130

 

الكلام فيما اُورد على مقالة المحقّق الثاني في تزاحم الواجب الموسّع والمضيّق:

الجهة العاشرة: تكلّمنا إلى الآن في الترتّب بين أمرين مضيّقين، وعرفنا أنّه لابدّ فيه من الترتّب عند التزاحم بينهما لإمكانه ثبوتاً، ومساعدة دليلي الواجبين عليه إثباتاً.

وأمّا إذا كان الواجبان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّقاً فقد مضى عن المحقّق الثاني(رحمه الله) القول بثبوت الخطاب بالموسّع في عرض الخطاب بالمضيّق؛ لأنّ متعلّقه هو الجامع، وهو مقدور. فمبنيّاً على هذا الكلام لا تصل النوبة إلى الترتّب، إلاّ أنّ هناك تعليقات على كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) ترجع كلّها إلى التفصيل في صحّة كلامه وعدمه بين تقدير وتقدير:

الاُولى: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان شرط القدرة بحكم العقل لقبح تكليف العاجز، ولكنّ الصحيح: أنّ الخطاب بنفسه يتطلّب قابليّة التحرّك نحو العمل، فيختصّ لا محالة بالحصّة المقدورة.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ الحكم الشرعيّ ليس إلاّ عبارة عن الاعتبار الذي هو سهل المؤونة ويمكن تعلّقه بالمستحيل أيضاً، فلا تشترط القدرة على متعلّقه، لا بحكم العقل، ولا بتطلّب الخطاب الحصّة المقدورة.

وقد مضى منّا الإيراد على هذا الكلام: بأنّه وإن كان ذات الاعتبار والجعل يمكن تعلّقه بالمستحيل، لكنّه يكشف ـ بدلالة سياقيّة ـ عن مدلول تصديقيّ أقصى، وهو داعي البعث والمحرّكيّة، وهو الذي يوجب اشتراط القدرة على المتعلّق؛ لعدم معقوليّة البعث عند عدم إمكانيّة الانبعاث.

131

نعم، يرد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ الخطاب إنّما يتطلّب القدرة على متعلّقه حتّى يعقل البعث نحوه، وهذا غير اختصاصه بالحصّة المقدورة؛ فإنّ الجامع بين الحصّة المقدورة وغير المقدورة مقدور، فيمكن تعلّق الخطاب به.

نعم، قد يوجّه كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّه عند التزاحم بين الواجب الموسّع والواجب المضيّق، لا تكون في الخطاب الموسّع قابليّة البعث والتحريك بلحاظ تلك القطعة من الزمان التي وقع فيها التزاحم، وهي أوّل الوقت مثلا؛ فإنّ المكلّف المطيع الذي يأتي بالمضيّق لا يمكنه أن ينبعث في ذلك الوقت بالخطاب الموسّع، في حين أنّ الخطاب يكون بداعي البعث والتحريك. فلابدّ من تقييده بالحصّة المقدورة، أي: اختصاصه بالفرد غير المزاحم، تحفّظاً على شرط إمكانيّة الانبعاث والقدرة، ولا يعقل إطلاقه للفرد المزاحم إلاّ بنحو الترتّب.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ كون الخطاب بداعي البعث إنّما فهمناه من ناحية الاستظهار العرفيّ لذلك من الخطاب، والعرف لا يستظهر من الخطاب في الواجب الموسّع أزيد من كونه بداعي حصول الانبعاث في آن من آنات عمود الزمان، ولا يشترط إمكانيّة الانبعاث في كلّ آن.

الثانية: أنّ كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) إنّما يتمّ بناءً على عدم امتناع الإطلاق بامتناع التقييد، بدعوى: أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وإلاّ فبما أنّ التقييد بالفرد المزاحم غير ممكن، فالإطلاق أيضاً غير ممكن.

وفيه: إنّ فرض امتناع الإطلاق بامتناع التقييد لأجل كون التقابل بينهما العدم والملكة، معناه: امتناع الإطلاق بمعنى عدم ذلك التقييد الممتنع، وهنا التقييد بالفرد غير المزاحَم ممكن، فالإطلاق ـ بمعنى عدم ذلك التقييد، وشموله للفرد المزاحم ـ ممكن. وهذا هو الإطلاق المنظور إليه في محلّ البحث، فتطبيق قاعدة امتناع الإطلاق بامتناع التقييد على المقام تطبيق معكوس.

132

الثالثة: أنّ كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) إنّما يتمّ بناءً على الإيمان بالواجب المعلّق، أمّا بناءً على إنكاره فلا يتمّ هذا الكلام؛ لأنّه لو فُرض تحقّق الوجوب بالنسبة للواجب الموسّع من أوّل الوقت ـ بينما هو غير قادر عليه في أوّل الوقت؛ لأجل المزاحمة بواجب مضيّق ـ كان هذا عبارة عن الوجوب التعليقيّ؛ حيث إنّ الوجوب حاليٌّ والواجب استقباليّ، وهو مستحيل بحسب الفرض.

وبصدد تحقيق هذا الكلام نذكر نموذجين للاستدلال على استحالة الواجب المعلّق:

النموذج الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ الخطاب يدلّ على البعث، وهو بحكم تضايفه مع الانبعاث يكون ملازماً له في الإمكان والتحقّق، وطبعاً ليس المقصود من كشف الخطاب عن البعث كشفه عن تحقّق البعث خارجاً؛ بداهة أنّ الخطاب يشمل العاصين أيضاً، وإنّما المقصود كشفه عن داعي البعث بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثاً، وإمكانيّة البعث تلازم إمكانيّة الانبعاث، بينما في الواجب المعلّق لا توجد إمكانيّة الانبعاث قبل زمان الواجب، إذن فتقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب مستحيل.

أقول: إنّ هذا الوجه ـ لاستحالة الواجب المعلّق ـ لو تمّ ثبتت في المقام استحالة تعلّق الوجوب بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من أوّل الأمر في عرض وجوب المضيّق، بل لابدّ من اختصاص الوجوب بالفرد غير المزاحم، وتأخّره إلى زمان انتهاء المزاحمة أو ثبوته من أوّل الأمر بنحو الترتّب.

إلاّ أنّ هذا الوجه غير تامّ؛ فإنّه وإن كان الخطاب يكشف عن البعث، ولكن هذا لا يتطلّب أزيد من إمكانيّة الانبعاث في عمود الزمان في الجملة، أي: في وقت من أوقات عُمر الخطاب، ولا يلزم فرض إمكانيّة الانبعاث طيلة المدّة في كلّ آن.

وتوضيح ذلك: أنّ الوجه في دلالة الخطاب على البعث ـ مع أنّه بطبعه الأوّليّ

133

وبلحاظ عالم اللغة لا يدلّ على أكثر من الجعل والاعتبار الذي لا يتوقّف على إمكانيّة الانبعاث ـ هو أحد أمرين:

الأمر الأوّل: ما يوجد في الخطاب من ظهور سياقيّ ـ بحسب فهم العرف ـ في مدلول تصديقيّ، وهو داعي البعث، وهذا كما ترى يتحدّد وفقاً لمقدار ما يفهمه العرف من سياق الخطاب، والعرف لا يفهم من سياق الخطاب أزيد ممّا قلناه: من أنّه بداعي إيجاد ما فيه إمكانيّة البعث بلحاظ مجموع مدّة عُمر الخطاب، لا بلحاظ كلّ آن من آنات عمره.

