701

فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات(1)، وهذا ينافي أخبار التخيير؛ لأنّ مفاده الإرجاء والتوقّف، وينافي مقتضى القاعدة؛ لأنّ مقتضى القاعدة هو رفع اليد عن الخبرين والرجوع إلى القواعد والأدلّة الاُخرى، لا التوقّف في العمل والإرجاء حتّى يلقى الإمام.

وعلى أيّ حال، فهذا الحديث من حيث الدلالة سوف يأتي البحث عنه ـ إن شاء الله ـ في أخبار الترجيح.

وأمّا من ناحية السند فعمر بن حنظلة لم يوثّق في كتب الرجال، ولكنّنا نثبت وثاقته بناءً على ما حقّق في محلّه من كفاية نقل أحد الثلاثة عن أحد لإثبات وثاقته، وهم ابن أبي عمير، والبزنطي، وصفوان بن يحيى، فإنّه وإن لم يروِ أحد منهم عن عمر بن حنظلة، ولكن قد روى يزيد بن خليفة أنّه قال للإمام(عليه السلام): إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال: (إذاً لا يكذب علينا)(2) فهذا توثيق من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) لعمر بن حنظلة، والراوي لهذا الحديث وهو يزيد بن خليفة لم يوثق لكن قد روى عنه صفوان بن يحيى على ما جاء بسند معتبر في الكافي في باب كفارة الصوم وفديته(3).

 

أخبار الترجيح

 

وأمّا البحث الثالث: وهو في ما قد يجعل مقيِّداً لأخبار التخيير، وهي أخبار الترجيح فنحن نجعل محور الكلام في ذلك رواية الشيخ الراوندي في رسالة ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها عن محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبد الصمد، عن أبيهما، عن أبي البركات عليّ بن الحسين، عن أبي جعفر بن بابويه، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أيّوب


(1) نفس المصدر: ح 1.

(2) الوسائل: ج 3، ب 10 من المواقيت ح 1، ص 114، وبحسب طبعة آل البيت ج 4، ص 156.

(3) ح 6، ص 144، ج 4 بحسب طبعة الآخوندي والحديث ما يلي، ابو علي الاشعري، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن يزيد بن خليفة، قال: «شكوت إلى أبي عبدالله (عليه السلام)فقلت: إنّي اصدع إذا صمت هذه الثلاثة الأيّام ويشقّ عليّ، قال: فاصنع كما أصنع إذا سافرت، فإنّي إذا سافرت تصدّقت عن كلّ يوم بمدّ من قوت أهلي الذي أقوتهم به.

والحديث موجود في الوسائل: ج 7، ب 11 من الصوم المندوب، ح 2، ص 317، وبحسب طبعة آل البيت ج 10، ص 433.

702

بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله، قال: «قال الصادق (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعر ضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعر ضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

والكلام في ذلك يقع في ثلاث جهات:

أوّلا: في السند.

وثانياً: في الدلالة.

وثالثاً: في نسبتها مع باقي روايات الترجيح، فلو كان فيها ما يقتضي تخصيص رواية الراوندي به خصّصناها به، ولو كان العكس خصّصناه بالرواية، ولو كان فيها ما يعارضها عالجنا التعارض.

 

اما الجهة الاُولى، وهي في سند الرواية:

فقد يستشكل في سندها بعدة إشكالات:

الأشكال الأوّل: دعوى: أنّ احتمال وجود كتاب لقطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في أحوال أحاديث أصحابنا الذي أخذ منه صاحب الوسائل هذه الرواية احتمال موهون في نفسه بنحو لا يعوّل عليه؛ وذلك لأنّ اثنين من تلامذة الشيخ الراوندي ترجماه، واستعرضا ماله من مؤلفّات، وهما ابن شهر اشوب في معالم العلماء(2) ومنتجب الدين في فهرسته المعروف(3). وأحدهما(4) أطنب في الترجمة، ولم يذكرا هذا الكتاب، فهذا يبعّد ثبوت هذا الكتاب له.

ويُسنِد هذا التبعيد ويعزّزه ما أبداه جملة من العلماء كالشيخ أسد الله التستري (رحمه الله)من احتمال أن تكون هذه الكتب الإضافية المنسوبة إلى الشيخ الراوندي هي في واقعها للسيّد


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 29، ص 84 ـ 85، وبحسب طبعة آل البيت ج 27، ص 118.

(2) راجع معجم الرجال: ج 8، ص 93 ترجمة سعيد بن هبة الله، رقم التسلسل 5070.

(3) راجع نفس المصدر.

(4) وهو منتجب الدين.

703

الراوندي المعاصر للشيخ الراوندي المعروف، ونسب إليه اشتباهاً(1).

إلاّ أن هذا الإشكال غير تامّ، بمعنى أنّه لو فرض أنّ صاحب الوسائل كان له طريق صحيح ينتهي إلى تلميذ من تلامذة الراوندي، وهذا التلميذ ينقل هذا الكتاب عن الراوندي، فعندئذ مجرّد سكوت ابن شهراشوب ومنتجب الدين عن ذكر هذا الكتاب في ترجمة الراوندي لايكفي؛ إذ لعلّ هذا الكتاب وصل إلى تلميذ ثالث ولم يصل إلى التلميذين الأوّلين، خصوصاً إذا فرض كون التلميذ الثالث تلميذاً له بعد تخرّج التلميذين الأوّلين وتركهما للتلمذة، وفرض أنّ الشيخ الراوندي كتب الكتاب بعد انفصال التلميذين عنه، مضافاً إلى أنّه لم يعلم منهما أنّهما في مقام حصر مؤلّفاته، بل لعلّه علم العدم، لأنّ كلا منهما ذكر ما لم يذكره الآخر، فابن شهر آشوب ذكر كتاباً للراوندي في أحوال أولاد العسكريين، ولم يذكر ذلك منتجب الدين ومنتجب الدين ذكر عدّة كتب منها شرح نهج البلاغة، ولم يذكر ذلك ابن شهر آشوب.

وممّا يعزّز إبطال هذا التوهين هو أنّ صاحب البحار ذكر رسالة للراوندي سمّاها رسالة الفقهاء، وقال: إنّها وصلت إليه عن طريق الثقاة(2) وأظنّ أنّها عين الرسالة التي سمّاها صاحب الوسائل بأحوال أحاديث أصحابنا؛ لأنّ أصحابنا هم الفقهاء، فكأنّ هذه الرسالة لم يكن لها اسم، فكلّ واحد سمّاها باسم.

ولو فرض كون هذه الرسالة رسالة مختصرة لا اسم لها، فأيّ استبعاد في أن يجهلها التلميذان، أو يغفلاها، أو يتركا ذكرها؟!


(1) أقول: وجدت في كتاب البحار للمجلسي (رحمه الله) ج 1، ص 12 التشكيك في كون كتاب قصّص الأنبياء للشيخ سعيد بن هبة الله الراوندي، واحتمال كونه للسيّد فضل الله الراوندي، ونصّ كتاب البحار مايلي: «وكتاب قصص الأنبياء له (يعني: للشيخ سعيد بن هبة الله) أيضاً، على ما يظهر من أسانيد الكتاب، واشتهر أيضاً، ولا يبعد أن يكون تأليف فضل الله بن عليّ بن عبيد الله الحسني الراوندي، كما يظهر من بعض أسانيد السيد بن طاووس، وقد صرّح بكونه منه رسالة النجوم، وكتاب فلاح السائل...»

