تغاير حيثيّة صدق الآخر، أي: متى تكون حيثيّة الصدق فيهما متعدّدة كي يوجب ذلك ـ بتقييديّته ـ تعدّد المصداق؟ فهذا ضابطه أن تكون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه كما هو الحال في الصلاة والغصب، فإنّ هذا يكشف عن أنّه توجد في مادّة الاجتماع حيثيّتان متغايرتان؛ إذ لو كانت هناك حيثيّة واحدة توجب صدق كلا العنوانين فلماذا لم توجب ذلك في مادّتي الافتراق؟(1)، وإذا تعدّدت حيثيّة الصدق بهذا البرهان فمتى ما كانت تقييديّة تعدّد المصداق لا محالة.

واعترض على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ عناوين المبادئ تكون على قسمين: فتارةً تكون ماهويّة ومتأصّلة، وعندئذ يكون تعدّد العنوان موجباً


(1) كأنّ المقصود أنّه إذا كانت الجهتان التقييديّتان إحداهما غير الاُخرى فهما وإن كانتا قد تجتمعان صدفةً في مورد واحد، ولكن قد توجد كلّ واحدة منها بدون الاُخرى لما بينهما من المغايرة، فتكون النسبة عموماً من وجه. أمّا إذا تساوت فهذا شاهد على وحدة الجهتين، وأنّه لا يوجد في الخارج وجودان. وإذا كانت النسبة بين مصاديقهما العموم المطلق، إذن فالأخصّ هو مصداق للأعمّ والعامّ يوجد في ضمن الخاصّ بوجود واحد، ويتّحد معه في الوجود سنخ اتّحاد الهيولى بالصورة، فليس وجود العامّ ضمن الخاصّ إلاّ بمعنى خروج ما بالقوّة إلى الفعل، إذن فلكي يكون التركيب انضماميّاً يجب أن تكون النسبة بين الحيثيّتين التقييديّتين عموماً من وجه.

أقول: من الممكن أن يُفترض أحياناً التلازم من أحد الطرفين أو كلا الطرفين رغم تعدّدهما هويّة، فتصبح النسبة بينهما العموم المطلق أو التساوي لا بنكتة كون إحداهما مصداقاً للاُخرى أو عين الاُخرى.

380

لتعدّد المصداق؛ لاستحالة أن تكون لمصداق واحد ماهيّتان. واُخرى تكون انتزاعيّة(1)، فلا يلزم من تعدّد العنوان تعدّد المصداق، فإنّ العنوان الانتزاعيّ لا يلزم أن يكون منشؤه حيثيّة واحدة ثابتة دائماً، بل يمكن أن تكون في مورد الاجتماع لعنوانين انتزاعيّين ماهيّة واحدة تصلح أن تكون منشأً لانتزاع كلا العنوانين العرضيّين(2)، وتكون في مورد الافتراق ماهيّة اُخرى تصلح أن تكون منشأً لانتزاع أحد العنوانين دون الآخر(3).

وتحقيق الكلام في هذا المقام بنحو يتّضح به أنّ هذا النزاع بين العَلَمين ليس في الكبرى كما يتراءى، بل في جهة اُخرى لم يتكلّما فيها: أنّ الحمل على قسمين: حمل مواطاة، أي: حمل الهوهويّة كأن نشير إلى لون ونقول: (إنّه بياض). وحمل اشتقاق، أي: حمل ذو هو كقولنا: (هذا الجسم ذو بياض) أو (هذا الجسم أبيض) ـ فإنّ الهيئة الاشتقاقيّة تغني عن كلمة (ذو) ـ ولا يقال: هذا الجسم بياض.

وعناوين المبادئ ـ كما ذكر السيّد الاُستاذ ـ على قسمين:

الأوّل: العناوين الماهويّة كالقدرة والعلم والبياض، وهذا القسم لا إشكال في أنّ له كلا الحملين، فإنّه يُحمل على مصداقه الحقيقيّ بحمل هو هو، ويُحمل على معروض المصداق بحمل ذو هو.


(1) كعنوان (الغصب) الذي هو منتزع عند السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من التصرّف في مال الغير.

(2) أو يكون لها عنوان ذاتيّ وتكون منشأً لعنوان آخر انتزاعيّ.