الأمر الثاني: ما يظهر من كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من دعوى: أنّ الخطاب ـ كأيّ فعل آخر ـ يكشف لا محالة عن داع، وهذا الداعي مردّد بين اُمور، كداعي الاستهزاء وداعي التعجيز وداعي البعث ونحو ذلك. والخطاب حينما يكون بأيّ داع من هذه الدواعي يصبح بنفسه مصداقاً لهذا الداعي، فمثلا إذا قال: (ذُق)، بداعي الاستهزاء، كان هذا استهزاءً، وإذا قال: (طِر)، بداعي التعجيز كان هذا تعجيزاً، وإذا قال: (صُم)، بداعي البعث كان هذا بعثاً. ومن الواضح أنّ الاستهزاء مباين للحكم، وأنّ التعجيز مباين للحكم، وهكذا. ولا يبقى شيء يمكن أن يكون هو الحكم ـ حتّى يصبح الخطاب مصداقاً له ـ عدا البعث. فبهذا السبر والتقسيم تثبت دلالة الخطاب على البعث.

وهذا غير الوجه الأوّل، فكأنّه(رحمه الله) يريد أن يدّعي برهاناً ثبوتيّاً على المقصود، غير ذاك الاستظهار العرفيّ، ولو تمّ ذلك لم يدلّ على أكثر من كون الخطاب بداعي البعث بلحاظ إمكانيّة الانبعاث في مجموع عمود زمان عمْر الخِطاب؛ فإنّ هذا كاف في كون الخطاب حكماً، ولا يلزم أن يكون الخطاب بداعي إيجاد ما يمكن باعثيّته في تمام تلك الآنات.

النموذج الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ من أنّ الوجوب التعليقيّ يستبطن

134

الشرط المتأخّر، فمثلا إذا وجب من أوّل الغروب الصوم من طلوع الفجر، فطلوع الفجر يكون شرطاً متأخّراً؛ إذ نقول: هل إنّ طلوع الفجر قيدٌ في الواجب أو لا؟ فإن قيل: إنّه ليس قيداً فيه، إذن لصحّ الصوم من الليل، بينما هو غير صحيح. وإن قيل: إنّه قيد في الواجب، قلنا: إنّه قد ثبت في محلّه: أنّ مثل طلوع الفجر إذا أصبح قيداً للواجب كان شرطاً في الوجوب أيضاً. وعندئذ فإن فُرض أنّ الوجوب مقارنٌ لطلوع الفجر لم يكن الوجوب تعليقيّاً، وإن فُرض تقدّمه عليه أصبح طلوع الفجر شرطاً متأخّراً.

وأمّا ما يتراءى في الشريعة كونه شرطاً متأخّراً فيدّعي المحقّق النائينيّ(رحمه الله)رجوعه إلى الشرط المقارن، بإرجاعه إلى شرطيّة التعقّب، ويكون هذا الإرجاع بحاجة إلى دليل خاصّ، وإلاّ فظاهر ما يجعل طلوع الفجر ـ مثلا ـ شرطاً كونه شرطاً بعنوانه، من دون إرجاعه إلى عنوان التعقّب.

هذا ما يرتئيه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الواجب المعلّق. ولو تمّ ذلك ـ وغضضنا النظر عن بطلان أساسه؛ لعدم استحالة الشرط المتأخّر على ما حقّقناه في محلّه ـ قلنا: إنّ هذا الكلام لا يمكن إسراؤه إلى ما نحن فيه لإثبات بطلان الأمر بالجامع في الموسّع من أوّل الوقت، في عرض الأمر بالمضيّق؛ وذلك لأنّ الشرط المتأخّر المفترض في المقام عبارة عن القدرة على المتعلّق التي تحصل بعد انتهاء المزاحمة، بينما يمكن إرجاع هذا الشرط إلى شرط تعقّب القدرة. ولا يأتي هنا القول بأنّ ذلك خلاف ظاهر الدليل؛ فإنّ اشتراط القدرة لم يكن بدليل لفظيّ، وإنّما بدليل لبّيّ كقبح تكليف العاجز مثلا، وهو لا يقتضي في المقام أكثر من اشتراط تعقّب القدرة؛ إذ مع التعقّب لا يوجد ـ مثلا ـ قبح في التكليف بالجامع.

الرابعة: أنّ كلام المحقّق الثاني(رحمه الله) إنّما يتمّ إذا قلنا إنّ التخيير العقليّ ووجوب الجامع لا يرجع إلى التخيير الشرعيّ ووجوبين مشروطين، بل لعلّ التخيير

135

الشرعيّ يرجع إلى التخيير العقليّ. أمّا إذا فُرض رجوعه إلى وجوبين مشروطين، فعند فرض ترك الفرد غير المزاحم يصبح شرط وجوب الفرد المزاحم فعليّاً، فيكون هناك أمر تعيينيّ بالفرد المزاحم، وهذا غير صحيح.

وبما أنّ المختار أنّ التخيير العقليّ لا يرجع إلى التخيير الشرعيّ، بل التخيير الشرعيّ يرجع إلى التخيير العقليّ، إذن فكلام المحقّق الثاني(رحمه الله) متين لا إشكال فيه. ففي تزاحم الواجب الموسّع مع واجب مضيّق يبقى وجوب الموسّع على حاله في عرض وجوب المضيّق.

هذا تمام الكلام في الترتّب. وقد عرفت أنّ ثمرة بحث الترتّب هي: أنّه لو صحّ الترتّب ـ وقد عرفت صحّته ـ فقد يكون باب التزاحم باباً مستقلاًّ عن التعارض، وإلاّ فلا. وبهذه المناسبة لا بأس بالدخول في بحث التزاحم فنقول:

 

136

 

التزاحم

وأمّا الكلام في التزاحم فيقع في مرحلتين:

الاُولى: في أنّ باب التزاحم هل هو باب مستقلّ عن باب التعارض، أو أنّه داخل في باب التعارض؟ وسوف نثبت أنّه باب مستقلّ عن التعارض.

الثانية: أنّه بعد أن ثبت أنّ باب التزاحم يمتاز عن باب التعارض فما هي أحكامه؟

 

1 ـ امتياز باب التزاحم عن التعارض وعدمه

أمّا المرحلة الاُولى: وهي امتياز باب التزاحم عن التعارض وعدمه، فنمهّد لتوضيح الكلام فيها بشرح مصطلح التعارض والتزاحم فنقول:

أمّا التعارض: فيقصد به التنافي بين الحكمين بمعنى التنافي بينهما في مرحلة الجعل لا الفعليّة؛ إذ التنافي في مرحلة الفعليّة فقط لا يولّد تصادماً بين الدليلين؛ فإنّ الدليل الشرعيّ إنّما يتكفّل مرحلة الجعل بمعنى القضيّة الشرطيّة، دون مرحلة الفعليّة التي هي ـ مثلا ـ بمعنى تنجيز القضيّة، أي: الجزاء بتحقّق شرطها خارجاً، فقوله مثلا: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع﴾ يدلّ على الجعل، ويصبح هذا الجعل فعليّاً ـ بمعنى من المعاني ـ حيث توجد الاستطاعة.