وجاء في كتاب رياض العلماء، ج 2، بعد نقله لما مضى من عبارة البحار ما نصّه في ص 429: «وأقول: لكن قد صرّح ابن طاووس نفسه ـ أيضاً ـ في كتاب مهج الدعوات بأن كتاب قصص الانبياء تأليف سعيد بن هبة الله الراوندي، والقول بأن لكلّ منهما كتاباً في هذا المعنى ممكن، لكن بعيد فتأمّل».

وأيضاً نسب في البحار: ج 2، ص 12 كتاب اللباب وكتاب شرح نهج البلاغة، وكتاب أسباب النزول إلى السيد الراوندي لا الشيخ الراوندي، وأبدى صاحب الرياض تأمّله في ذلك في ج 2، ص 429.

(2) راجع البحار: ج 2، ص 235، ح 17 من ب 29 من كتاب العلم.

704

وأيضاً ممّا يؤيّد ردّ هذا الإشكال أنّ كتاب قصص الأنبياء الذي هو أحد الكتب الإضافية التي ألحقها صاحب الوسائل، والتي شكّك في نسبتها إلى الراوندي، وادّعيت نسبتها إلى غيره قد صرّح ابن طاووس في مهج الدعوات بأنّه لسعيد بن هبة الله الراوندي.

الإشكال الثاني: أنّ طريق صاحب الوسائل إلى هذا الكتاب للراوندي غير معلوم، فإنّ صاحب الوسائل ذكر في خاتمة الوسائل طريقه إلى قصص الأنبياء وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي، ولكن لم يذكر طريقه إلى هذه الرسالة.

وهذا الإشكال ـ أيضاً ـ يمكن الجواب عنه بضمّ كلامين لصاحب الوسائل أحدهما إلى الآخر:

الأوّل: سنده إلى قصص الأنبياء والخرائج والجرائح للراوندي، حيث قال: نروي كتاب الخرائج والجرائح وكتاب قصص الأنبياء لسعيد بن هبة الله الراوندي بالإسناد السابق عن العلاّمة الحسن بن المطهّر، عن والده، عن الشيخ مهذّب الدين الحسين بن ردّة، عن القاضي أحمد بن عليّ بن عبد الجبار الطبرسي، عن سعيد بن هبة الله الراوندي(1). وهذا سند تام معتبر.

والثاني: ما ذكره بالنظر إلى جميع طرقه التي نقلها في آخر الوسائل من قوله: ونروي باقي الكتب بالطرق السابقة(2) فإنّ العرف يفهم بمناسبات التحويل والمحوّل عليه أنّ طريق باقي الكتب المنسوبة إلى المؤلّف الذي ذكر له طريقاً إلى مؤلفاته إنّما هو نفس ذاك الطريق المصرّح به هناك، وممّا يعزّز ذلك هو طريق العلاّمة إلى سعيد بن هبة الله الراوندي في إجازته المعروفة التي أحصت عداداً كبيراً من علماء الشيعة، ففي تلك الإجازة المعروفة لآل زهرة ذكر طرقه إلى كتب الشيعة وإلى كتب السنّة أيضاً، وقال بأنّه يروي جميع كتب سعيد بن هبة الله الراوندي بالطريق الفلاني وهو عين الطريق الذي ذكره صاحب الوسائل بواسطة العلاّمة إلى قصص الأنبياء والخرائج والجرائح، والمفروض أنّ صاحب الوسائل أخبر بأنّ هذا هو أحد كتب سعيد بن هبة الله الراوندي، فهذا يعزّز كون طريق صاحب الوسائل إلى هذا الكتاب نفس الطريق.

الإشكال الثالث: أنّ هذه الرواية بناءً على هذا الطريق قد وصلت إلى الشيخ الحرّ عن


(1) الوسائل: ج 20، ص 57، وبحسب طبعة آل البيت ج 30 ص 184.

(2) نفس المصدر: ص 61، أو ص 179 بحسب اختلاف الطبعتين المشار إليهما.

705

طريق العلاّمة ووالد العلاّمة وأمثالهم من علمائنا، بينما نحن لا نرى أنّ هذه الرواية قد انعكست في كتبهم بشكل من الإشكال، فلا نراها في تهذيب الاُصول للعلاّمة، ولا في كتب المحقّق اُستاذ والد العلاّمة، فكيف يفرض أنّ هذه الرواية يتلقّاها صاحب الوسائل من تسلسل علمائي يقع فيه أو يقع على مقربة قريبة جدّاً منه العلاّمة والمحقّق وأمثالهما، ثمّ لا يرى أثر في كتبهم منها، فهذا ـ أيضاً ـ يضعّف شأن هذا الكتاب، ويوجب الاطمئنان بأنّ هذا الكتاب لم يكن في أيدي العلاّمة والمحقّق وقتئذ، إذن فلا يمكن التعويل عليه.

إلاّ أنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ قابل للرّد؛ وذلك لأنّ هذه الرواية وإن كنّا لا نجدها في كتب العلاّمة، ولا في كتب المحقّق، إلاّ أنّ عدم وجدانها لا يدلّ على أنّهم لم يجدوها أصلا، وإلاّ فالعلاّمة والمحقّق لم يذكرا أكثر روايات الباب، لا هذه الرواية فقط، وقد اقتصر شيخنا المحقّق في معارجه على أن قال (إذا كان احد الخبرين المتعارضين مخالفاً للكتاب دون الآخر قدّم ما كان غير مخالف على ما كان مخالفاً؛ لأنّ المخالف لو لم يكن له معارض لا يكون حجّة، فكيف مع وجود المعارض. وأمّا إذا كان أحدهما مخالفاً للعامّة دون الآخر فقد قال شيخنا أبو جعفر ـ يعني الشيخ الطوسي(رحمه الله): إنّه يقدّم ما خالف العامّة على ما وافق العامّة عملا منه بأخبار الآحاد في المقام، وإثباتاً منه للمسألة العلمية بأخبار الآحاد) هذا هو المقدار الذي اقتصر عليه الشيخ المحقق (رحمه الله)، إذن فسكوتهم عن هذه الرواية مع هذا الوضع العمومي لا يدلّ على أنّهم لم يعثروا على هذه الرواية، فهذا الإشكال الثالث غير وارد أيضاً.

