339

 

 

 

 

 

مفاد صيغة النهي:

الجهة الاُولى: في مفاد صيغة النهي.

قد اشتهر في لسان جملة من الاُصوليّين: أنّ النهي والأمر مفادهما الطلب، إلاّ أنّ الأمر هو طلبٌ للفعل والنهي طلبٌ للترك.

وقد اشتهر في لسان جملة من المتأخّرين رفض كون الفرق بين الأمر والنهي في المتعلّق مع اتّحادهما في أصل معنى الطلب، وقالوا: إنّ هناك تبايناً بين مفادي الأمر والنهي غير راجع إلى اختلاف المتعلّقين.

وبإمكاننا تصنيف كلمات الرافضين لكون النهي كالأمر إلى ثلاث كلمات: الاُولى ما نسبه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى مشهور المعترضين على الرأي السابق. والثانية رأي السيّد الاُستاذ نفسه. والثالثة كلمتنا في المقام:

أمّا الكلمة الاُولى: فهي عبارة عن أنّ الأمر يدلّ على طلب الطبيعة والتحريك نحوها، والنهي يدلّ على الزجر عن الطبيعة والتبعيد عنها.

وهذا الكلام إن كان المقصود به مجرّد الإتيان بفرضيّة معقولة اُخرى في قبال ما قالوه: من أنّ مفاد النهي كالأمر هو الطلب وأنّ الفرق في المتعلّق، فهو أمر معقول كما سيتّضح، ولكنّه غير مشتمل على البرهان على المقصود. وإن كان المقصود به الاستدلال على رفض كون مفاد النهي هو الطلب، فلا يوجد في هذا المقدار من البيان دليل على ذلك، إلاّ إذا قصد الاستدلال بالوجدان العرفيّ واللغويّ، وهو صحيح إضافةً إلى ما سيأتي إن شاء الله من المنبّهات لهذا الوجدان.

340

والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ علّق على هذا الرأي بأنّ هذا غير معقول؛ لأنّه إن قُصد بالتحريك والزجر التحريك والزجر التكوينيّان الحاصلان بمثل اليد، فمن الواضح عدم دلالة الأمر والنهي عليهما. وإن قُصد بهما التحريك والزجر التشريعيّان، فالأمر بنفسه تحريك تشريعيّ، والنهي بنفسه زجر تشريعيّ، فإنّ المولى بما هو مولى يحرّك بالأمر، ويزجر بالنهي، فلا معنى لافتراض أنّ الأمر يدلّ على التحريك، والنهي يدلّ على الزجر، بل هما مصداقان للتحريك والزجر، فيجب أن يكون مدلولهما شيئاً آخر به يتحقّق التحريك والزجر.

أقول: كأنّ هذا الكلام انسياق مع مبانيه ـ دامت بركاته ـ في الوضع، حيث ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن التعهّد، وتفرّع على ذلك القول بأنّ الوضع هو منشأ الدلالة التصديقيّة الموجودة في الجملة التامّة، وعليه يقال في المقام: إنّ الأمر والنهي لو كان مدلولهما اللغويّ التحريك والزجر كان معنى ذلك أنّ الأمر والنهي يدلاّن دلالة تصديقيّة على التحريك والزجر، أي: إنّها يكشفان عن التحريك والزجر، في حين أنّهما لا يكشفان عن التحريك والزجر التكوينيّين كما هو واضح، ولا التشريعيّين؛ لأنّهما بنفسهما مصداق للتحريك والزجر التشريعيّين لا كاشف عنهما.

أمّا على ما هو المشهور المختار من كون الوضع موجباً للدلالة التصوريّة فحسب، وأمّا الدلالة التصديقيّة فهي وليدة السياق وحال المتكلّم ومناسبات الحكم والموضوع، فمادّة الأمر والنهي تدلّ دلالة تصوريّة على معنى اسميّ، وهيئتهما تدلّ على النسبة التي هي معنى حرفيّ، أي: تدلّ على النسبة التحريكيّة التكوينيّة والنسبة الزجريّة التكوينيّة، بمعنى إخطار ذلك في الذهن لا الكشف(1)،


(1) مضى منّا في بحث مفاد هيئة الجمل: أنّ مفاد هيئة الأمر والنهي عبارة عن نسبة بعثيّة أو زجريّة تامّة ذات ثلاثة أطراف: الباعث أو الزاجر من ناحية، والمبعوث أو المزجور من ناحية اُخرى، والمبعوث إليه أو المزجور عنه من ناحية ثالثة، فراجع.

341

ثُمّ نحن نعرف بمناسبة الحكم والموضوع وبلحاظ حال المتكلّم أنّ الأمر كان بداعي التحريك التشريعيّ، والنهي كان بداعي الزجر التشريعيّ. وهذه فرضيّة معقولة لصالح اختلاف النهي عن الأمر في المفاد من دون فرض فرق في المتعلّق.

وأمّا الكلمة الثانية ـ وهي ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته ـ: فهي أنّ الأمر يدلّ على اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، والنهي يدلّ على اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل وابتعاده عنه، لا على اعتبار تركه في ذمّته، والشاهد على ذلك ـ بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ أنّ الأمر يتبع مصلحة في الفعل، فالمناسب هو اعتبار الفعل في الذمّة؛ لأنّ مركز الغرض هو الفعل. والنهي يتبع مفسدة في الفعل، فالفعل هو مركز الملاك والمبغوضيّة وليس الترك هو مركز الغرض، فالمناسب هو اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل دون اعتبار الترك في ذمّته.