فمتى ما كانت القضيّتان الشرطيّتان لا يمكن اجتماعهما وصحّتهما معاً على ما هما عليه من الشرطيّة والتعليق، فهذا هو التعارض بين الدليلين. ومتى ما أمكن اجتماعهما وصحّتهما على ما هما عليه من الشرطيّة والتعليق، فلا تعارض بينهما ولو فرض التنافي بينهما في مرحلة الفعليّة، إمّا بمعنى عدم اجتماع فعليّة إحداهما مع فعليّة الاُخرى، أو بمعنى كون امتثال إحداهما الفعليّة رافعاً لموضوع فعليّة

137

الاُخرى. فمثلا لو ورد: (إذا نزل المطر وجب القيام)، وورد أيضاً: (إذا نزل المطر حرم القيام)، فهما متعارضان؛ للتنافي بين الجعلين بما هما قضيّتان شرطيّتان. أمّا لو ورد: (إذا نزل المطر وجب القيام)، وورد أيضاً: (إذا لم ينزل المطر حرم القيام)، فهما ليسا متعارضين؛ لعدم تناف بين جعليهما وإن كانا متنافيين في الفعليّة.

وأمّا التزاحم: فيقصد به كون الحكمين الإلزاميّين بنحو يكون التنافي بينهما من ناحية أنّ امتثال أحدهما إنّما يمكن مستقلاًّ عن الآخر، وامتثاله منضمّاً إلى امتثال الآخر غير ممكن، فأساس التنافي إنّما يكون في مرحلة الامتثال.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ البحث عن كون باب التزاحم متمايزاً عن باب التعارض، أو داخلا في التعارض مرجعه ـ على ضوء ما بيّنّاه ـ إلى أنّه هل التنافي في مرحلة الامتثال في باب التزاحم يستلزم التنافي بين الجعلين، فيقع التعارض بين الدليلين، أو لا يستلزم ذلك، فلا يقع التعارض بينهما؟

ومن الواضح أنّه بناءً على استحالة الترتّب لابدّ من التعارض بينهما؛ إذ حتّى لو فُرض اشتراط أحدهما بترك الآخر يكون الجعلان متنافيين لا يمكن أن يجتمعا، ومشروطيّة أحدهما بترك الآخر لا تشفع لرفع سريان المنافاة إلى الجعلين؛ فإنّ هذا هو معنى استحالة الترتّب، فعدم إمكان الجمع بينهما في الامتثال يستلزم عدم إمكان الجمع في الجعل.

أمّا بناءً على إمكان الترتّب فينفتح مجال البحث عن أنّه هل يوجد ـ مع ذلك ـ تناف بين الجعلين أو لا؟ وبكلمة اُخرى: إنّ عدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال، هل يستلزم تنافي الجعلين أو لا؟ وذلك بأن نرى أنّ دليلي: (صلّ) و(أزل) هل يستفاد منهما ـ مع ضمّ الشرائط العامّة للتكليف كالقدرة ـ ما هو أوسع ممّا فرغنا عن إمكانه من حكمين مترتّبين، حتّى يُفرض التعارض بلحاظ تلك الأوسعيّة، أو لا يستفاد منهما ما هو أوسع من ذلك، وبالتالي فلا تعارض بينهما؛

138

لفراغنا عن إمكان الترتّب، فلا يبقى تناف بين الحكمين؟

والصحيح هو: عدم وجود تناف بينهما، فلا يرجع التزاحم إلى التعارض، ونبيّن ذلك أوّلا بتقريب بدائيّ، ثمّ نورد عليه إشكالا، ثمّ نعمّق التقريب بالصعود إلى تقريب آخر، إلى أن يثبت المقصود بالبيان المعمّق. فنقول:

التقريب الأوّل: ما ذكرته مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ كلّ إلزام شرعيّ مشروط لا محالة بالقدرة، ومن الواضح أنّ القدرة على أحد الفعلين تنتفي بالفعل الآخر؛ إذ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما، ففي أيّ منهما يصرف قدرته يصبح عاجزاً عن الآخر، وبذلك ينتفي شرط الآخر، فيكون امتثال كلّ منهما نافياً لموضوع الآخر. فكأنّ اشتراط التكليف بالقدرة يرجع ـ بحسب التطبيق ـ إلى الاشتراط بعدم الإتيان بالآخر، فلم يصبح مفاد الدليلين أوسع من الحكمين المترتّبين، وقد فرضنا إمكان الترتّب، فلا يبقى بينهما تناف.

ولو اقتصرنا على هذا المقدار من التقريب لأمكن الإيراد على ذلك: بأنّ القدرة التي هي شرط عقليّ في الإلزام إنّما هي القدرة حدوثاً، لا القدرة حدوثاً وبقاءً في مقابل التعجيز الاختياريّ، وإلاّ لأمكن الفرار من الواجب بالانشغال بضدّه، ولو لم يكن ضدّه واجباً أصلا. والقدرة الابتدائيّة موجودة في الأمرين، فلا ينتفي موضوع أحدهما بامتثال الآخر. إذن، فالمستفاد من دليل الحكمين يكون أوسع من الحكمين المترتّبين ويقع التعارض بينهما.

التقريب الثاني: أنّنا سلّمنا أنّ التكليف غير مشروط عقلا بأزيد من القدرة حدوثاً، لكنّ القدرة حدوثاً لم تكن إلاّ على الجامع، ولا تتعيّن في أحدهما إلاّ بترك الآخر، فرجع الأمر ـ مرّة اُخرى بحسب التطبيق ـ إلى اشتراط التكليف بترك الآخر، فلم يصبح مفاد الدليلين أوسع من الخطابين المترتّبين، فلا تنافي بين الجعلين.

139

ولو اقتصرنا على هذا المقدار من التقريب لأمكن الإيراد عليه: بأنّ الدليل اللبّيّ الدالّ على اشتراط القدرة ـ وهو قبح تكليف العاجز مثلا ـ لم يدلّ على اشتراط أكثر من القدرة على الجامع، بمعنى القدرة على الواجب ولو بدلا عن أضداده، ولا تشترط القدرة عليه تعييناً. ولذا يكفي في صحّة إيجاب ما له أضداد غير واجبة، أن يكون المكلّف قادراً على ذلك الواجب بدلا عن باقي الأضداد، لا تعييناً، والقدرة على الجامع بهذا المعنى موجودة حدوثاً بالقياس إلى كلّ واحد منهما، فلا يرجع الأمر إلى اشتراط الحكم بترك الآخر، فيكون مفاد الدليلين أوسع من الحكمين المترتّبين، فعاد التنافي بين الجعلين.

التقريب الثالث: أنّ المخصّص اللبّيّ العامّ كما قيّد الأحكام بالقدرة التكوينيّة في مقابل العجز التكوينيّ، كذلك قيّدها بشيء آخر، ولنسمّه بالقدرة الشرعيّة. ففي التقريبين السابقين كنّا ننظر إلى القدرة التكوينيّة، فتارة قلنا: إنّ القدرة التكوينيّة على أحدهما تزول بالانشغال بالآخر. واُخرى قلنا: إنّها لم تتعلّق حدوثاً بأزيد من الجامع. وقد عرفت أنّ كلا التقريبين لا ينتج المقصود، والآن نقول:

إنّ هنا تخصيصاً لبّيّاً آخر على عموم الأحكام، وهو التخصيص بما نسمّيه بالقدرة الشرعيّة، ونقصد بها هنا: عدم انشغال المكلّف بالضدّ الأهمّ أو المساوي. وبتعبير جامع: عدم انشغاله بضدٍّ لا يقل أهمّيّة عن هذا الواجب.