الإشكال الرابع: ينصبّ على من هو فوق سعيد بن هبة الله الراوندي من الوسائط المتخلّلة بينه وبين الإمام (عليه السلام) حيث إنّ الرواية جاءت هكذا: سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها عن محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبدالصمد، عن أبيهما، عن أبي البركات عليّ بن الحسين، عن أبي جعفر بن بابويه ـ يعني الصدوق (رحمه الله) ـ، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أيّوب بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: قال الصادق (عليه السلام)... الخ. والسند كلّه واضح، إلاّ أنّه يثار في المقام إشكال من ناحية أنّ الراوندي ينقل ـ على ما في هذا السند ـ عن محمّد وعليّ ابني علي بن عبدالصمد، فقد يقال: إنّ محمداً وعليّاً هنا ليسا ابني عليّ بن عبدالصمد، وإنما هما ابنا عبدالصمد، وذلك باعتبار أنّ محمّداً وعليّاً ابني عبد الصمد شخصان معروفان يعتبران من مشايخ ابن شهر آشوب، ومن اساتذته الذين يروي عنهم، وقد وقعا في طريق صاحب الوسائل أيضاً، بينما لم يقع محمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد في طريق صاحب الوسائل

706

بشكل من الأشكال أصلا، ولم يقعا في طرق الإجازات المتعارفة، ومن البعيد أن يكون الشيخ الراوندي يروي عن أولاد عليّ بن عبد الصمد في حين أنّ ابن شهر آشوب الذي هو في الطبقة المتأخّرة عن الراوندي في الجملة ويروي عن الراوندي يروي عن نفس عليّ بن عبد الصمد، فبهذه المناسبات يقوى احتمال أنّ هناك خطأً، وأن يكون السند محمّداً وعليّاً ابني عبد الصمد وهما وإن كان لا اشكال في وثاقتهما وعلمهما وفقههما، إلاّ أنّ الإشكال في أبيهما؛ لأنّ عبد الصمد غير معلوم في المقام، فيسقط سند الرواية عن الحجّيّة.

وهذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير وارد؛ لأنّ من الواضح أنّ سعيد بن هبة الله الراوندي إنّما يروي عن محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبد الصمد، لا محمّد وعليّ ولدي عبد الصمد، وقد تكرّر ذلك في كتاب قصص الأنبياء على ما يبدو من كتاب رياض العلماء، حيث إنّ مؤلّف كتاب رياض العلماء يأخذ مقتطفات من كتاب قصص الأنبياء ويتكرّر هذا السند كثيراً في تلك المقتطفات، وهو محمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد، وقد ذكر في ترجمة سعيد بن هبة الله الراوندي في كلام جملة من العلماء حينما ذكرت مشايخه عنوان محمّد وعليّ ابني عليّ بن عبد الصمد، لا محمد وعلي ابنا عبد الصمد(1).

وهنا كأنّه يوجد تشويش من ناحية تشابه الأسماء، وهنا أذكر عبارة أمل الآمل، ثمّ أُبيّن بعد ذلك ما هو الصحيح في رفع التشويش:

إنّ الشيخ الحرّ (رحمه الله) ترجم في أمل الآمل عدّة أشخاص فقال: محمّد بن عليّ بن عبد الصمد النيسابوري فاضل جليل من مشايخ ابن شهر آشوب(2).

وقال: محمّد بن عبد الصمد النيسابوري عالم فاضل جليل القدر من مشايخ ابن شهر آشوب(3).

وقال: عليّ بن عليّ بن عبد الصمد التميمي النيسابوري فقيه ثقة قرأ على والده وعلى ابن الشيخ الطوسي(4).

وقال: الشيخ علي بن عبدالصمد التميمي السبزواري فقيه ديّن ثقة قرأ على الشيخ أبي


(1) راجع كتاب رياض العلماء: ج 2، ص 426 ـ 437.

(2) أمل الآمل: ج 2، ص 287.

(3) نفس المصدر: ص 278.

(4) نفس المصدر: ص 194.

707

جعفر ( يعني الصدوق) قاله منتجب الدين(1).

وقال: الشيخ أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد النيسابوري التميمي فاضل عالم يروي عنه ابن شهر آشوب، ولا يبعد اتحاده مع التميمي السبزواري السابق، بل الظاهر ذلك(2).

هذه كلمات أمل الآمل.

والظاهر في المقام: أنّ سلسلة نسب هذه الأسماء المتشابهة هي بهذا النحو:

يوجد عندنا محمّد وعليّ ابنا عبد الصمد، وهما شيخان معروفان لابن شهر آشوب، وأبوهما عبد الصمد. وعبد الصمد له أب وأعمام، فعمّه هو محمّد بن عليّ بن عبد الصمد، وأبو عبد الصمد: إما هو عليّ بن عليّ بن عبد الصمد، أو إنّ هذا عمّ آخر له. وعلى أيّ حال، فجدّ عبد الصمد هو عليّ بن عبد الصمد.

اذن فهنا شخص اسمه عليّ بن عبد الصمد، هو جدّ الاُسرة، وهو فقيه جليل، شخّصنا أنّه في طبقة الشيخ الطوسي، والسيّد المرتضى، وهو يروي عن الصدوق بواسطة واحدة فيما أطلعنا عليه(3)، لكنْ نقل أنّه يروي عن الصدوق بلا واسطة أيضاً(4). وهذا عليّ بن عبد الصمد له ثلاثة أولاد كلّهم علماء: محمّد بن عليّ بن عبد الصمد، وعليّ بن عليّ بن عبد الصمد، والحسين بن عليّ بن عبد الصمد(5) هؤلاء من الطبقة الأولى من أولاده، ومحمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد هما شيخان للراوندي وحفيد عليّ بن عبد الصمد الذي قلنا: إنّ اسمه عبد الصمد، لا ندري هل هو ابن عليّ من أولاده، أو ابن الحسين من أولاده، أو ابن رابع لم يذكر، لكنّنا ندري أنّه ليس ابن محمّد(6) من أولاده؛ لأنّه يعبّر عنه ابنه بأنّه عمّ أبيه(7)، وهذا الحفيد الذي اسمه عبد الصمد له ولدان: أحدهما محمّد، والآخر عليّ، وهما


(1) نفس المصدر: ص 192.

(2) نفس المصدر: ص 192.

(3) قال في رياض العلماء: ج 4، ص 111: يروي عن الصدوق بتوسّط السيّد أبي البركات عليّ بن الحسين الحسيني العلوي الخوزي.

(4) لعلّ هذا إشارة إلى ما مضى من أمل الآمل من قوله: قرأ على الشيخ أبي جعفر.

(5) ورد الحسين هذا في أمل الآمل: ج 2، ص 99، وورد ذكر الأولاد الثلاثة معاً في رياض العلماء: ج 4، ص 112.

(6) في حين أنّ عليّ بن عبد الصمد الذي هو جدّ الاُسرة كان أبوه يسمّى بمحمّد، راجع رياض العلماء: ج 4، ص 111.

(7) ورد هذا التعبير عن لسان عليّ بن عبد الصمد في رياض العلماء: ج 4، ص 112.

708

شيخان لابن شهر آشوب.

هذا تشريح نسب هؤلاء، وهذا التسلسل يتّضح من عدّة روايات، منها ماجاء في مهج الدعوات لابن طاووس، قال: قال عليّ بن عبد الصمد (وعليّ بن عبد الصمد الذي بدأ به ابن طاووس هو الذي يروي عنه ابن شهر آشوب، وابن طاووس هو في مرتبة أساتذة العلاّمة، وابن شهر آشوب هو في مرتبة أعلى من ذلك بقليل) أخبرني جدّي (وهو أحد الأولاد الصلبيين لعليّ بن عبد الصمد العالم الكبير جدّ الاُسرة) قال: حدّثنا والدي الفقيه أبوالحسن (يعني عليّ بن عبد الصمد المعروف جدّ الاُسرة الذي هو من طبقة السيّد المرتضى والشيخ الطوسي، فإنّه مكنّىً بأبي الحسن) قال: حدّثنا جماعة من أصحابنا منهم السيّد أبو البركات (وهو الذي وقع في طريق رواية الراوندي التي نتكلّم في سندها) عن الصدوق(1)(إذن ففي هذه الرواية كما في رواية الراوندي(2) يروي عن الصدوق بواسطة واحدة) فهذا التسلسل يتّضح من هذه الرواية ومن عدّة روايات اُخرى مماثلة لا مجال لا ستيعابها هنا.