(3) ومقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله): أنّه إنّما يتمّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كضابط في المقام بالنسبة للعناوين المتأصّلة دون الانتزاعيّة، لا بمعنى أنّه لا يجوز الاجتماع في موارد العناوين الانتزاعيّة مطلقاً، بل بمعنى أنّه في موارد العناوين الانتزاعيّة قد تتّفق وحدة منشأ انتزاع هذا مع منشأ انتزاع ذاك أو مع ذاتيّة ذاك، فلا يجوز الاجتماع، وقد يتّفق التعدّد فيجوز.

381

والثاني: العناوين الانتزاعيّة، وهذا القسم لا إشكال في تحقّق حمل ذو هو بالنسبة إليه، فنشير إلى السقف ـ مثلا ـ ونقول: (هذا ذوفوقيّة)، أو (هذا فوق)، لكن يبقى سؤال واحد، وهو أنّ هذه العناوين هل لها حمل الهوهويّة أو لا؟ أي: هل في الخارج شيء نقول عنه: (هذا فوقيّة) أو لا؟ فإن قلنا بما هو المشهور بين الحكماء: من أنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة ظرف عروضها هو الذهن وظرف الاتّصاف بها هو الخارج (قالوا: وهذا بخلاف الاُمور الاعتباريّة الصِرف كالبحر من زئبق، فإنّ ظرف الاتّصاف فيها أيضاً هو الذهن) أصبح حمل هو هو متعذّراً؛ فإنّ ظرف العروض هو الذهن، فليس ما وراء الذهن شيء يكون هو الفوقيّة. نعم، يوجد في الخارج الفوق، وهذا معنى: أنّ ظرف الاتّصاف هو الخارج.

وإن قلنا بما اخترناه ـ من أنّ هذه العناوين الانتزاعيّة سواءً كانت من مقولة الإضافة كالفوقيّة والتحتيّة أو لا ثابتة بقطع النظر عن عالم الذهن، ولا يُعقل أن يكون ظرف العروض عالماً وظرف الاتّصاف عالماً آخر، بل ظرفهما هو الخارج، غاية الأمر أنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة بذاتها خارجيّة لا بوجودها ـ أصبح حمل هو هو ممكناً، فيمكن الإشارة إلى هذا الأمر الخارجيّ ويقال عنه أنّه فوقيّة.

وواقع النزاع بين المحقّق النائينيّ(رحمه الله)والسيّد الاُستاذ لعلّه مربوط بتحديد الموقف تجاه هذه النكتة، أعني: أنّ العناوين الانتزاعيّة هل لها حمل مواطاة أو لا؟ فإن بُني على أنّها تُحمل في الخارج بالحمل المواطاتيّ فالاتّجاه العامّ لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو الصحيح مع ما ستأتي من ملاحظات. وإن بُني على أنّه ليس لها حمل مواطاة فالاتّجاه العامّ لكلام السيّد الاُستاذ هو الصحيح. ومع أنّ حقيقة النزاع كانت من نتائج تحقيق هذه النكتة لم يلتفتا في بحثهما إلى ذلك ولم يبحثا في ذلك، ومن هنا جاءت كلمات العلمين غير متقابلة.

وتوضيح الحال في ذلك: أنّنا لو بنينا على أنّ هذه العناوين الانتزاعيّة لها حمل

382

مواطاة فتحمل على تلك الحيثيّات الخارجيّة، إذن فالاتّجاه العامّ لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو الصحيح؛ لوضوح أنّ هذه العناوين بالنسبة لتلك الحيثيّات تكون نسبة العنوان الذاتيّ لمعنونه، فيكون المعنون مصداقاً لذاك العنوان بالذات، فكما لا يمكن أن تكون لموجود في الخارج ماهيّتان، كذلك لا يمكن هنا أن يكون لمعنون واحد عنوانان عرضيّان يكون كلّ واحد منهما تمام ماهيّته، من دون فرق بين أن تكون النسبة بينهما بحسب المورد عموماً من وجه أو مطلقاً أو التساوي، فإنّ المحمول عليه بالذات في هذا العنوان غيره في ذاك العنوان. وتمام النكتة أنّ هذا العنوان نسبته إلى هذا الخارج نسبة الماهيّة إلى الوجود في الماهيّات الحقيقيّة.