والبرهان على هذا التقييد هو: أنّه لو فُرض أنّ المولى كان يهدف من إيجاب هذا الواجب على عبده ـ بالرغم من فرض انشغاله بما لا يقلّ أهمّيّة عنه ـ أن يأتي العبد بهذا الواجب منضمّاً إلى ذلك الفعل الآخر، فهذا غير مقدور للعبد. وإن كان يهدف أن ينصرف العبد من ذلك الفعل الآخر إلى هذا الواجب، فهذا خلف كون ذاك الفعل الآخر لا يقلّ أهمّيّة عن هذا الواجب.

فإذا ثبت بهذا البيان أنّ كلّ واحد من التكليفين مقيّد في نفسه بفرض عدم

140

الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، إذن فلا تعارض بينهما؛ لأنّهما لو كانا متساويين فمآل ذلك إلى تقييد كلّ منهما بفرض ترك الآخر؛ إذ الآخر لا يقلّ أهمّيّة عنه. وهذا هو الترتّب من الطرفين، وقد فرغنا عن إمكانه. ولو كان أحدهما أهمّ فمآل ذلك إلى تقييد المهمّ بفرض ترك الأهمّ، دون العكس؛ لأنّ المهمّ بالقياس إلى الأهمّ ليس مصداقاً لما لا يقلّ أهمّيّة عنه، بخلاف الأهمّ بالقياس إلى المهمّ. وهذا هو الترتّب من طرف واحد، وقد فرغنا عن إمكانه.

إلاّ أنّ هذا البيان قد تورد عليه شبهة، وهي: أنّ كلّ واحد من الحكمين إنّما عرفنا تقيّده بعنوان عدم الانشغال بما لا يقل أهمّيّة عن متعلّقه، ولم نعرف تقيّده بعنوان ترك الآخر. إذن، فنتمسّك بإطلاقه لصورة فعل الآخر، وبذلك نثبت أنّ فعل الآخر أقلّ أهمّيّة من متعلّقه. وهذا الإطلاق موجود في كلا الطرفين، فكلّ منهما يدلّ على أنّ الآخر أقلّ أهمّيّة منه، فهذان الإطلاقان يتعارضان.

وقد يجاب عن هذه الشبهة: بأنّ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص؛ فإنّ الآخر لو كان في الواقع مصداقاً لِما لا يقلّ أهمّيّة عن هذا، لكان فرض الانشغال به خارجاً عن إطلاق الحكم حتماً، ونحن نحتمل كونه كذلك، ولا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وقد يورد على هذا الجواب: بمنع عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص في مثل هذا المورد، وذلك بناءً على جملة من المباني في باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص:

الأوّل: مبنى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إذا كان المخصّص لبّيّاً؛ حيث إنّ المخصّص في المقام لبّيّ.

الثاني: مبنى التفصيل في المخصّص اللُبّيّ: بين ما لو عرفنا خروج مصداق بالفعل بذلك المخصّص عن تحت الإطلاق، وحينئذ فقد انثلم الإطلاق، فإذا

141

شككنا في فرد آخر أنّه هل هو داخل في الثالم أو في المنثلم، لم يمكن التمسّكبالإطلاق. وما لو لم نعرف ذلك أصلا، فاحتملنا عدم انثلام الإطلاق بوجه، فحينئذ يجوز التمسّك بالعامّ، ويكون إطلاق العامّ قرينةً على أنّ المولى هو فَحَص وأحرز عدم تحقّق عنوان المخصّص في مورد من الموارد أصلا، فلو قال مثلا: (لعن الله بني اُميّة قاطبة)، وعرفنا ـ بالمخصّص اللبّيّ ـ خروج المؤمن من ذلك، فإن علمنا بإيمان فرد من بني اُميّة، وشككنا في إيمان فرد آخر ـ كمعاوية بن يزيد مثلا ـ لم يمكن التمسّك بالعامّ لإثبات لعنه، وإلاّ جاز التمسّك به. وفيما نحن فيه لم نعرف خروج مصداق من إطلاق دليل الوجوب؛ إذ لعلّ كلّ أضداد هذا الواجب يقلّ أهمّيّة عن هذا الواجب.

الثالث: ما هو المختار لنا من التفصيل: بين ما لو كانت نسبة المولى بما هو مولى ـ بغضّ النظر عن علم الغيب ـ كنسبة العبد إلى الإطّلاع على صدق عنوان المخصّص على الفرد المشكوك وعدمه، فلا يجوز التمسك بالعامّ. وما لو لم تكن كذلك، بل كان المولى بما هو مولى أخبر بحال هذا الفرد ـ من ناحية صدق عنوان المخصّص وعدمه عليه ـ من العبد، وحينئذ فيجوز التمسّك بالعامّ. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ المولى أخبر منّا بحال متعلّقات أحكامه، وأنّ الواجب الفلاني هل يقلّ أهمّيّة عن الواجب الفلاني أو لا؟

والجواب: أنّ جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ـ بأحد الوجوه المتقدّمة ـ إنّما يكون في المخصّص المنفصل حيث تمّ ظهور المطلق في الإطلاق وانعقد، وليس شغل المخصّص إلاّ ثلم الحجّيّة، فيقال بعدم ثلمه للحجّيّة في الشبهة المصداقيّة في بعض الأحيان، بأحد التفاصيل المتقدّمة.

أمّا في المخصّص المتّصل ـ الذي لا يدع مجالا لأصل تكوّن الظهور ـ

142

فلا يجوز فيه بوجه من الوجوه التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة، فما ظنّكبالمصداقيّة؟ والمخصّص فيما نحن فيه متّصل؛ فإنّه لا فرق بين كون المخصّص لفظيّاً متّصلا، وكونه لبّيّاً كالمتّصل، بأن يكون مرتكزاً في ذهن العرف واضحاً، فيمنع عن انعقاد الظهور.

وما ذكرناه من عدم معقوليّة الأمر بالإتيان بشيء منضمّاً إلى ضدّه، ولا صَرفاً عن ضدّه الذي لا يقلّ أهمّيّة عنه، أمرٌ واضح مرتكز في الأذهان لا يُبقي مجالا لإطلاق الأمر لفرض الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عنه(1).

 


(1) لا يخفى: أنّ مجرّد بداهة قيد عدم الانشغال بضدٍّ لا يقلّ أهمّيّة عن الواجب، غير كاف لمنع التمسّك بشمول الأمر بالصلاة لفرض الانشغال بالإزالة؛ لأنّه تكفي في صحّة إرادة هذا الإطلاق عدم كون الإزالة أهمّ أو مساوياً، فمقتضى الإطلاق عدم كون الإزالة كذلك. نعم، لو كان التقييد لفظيّاً بأن قال المولى مثلا: (صلّ إن لم تنشغل بما لا يقلّ أهمّيّة عن الصلاة)، كان ظاهر ذلك أنّ المولى قد أحال على نفس العبد الكشف عن تحقّق هذا القيد وعدمه، وبهذه النكتة تبطل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. وهذا الظهور غير موجود في المخصّص اللبّيّ وإن كان بديهيّاً.