هذا. وقد مضى عن الشيخ الحرّ (رحمه الله) دعوى الاتّحاد بين الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الصمد النيسابوري التميمي الذي يروي عنه ابن شهر آشوب وعليّ بن عبدالصمد التميمي السبزواري الذي نقل الشيخ الحرّ عن منتجب الدين أنّه فقيه ديّن ثقة قرأ على الشيخ أبي جعفر (يعني الصدوق).

والصحيح: أنّ من ذكره منتجب الدين هو جدّ الاُسرة، ومنتجب الدين اقتصر على ذكره ولم يذكر محمّداً وعليّاً ابني عبد الصمد اللذين هما من مشايخ ابن شهر آشوب، وعليّ بن عبد الصمد الذي هو من مشايخ ابن شهر آشوب هو الحفيد، إلاّ أنّه من باب الصدفة يكنّى كلاهما بأبي الحسن، ولعلّه اشتبه ـ أيضاً ـ في جعل محمّد بن عليّ بن عبد الصمد من مشايخ ابن شهر آشوب؛ اذ لم أجد له مدركاً غير كلام صاحب الوسائل في أمل الآمل، فإنْ صحّ هذا كان معناه أنّ محمّد بن عليّ بن عبد الصمد الذي هو عمّ عبد الصمد شيخ لابن شهر آشوب، في حين أنّ ا بني عبد الصمد ـ أيضاً ـ من مشايخه، فالابن مع عمّ الأب كلاهما من مشايخه، وهذا في غاية البعد.

وعلى أيّ حال، ففيما يتعلّق بسند الرواية تبيّن أن هذا الإشكال الرابع ـ أيضاً ـ غير وارد.


(1) هذا السند ورد في رياض العلماء: ج 4، ص 112 نقلا عن مهج الدعوات.

(2) يعني الرواية التي هي محلّ بحثنا.

709

الإشكال الخامس: هو التشكيك في أحد الرواة الواقعين بين الراوندي والصدوق، وهو أبو البركات عليّ بن الحسين العلوي الخوزي، فيشكّك في وثاقته على أساس أنّه لم يشهد بوثاقته أحد العلماء المعاصرين له من قبيل منتجب الدين في فهرسته، أو ابن شهر آشوب في معالمه.

نعم، صاحب الوسائل شهد له بالوثاقة(1)، إلاّ أنّ صاحب الوسائل الذي هو يعيش في القرن الحادي عشر يكون الفاصل بينه وبين أبي البركات الذي هو مثلا في طبقة الطوسي أو المرتضى تقريباً فترة زمنيّة طويلة حوالي سبعمائة سنة، فلا يمكن التعويل على شهادة الشيخ الحر(رحمه الله) ؛ وذلك لأنّ التعويل على شهادته إنّما يكون إذا كان هناك احتمال الاستناد إلى مدرك عرفي عقلائي. وأمّا إذا كانت الشهادة على أساس الاجتهاد والحدس فهي ساقطة عن الحجّيّة، وبعد مضي سبعمائة سنة مثلا كيف نفرض أنّ صاحب الوسائل كان له مدرك حسّي عرفي لو ثاقة أبي البركات؟! فلا بدّ أن تكون شهادته على أساس الحدس والتخمين من حيث إنّ أبا البركات وقع في تسلسل إجازة بعض الكتب، ككتاب أمالي الصدوق (رحمه الله) مثلا، فمن هذه الناحية شهد بأنّه ثقة، وبأنّه عالم، وبأنّه محدّث، فلا تكون هذه الشهادة حجّة، وهذا بخلاف شهادات الشيخ الطوسي مثلا بالنسبة إلى الرواة، فإنّه لا يوجد هذا الفاصل الزمني الطويل، فمثلا فاصلة (700) سنة لا توجد بين الشيخ الطوسي وبين أبعد راو كأصحاب أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فلا يوجد الفاصل أكثر من أربعة قرون تقريباً، فيقال مثلا: إنّ التفاوت بين (700) سنة و(400) سنة مقدار يؤثّر في بقاء احتمال الحسّ وعدم بقائه.

إلاّ أنّ هذه المناقشة ـ أيضاً ـ ممّا لا يمكن المساعدة عليها؛ وذلك لأن المقياس في احتمال الاستناد إلى أمر عرفي يسمّى بالحسّ في مقابل الحدس والتخمين لا يتحكّم فيه طول الزمان وقصر الزمان فقط، بل تتحكّم فيه كيفيّة هذا الزمان أيضاً، فقد يكون الزمان قصيراً ولكن قد مرّ هذا الزمان بنحو لا توجد مدارك عرفية واضحة، فتكون الشهادة عن حدس،


(1) راجع معجم الرجال: ج 11، ص 375. وراجع أمل الآمل: ج 2، ص 179.

والموجود في ما لديّ من نسختي هذين الكتابين توصيف الرجل بالجوزي لا بالخوزي، إلاّ أنّ الموجود في كتاب رياض العلماء: ج 3، ص 336 و337 و423 توصيفه بالخوزي. وأيضاً ورد توصيفه في المدركين الماضيين، أعني معجم الرجال، وأمل الآمل بالحلّي. وورد توصيفه في ما مضى من رياض العلماء في المواضع الثلاثة بالحسينى. أمّا التعبير الوارد في المتن وهو (العلوي الخوزي) فقد رأيته في رياض العلماء: ج 4، ص 111 مضيفاً إليهما كلمة (الحسيني) أيضاً.