أقول: أمّا أصل كون مدلول الأمر والنهي هو الاعتبار بغضّ النظر عن أنّ متعلّق الاعتبار هل هو الترك أو الحرمان من الفعل، فهذا منسجم أيضاً مع مسلك كون الدلالة التصديقيّة مدلولا وضعيّاً للكلام. وقد مضى في محلّه توضيح أنّ المدلول الوضعيّ للأمر والنهي ليس هو الاعتبار وإن كان قد يُستظهر الاعتبار بدلالة سياقيّة وحاليّة. وهناك بعض الشواهد على ذلك، من قبيل: أنّ فكرة الاعتبار فكرة معقّدة لا تنسجم مع الدلالة الوضعيّة للأمر والنهي التي هي أبسط وأوضح تصوّراً بكثير من ذلك، وأنّ صيغة الأمر كما تصدر من العالي إلى الداني كذلك تصدر من الداني إلى العالي، فنحن نقول: (يا ربّنا اغفر لنا)، في حين أنّه لا يخطر ببالنا افتراض جعل شيء في ذمّة الله تعالى أو اعتباره فيها، فغاية الأمر أنّ الاعتبار وجعل الشيء في ذمّة المأمور به قد يستكشف من سياق وظهور حال ومناسبات، لا أنّ ذلك داخل في المدلول اللغويّ للأمر والنهي.

342

وأمّا الاستدلال على كون مفاد النهي هو اعتبار الحرمان من الفعل لا اعتبار الترك بمذهب العدليّة، فيرد عليه:

أوّلا: أنّنا نتكلّم في الوضع اللغويّ الثابت قبل تكوّن الإسلام ووجود أشاعرة وعدليّة، فما معنى الاستدلال على المدلول الوضعيّ بمذهب العدليّة؟!

وثانياً: فلتكن النواهي تابعة لمفسدة في الفعل، فالمولى يهدف للتوصّل إلى نقيض تلك المفسدة، وهذا كما يمكن باعتبار الحرمان كذلك يمكن باعتبار الترك في ذمّة المكلّف، فليس هذا دليلا على أنّ مفاد النهي هو اعتبار الحرمان من الفعل دون اعتبار الترك.

وغاية ما يمكن أن يقال هي: دعوى كون اعتبار الحرمان أنسب في المقام، ولكن متى صارت الأنسبيّة في الوضع دليلا على تعيين الوضع؟! فلعلّ الواضع ـ مثلا ـ لم يكن ملتفتاً إلى هذه الأنسبيّة التي التُفت إليها في المقام.

وأمّا الكلمة الثالثة: فهي أنّ ما ذُكر في الكلمة الاُولى من أنّ النهي يختلف عن الأمر في أنّ الأمر يدلّ على طلب الفعل والنهي يدلّ على الزجر عن الفعل، مطلب صحيح، وتوضيحه: أنّ النهي له مادّة وله هيئة، ومادّته تدلّ على الطبيعة، وهيئته تدلّ على النسبة الزجريّة. كما أنّ الأمر تدلّ مادّته على الطبيعة وهيئته على النسبة التحريكيّة، هذا بلحاظ الدلالة التصوّريّة. وأمّا بلحاظ الدلالة التصديقيّة الناشئة من ظهور الحال ومناسبات الحكم والموضوع، فالأمر يكشف عن داعي التحريك، والنهي يكشف عن داعي الزجر والمنع.

فعلى كلا المستويين ـ أعني: مستوى الدلالة التصوّريّة والتصديقيّة ـ يكون الفرق بين الأمر والنهي هو الفرق بين الطلب والزجر. ويدلّ على ذلك الوجدان العرفيّ واللغويّ، وهناك بعض المنبّهات لهذا الوجدان:

منها: أنّنا لو قلنا: إنّ النهي يدلّ على الزجر عن الطبيعة كان مدلول النهي مؤتلفاً

343

من عنصرين: عنصر اسميّ وهو الطبيعة، وعنصر حرفيّ وهو النسبة الزجريّة الثابتة بين الزاجر والمنزجر والطبيعة. وكذلك في نفس صيغة النهي يوجد عنصران يقابل كلّ منها واحداً من عنصري المدلول، وهما المادّة والهيئة، فالمادّة تدلّ على المعنى الاسميّ وهي الطبيعة، والهيئة تدلّ على المعنى الحرفيّ وهي النسبة الزجريّة.

أمّا لو فرضنا أنّ النهي يدلّ على طلب ترك الطبيعة، فإضافةً إلى عنصر الطبيعة التي تدلّ عليها المادّة، وعنصر النسبة الطلبيّة التي تدلّ عليها الهيئة يوجد عنصرٌ ثالث وهو الترك، وهو بحاجة إلى دالّ:

فإن فُرض الدالّ عليه أمراً ثالثاً غير المادّة والهيئة، فلا يوجد لدينا أمر ثالث غيرهما. وإن فُرض الدالّ عليه المادّة، فإن كان المفروض دلالة المادّة على الترك من باب الاستعمال، فمن أوضح الواضحات أنّ مادّة الصلاة في (لا تصلّ) مثلا لا تستعمل في ترك الصلاة. وإن كان المفروض دلالتها على الترك من باب الفناء والمرآتيّة، فأيضاً من الواضح أنّ الطبيعة إنّما تفنى في أفرادها الوجوديّة لا في عدمها.

وإن فُرض الدالّ عليه الهيئة كان معنى ذلك أنّ الهيئة تدلّ على معنى حرفيّ، وهي النسبة الطلبيّة مع طرفها الاسميّ وهو الترك، وهذا ممّا لا يُعهد في الحروف والهيئات.