وقد يقال: إنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إن كان صحيحاً، فالتمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة ليس صحيحاً قطعاً. والفرق: أنّ العموم يتوجّه إلى الأفراد ابتداءً، وتخصيص عنوان كالأعداء في مثل: (أكرم جيراني) مثلا، لا يخرج الفرد إلاّ عند كونه عدوّاً، فمادمنا شككنا في عدائه شككنا في خروجه بالتخصيص، فنتمسّك بالعموم الأفراديّ، فيصحّ إثبات وجوب إكرام الجار الفلاني ما لم نعلم كونه عدوّاً، فإنّ قوله: (أكرم جيراني) وإن لم يكن عامّاً بمعنى دخول أداة العموم فيه، ولكنّه عامّ بمعنى ثبوت الحكم فيه ابتداءً على الأفراد، بقرينة: أنّ الجيران صيغة الجمع، وصيغة الجمع تلحظ الأفراد.

143

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ باب التزاحم يمتاز عن باب التعارض. وعليه فيجب الانتقال إلى المرحلة الثانية فنقول:

 


وأمّا في مثل الأمر بالإزالة فشموله لحالات الانشغال بالصلاة وعدمه وغير ذلك يكون بالإطلاق، ولا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ عنوان فرض الانشغال بالأهمّ أو المساوي قد خرج يقيناً، والحكم لم يكن مسلّطاً على المصاديق ابتداءً كي نتمسّك بإطلاقه للمصداق المشكوك.

والجواب: أنّنا نتمسّك عندئذ بإطلاقه لعنوان فرض الانشغال بالصلاة، أي نقول: إنّ مقتضى الإطلاق هو أن يكون المقصود الأمر بالإزالة، سواء انشغلت بالصلاة أو لا، وبه يثبت عدم كون الانشغال بالصلاة انشغالا بالأهمّ أو المساوي؛ وذلك لأنّ إخراج كلّ عنوان بالتقييد عن المطلق، يُخرج لا محالة كلّ عنوان أضيق من ذلك العنوان، حينما يكون بعنوانه داخلا في ذلك العنوان، كعنوان العالم وعنوان الفقيه.

فإذا خرج من المطلق عنوان، وشككنا في عنوان آخر هل هو من سنخ العنوان الأوّل ـ وإن كان أضيق ـ أو لا، كما شككنا هنا أنّ عنوان الانشغال بالصلاة هل يصدق عليه عنوان الانشغال بالأهمّ أو المساوي، أمكن إثبات دخوله في المطلق بمجرّد إطلاقه العنوانيّ برغم عدم عمومه الأفراديّ، وبالتالي ننفي عنه صدق ذاك العنوان الأوسع عليه.

فالمهمّ في حلّ الإشكال في المقام هو العلم الإجماليّ بكون أحد الواجبين لا يقلّ أهمّيّة عن الآخر؛ إذ لا يعقل أن يكون كلّ واحد منهما يقلّ أهمّيّة عن الآخر، وهذا يوجب عدم انعقاد الإطلاقين، بسبب أنّ وجود هذا العلم الإجماليّ أيضاً بديهيّ لكلّ أحد، فوضوحه زائداً وضوح أصل القيد يُفني الظهور في الشمول والإطلاق.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن يقال: من أنّ دليل كلّ واجب إنّما يكون عرفاً بصدد بيان وجوبه في ذاته، لا بصدد بيان نسبته من حيث الأهمّيّة وعدمها بالقياس إلى ما قد يزاحمه من واجب آخر.

144

 

2 ـ أحكام التزاحم

وأمّا المرحلة الثانية: وهي معرفة أحكام باب التزاحم بعد اتّضاح عدم رجوعه إلى التعارض، فيجب أن نرى ما هي مرجّحات باب التزاحم، وأنّه على تقدير عدم المرجّح ما هي الوظيفة في المقام؟

 

مرجّحات باب التزاحم:

أمّا مرجّحات باب التزاحم: فمن الطبيعي الحاجة إلى استيناف بحث عن المرجّحات في باب التزاحم، وعدم الاستغناء بمرجّحات باب التعارض، بعد أن أصبح باباً مستقلاًّ، ومن الواضح أنّه بعد عدم رجوعه إلى التعارض، لا معنى لمثل الترجيح بأقوائيّة الظهور أو أقوائيّة السند مثلا.

والميزان العامّ للترجيح في باب التزاحم هو: ورود أحد الحكمين على الآخر بنفسه أو بامتثاله، دون العكس. ويتّضح موارد هذا الورود بالتدقيق في النكتة التي تنفي التعارض بينهما، فتلك النكتة ـ بالتعمّق فيها ـ هي التي قد توجب تقديم أحدهما على الآخر. فمثلا حينما تكون نكتة عدم التعارض ما مضى من أنّ أحدهما بامتثاله يرفع موضوع الآخر؛ لأنّه لا يقل أهمّيّة عنه، فقد تكون هذه النكتة تنطبق على أحدهما دون الآخر، فيصبح أحدهما وارداً على الآخر بالامتثال دون العكس، فيكون ذاك الوارد هو الأرجح. وتفصيل الكلام في ذلك يكون بشرح الكلام في المرجّحات واحداً بعد آخر فنقول:

 

1 ـ تقديم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة:

المرجّح الأوّل: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه إذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة والآخر مشروطاً بالقدرة العقليّة، قُدّم المشروط بالقدرة

145

العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة. ويقصد(رحمه الله) بالقدرة الشرعيّة القدرة الدخيلة في الملاك، فيرجع الكلام إلى أنّه لو كان عندنا واجبان متزاحمان، وكانت القدرة في أحدهما دخيلة في الخطاب والملاك، ولكن في الآخر لم تكن دخيلة إلاّ في الخطاب دون الملاك، فالثاني مقدّم على الأوّل.

وتحقيق الكلام في ذلك يرتبط بما يقصد من معنى لكلمة القدرة الدخيلة في الملاك:

فإن قُصد بالقدرة: القدرة التكوينيّة في مقابل العجز التكوينيّ ـ وهي القدرة بالمعنى الذي تكلّمنا عنها في التقريب الأوّل والثاني من تقريبات عدم التعارض بين دليلي الحكمين المتزاحمين ـ رجع حاصل هذا الترجيح إلى القول بأنّ ما لا تكون القدرة التكوينيّة دخيلة في ملاكه يقدّم على ما تكون القدرة التكوينيّة دخيلة في ملاكه.

وهذا الكلام غير صحيح؛ وذلك لما عرفت في ردّ التقريبين الأوّلين من أنّ القدرة التكوينيّة ثابتة بلحاظ كلا الحكمين، فالحكم الذي كان ملاكه مشروطاً بالقدرة قد تحقّق شرطه، فلا يبقى فرق بين الحكمين حتّى يكون أحدهما وارداً على الآخر دون العكس؛ فإنّ المولى على أيّ حال سوف يخسر أحد الملاكين، سواء اشتغل المكلّف بهذا أو بذاك.

وإن قُصد بالقدرة: ما يشمل عدم الانشغال بالواجب المزاحم، قُدّم الحكم الذي لا تكون القدرة بهذا المعنى دخيلة في ملاكه على الحكم الذي تكون القدرة بهذا المعنى دخيلة في ملاكه، وهذا كلام صحيح.