710

وقد يكون طويلا ولكن قد مرّ بنحو توجد مدارك عرفية واضحة، فتكون الشهادة عن حسّ، فمثلا ترى أنّ التسلسل النسبي لاُسرة علوية قد يكون محفوظاً خلال مئآت السنين، فيستطيع أن ينسب نفسه إلى أبيه ثمّ إلى جدّه وجدّ جدّه، وهكذا الى مئآت السنين منذ دخل عالم الأنساب في السجّلات والتأليفات، ولكنّ كثيراً ما يتّفق أن تكون له حلقات مفقودة في الأزمنة السابقة الفوقانية التي يندر فيها التأليف والتصنيف، ونحن لو لاحظنا (400) سنة التي تفصل بين الشيخ الطوسي وبين الرواة الذين يشهد بوثاقتهم، ولاحظنا (700) سنة التي تفصل بين صاحب الوسائل وبين العلماء الذين يشهد بوثاقتهم نرى أنّه لا يوجد كثير فرق بين هذين الأمرين بعد الالتفات الى نكتة فارق كيفي بين الزمانين، وهو أنّ الزمان الذي سبق الشيخ الطوسى (رحمه الله) كان زماناً مجدباً من حيث التأليف والتصنيف في أحوال الرجال، أي: إنّ المنافذ التي منها يطلّ الإنسان على معرفة أحوال الرجال كانت في غاية القلّة والضيق، حتّى لم ينقل فهرست لأحد من أصحابنا غير البرقي(رحمه الله) من المتقدّمين، وفي مقابل هذا لمّا ننظر إلى (700) سنة التي تفصل بين صاحب الوسائل وبين العلماء الذين شهد بوثاقتهم نرى أنّه وإن كان الزمان أطول ولكن في مقابل ذلك توجد سعة المدارك وانتشارها واشتهارها، فقد وجدت مئآت من الكتب والمصنّفات والاجازات والاسنادات للكتب والتعليقات والهوامش التي يكتبها العلماء على الكتب، والتي تتبيّن منها وثاقة فلان وعدم وثاقة فلان، وعلم فلان، والاستناد إلى فلان، ونحو ذلك، فهذه المدارك أو فر منها في ذاك الزمان بعشرات المرّات، فمثلا في كتاب رياض العلماء في ترجمة شخص من العلماء اسمه عليّ بن أبي طالب بن محمّد بن أبي طالب التميمي، وهو على ما يظهر من ترجمته متأخّر عن ابن شهر آشوب، فأفرضوه في طبقة مقاربة للعلاّمة (رحمه الله)، وهذا الشخص يعبّر عنه بأنّه فاضل عالم محدّث فقيه، قال (أي في كتاب رياض العلماء): إنّه في عدد من نسخ عيون أخبار الرضا للصدوق يوجد فيه أسناد لهذا الكتاب يرجع إلى عليّ بن أبي طالب بن محمّد بن أبي طالب، وهو يرويه عن السيّد الفقيه فلان، وهكذا يسلسل علماؤنا (رضوان الله عليهم) واحداً بعد الآخر إلى أن يصل إلى الواسطة التي قبل الصدوق، فيقول: قال: حدثنا الإمام الزاهد أبو البركات الخوزي عن الصدوق(1).

ولا اُريد أن اكتفي بهذا المدرك في اثبات وثاقة أبي البركات، فانّي أثبت وثاقته بشهادة


(1) راجع رياض العلماء: ج 3، ص 336 ـ 337.

711

الحرّ العاملي، وانّما كان مقصودي بيان: أنّ انتشار المدارك واتساعها لا يأبى عن احتمال أن يكون صاحب الوسائل قد رأى مدارك عرفية واضحة، وصاحب كتاب رياض العلماء تلميذ لشيخنا المجلسي الذي هو معاصر لصاحب الوسائل، أي: إنّ صاحب الوسائل في طبقة أساتذة مؤلّف كتاب رياض العلماء، وفرض توفّر هذا النوع من المدارك لصاحب الوسائل ليس فرضاً غير عادي، وتوفرها لصاحب الوسائل غير توفّرها لنا؛ لأنّه يعرف بنحو أتمّ من هو هذا عليّ بن أبي طالب، ويعرف نسخ عيون أخبار الرضا، ويعرف باقي الخصوصيات والجهات، فلعلّه استند الى شهادة من هذا القبيل، حيث يقول الامام الزاهد أبو البركات، فهذا نوع من التوثيق، بل هو مرتبة عالية من التوثيق، فانّ كلمة (الإمام) لا يعبّر بها إلاّ عن أحد أجلّة علماء الطائفة، فاحتمال العرفية إن كان موجوداً في شهادة الطوسي مع فاصل (400) سنة فهو موجود في شهادة الشيخ الحرّ مع فاصل (700) سنة، وطول الزمان معارض بسعة المدارك وانتشارها.

هذا تمام الكلام في تصحيح سند هذه الرواية.

 

وأمّا الجهة الثانية، وهي في دلالة الرواية:

فقد اشتملت هذه الرواية على مرجّحين:

المرجّح الأوّل: الموافقة والمخالفة للكتاب، حيث قال: (فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه) وفرض مخالفة أحد الحديثين للكتاب لا تلزمه دائماً موافقة الآخر له، من قبيل رواية تدلّ على بطلان بيع الصبي، ورواية تدلّ على صحته، فالاُولى تخالف إطلاق (أحلّ الله البيع)، والثانية توافقه، بل قد تكون الروايتان من قبيل رواية تدلّ على حكم حرجي فتخالف الكتاب النافي للحرج، ورواية تدلّ على ضدٍّ غير حرجي لذلك الحكم، في حين أنّه يوجد له ضدّ آخر غير حرجي أيضاً، فآية نفي الحرج لا تعيّنه، فيبدو أنّ المرجّح هو اجتماع(1) مجموع أمرين: مخالفة أحداهما للكتاب، وموافقة الاُخرى له.

والمرحّج الثاني: ما يأتي بعد المرجّح الأوّل، وافتراض أنّنا لم نجدهما في كتاب الله، فيقول: اعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه.


(1) أو الأخصّ منهما، وهو موافقة أحدهما للكتاب.

712

وقد يقال: إنّ الميزان إذن هو مخالفة أخبارهم، لا مخالفة فتاواهم، ولا تلازم بينهما، فقد تكون فتواهم مستندة إلى القياس والاستحسان أو المصالح المرسلة ونحو ذلك، إلاّ أنّ الصحيح هو أنّ المتفاهم عرفاً من قوله: فما وافق أخبارهم، وما خالف أخبارهم هو مطلق الموافقة والمخالفة مع وضعهم الفعلي، سواء استند إلى الأخبار أو إلى القياس والاستحسان؛ وذلك لأنّ الترجيح يكون بنكتة طريقية عرفية مرتكزة، لا مجرّد التعبّد الصرف، والإمام(عليه السلام)يتّقي من الوضع الفعلي لهم وفتاواهم، لا من مجرّد أخبارهم.

وبعد ذلك يقع الكلام في أنّ هذين الترجيحين هل يمكن تخريجهما بمقتضى القاعدة، فنقول بهما بحسب النتيجة ولو لم نؤمن برواية الراوندي، اولا؟

وأقصد بمقتضى القاعدة ما يتمّ بالالتفات إلى غير الأخبار العلاجية، ومع غضّ النظر عنها.

والصحيح هو: إمكان تخريج كلا الترجيحين بمقتضى القاعدة: أمّا الترجيح الأوّل فلأنّه يوجد عندنا ما دلّ على حجّيّة خبر الثقة مطلقاً، ويوجد ما دلّ على عدم حجّيّة ما خالف الكتاب، وهو مطلق أنحاء المخالفة خرجنا من الدليل الثاني في المخالف الذي يكون من قبيل التخصيص والتقييد، مع عدم وجود معارض له، وذلك بدعوى: أنّه متيقّن من عمل الأصحاب، وفي غير ذلك لم نخرج من دليل طرح ما خالف الكتاب، فاذا كان عندنا خبران متعارضان أحدهما يخالف الكتاب فالمخالف ليس حجّة بحكم الدليل الثاني، وغير المخالف حجّة بحكم الدليل الأوّل. ولو فرض أنّ المخالف يكون بنحو التقييد والتخصيص؛ وذلك لفقدان الشرط الثاني من شرطي الخروج عن الدليل الثاني، وهو عدم المعارض، فبذلك ثبت تقدّم غير المخالف للكتاب على المخالف.