أضف إلى ذلك: أنّ الترك منسوب ـ بنسبة ناقصة ـ إلى الطبيعة، وهذه النسبة الناقصة أيضاً بحاجة إلى دالّ عليها، إلاّ أن يقال: إنّ نفس تلك الهيئة دالّة عليها، وهذا يعني أنّ تلك الهيئة قد دلّت على نسبتين مع معنى اسميّ كان طرفاً لإحداهما، وهذا غريب في أوضاع الحروف والهيئات.

ومنها: أنّه قد ينهى عن الترك فيقال: (لا تترك)، فلو كان مفاد النهي عبارة عن طلب ترك الطبيعة لكان معنى (لا تترك): اترك الترك، في حين أنّنا لا نحسّ عرفاً

344

في (لا تترك) بحزازة تعليق الترك بالترك المحسوسة عرفاً في: (اترك الترك).

ومنها: أنّ (لا تفعل) صيغة للنهي وكلمة النهي مادّة له، أي: إنّنا لا نشكّ بحسب فهمنا العرفيّ أنّ هيئة النهي تدلّ على نفس معنى مادّة النهي بفرق: أنّ الاُولى في صياغة حرفيّة والثانية في صياغة اسميّة، فمادّة النهي ـ كما في: (نهيتك) ـ إن كانت دالّة على طلب الترك صحّ أن تكون هيئة النهي أيضاً دالّة على النسبة الطلبيّة، في حين أنّه لا ينبغي توهّم كون مادّة النهي معناها طلب الترك.

وينبّه على ذلك: أنّ مادّة النهي تتعدّى بـ (عن) فيقال: (النهي عن شرب الخمر) مثلا، بخلاف الطلب أو طلب الترك، فلا يقال مثلا: (طلب الترك عن شرب الخمر).

345

 

الشموليّة في إطلاق النهي والبدليّة في إطلاق الأمر:

الجهة الثانية: في كون الإطلاق في النهي شموليّاً انحلاليّاً وفي الأمر بدليّاً.

قد ذكر المشهور: أنّ الأمر يدلّ على طلب الطبيعة بنحو الإطلاق البدليّ، ولكن إطلاق النهي يكون شموليّاً انحلاليّاً.

ومن هنا يقع الكلام في أنّه كيف اختلف الإطلاق في النهي منه في الأمر، فصار في النهي شموليّاً وفي الأمر بدليّاً، في حين أنّ الدالّ على الإطلاق في كليهما واحد وهو مقدّمات الحكمة؟

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) في تفسير ذلك: أنّ الفرق ينشأ من مقدّمة عقليّة خاصّة، وأمّا ذات مقدّمات الحكمة فنتيجتها في كلّ الموارد واحدة، وهي جامع الإطلاق من دون تعيين كونه شموليّاً أو بدليّاً، فالشموليّة والبدليّة إنّما تفهم دائماً من مقدّمة خاصّة اُخرى.

فمثلا في متعلّق الأمر من قبيل قوله: (صلّ) توجد ثلاثة احتمالات: كون الواجب هو صِرف وجود الصلاة على شكل الإطلاق البدليّ، وكونه كلّ الصلوات على شكل الإطلاق الشموليّ، وكونه مجموعة معيّنة من الصلوات كعشرين صلاةً في عشرين بيتاً مثلا. والاحتمال الثالث منفيّ بمقدّمات الحكمة المشتركة في الإطلاقين الشموليّ والبدليّ؛ لأنّ خصوصيّة تلك المجموعة بحاجة إلى البيان ولم يبيّن، والمفروض أنّه بصدد البيان، فيبقى الأمر دائراً بين الاحتمالين الأوّلين.

وهنا يأتي دور المقدّمة الفعليّة المعيّنة للاحتمال الأوّل، وهي: أنّ إيجاب كلّ الصلوات على المكلّف غير معقول؛ لأنّه غير قادر على الإتيان بكلّ الصلوات


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 4، ص 97 - 114.

346

خاصّة وأنّ فيما بينها أفراد متضادّة، كالصلاة في المسجد مع الصلاة في البيت في وقت واحد، فينحصر الأمر في الاحتمال الأوّل وهو وجوب صِرف الوجود على شكل الإطلاق البدليّ.

وهذا بخلاف باب النهي كـ (لا تكذب) فقوله مثلا: (لا تكذب)، أيضاً فيه احتمالات ثلاثة: كون الحرام كلّ كذب بنحو الإطلاق الشموليّ، وكون الحرام كذباً واحداً على سبيل البدل، أي: إنّه لو ترك كذباً واحداً لكفى وجاز له الإتيان بكلّ كذب آخر، وكون الحرام مجموعة معيّنة من الأكاذيب كالكذب على الله ورسوله، أو الكذب في حال الصوم. والاحتمال الثالث منفيٌّ بالإطلاق ومقدّمات الحكمة المشتركة؛ لأنّ دخل خصوصيّة تلك المجموعة من الأكاذيب بحاجة إلى البيان ولم يبيّن، فيدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين.

وهنا يأتي دور المقدّمة العقليّة المعيّنة للاحتمال الأوّل والنافية للاحتمال الثاني، وهي أنّ تحريم كذب واحد غير معقول؛ إذ لا يوجد أحدٌ يستطيع أن يكذب كلّ كذبة، فترك بعض أفراد الكذب حاصل قهراً، فتعيّن بذلك احتمال الإطلاق الشموليّ.