وتوضيح ذلك: أنّه بالدقّة يجب أن نُدخل تعديلا على ما ذكرناه من شرط الحكم، وهو عدم الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، وذلك بأن يقال: إنّ شرط الحكم هو عدم الانشغال بما لا يقلّ أهمّيّة عنه، ممّا لا يكون بنحو يرتفع ملاكه بمزاحمه

146

دون العكس. أمّا إذا كان الانشغال بأحدهما رافعاً لملاك الآخر دون العكس، فلا محالة يقدّم الأوّل على الثاني؛ إذ لو انشغل العبد بالأوّل لم يخسر المولى شيئاً من الملاكين: أمّا ملاك الأوّل فلأنّه قد حصل بالامتثال، وأمّا ملاك الثاني فلأنّه قد ارتفع موضوعه. ولكن لو انشغل بالثاني خسر المولى ملاك الأوّل، وعليه فيصبح الحكم الثاني مشروطاً بعدم امتثال الحكم الأوّل، ولا يكون الحكم الأوّل مشروطاً بعدم امتثال الثاني، بل يكون مطلقاً من هذه الناحية، فيكون الحكم الأوّل وارداً على الحكم الثاني بالامتثال.

ولا يرد هنا ما مضى من أنّ المولى لماذا يأمر العبد بالأوّل بالرغم من انشغاله بالثاني؟ هل لكي يأتي به العبد منضمّاً إلى الثاني، أو لكي يصرفه عن الثاني إلى الأوّل؟ أمّا الأوّل فهو غير مقدور للعبد، وأمّا الثاني فهو بلا موجب مع فرض المساواة في الملاك؛ فإنّه إن قيل كذلك اخترنا في مقام الجواب: الفرض الثاني، وهو أنّه يأمره بالأوّل لكي يصرفه عن الثاني إلى الأوّل؛ لما عرفت من أنّ العبد لو انشغل بالأوّل لم يخسر المولى شيئاً من الملاكين، ولو انشغل بالثاني خسر الأوّل.

وإن قُصد بالقدرة ـ زائداً على ما مضى ـ: عدم توجّه تكليف آخر إليه، بما يضادّ متعلّق هذا التكليف رجع حاصل الترجيح إلى أنّ الحكم الذي لا يكون عدم التكليف بما يضادّ متعلّقه دخيلا في ملاكه، مقدّم على الحكم الآخر الذي يكون عدم التكليف بالضدّ دخيلا في ملاكه.

وهذا الكلام صحيح؛ لأنّ التكليف الأوّل يكون وارداً على التكليف الثاني بنفسه. وهذا الأمر تامّ حتّى لو قيل باستحالة الترتّب؛ فإنّ تعليق أحد الحكمين على عدم توجّه الحكم الآخر إليه يرفع التنافي بينهما لا محالة، حتّى عند القائلين باستحالة الترتّب.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ ترجيح الحكم المشروط بالقدرة العقليّة على

147

المشروط بالقدرة الشرعيّة صحيح بأحد معنيين:

1 ـ أن تكون القدرة بالمعنى الشامل لعدم الانشغال بما يضادّ طلب المولى نفسه دخيلة في ملاكه.

2 ـ أن تكون عدم توجّه التكليف الآخر دخيلا في ملاكه.

بقيت هنا أربعة أبحاث:

البحث الأوّل: أنّ القدر المتيقّن من مورد تطبيق هذا المرجّح ـ بناءً على صحّة الترجيح به ـ هو ما لو ثبت في أحد الواجبين أنّ قدرته عقليّة، وفي الآخر أنّ قدرته شرعيّة، فيرجّح الأوّل على الثاني. أمّا لو لم نعرف في كلّ منهما أنّ قدرته عقليّة أو شرعيّة، فمن الواضح عدم إمكان تطبيق هذا المرجّح عليهما.

تبقى صورتان اُخريان ينبغي الكلام عن أنّهما هل تُلحقان بالصورة الاُولى في تطبيق هذا المرجّح عليهما، أو بالصورة الثانية في عدم تطبيق ذلك:

إحداهما:ما لو ثبت في أحد الواجبين أنّ القدرة فيه شرعيّة، ولم نعرف أنّ القدرة في الآخر عقليّة أو شرعيّة، فقد يقال: إنّ هذا ملحق بالصورة الاُولى؛ لأنّه لو قدّم الثاني على الأوّل جزم بأنّه لم يخسّر المولى شيئاً؛ لأنّه قد حصّل الملاك الثاني وأعدم موضوع ملاك الأوّل حتماً، بينما لو عكس احتمل خسارة المولى لملاك الثاني.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ هذه الصورة الثالثة تُلحق بالصورة الثانية دون الاُولى؛ لأنّ الشكّ في الحقيقة في سعة دائرة ملاك الثاني وضيقه(1)؛ إذ لا ندري أنّه في صورة العجز يكون الملاك ثابتاً أو لا، وهذا ـ كالشكّ في سعة دائرة الخطاب وضيقه ـ موردٌ للاُصول المؤمّنة، فاحتمال تخسير المولى للملاك لا يضرّ في المقام؛ لأنّ هذا الملاك داخل تحت الاُصول المؤمّنة.


(1) زائداً الشكّ في سعة دائرة خطابه وضيقه.

148

والاُخرى: عكس الصورة الثالثة، أي: ما لو ثبت في أحد الواجبين أنّ القدرة عقليّة، ولم نعرف أنّ القدرة في الآخر عقليّة أو شرعيّة، فلو قدّم الأوّل على الثاني كانت خسارة المولى احتماليّة، بينما لو عكس كانت خسارة المولى قطعيّة.

والصحيح: أنّ هذه الصورة تُلحق بالصورة الاُولى؛ وذلك لأنّ سعة دائرة ملاك الأوّل ودخوله في العهدة معلوم، والاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ، فلو أتى بالأوّل قطع بالفراغ من ملاكه واحتمل فوت ملاك الثاني، لكنّه تحت التأمين؛ لعدم الجزم بسعة ملاك الثاني وثبوته عند الاشتغال بالأوّل.

أمّا لو أتى بالثاني لم يحصل له الجزم بخروجه عن عهدة ملاك الأوّل؛ إذ الخروج عن عهدة ملاك الأوّل يكون بأحد أمرين: إمّا بالإتيان به لكي لا يخسر المولى ذاك الملاك، وهذا ما لم يفعله. وإمّا بالإتيان بما يجبر هذه الخسارة، أي: بملاك آخر يساويه مثلا، ممّا كان يخسره المولى لو أتى بالأوّل، وهذا غير معلوم؛ إذ لعلّ ملاك الآخر مشروط بالقدرة، فلو كان يأتي بالأوّل لم يكن يخسر المولى، حتّى يكون الإتيان بالثاني جبراناً لكسر خاطر المولى بتفويت ملاك الأوّل عليه. إذن، فقاعدة الاشتغال محكّمة في المقام(1).

فتحصّل أنّ الترجيح بهذا المرجّح منطبق بلا إشكال على الصورة الاُولى، وغير منطبق بلا إشكال على الصورة الثانية، والصحيح: عدم انطباقه على الصورة الثالثة، والصحيح: انطباقه على الصورة الرابعة.

البحث الثاني: أنّه قد يكون كلا التكليفين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، ومع ذلك


(1) سنخ تحكيمها في موارد الشكّ في القدرة على الامتثال؛ لعلمه بالملاك المبرز وشكّه في القدرة على عدم تخسير المولى.