وفي مقابل هذا لا يرد كلام السيّد الاُستاذ من أنّه في العناوين الانتزاعيّة قد ينتزع عنوانان متباينان من منشأ انتزاع واحد، كالسقف فيكون فوقاً وتحتاً، وقد ينتزع عنوانٌ واحد من منشأين، كالفوق ينتزع من أمرين متباينين ماهيّةً يكونان بالنسبة إلى شيء آخر تحتهما فوقاً؛ وذلك لأنّ هذا الحمل حمل اشتقاق(1)، وفي الحمل الاشتقاقيّ يمكن أن يُفترض وحدة المحمول عليه مع تعدّد الحيثيّة حتّى في المبادئ الحقيقيّة، فيقال: (زيد عالم وعادل)، فإنّ المبدء يكون حيثيّة تعليليّة لا تقييديّة. ولابدّ من الالتفات إلى أنّ هاتين الحيثيّتين حيث إنّهما خارجيّتان بأنفسهما فلا محالة تكون خارجيّة إحداهما غير خارجيّة الاُخرى، فإنّ كلّ واحدة منهما بنفسها خارجيّة فهنا خارجيّتان.


(1) فتبيّن أنّ النزاع لم يكن بالدقّة كبرويّاً، فإنّ العناوين الانتزاعيّة ـ التي قال عنها السيّد الخوئيّ(رحمه الله): إنّ كون النسبة بينها عموماً من وجه لا يدلّ على تعدّد المعنون ـ ترجع إلى العناوين الاشتقاقيّة لا إلى مبادئ الاشتقاق، وقد اعترف المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في العناوين الاشتقاقيّة بعدم دلالة العموم من وجه على تعدّد المعنون.

383

أمّا لو بنينا على أنّ العناوين الانتزاعيّة ليس لها حمل مواطاة كان الاتّجاه العامّ لكلام السيّد الاُستاذ هو الصحيح، فإنّ مجرّد تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون في الخارج، فإنّه ليس مصداقاً للمبدء بل مصداق لذي المبدء، وعندئذ يمكن أن ينتزع من شيء واحد عنوانان، لا بمعنى أن يكون نفس المبدء بل بمعنى أن يكون ذا مبدئين، فالسقف ليس فوقيّةً وتحتيّةً معاً ولكنّه فوق وتحت معاً، وبما أنّنا عرفنا أنّ الصحيح أنّ هذه المبادئ لها حمل مواطاة فيصحّ ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) مع ملاحظتين عليه:

1 ـ ما أشرنا إليه من أنّ نكتة كون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون تجري حتّى في المتساويين والعموم المطلق ولا تختصّ بالعموم من وجه. نعم، يشترط أن يكون العنوانان عرضيّين لا من قبيل الجنس والفصل الذي يكون أحدهما متمّماً للآخر.

2 ـ إنّ هذه الطريقة لإثبات جواز اجتماع الأمر والنهي لا تنطبق على مثال الصلاة والغصب ونحوه، فإنّها ـ كما اعترف به المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ إنّما تتمّ في نفس المبادئ لا في المشتقّات، وفي مثال العبادة والغصب عندنا عرضان وهما عباديّة العمل وغصبيّته، والمعروض واحد وهو هذه الصلاة، وحينئذ إذا كان الأمر متعلّقاً بالعباديّة ونفس الإضافة، والنهي متعلّقاً بإضافة الغصبيّة كان متعلّق أحدهما غير الآخر. وأمّا إذا كان متعلّق الأمر والنهي هو الفعل العباديّ والفعل الغصبيّ ـ كما هو الواقع، فإنّ العبادة والغصب وإن كانا مصدرين إلاّ أنّ المقصود منهما هو العمل العباديّ والعمل الغصبيّ ـ فالحمل يصير حمل ذوهو ولا تعدّد في الوجود الخارجيّ حينئذ.

ثُمّ إنّه ظهر من مجموع ما ذكرناه ثلاثة ملاكات لجواز اجتماع الأمر والنهي:

الأوّل: ما قد يقال حتّى فيما إذا كان الاختلاف بين المتعلّقين بالإطلاق

384

والتقييد، كما في: (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، لا بتعدّد العنوان، وهو: أنّ الأمر لا يسري من صِرف الوجود إلى الحصص. ونحن لم نقبل هذا الملاك بنكتة وجدانيّة أنّ حبّ الجامع بنحو صِرف الوجود يلازم الحبّ على تقدير بالنسبة لكلّ حصّة.

والثاني: كفاية تعدّد العنوان لرفع الغائلة.

والثالث: كشف تعدّد العنوان عن تعدّد المعنون.