واما الترجيح الثاني فتخريجه بمقتضى القواعد يكون بأنْ يقال: إنّ لكلّ دليلين مرتبتين من الظهور.

1 ـ ظهوره في المراد الاستعمالي.

2 ـ ظهوره في المراد الجدي.

فإذا ورد خطابان متعارضان فالعرف أوّلا يعالج تنافيهما في مرتبة الدلالة الاستعمالية، فإن كان أحدهما على تقدير الاتّصال هادماً لظهور الآخر، فعلى تقدير الانفصال يكون قرينة لرفع اليد عن ظهور الآخر ـ على ما مضى من القاعدة الميرزائية ـ، ولا تصل النوبة مع علاج التعارض في مرتبة المدلول الاستعمالي إلى مرتبة اُخرى.

713

وأمّا اذا استحكم التعارض في المرتبة الأولى فعندئذ تصل النوبة في نظر العرف إلى الجمع والعلاج في المرتبة الثانية، وهي ظهورها في المراد الجدّي، فيقدّم الصريح على غير الصريح في هذه المرتبة، كما كان يصنع في المرتبة السابقة، وما خالف العامّة صريح في عدم التقية بخلاف ما وافق العامة، فيجعل العرف ورود ما خالف العامّة قرينة على كون ما وافق العامّة تقية، وهذا جمع عرفي تقتضيه سيرة العقلاء مع متكلّم يتعرّض عادة لمشاكل التقية.

إلاّ أنّ هنا إشكالا أوردوه على الجمع بالحمل على التقية، وهو أنّنا في سائر موارد الجمع الدلالي نقول: إنّ دليل الحجّيّة العامّ إنّما دلّ على الأخذ بكل خبر بعد لحاظ جميع قرائنه المتّصلة والمنفصلة، فإذا كان بين الخبرين المتعارضين جمع دلالي كما في العامّ والخاصّ لم يقع أيّ تعارض بين الحجّيّتين، لأنّ اطلاق دليل الحجّيّة إنّما دلّ على حجّيّة العامّ بعد تحكيم كلّ ماله من قرائن متّصلة ومنفصلة، والمفروض أنّ الخاصّ قرينة منفصلة، فدليل الحجّيّة إنّما دلّ على حجّيّة العامّ فيما عدا مقدار الخاصّ، وفي طرف الخاصّ أيضاً إنّما دلّ إطلاق دليل الحجّيّة على حجّيّة الخاصّ بعد تحكيم القرائن فيه، إلاّ أنّه لم ترد قرينة على خلافه، فصار الخاصّ بمدلوله الأوّلي حجّة، ولا تعارض بين حجّيّة العامّ فيما عدا مورد الخاصّ وحجّيّة الخاصّ كما هو واضح، ولهذا لم تسرِ المعارضة من الدلالة الى السند. وأمّا في مورد الحمل على التقيّة فإذا حمل أحد الخبرين على التقيّة وعدم الجدّ كان معنى ذلك سقوطه عن الحجّيّة رأساً؛ اذ لا معنى لحجّية مالا يكون الّا كلقلقة اللسان، اذن فهو مع معارضه لا يجتمعان في الحجّيّة، أي: إنّه استحكم التعارض في السند.

وهذا الإشكال غير صحيح؛ لأنّ الحجّيّتين وإن لم يمكن اجتماعهما، لكن لا يقع التعارض بينهما، بل حجّيّة الخبر المخالف للعامّة: تحكم على حجّيّة الخبر الموافق، وترفع موضوعها بعد تسليم أصل قرينية ما خالف العامّة ـ بغضّ النظر عن هذا الإشكال ـ؛ وذلك لأنّ موضوع الحجّيّة مركّب من جزءين: أحدهما ما صرّح به في لسان دليل الحجّيّة، وهو وثاقة الراوي والثاني ما يستفاد بقرينة لبّيّة هي صون كلام الحكيم عن اللغوية، وهو وجود أثر في المقام حتّى لا تلغو الحجّيّة، والمفروض أنّ الخبر الموافق للعامة بعد تحكيم قرينته المنفصلة وهي المخالف لهم، وحمله على التقية لا يبقى أثر لحجّيّته، أي: يرتفع موضوع الحجّيّة فيه.

وبالإمكان أن ننقض على أصحاب هذا الإشكال بما اذا اقتضى الجمع الدلالي حمل أحد الخبرين على غير الحكم الشرعي، وبما إذا كان أحد الخبرين ناظراً إلى الخبر الآخر ومفسِّراً له بالتقية، كما لو ورد عنه(عليه السلام): أنيّ كنت في الكلام الفلاني متّقياً، فانّه لا إشكال في هذين

714

الموردين في الأخذ بالخبر القرينة وسقوط الخبر الآخر عن الحجّيّة، لعدم بقاء أثر لحجّيّته.

 

واما الجهة الثالثة، وهي في قياس رواية الراوندي بباقي أخبار الترجيح:

فنقول: من جملة الروايات رواية الحسين بن السريّ(1)، قال: «قال ابو عبدالله (عليه السلام)إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(2)

وهذا الحديث ساقط سنداً بالإرسال، وهو يذكر الترجيح بمخالفة العامّة، ومزيّته عن رواية الراوندي هي أنّه عبّر بمخالفة القوم لا بمخالفة أخبارهم، فهو يؤيّد ما استفدناه من رواية الراوندي من أنّ الميزان هو مخالفة الوضع الخارجي والفتوى للقوم، لا أخبارهم فحسب.

وهذا الحديث لو تم في نفسه وجب تقييده برواية الراوندي؛ لا قتصاره على المرجّح الثاني، ورواية الراوندي تذكر الترجيح بالكتاب أوّلا، فهي أخصّ من هذا الحديث، فيقيّد بصورة عدم وجود المرجّح الأوّل، وهو موافقة الكتاب ومخالفته.

ومنها: رواية الحسن بن الجهم، قال: «قلت للعبد الصالح (عليه السلام) هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلاّ التسليم لكم؟ فقال: لا والله، لا يسعكم إلاّ التسليم لنا فقلت: فيروى عن أبي عبدالله(عليه السلام) شي، ويروى عنه خلافه، فبأيّهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه»(3).

وهذه الرواية ـ أيضاً ـ اقتصرت على المرجّح الثاني، فتقيّد برواية الراوندي، وهي ـ أيضاً ـ تؤيّد كون الميزان وضعهم الخارجي، لا أخبارهم.

ومنها: رواية محمّد بن عبدالله، قال: «قلت للرضا (عليه السلام) كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه»(4).


(1) لا يوجد في كتب الرجال شخص باسم الحسين بن السريّ، ولكن يوجد فيها شخص باسم الحسن بن السريّ، وفي وثاقته كلام ناشئ ممّا قد يقال من اختلاف نسخ كتاب النجاشي في توثيقه، وعدم توثيقه، راجع معجم الرجال: ج 4، ص 341 ـ 342.

(2) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 30، ص 85، وبحسب طبعة آل البيت ج 27 ص 118.

(3) نفس المصدر: ح 31.

(4) نفس المصدر: ح 34 ص 85 ـ 86، أو ص 111 بحسب اختلاف الطبعتين.