وفيما أسماه السيّد الاُستاذ بموضوع الأحكام الوضعيّة من قبيل: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾قال دامت بركاته: هنا أيضاً توجد فيه ثلاثة احتمالات: كون المقصود تنفيذ أحد البيوع على سبيل الإطلاق البدليّ، وكونه تنفيذ كلّ البيوع على سبيل الإطلاق الشموليّ، وكونه تنفيذ مجموعة معيّنة من البيوع كالبيع العقديّ. والثالث منفيٌّ بمقدّمات الحكمة، والأوّل غير محتمل؛ إذ لا معنى لتنفيذ أحد البيوع، فيتعيّن الإطلاق الشموليّ.

أقول: إنّ هذا الكلام ترد عليه عدّة إشكالات نذكر منها هنا إشكالين:

الأوّل: أنّ في مثل (صلّ) لا مانع من الإطلاق الشموليّ، وكونه غير قادر على جميع أفراد الصلاة لا يعيّن الإطلاق البدليّ:

أمّا على مسلكه(رحمه الله) من أنّ القدرة دخيلة في التنجيز لا في التكليف ـ وإن كان

347

فيما أعلم لم يفرّع في علم الاُصول عليه شيئاً ـ فغاية الأمر أنّه لا يتنجّز عليه إلاّ المقدار المقدور.

وأمّا على القول بأنّ القدرة شرط في التكليف فليكن مفاد (صلّ) وجوب كلّ الصلوات بنحو الإطلاق الشموليّ لكن في دائرة ما هو المقدور. ولتكن القرينة على خصوصيّة القدرة التقييد اللبّيّ الذي هو كالمتّصل، وهو عدم إمكان تعلّق التكليف بغير المقدور، فلم يتعيّن الإطلاق البدليّ.

الثاني: أنّ هناك بعض الإطلاقات التي لا توجد معها مقدّمة عقليّة خاصّة تدلّ على نفي الإطلاق البدليّ أو الشموليّ ليتعيّن الآخر، ومع ذلك يكون أحدهما متعيّناً بلا إشكال ممّا يكشف عن وجود نكتة اُخرى لتعيين البدليّة أو الشموليّة وراء ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته، فالإطلاق في موضوع الحكم التكليفيّ في مثل: (أكرم العالم) أو: (أكرم العلماء) لا إشكال في شموليّته، مع أنّ الجمع المحلّى باللام ـ فضلا عن المفرد المحلّى باللام ـ لا يدلّ على العموم لغة، في حين أنّ الإطلاق البدليّ معقول في المقام، ولذا يصحّ أن يقول: (أكرم عالماً)، مع أنّ الإطلاق فيه بدليّ(1).


(1) وأيضاً: إنّ كلام السيد الخوئيّ(رحمه الله) في المقام لا يخلو من تشويش، فهل المقصود بالشموليّة التي أثبتها في باب النواهي في مقابل البدليّة التي أثبتها في باب الأوامر ما ينسجم مع المجموعيّة، أو المقصود بها خصوص الانحلاليّة، وأنّ النهي لا يسقط بالمعصية كما أنّ الأمر يسقط بها، فلو عصاه مرّة واحدة ـ مثلا ـ لم تجز له المخالفة مرّة اُخرى؟ فإن كان المقصود هو الأوّل فهذا أجنبيّ عن الهدف الأصليّ من هذا البحث، وهو إثبات الانحلال وتعدّد المحرّمات في النهي. وإن كان المقصود هو الثاني فما أفاده لا يثبته؛ فإنّ غاية ما تثبته القرينة العقليّة التي ذكرها ـ وهي أنّ ترك فرد مّا ضروريّ من كلّ أحد ـ هي الشموليّة بالمعنى الجامع بين فرض الانحلال وفرض المجموعيّة.

348

وأمّا تحقيق حقيقة الحال في المقام فقد مضى منّا مفصّلا في مبحث الأوامر في بحث المرّة والتكرار، ونذكره هنا مختصراً فنقول: إنّ الشموليّة والبدليّة على قسمين:

أحدهما: الشموليّة والبدليّة المدلول عليها باللفظ والتي تكون داخلة في مدلول الكلام، وهذا هو الشموليّة والبدليّة العموميّة التي تكون مدلولا عليها بأداة العموم، من قبيل: أكرم كلّ عالم، وأيّ عالم شئت، وهذا خارج عن محلّ الكلام، فإنّ هذه البدليّة والشموليّة لا تكونان من شؤون مقدّمات الحكمة حتّى يأتي الإشكال المتقدّم.

والثاني: الشموليّة والبدليّة في موارد الإطلاق ومقدّمات الحكمة من دون أداة عموم، وهذا هو الداخل في محلّ الكلام، وقد نشأ الإشكال هنا من تخيّل أنّ الشموليّة والبدليّة هنا كالشموليّة والبدليّة في القسم الأوّل في أنّهما من مداليل الكلام، فيقال: كيف أوجبت المقدّمات ظهوراً في البدليّة تارة وفي الشموليّة اُخرى، إلاّ أنّ الصحيح أنّ الشموليّة والبدليّة خارجة عن مدلول الكلام؛ فإنّ مدلول الكلام بمقدّمات الحكمة لا يتجاوز عن أنّ موضوع الحكم أو متعلّقة هو ذات الطبيعة بلا قيد زائد، وذلك بأن يقال: إنّ موضوع الحكم أو متعلّقه لو كان هو الطبيعة مع قيد زائد لكان على المولى أن ينصب قرينة على القيد الزائد، ولم ينصب قرينة وهو في مقام البيان، فلابدّ أن يكون تمام مراده هو ما ذكره وهو الطبيعة، غاية الأمر أنّ هذا الحكم المتعلّق بالطبيعة يختلف في مقام الانحلال والتطبيق: فتارة يُفرض أنّه قابل للتكثّر في مقام التطبيق، واُخرى يُفرض أنّه غير قابل للتكثّر، فالأوّل هو الشموليّة، والثاني هو البدليّة.