149

يتقدّم أحدهما على الآخر حينما يكون الشرطان مختلفين. ونذكر بهذا الصدد صورتين:

الصورة الاُولى: ما لو كان أحد الحكمين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثاني ـ أي: أنّ ملاكه كان مقيّداً بعدم انشغاله بالمزاحم ـ والحكم الآخر كان مشروطاً بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث ـ أي: أنّ ملاكه تقيّد بعدم توجّه الحكم المزاحم إليه ـ فالأوّل يقدّم على الثاني.

والبرهان على ذلك: أنّ الحكم الثاني لا يمكن أن يكون فعليّاً؛ إذ هل تُفرض فعليّته حتّى مع فرض فعليّة الأوّل، أو تُفرض فعليّته على تقدير عدم فعليّة الأوّل؟

فإن فرض الأوّل ـ وهو فعليّته حتّى لو فُرضت فعليّة الأوّل ـ فهذا خلف؛ لأنّ المفروض أنّ الخطاب الثاني مشروط بعدم توجّه الخطاب الآخر إليه.

وإن فُرض الثاني ـ وهو تقيّده بما لو لم يكن الخطاب الآخر فعليّاً في حقّه ـ ففرض عدم فعليّة الآخر في حقّه هو فرض انشغاله بالثاني؛ لأنّ المفروض أنّه مقيّد بعدم انشغاله به، إذن فتقيّد هذا الخطاب بعدم فعليّة ذاك الخطاب يساوق تقيّده بالإتيان بمتعلّق نفسه، والتكليف بشيء على تقدير الإتيان به غير معقول.

الصورة الثانية: ما لو كان كلّ واحد من الحكمين مقيّداً بعدم الحكم الآخر، إلاّ أنّ أحدهما كان مقيّداً بعدم الوجود اللولائيّ للآخر، أي: أنّه لو كان للآخر وجود لولا هذا فهذا غير موجود، والآخر كان مقيّداً بعدم الوجود الفعليّ للأوّل، فالثاني يقدّم على الأوّل؛ إذ هو مشروط بعدم الوجود الفعليّ للأوّل، وهذا الشرط حاصل؛ إذ الأوّل ليس له وجود فعليّ؛ لأنّ وجوده الفعليّ مشروط بعدم الوجود اللولائيّ للآخر، وهذا الشرط غير متحقّق؛ بداهة أنّه لولاه لكان الحكم الآخر فعليّاً بلا إشكال. إذن، فشرط الثاني حاصل، وشرط الأوّل غير حاصل، فيقدّم عليه لا محالة.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ المشروط بالقدرة العقليّة مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة بأحد المعنيين الأخيرين. وأنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى

150

الثاني مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث. وأنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث ـ إذا كان مشروطاً بعدم الوجود الفعليّ ـ مقدّم على المشروط بعدم الوجود اللولائيّ.

وكلّ واحد من هذه الأساليب الثلاثة قد يطبّق على مثال تزاحم الحجّ والنذر في مقام تقديم الحجّ على النذر:

فقد يقال: إنّ الحجّ مقدّم على النذر؛ لأنّ الحجّ مشروط بالقدرة العقليّة، لكنّ النذر مشروط بالقدرة الشرعيّة استظهاراً من مثل قوله: «شرط الله قبل شرطكم»، وإن كان قد يعكس الأمر، فيقدّم النذر بدعوى: كون قدرته عقليّة، والقدرة في الحجّ شرعيّة استظهاراً من مثل قوله: ﴿لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع ...﴾.

وقد يقال: إنّ الحجّ مقدّم على النذر وإن فُرضت قدرته شرعيّة، بقرينة قوله: ﴿مَنِ اسْتَطَاع﴾؛ وذلك لأنّ القدرة المشروطة في النذر هي القدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث، وذلك بأن يستظهر من قوله: «شرط الله قبل شرطكم» أنّ مجرّد وجود شرط الله يمنع عن وجود شرطنا، بينما لا يستظهر من دليل الحجّ أزيد من اشتراط القدرة بالمعنى الثاني.

وقد يقال: إنّ الحجّ مقدّم على النذر، وإن فُرض أنّنا استظهرنا من قوله:﴿مَنِ اسْتَطَاع﴾ الاستطاعة بمعنى يشمل عدم المزاحم، فكانت قدرته شرعيّة بالمعنى الثالث؛ وذلك لأنّ النذر أيضاً مشروط بالقدرة الشرعيّة بالمعنى الثالث، ويكون مشروطاً بعدم الوجود اللولائيّ للمزاحم، استظهاراً من قوله: «شرط الله قبل شرطكم» بأن يقال: إنّ هذا يعطي معنى: أنّه متى ما ثبت شرط الله ـ ولو بغضّ النظر عن شرطكم ـ كفى ذلك في عدم تحقّق شرطكم؛ لأنّه شرط واقع قبل شرطكم. بينما في الحجّ غاية ما يمكن أن يقال هي: أنّه يكون مشروطاً بعدم الوجود الفعليّ للمزاحم. وسيأتي تفصيل الكلام في هذا الفرع إن شاء الله.

151

البحث الثالث: أنّه كيف يُستظهر ـ بحسب مقام الإثبات ـ كون القدرة عقليّة أو شرعيّة؟ وهل هناك ضابط لذلك أو لا؟

قد يقال: إنّه متى ما لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، فالأصل فيها أن تكون عقليّة وغير دخيلة في الملاك ما لم تقم قرينة خاصّة على الخلاف. ومتى ما اُخذت القدرة في لسان الدليل فالأصل فيها أن تكون شرعيّة ودخيلة في الملاك ما لم تقم قرينة خاصّة على الخلاف.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ ينحلّ إلى دعويين:

الدعوى الاُولى: أنّه متى ما لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، فالأصل فيها أن تكون عقليّة وغير دخيلة في الملاك. ويمكن الاستدلال على ذلك بأحد وجهين:

1 ـ التمسّك بالدلالة الالتزاميّة للخطاب على الملاك في حال العجز، بالرغم من سقوط الدلالة المطابقيّة على الحكم عن الحجّيّة ـ في ذلك الحال ـ بالمخصّص اللبّيّ، بدعوى: أنّ سقوط الدلالة المطابقيّة لا يضرّ بحجّيّة الدلالة الالتزاميّة.

2 ـ التمسّك بإطلاق المادّة، بدعوى: أنّه حمل عليها محمولان: محمول بارز، وهو الحكم، ومحمول مستتر، وهو الملاك، والأوّل قد قُيّد بالقدرة بدليل لبّيّ، ولكنّنا بالقياس إلى الثاني نتمسّك بالإطلاق.

وكلا هذين الوجهين قد مضى فيما تقدّم من بعض أبحاث الضدّ مع النقاش فيهما، فقد عرفت هناك عدم تماميّتهما. إذن، فعدم أخذ القدرة في لسان الدليل لا يدلّ على كون القدرة عقليّة، ويبقى احتمال كونها شرعيّة ودخيلة في الملاك قائماً. نعم، لا يثبت أيضاً كونها شرعيّة ودخيلة في الملاك، لكن يكفي الشكّ وعدم ثبوت الملاك عند العجز بلا حاجة إلى التأكّد من عدمه.