والآن نريد أن نلحظ النسبة بين نتائج هذه الملاكات:

أمّا المقارنة بين الملاك الثاني والثالث: فهما يتصادقان غالباً باستثناء مورد واحد، وتوضيحه:

إنّه في المبادئ الحقيقيّة ـ التي تعتبر من المقولات الأوّليّة ـ يصدق كلا الملاكين، فتعدّد العنوان محفوظ، وبما أنّ الحمل حمل مواطاة يستلزم ذلك تعدّد المعنون. وأمّا في المبادئ الانتزاعيّة المحمولة بحمل مواطاة فالأمر أيضاً كذلك، فالعنوان متعدّد وكلّ من المعنونين له خارجيّة مستقلّة عن خارجيّة الاُخرى.

وأمّا إذا فرضنا أنّ العنوانين قد تعلّق بهما الأمر والنهي بما هما محمولان في الخارج بحمل ذو هو لا بحمل هو هو ـ إمّا بأن ننكر الحمل المواطاتيّ في العناوين الانتزاعيّة، أو بأن نعترف بذلك، أو كانت المبادئ من المقولات الأوّليّة ولكن مع هذا كان الحكم متعلّقاً بالعنوان بما هو محمول اشتقاقيّ على الخارج ـ فهنا كلا الملاكين لا يتمّ:

أمّا الملاك الثالث فلوضوح أنّ تعدّد العناوين الاشتقاقيّة لا يستلزم تعدّد المعنون؛ فإنّ الحيثيّة تعليليّة لا تقييديّة، فالمحمول عليه قد يكون واحداً رغم تعدّد العناوين.

وأمّا الملاك الثاني فلأنّ الأمر والنهي لم يتعلّقا بالحيثيّة محضاً بل تعلّقا بذي

385

الحيثيّة، إذن فهناك محور مشترك بين متعلّق الأمر والنهي وهو نفس الفعل، فالفعل الواحد قد يكون غصبيّاً وعباديّاً في نفس الوقت وقد قلنا في التحفّظ الثالث بأنّ الملاك الثاني لا يجري فيما إذا كان بين العنوانين محور مشترك.

نعم، يمكن تصوير الانفكاك بين هذين الملاكين بنحو يتمّ الثاني دون الثالث فيما لو تعلّق الأمر بعنوان حيثيّة الجنس والنهي بعنوان حيثيّة الفصل، فالجنس والفصل رغم اتّحادهما خارجاً قابل في عالم الذهن للتحليل إلى عنوانين.

فلو تعلّق الأمر بالجنس وتعلّق النهي بعنوان حيثيّة الفصل، كما لو تعلّق الأمر بإيجاد الخطّ والنهي بإيجاد خصوصيّة الانحناء الذي هو الفصل لا بالخطّ المنحني الذي هو الحصّة، فهذا الاجتماع يجوز بناءً على الملاك الثاني، بينما لا يتأتّى فيه الملاك الثالث؛ فإنّ العنوان متعدّد ولكنّ المعنون واحد خارجاً، فإنّ الجنس والفصل خارجيّتهما ليست بأنفسهما بل بوجودهما، فإنّهما جزءا ماهيّة أوّليّة لها وجودٌ واحد في الخارج، وهذا بخلاف الحيثيّات الانتزاعيّة، فإنّه هناك لا يُعقل وحدة خارجيّة لعنوانين منها(1)، فإنّها تكون خارجيّة بأنفسها، فمع تعدّدها لا يُعقل اتّحاد خارجيّتها. ولكن في الجنس والفصل يمكن أن يوجد لكليهما


(1) لا يخفى أنّ الجنس والفصل لعنوان انتزاعيّ واحد في لوح الواقع، حالهما حال الجنس والفصل لشيء متأصّل خارجاً في لوح الوجود، فهما خارجيّان بخارجيّة واحدة؛ لأنّ أحدهما مقوّم للآخر، وخارجيّة جنسه تكون بخارجيّة فصله، كما أنّ الجنس والفصل في الأشياء المتأصّلة خارجاً وجودهما بوجود واحد. فالمقياس ليس هو كون العنوانين متأصّلين أو انتزاعيّين، وإنّما المقياس كون أحدهما مقوّماً للآخر وعدمه، فمع فرض المقوّميّة هما متّحدان خارجاً، ومع فرض عدم المقوّميّة ليسا متّحدين.