وتوضيح ذلك: أنّ الحبّ له موضوع وله متعلّق، وهناك فارق بين الموضوع والمتعلّق، وهو: أنّ الموضوع دائماً يُرى مفروغاً عنه قبل الحكم، بينما المتعلّق

349

يُرى من تبعات الحكم، فمثلا في (أكرم العالم) الموضوع ـ وهو العالم ـ يُرى مفروغاً عنه قبل الوجوب، بينما الإكرام لا يُرى مفروغاً عنه قبل الوجوب(1)، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل.

والطرف الذي يُرى مفروغاً عنه وموجوداً قبل الحكم ـ وهو الموضوع ـ يتكثّر وينحلّ لا محالة بعدد فعليّة أفراده في الخارج، وبقدر ما يكون الموضوع فعليّاً يكون الحكم فعليّاً؛ لتبعيّة فعليّة الحكم لفعليّة الموضوع.

وأمّا في طرف المتعلّقات فالقاعدة تقتضي العكس؛ فإنّه لم يفرض وجوده خارجاً، بل الإكرام يوجد بنفس وجوب الإكرام، وعليه لا معنى لأن يصبح فعليّاً بعدد فعليّات المتعلّق. ومن هنا يكون الأصل في المتعلّقات البدليّة، والأصل في الموضوعات الشموليّة.

ويستثنى ممّا ذكرنا في طرف الموضوع ما إذا نُوّن الموضوع فقيل: (أكرم عالماً)، فإنّ التنوين يدلّ على قيد الوحدة ومعه لا يمكن الانحلال. ويستثنى ممّا ذكرناه في طرف المتعلّق النهي؛ لأنّ غلبة نشوئه من المفسدة وغلبة انحلاليّة المفسدة قرينةٌ توجب للكلام ظهوراً في إرادة النهي بعدد أفراد المتعلّق بنحو الانحلال.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ هذه القرينة وأورد عليها بإيرادين:


(1) مضى منّا في بحث الأوامر ـ بحث المرّة والتكرار ـ فرقٌ بين الموضوع الواقع في سياق الأمر والموضوع الواقع في سياق النهي، وهو أنّ الموضوع في باب النواهي يكون عادةً قيداً للمتعلّق لا موضوعاً مقدّر الوجود، كما هو الحال في الأوامر، وتكون نكتة انحلال النهي بلحاظ أفراد الموضوع هي نفس نكتة انحلاله بلحاظ المتعلّق، لا نكتة كون الموضوع مفروض الوجود، فراجع.

350

الأوّل: أنّ نشوء النهي من المفسدة إنّما هو على مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، أمّا على مسلك الأشاعرة فما معنى غلبة نشوء النهي من المفسدة؟!

الثاني: أنّنا لا نستطيع أن نعرف أنّ الملاك انحلاليّ إلاّ إذا كان الحكم انحلاليّاً، وحينئذ كيف يمكن أن نثبت انحلاليّة الحكم بانحلاليّة الملاك؟(1).

وكلا الإيرادين لا يمكن المساعدة عليهما؛ لأنّ الكلام إنّما هو في الظهور العرفيّ اللغويّ للكلمة، والنزاع بين الأشاعرة والعدليّة إنّما هو في الأحكام الشرعيّة بلحاظ ملاكاتها، أمّا تبعيّة نواهي الناس وأوامرهم للمصالح والمفاسد فهي واضحة حتّى عند الأشاعرة، والظهور العرفيّ ينشأ من غلبة كون النهي ناشئاً من المفسدة ولو عند العرف. هذا هو الجواب عن الإيراد الأوّل.

وبه يندفع الإيراد الثاني أيضاً؛ فإنّنا لا نريد أن ندّعي ـ بغضّ النظر عن انحلال النهي ـ انحلال ملاكات الشارع، بل ندّعي أنّ ملاكاتنا نحن الناس تكون انحلاليّة غالباً، وهذه الغلبة بنفسها تكون قرينة عرفيّة لظهور الكلام في الانحلاليّة والشموليّة، وكلّ ظهور في كلام الإنسان العرفيّ يثبت في كلام الشارع أيضاً(2).

وبما ذكرنا ظهر السرّ في بقاء النهي بعد صدور العصيان والامتثال وسقوط


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 4، ص 95 ـ 97.

(2) غفل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) عن أنّ منشأ الظهور في المقام كون المفسدة في نواهي الناس في كلّ فرد فرد من أفراد المتعلّق، وفرض في أصل تقريب الفرق بين الأمر والنهي مجرّد أنّ الأمر دلّ على أنّ المصلحة قائمة بصرف وجود الطبيعة وفي النهي بمطلق وجودها؛ لعدم قرينة على اختصاص المبغوضيّة بالوجود الأوّل، ولذا أورد على ذلك بالإشكالين.

351

الأمر بالعصيان والامتثال، وهو انحلال النهي إلى أحكام عديدة، فلها امتثالات عديدة وعصيانات عديدة بخلاف الأمر.

كما ظهر بما ذكرناه أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من إمكان إثبات بقاء النهي بعد العصيان بالتمسّك بإطلاق المادّة، فقوله: (لا تشرب الخمر) يدلّ على حرمة شرب الخمر حتّى الشرب الذي يكون قبله شرب(1)، غير صحيح؛ لأنّ إطلاق المتعلّق الثابت بمقدّمات الحكمة لايقتضي أكثر من متعلّقيّة ذات الطبيعة، وأمّا كون هذا النهي استغراقيّاً أو انحلاليّاً فيحتاج إلى قرينة اُخرى، وبقاء النهي إنّما هو من تبعات هذا الانحلال ولايفي به مجرّد إطلاق المتعلّق.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 233 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات المشكينيّ في حواشي الكتاب.