715

والجمع في هذه الرواية بين التعبير، بمخالفة العامّة والتعبير بموافقة أخبارهم قد يؤيّد أنّ المقصود من موافقة أخبارهم موافقة فتاواهم ووضعهم.

وهذه الرواية ـ أيضاً ـ اقتصرت على المرجّح الثاني، وتقيّد برواية الراوندي.

ومنها: مرسلة الطبرسي عن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله (عليه السلام)«قلت: يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به والآخرينها نا عنه، قال: لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك، فتسأله، قلت: لا بدّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة»(1).

وهذه الرواية فيها جنبتان:

1 ـ جعل المرجّحات في طول ضرورة العمل بواحد منهما، وهذا الشرط لم يكن موجوداً في رواية الراوندي، فلو فرض تمامية سندها، وغضّ النظر عن إرسالها قيّدنا رواية الراوندي بها، إلاّ أنّها مختصّة بصورة التمكّن من لقاء الإمام، ففي خصوص هذه الصورة تقيّد رواية الراوندي بهذا الشرط.

2 ـ الاقتصار على المرجّح الثاني، فتقيّد برواية الراوندي المشتملة على المرجّح الأوّل.

وعلى أيّ حال، فالرواية ساقطة سنداً.

ومنها: رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «ما سمعته منّي يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيه فيه»(2).

فهذه الرواية قد تجعل كالروايات السابقة دالّة على الترجيح بمخالفة العامّة، فتقيّد ـ أيضاً ـ برواية الراوندي المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته.

إلاّ أنّ الصحيح، أنّ هذه الرواية وردت في طبيعي الخبر، لا في الخبرين المتعارضين، فلو عملنا بهذه الرواية فقد يكون معناها أنّ كلّ ما وافق العامّة سقط عن الحجّيّة.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه فرق بين التعبير بموافقة فتوى القوم والتعبير بأنّه يشبه قول الناس، فمعنى الشبه بقولهم هو أن يكون الكلام بنفس الأساليب والاستدلالات الموجودة في كلامهم من الخرافات والقياس والاستحسان ونحو ذلك، ولا بأس بجعل ذلك قرينة نوعية على التقيّة، ولعلّها قرينة عقلائية لا تحتاج إلى دلالة رواية عليها.

ومنها: مرسلة الطبرسي روي عنهم(عليهم السلام) أنّهم قالوا: «إذا اختلفت أحاديثنا عليكم


(1) نفس المصدر: ح 42، ص 88، أو ص 122 بحسب اختلاف الطبعتين.

(2) نفس المصدر: ح 46، ص 88 أو ص 123 بحسب اختلاف الطبعتين.

716

فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا، فانّه لا ريب فيه»(1) فهذا الحديث يدلّ على الترجيح باجتماع الشيعة، فإن كان المقصود من ذلك الاجتماع في الرواية فهذا معناه التواتر، ولا إشكال في وجوب العمل بالخبر المتواتر في مقابل خبر الواحد. وان كان المقصود الاجتماع في العمل كان ذلك مرجّحاً تعبّدياً. ولا يبعد ظهور الرواية في الثاني؛ لأنّه أضاف الاجتماع الى الشيعة، لا الى الرواة، والشيعة ليسوا كلّهم رواة، فاذا نسب الاجتماع إلى الشيعة بما هم شيعة كان مناسباً للعمل، وإذا نسب إلى الرواة بما هم رواة كان مناسباً للرواية.

وهذا الحديث وان كان ضعيفاً سنداً فلا نقول بالترجيح التعبّدي، ولكن كثيراً ما نقول بنتيجة ذلك من باب أنّ إجماع الشيعة يورث الاطمئنان الشخصي للفقيه.

ومنها: رواية الحسن بن الجهم عن الرضا(عليه السلام) قال: «قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّوجلّ وأحاديثنا، فان كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(2).

وقد يقال: إنّ الإمام (عليه السلام) أوّلا ذكر ضابطاً لتمييز الصحيح من غيره بلا ارتباط بباب الترجيح، وهو تشخيص كلام الإمام من مزاج التعبير، وهذا لا يمكن لأحد التوصّل إليه إلاّ الأوحدي المخالط كثيراً للإمام (عليه السلام) وأقواله العارف باساليبه، فيعرف أنّ الرواية الفلانية عليها رائحة الإمامة، وأنّ الرواية الفلانية لا تنسجم مع اُسلوب الإمام، وهذا يحتاج الى مراتب عالية من الممارسة والتفاعل مع الإمام، ولهذا يرى السائل أنّ هذا الجواب لم يفده فائدة معتدّاً بها، فيكرّر السؤال، فيقول: يجيئنا الثقتان بخبرين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، أي: لم نستطع أن نميّز كلام الإمام (عليه السلام) من غيره، فالإمام (عليه السلام)يحكم عندئذ بالتخيير، وذلك يعارض بأخبار الترجيح، فنقيّد إطلاق هذه الرواية بها.

نعم، هذه الرواية تدلّ على أنّه قبل كلّ شي يجب ملاحظة نبض الكلام ومزاجه واُسلوبها الذي قد يميّز صحّة الحديث وبطلانه، ولا بأس به للأوحدي الذي يستطيع بطول التفاعل فهم ذلك.

والرواية ضعيفة سنداً.


(1) نفس المصدر: ح 43، ص 88 أو ص 122 بحسب اختلاف الطبعتين.

(2) نفس المصدر: ح 40، ص 87 أو 121 ـ 122 بحسب اختلاف الطبعتين.

717

هذا. ولا نذكر في المقام روايات طرح ما خالف كتاب الله بألسنتها المتعدّدة؛ وذلك لأنّها ليست في مقام علاج التعارض، بل في مقام إضافة شرط جديد لحجّيّة خبر الواحد زائداً على الوثاقة، وهذا بحث أجنبي عن محلّ الكلام تقدّم في بحث خبر الواحد، وتقدّم هنا ـ أيضاً ـ عندما بحثناعن التعارض بين قطعي السند وظنّي السند.

 

بقي علينا ذكر المقبولة والمرفوعة وقياسهما إلى رواية الراوندي:

أمّا المقبولة فهي التي رواها عمر بن حنظلة، قال: «سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ فقال(عليه السلام): من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً، وإن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: «يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به». قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فانّما بحكم الله استخفّ، وعلينا قد ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله. قلت: فان كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وامر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه الى الله، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): حلال بيّن، وحرام بيّن، و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم. قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة، فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة، ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك، أرايت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامّة ففيه

718

الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

وأمّا المرفوعة فهي ما رواها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلاّمة مرفوعاً إلى زرارة، قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام)، فقلت له: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر، فقلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك، فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيان موثقان. فقال: انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه، وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟ قال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك الآخر. قلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»(2).

والكلام يقع:

أوّلا: في دلالتهما في أنفسهما.

وثانياً: في علاقة أحداهما بالاُخرى.

وثالثاً: في علاقتهما مع رواية الراوندي.