نعم، بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ دامت بركاته من عدم دخل القدرة ـ بحكم العقل ـ في الحكم، وأنّها إنّما تكون دخيلة في التنجيز، يمكن أن يستظهر من عدم

152

أخذ القدرة في لسان الدليل كون القدرة عقليّة؛ لأنّ إطلاق الدلالة المطابقيّة لحال العجز لا موجب لسقوطه عن الحجّيّة، كي لا تثبت الدلالة الالتزاميّة، وهي الدلالة على ثبوت الملاك حال العجز. إلاّ أنّنا لا نقول بهذا المبنى كما مضى.

الدعوى الثانية: أنّه متى ما اُخذت القدرة في لسان الدليل، فالأصل فيها أن تكون شرعيّة ودخيلة في الملاك. وهذه الدعوى يمكن إثباتها ولو بحسب النتيجة بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّه إذا اُخذت القدرة في لسان الدليل لم يتمّ شيء من الاستظهارين اللذين يستدلّ بهما على كون القدرة عقليّة حينما لا تؤخذ القدرة في لسان الدليل؛ فإنّه لا تبقى دلالة التزاميّة على ثبوت الملاك في حال العجز؛ لأنّ الدلالة المطابقيّة على الحكم تنهدم بوجودها لا بحجّيّتها مع فرض وجودها، حتّى يقال: إنّ انهدام حجّيتها لا يعني انهدام حجّيّة ما تستتبعها من دلالة التزاميّة، ولا يبقى إطلاق للمادّة حتّى يتمسّك به لإثبات الملاك حال العجز.

وهذا الوجه وإن كان لا يثبت كون القدرة شرعيّة ودخيلة في الملاك، لكنّه يعطي نفس النتيجة من ناحية أنّه يثبت عدم تماميّة الدلالة على كون القدرة عقليّة، فبالتالي لا يثبت لدينا اشتمال المتعلّق على الملاك في حال العجز.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّه لو حُملت القدرة المأخوذة في لسان الدليل على كونها دخيلة في غرض المولى وملاك الحكم، كان التقييد مولويّاً وصادراً من المولى بما هو مولى، بينما لو حُملت على القدرة العقليّة، كان التقييد عقليّاً بملاك حكم العقل بقبح تكليف العاجز مثلا. ومن الواضح أنّ التقييد الذي يأتي على لسان المولى في مقام بيان الحكم ظاهرٌ في التقييد المولويّ.

وهذا الوجه غير صحيح؛ فإنّ التقييد بالقدرة على أيّ حال تقييد مولويّ؛ إذ ليس التقييد بالقدرة إلاّ عبارة عن تضييق المولى دائرة تشريعه ـ عمداً واختياراً ـ

153

بفرض القدرة، ولا نعني بالتقييد المولويّ ـ الذي يُحمل عليه ما يأتي على لسان المولى من تقييد عند بيان الحكم ـ إلاّ هذا المعنى، أعني: تضييق المولى دائرة تشريعه عن عمد واختيار. غاية الأمر أنّ نكتة هذا التقييد وملاكه تختلف، فقد تكون نكتته ضيق دائرة الملاك، وقد تكون نكتته القبح العقليّ لتكليف العاجز مثلا.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّه لو فُرضت القدرة عقليّة فأخذها في لسان الدليل يكون مجرّد تأكيد صِرف، واستبعاد ذلك عند العرف يُعطي لأخذ القدرة ظهوراً سياقيّاً في معنىً آخر تأسيسيّ، وهو دخلها في الملاك.

وهذا الوجه قد ينافي الدعوى الاُولى؛ وذلك لأنّه إن فُرض التقييد اللبّيّ للخطاب بالقدرة تقييداً نظريّاً كالمنفصل، إذن فالتأكيد عليه بأخذ القدرة في لسان الدليل حسنٌ عرفاً وغير مستبعد، فإنّه تنبيهٌ على شيء غير واضح، ولا يوجب أخذ القدرة في لسان الدليل صرفها إلى القدرة الشرعيّة.

وإن فُرض تقييداً بديهيّاً كالمتّصل، إذن تبطل الدعوى الاُولى، وهي دعوى: أنّ عدم أخذ القدرة في لسان الدليل يوجب حملها على القدرة العقليّة، إذا كان الوجه في ذلك التمسّك بالدلالة الالتزاميّة؛ إذ مع فرض كون التقييد بالقدرة لبّيّاً كالمتّصل، لا تنعقد الدلالة المطابقيّة على الإطلاق لحال العجز، حتّى تستتبع دلالة التزاميّة على ثبوت الملاك حين العجز.

وأمّا إذا كان الوجه في ذلك دعوى التمسّك بإطلاق المادّة:

فإن قلنا(1): إنّ بداهة اشتراط القدرة في الحكم وارتكازيّته كانت بنحو ينصرف إطلاق المادّة إلى الحصّة المقدورة حتّى كأنّ المولى قد أتى بكلمة القدرة في عبارته، إذن بطل التمسّك بإطلاق المادّة أيضاً.


(1) القول بهذا لا مبرّر له.

154

وإن قلنا: إنّ غاية ما تقتضيه بداهة اشتراط القدرة وارتكازيّته، عدم تماميّة مقدّمات الحكمة لتكوين الظهور في الإطلاق، فهذا إنّما يضرّ بإطلاق المادّة بلحاظ المحمول البارز وهو الحكم، دون إطلاقها بلحاظ المحمول المستتر وهو الملاك.

وخلاصة الكلام في هذا المقام: أنّه لو لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، لم نقبل أنّ هذا شاهد على كون القدرة عقليّة لا شرعيّة، بل من المحتمل أن تكون شرعيّة. ولو اُخذت القدرة في لسان الدليل، فظاهر ذلك كون القدرة شرعيّة، وذلك لأجل الوجه الثالث(1).

وهذا المقدار من البيان لا يوجب تقديم أحد الحكمين المتزاحمين على الآخر بالقدرة الشرعيّة بغضّ النظر عن قرائن خاصّة؛ إذ لئن كان أخذ القدرة في لسان الدليل في أحدهما شاهداً على كون القدرة فيه شرعيّة ودخيلة في الملاك، فمن المحتمل كون القدرة في الآخر الذي لم تؤخذ في لسان دليله أيضاً كذلك.

نعم، يبقى أن يعيّن معنى القدرة التي استظهرنا دخلها في الملاك. وهذا راجع إلى الاستظهار من الكلمة الدالّة على القدرة المأخوذة في لسان الدليل، فقد


(1) هذا الاستظهار غير واضح؛ فإنّه لو كان دخل القدرة في لسان الدليل في ذاته مجملا مردّداً بين دخلها في الحكم ودخلها في الملاك، أو قل: بين القدرة العقليّة والقدرة الشرعيّة، أمكن القول بأنّ الظهور في التأسيس ـ أو قل: استبعاد التأكيد ـ يصرف الكلام إلى القدرة الشرعيّة. ولكنّ الواقع ليس كذلك، وإنّما أخذ القدرة يدلّ في ذاته على جامع الدخل في الحكم، الأعمّ من كونه بسبب دخله في الملاك، أو بسبب عدم صحّة إطلاق الحكم للعاجز. وهذا المقدار الجامع يحكم به العقل على كلّ حال، ولو من باب إيمانه بعدم صحّة إطلاق الحكم للعاجز، وتكون التأسيسيّة أو التأكيديّة رهينة لما يكون اللفظ في ذاته ساكتاً عنه، وهو دخل القدرة في الملاك وعدمه، وعندئذ لا يتكوّن للكلام ظهور في التأسيس.