352

 

الفرق العقليّ بين الأمر والنهي من جهة الامتثال والعصيان:

الجهة الثالثة: أنّه لو فرضنا أنّ النهي كان نهياً واحداً وغضضنا النظر عن قرينة الانحلال، أو فرضنا سقوطها بقرينة اُخرى فأصبح النهي كالأمر في كونه حكماً واحداً، بقي هنا فرق عقليّ بين النهي والأمر من ناحية الامتثال والعصيان، وهو أنّ الأمر يُمتثل بإتيان فرد واحد ولايُعصى إلاّ بترك كلّ الأفراد، والنهي لا يُمتثل إلاّ بترك كلّ الأفراد ويُعصى بالإتيان بفرد واحد، وبه يسقط النهي فيجوز ارتكاب باقي الأفراد، وذلك لما اشتهر بينهم من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الافراد.

وهذا فارق عقليّ في مقام الامتثال والعصيان غير الفارق الذي مضى في الجهة الثانية الراجع إلى مسألة الانحلال وعدمه. وبهذا التمييز بين الجهتين اتّضح بعض الأخطاء، من قبيل ما جاء في تقرير المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من تعليل سقوط الأمر بالعصيان وعدم سقوط النهي به، بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ أفرادها وتوجد بوجود فرد واحد(1).

فقد عرفت أنّ كون الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد أجنبيّ عن عدم سقوط النهي بالعصيان، ومرتبط بالجهة الثالثة. ولولا الانحلال لسقط النهي بالعصيان بالفرد الأوّل، ومع الانحلال لا يسقط النهي نهائيّاً بعصيان بعض أفراده؛ لأنّه في الحقيقة نواه عديدة وله امتثالات وعصيانات عديدة وكلّ نهي يسقط بعصيانه هو.

واستشكل المحقّقون المتأخّرون عن صاحب الكفاية فيما كان يقوله المشهور:


(1) راجع نهاية الأفكار مباحث الألفاظ طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 406.

353

من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد، وأنّ الأمر يمتثل بفرد واحد والنهي لايمتثل إلاّ بترك كلّ الأفراد وكأنّهم ربطوا ـ ولو ارتكازاً ـ هذا البحث الاُصوليّ ببحث فلسفيّ وهو أنّ الكلّيّ الطبيعيّ هل هو موجود في الخارج بعدد الأفراد وتكون نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، أو أنّ نسبته إليها نسبة الأب إلى الأبناء؟

والمشهور الصحيح هو الأوّل، فيقال: إنّه على الثاني يصحّ القول بأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد. أمّا على الأوّل فلا يصحّ ذلك؛ إذ ليس للطبيعة وجودٌ واحد يوجد بفرد واحد وينعدم بانعدام كلّ الأفراد، وإنّما لها وجودات كثيرة بعدد الأفراد. فإذا كان التكليف متعلّقاً بوجود واحد أمراً أو نهياً كان امتثاله بذاك الفرد فعلا أو تركاً، وإذا كان متعلّقاً بكلّ الوجودات فامتثاله يكون بفعل جميع الأفراد أو تركها بلا فرق في ذلك بين الأمر والنهي.

إلاّ أنّ هذا الربط بين البحثين في غير محلّه؛ فإنّ ما يقال في الفلسفة: من كون نسبة الكلّيّ الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء إنّما هو بلحاظ الوجود الخارجيّ، أمّا بلحاظ الوجود الذهنيّ الذي هو مصبّ التكاليف ـ ولو بما هو مرآة للخارج ـ فالأمر تماماً على العكس، فالوجود الكلّيّ في الذهن الملحوظ مرآةً للخارج لا ينتفي إلاّ بانتفاء تمام الأفراد ويوجد بوجود فرد واحد، ونسبته إلى الأفراد نسبة الأب إلى الأبناء.

354

 

تنبيهان متعلّقان بالجهتين السابقتين:

الجهة الرابعة: تشتمل على تنبيهين مربوطين بالجهتين السابقتين:

التنبيه الأوّل: أنّ هاتين الخصيصتين اللتين يمتاز النهي بهما عن الأمر في الجهة الثانية والثالثة ثابتتان من دون فرق بين تفسير النهي بالزجر عن الفعل أو بطلب الترك، ولذا لو صرّح بطلب الترك وجدنا كلتا الخصوصيّتين ثابتتين، فسواء زجر المولى عن الفعل أو طلب تركه يكون الغالب صدور ذلك من المفسدة في الفعل وكون المفسدة انحلاليّة، وهذه هي نكتة الجهة الثانية. والطبيعة سواءً زجر عنها أو طلب تركها اقتضى ذلك إعدامها ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ أفرادها، وهذه هي نكتة الجهة الثالثة.

التنبيه الثاني: أنّ ما قلناه من أنّ النهي إذا تعلّق بالجامع اقتضى ترك جميع الأفراد إنّما هو في الجامع الحقيقيّ دون الجامع الانتزاعيّ كعنوان (أحدهما)، فلو قيل: (اترك أحدهما) أو: (لا تأتي بأحدهما)، رأينا أنّه يُكتفى بترك واحد منهما كما يُكتفى في: (افعل أحدهما) بفعل واحد.