386

مصداق واحد في الخارج؛ فإنّ العنوانين طوليّان وليسا عرضيّين، وقد قلنا سابقاً: إنّه مع العرضيّة لا يمكن اتّحاد المصداق، ومع الطوليّة يتّحد المصداق، وحيث إنّ الوجدان قاض بجواز اجتماع الأمر والنهي في مثل: (ارسم خطّاً ولا تجعله منحنياً)، فهذا دليل إنّيٌّ على صحّة الملاك الثاني.

وأمّا الملاك الأوّل فنسبته إلى الملاكين الآخرين بحسب المورد عموم من وجه، فقد يصدق الملاك الأوّل دون الآخرين، كما هو الحال في فرض وجود محور مشترك بين العنوانين، سواءً كان ذاك المحور هو تمام المأمور به وكان العنوانان من قبيل المطلق والمقيّد كما في: (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، أو كان ذاك المحور جزء المأمور وكان بين العنوانين عموماً من وجه، فعلى أيّ حال لا يصدق الملاكان الأخيران؛ لاتّحاد العنوان وكذا المعنون ولو في بعض الأجزاء، ولكن يصدق الملاك الأوّل لو تمّ في نفسه.

وقد يصدق الأخيران دون الأوّل، كما لو لم يوجد محور مشترك بين عنوانين عرضيّين ولكن كان الأمر كالنهي متعلّقاً بمطلق الوجود، ومطلق الوجود يقتضي السريان إلى الحصص، فلا يتمّ الملاك الأوّل(1) بينما يتمّ الملاك الثاني والثالث. ولو كان الأمر في ذلك بنحو صِرف الوجود تمّت كلّ الملاكات الثلاثة.


(1) مثاله: أن نفترض أنّنا اُمرنا بصلاتيّة الكون لا بالكون الصلاتيّ، أي: إنّ الأمر تعلّق بالمبدء لا بالعنوان الاشتقاقيّ، وكان المأمور به صلاتيّة كلّ كون نحقّقه، فالأمر تعلّق بمطلق الوجود ولكن لا بمعنى أن نضطرّ إلى الكون الغصبيّ، فإنّ المأمور به إنّما هو صلاتيّة كلّ كون نحقّقه، وبإمكاننا أن لا نحقّق الكون الغصبيّ إمّا بالتجنّب عن ذاك المكان أو بإرضاء صاحبه.

387

 

تطبيق البحث على الصلاة في اللباس أو المكان المغصوبين:

بقي الكلام في تطبيق الأفكار على خصوص مثال (الصلاة في المغصوب) وهذا المثال ينحلّ إلى فرعين: (الصلاة في لباس مغصوب) و(الصلاة في مكان مغصوب):

أمّا الصلاة في لباس مغصوب: فيوجد تقريبان لدعوى تحقّق محذور الاجتماع فيها:

الأوّل: مخصوص بالساتر، وهو ما بنى عليه الأصحاب، وحاصله: أنّ التستّر فعل واحد لا يُعقل أن يقع مصداقاً للواجب والحرام.

ونحن قبل أن نحتاج إلى التحقيق عن أنّ هذا فعل واحد أو لا، أو أنّ العنوان متعدّد أو لا نرى أنّ المورد ليس من موارد الاجتماع؛ وذلك لأنّ التستّر قيد في الصلاة كالاستقبال، وليس جزءاً؛ إذ لا دليل على جزئيّته. على أنّه لو كان جزءاً للصلاة لوجبت فيه القربة كسائر أجزاء الصلاة، بينما من المسلّم فقهيّاً كفاية التستّر بلا قربة بل مع الغفلة الكاملة، والأمر بالمقيّد لا ينبسط على القيد، خلافاً لما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في بحث الطهارات الثلاث من انبساط الأمر بالمقيّد على القيد. ومن هنا نقول في الفقه بأنّ مقتضى الصناعة ـ إذا لم يقم إجماع تعبّديّ على اشتراط إباحة الساتر ـ هو صحّة الصلاة في الساتر المغصوب.

الثاني: يأتي في مطلق اللباس، وهو أنّ ما هو الفعل الصلاتيّ يكون مصبّاً للأمر والنهي، فإنّ الركوع والسجود يكون علّة لتحريك الثوب، والتحريك تصرّف في المغصوب فهو حرام، وعلّة الحرام حرام، فلزم اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك إمّا بأن يُبنى على أنّ الهُويّ جزء للصلاة، وهو علّة لتحريك الثوب فيحرم. أو يقال: إنّ الهُويّ وإن لم يكن جزءاً وإنّما الجزء هو نتيجة الهُويّ، وهو الركوع، لكن الركوع