وحلّ اللغز: إنّ هذا ليس جامعاً حقيقيّاً وإنّما هو مجرّد رمز ذهنيّ يراد منه أحياناً: التعويض عن ذكر واحد معيّن، كما لو قال: (جاء أحدهما) وكان يُرمز به إلى زيد. واُخرى: الرمز إلى فرد غير معيّن، أي: على سبيل البدل، كما لو قال: (ائت بأحدهما)، وآية ذلك: أنّ الجامع لا يُعقل أن ينطبق على الفرد بخصوصيّاته، فإنّ الجامع لا يتحصّل إلاّ بإلغاء الخصوصيّات.

فعنوان (الإنسان) الذي هو جامع بين الأفراد لا ينطبق على خصوصيّة طول الأفراد وقِصَرها ونحو ذلك، بينما عنوان (أحدهما) يمكن تطبيقه على الخصوصيّتين، كأن يقال: (إحدى الخصوصيّتين)، إذن فحينما يقول مثلا: (اترك

355

أحدهما)، لم يطلب ترك الجامع، وإنّما رمز إلى فرد واحد على تردّده وطلب ترك فرد واحد، فكان يكفي في الامتثال أن يترك فرداً واحداً منهما(1). هذا تمام الكلام في صيغة النهي، ويمكن أن تقاس مادّة النهي على صيغته في جُلّ ما ذكرناه فلا نستأنف بحثاً عنها.


(1) الصحيح هو الفرق بين جملة (اترك أحدهما) وجملة (لا تفعل أحدهما)، فيُفهم من الأوّل كفاية ترك فرد واحد على سبيل التخيير، ويُفهم من الثاني لزوم ترك كلا الفردين. والسرّ في ذلك: أنّ عنوان (أحدهما) بالآخرة جامع ـ نعم، هو جامع انتزاعيّ، ولهذا أمكن انتزاعه عن الخصوصيّات، بخلاف الجامع الحقيقيّ الذي لا يكون إلاّ بإلغاء الخصوصيّات ـ وهذا الجامع كالجامع الحقيقيّ لا ينتفي إلاّ بانتفاء كلّ أفراده، ولكن قد اُخذ فيه لغةً الإشارة إلى فرد واحد على سبيل البدل، أي: إنّه اُشرب معنى التنوين، فكما يوجد فرق بين قولنا: (اترك خمراً) وقولنا: (لا تقرب خمراً)، حيث يُفهم من الأوّل كفاية ترك خمر واحد، ويُفهم من الثاني لزوم ترك كلّ خمر، أو بين قولنا: (اترك كذباً) وقولنا: (لا تتكلّم بكذب)، فيُفهم من الأوّل كفاية ترك كذب واحد، بينما يُفهم من الثاني لزوم ترك كلّ كذب، كذلك الحال في مثال: (اترك أحدهما) و(لا تفعل أحدهما).

ونكتة ذلك هي الفرق بين النكرة في سياق النفي والنكرة في سياق الإثبات فـ (اترك) إثباتٌ، وإذا انصبّ على المنوّن بتنوين الوحدة وما شابه ذلك أعطى معنى الأمر بإلباس الترك على فرد واحد على سبيل التخيير. و(لا تفعل) نفيٌ ينهى عن تحقّق فرد واحد في الخارج، أي: لابدّ من تطهير لوح الخارج عن الفرد الواحد، وهذا لا يكون إلاّ بترك كلّ الأفراد؛ إذ أيّ فرد لو جيء به فقد جيء بالفرد الواحد.

357

النواهي

الفصل الثاني

 

 

اجتماع الأمر والنهي

 

 

○ تحرير محلّ النزاع.

○ نكتة استحالة الاجتماع في مثل (صلّ) و(لا تصلّ).

○ الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد.

○ الاختلاف بين الأمر والنهي في العنوان.

○ تنبيهات.

 

359

 

 

 

 

 

تحرير محلّ النزاع

الأمر والنهي لهما معروض بالذات ومعروض بالعرض: فتارة: يختلفان في معروضهما الذاتيّ وفي معروضهما العرضيّ، كما في: (صلّ) و(لا تكذب)، وهذا لا كلام فيه. واُخرى: يتّحدان في كلا المعروضين كما في: (صلّ) و(لا تصلّ)، وهذا يجب أن تُفرض استحالة اجتماع الأمر والنهي فيه أصلا موضوعيّاً وأمراً مفروغاً عنه في بحثنا هذا، أمّا مع إنكارها فلا يبقى موضوع للبحث في المقام. وثالثة: يتراءى اتّحادهما في المعروض بالعرض بينما يختلفان في المعروض بالذات، فهذا هو الذي نريد أن نبحث عنه في هذا الفصل كي نرى أنّ نكتة الاستحالة التي فُرضت مفروغاً عنها في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) هل تأتي هنا فنقول باستحالة اجتماع الأمر والنهي، أو أنّ تلك النكتة هنا محلولة: إمّا بدعوى أنّ الاختلاف في المعروض بالذات يكشف بالدقّة عن الاختلاف في المعروض بالعرض أيضاً. أو بدعوى أنّ الاختلاف في المعروض بالذات بنفسه كان كافياً لرفع التضادّ.

والاختلاف في المعروض بالذات رغم ما يتراءى من الاتّحاد في المعروض بالعرض يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن يكون الاختلاف بالإطلاق والتقييد رغم اتّحاد العنوان، كما في (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) فالمعروضان بالعرض وإن اتّحدا في الصلاة في الحمّام، ولكن جامع الصلاة بحدّه الجامعيّ ـ الذي يعرض عليه الأمر في الذهن ـ

360

يختلف لا محالة عن المعروض بالذات في: (لا تصلّ في الحمام).

الثاني: أن يكون الاختلاف في العنوان، كما في: (صلّ) و(لا تغصب)، فهما رغم اتّحادهما ـ على ما يتراءى ـ في المعروض بالعرض في الصلاة في المكان المغصوب يختلفان عنواناً في المعروض بالذات، فهو في أحدهما عنوان (الصلاة) وفي الآخر عنوان (الغصب).

وهذان النحوان يختلفان في نكتة وهي: أنّه في النحو الأوّل لا يحتمل عدم الاتّحاد في المعروض بالعرض في الحصّة الخاصّة وهي الصلاة في الحمّام، بأن يفترض أنّ في الخارج شيئين: أحدهما الصلاة، والآخر الصلاة في الحمّام، فيقع البحث في أنّ ما فيه من الاختلاف في المعروض بالذات هل يكفي لحلّ التضادّ أو لا؟ بينما في النحو الثاني: يبحث تارةً عن حلّ التعارض بمجرّد الاختلاف في المعروض بالذات واُخرى: عن حلّه بدعوى أنّ ذلك يكشف عن الاختلاف في المعروض بالعرض أيضاً.

 

361

 

نكتة استحالة الاجتماع في مثل (صلّ) و(لا تصلّ)

ولنتوجّه أوّلا إلى نكتة استحالة اجتماع الأمر والنهي في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) التي هي كأصل موضوعيّ لبحثنا، كي نرى أنّ تلك النكتة هل هي محلولة في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) أو في مثل (صلّ) و(لا تغصب) أو لا؟

فنقول: يمكن أن تقرّب الاستحالة في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) بثلاثة بيانات وإن كان بعضها يرجع إلى الآخر بحسب الروح والجوهر:

البيان الأوّل: أنّ التكليف مشروط بالقدرة والمكلّف غير قادر على الفعل والترك، فلا يعقل توجّه تكليفين إليه من هذا القبيل.

ونفس هذا الإشكال كان يُذكر في باب التزاحم من قبيل (صلّ) و(أزل) وكان يجاب عن ذلك بوجود قدرتين مشروطتين بترك الآخر، وهذا لا يُعقل هنا؛ فإنّه لا معنى لأن يقال بالقدرة على الصلاة على شرط ترك الصلاة وبالعكس.

وهذا البيان للاستحالة لا يتمّ على رأي السيّد الاُستاذ القائل بأنّ القدرة ليست شرطاً في التكليف وإنّما هي شرط في التنجّز.

البيان الثاني: أن يقال بأنّ الحكم متقوّم بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة والزاجريّة، ولا يمكن أن ينقدح في نفس المولى داعي البعث والزجر معاً؛ لعدم إمكان أن ينبعث المكلّف وينزجر في نفس الوقت.

وهذا البيان أيضاً لا يتمّ على مبنى السيّد الاُستاذ من كون الحكم عبارة عن صِرف الاعتبار دون البعث والزجر، ولذا لم يشترط فيه القدرة.

البيان الثالث: أن يقال بالتنافي بينهما من حيث المبادئ بأن يقال: إنّ (صلّ)

362

يكشف عن قيام مصلحة فعليّة كاملة(1) مولّدة للحبّ في الفعل و(لا تصلّ) يكشف عن قيام مفسدة فعليّة كاملة(2) مولّدة للبغض فيه وهما لا يجتمعان.

ويمكن الجواب على هذا أيضاً بناءً على مبنى من يرى أنّ الملاك قد يكون في نفس الجعل.

والصحيح: أنّ المباني التي تنافي هذه البيانات غير صحيحة، فالبراهين التي بيّنّاها في محلّها.

وبعد هذا يقع البحث في مقامين:


(1) (2) أي: غير مزاحمة في التأثير بملاك النقيض.

363

 

الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد

المقام الأوّل: ما إذا كان الاختلاف بين الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، فهل تأتي هنا نكات الاستحالة الماضية أو لا؟

من الواضح عدم تأتّي النكتتين الاُوليين؛ لأنّ المكلّف قادر على الجمع بين الامتثالين، بأن يصلّي في غير الحمّام ولا يصلّي في الحمّام، وبالتالي يمكن تحريكه نحو كلا الأمرين.

وأمّا النكتة الثالثة ـ وهي التضادّ في المبادئ ـ فتارة ندرسها هنا بلحاظ عالم المعروض بالذات واُخرى بلحاظ عالم المعروض بالعرض:

أمّا بلحاظ عالم المعروض بالذات فقد يقال بثبوت التضادّ في المبادئ في المقام؛ لأنّ الصلاة التي هي في ضمن الصلاة في الحمّام مبغوضة بالبغض الضمنيّ ومحبوبة بالحبّ الاستقلاليّ، والحبّ والبغض متضادّان ولو فُرض أحدهما ضمنيّاً والآخر استقلاليّاً، ولذا لا يمكن أن تُفرض التكبيرة ـ مثلا ـ محبوبة في ضمن الصلاة ومبغوضة في نفس الوقت على الإطلاق بالاستقلال.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ هناك فرقاً بين الحبّ والبغض، فالمحبوب بالاستقلال يمكن افتراض طروّ البغض على مركّب مشتمل على ذاك المحبوب، من دون وقوع تناف ذاتيّ بينهما، بخلاف العكس.

وهذا إضافةً إلى وجدانيّته يمكن أن يوضّح بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أنّ الحبّ إذا عرض على مركّب انحلّ على أجزائه لا بمعنى تحقّق عدّة أفراد من الحبّ حقيقة، بل بمعنى التعمّل العقليّ والتجزئة أي: إنّ هذا الحبّ الواحد منبسط على الأجزاء، فكلّ جزء هو محبوب ضمناً.

أمّا البغض إذا عرض على مركّب فهو لا ينحلّ على الأجزاء، بأن يصبح كلّ