فهنا ثلاث جهات من البحث:

 

الجهة الاُولى: في دلالتهما: وهما تمتازان عن رواية الراوندي بما فيهما من مرجّحين جديدين: أحدهما الشهرة، والآخر صفات الراوي. وقدّمت الشهرة على الصفات في


(1) راجع الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75 ـ 76 وبحسب طبعة آل البيت ج 27، ص 106. وقد حذف في الوسائل هنا صدر الحديث لعدم علاقته بمورد البحث، ولكن ذكر جزءً من الصدر في ب 1 من صفات القاضي، ح 4. وتجد كل الحديث في اُصول الكافي: ج 1، ب 1 اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، ح 10، ص 67 ـ 68 حسب طبعة الآخوندي، والتهذيب: ج 6، ح 845، ص 301 ـ 303 حسب طبعة الآخوندي.

(2) مستدرك الوسائل: ج 17، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 303 ـ 304.

719

المرفوعة، بينما قدّمت الصفات على الشهرة في المقبولة:

أمّا الكلام في الشهرة فقد أفاد بعضهم كالسيد الاُستاذ(1) ـ على ما أتذكر ـ وغيره أنّ الترجيح بالشهرة في هاتين الروايتين ليس ترجيحاً بالمعنى المقصود، وإنّما هو تمييز للحّجّة عن اللاحجّة؛ وذلك لأنّ الشهرة معناها هو الوضوح، والتواتر، والاستفاضة، ونحو ذلك، فيسقط الآخر عن الحجّيّة؛ لأنّ من شرط حجّيّة خبر الواحد عدم المعارضة لدليل قطعي.

وتوضيح الحال في ذلك: أنّ الخبر يستبطن أمرين: حكاية الراوي والكلام المحكي، والاشتهار تارةً يضاف إلى جنبة حكاية الراوي، واُخرى إلى جنبة الكلام المحكي، فإذا اُضيف إلى المحكي كان الاستفاضة والتواتر في النقل، وكان ذلك تمييزاً للحجّة عن اللاحجّة، وإذا اُضيف إلى الحكاية ورواية الراوي بماهي خبر، فالمقصود ليس هو اشتهار نقل الرواة هذا الخبر عن الراوي؛ لأنّ المفروض أنّه هو سمعها من الراوي، فالمقصود بالاشتهار عندئذ هو أخذ هذا الخبر عند الأصحاب بعين الاعتبار والاهتمام به في مقابل أن يُرمى عندهم بالشذوذ، ويطرح، ولا يعتنى به، من قبيل ما يقوله الطوسي أحياناً من أنّ الرواية الفلانية شاذة، أي: حصل في الأوساط الفقهية نحو انقباض عنه ونحو ذلك، فعلى هذا تكون الشهرة مرجّحة تعبّدية، ويمكن أن يدعى ان هذا المعنى من الشهرة هو الظاهر من المرفوعة، فقد اُضيفت الشهرة فيها الى نفس الحكاية وذلك بقرينتين:

1 ـ أنّه بعد ذكر الترجيح بالشهرة فرض السائل شهرتهما معاً، فلو حملت الشهرة على المعنى الأوّل كان معنى ذلك قطعية كليهما، ومعه لا يبقى مجال عرفي للترجيح بالأعدلية والأوثقية، فإنّه لا أثر لذلك مع فرض قطعية كلا الخبرين وتواترهما.

وهذه القرينة تامّة ولا يوجد فيها إلاّ دغدغة واحدة قابلة للدفع، وحاصلها: أنّ الشهرة حينما توجد في إحدى الروايتين فقط توجب القطع بالصدور، ولكن حينما تصبح الشهرة فيهما معاً حصل التزاحم بينهما، فلا توجب القطع.

وهذه الدغدغة جوابها: أنّ هذا صحيح لو كان من البعيد في نفسه بحسب وضع الإمام أن تصدر منه الكلمات المتعارضة، كما هو الحال في فقيه غير مبتلىً بالتقيّة في فتاواه، ولكن بعد أن كان هذا الشيء اعتيادياً للإمام فلا تضعف درجة الاطمئنان ضعفاً معتدّاً به.

2 ـ إنّه بعد فرض شهرة كليهما قال: (خذ بما يقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك)،


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 411 ـ 413.

720

فلو كان معنى الشهرة حكاية جمع كثير لهذه الرواية عن الإمام لكان ينبغي أن يقول: خذ بأوثق الطائفتين، وظاهر قول الإمام وزرارة فرض راويين شخصيّين، وتقديم رواية أوثقهما، لا طائفتين من الرواة، ولذا عبّر الإمام (عليه السلام) بقوله: (خذ بما يقول أعدلهما وأوثقهما) وعبّر زرارة بقوله: إنّهما معاً عدلان مرضيان.

وأمّا المقبولة فاحتمال كون المقصود بالشهرة فيها الشهرة المضافة إلى المحكي احتمال مقبول، حيث قال: (فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم) فهذا ظاهر في الشهرة المضافة إلى المحكي، وليست فيه إلاّ دغدغة واحدة، وهي: أنّه لو كانت الشهرة بهذا المعنى لكان ينبغي جعلها المرجّح الأوّل، وتذكر قبل الصفات، بينما جائت في المقبولة بعد الصفات، فينبغي حمل الشهرة على ما لا يساوق القطع واليقين.

وهذا الإشكال لا يتمّ بناءً على ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ الترجيح بالصفات في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر، لا لإحدى الروايتين على الاُخرى. وأمّا بناءً على كونه ترجيحاً للرواية فلا جواب على هذا الإشكال، إذ لا معنى لترجيح رواية الأوثق على الرواية المشهورة بمعنى الشهرة المضافة إلى المحكي، إلاّ أن يقال: إنّ معنى الترجيح بالأوثقية لأحد الخبرين على معارضه المشهور هو كون وثاقته فوق مجموع وثاقات الرواة المتعدّدين للرواية المشهورة، أي: إنّ احتمال كذب راوي هذا الخبر أبعد عن احتمال كذب تمام رواة ذاك الخبر، وفي مثل هذا الفرض يكون تقديم الترجيح بالصفات على الشهرة شيئاً مقبولا.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ الترجيح بالشهرة يستفاد من المرفوعة، ولا يستفاد من المقبولة.

وأمّا الكلام في الصفات: فالاستدلال على الترجيح بها بالمقبولة يعترض عليه باعتراضين:

الاعتراض الأوّل: أنّها واردة في مورد الّتمكن من لقاء الإمام، فكّل الأحكام المذكورة فيها مختصّة بهذه الصورة، ولا تشمل زمان الغيبة او البعيد عن الإمام غير المتمكن من رؤيته، ففي ذلك نرجع الى المطلقات، والقرينة على اختصاصها بمورد التمكّن من لقاء الإمام ما جاء في آخر الرواية من قوله: (أرجئه حتّى تلقى إمامك).

ويرد عليه أوّلا: أن الحكم في قوله: (أرجئه حتّى تلقى إمامك) وإن كان بقرينة جعل لقاء الإمام غايةً مختصاً بصورة التمكّن من لقائه، لكن لا يلزم من ورود قيد على الخطاب الأخير

721

اسراؤه الى الخطابات السابقة ـ أيضاً ـ بعد فرض اختصاص القرينة بالأخير، ووحدة السياق إنّما تفيد فيما إذا كان ظاهر الفقرات واحداً ثمّ عرفنا من الخارج خصوصية في احداها، لا فيما اذا صرّح في إحداها بالتقييد، والقضية لو كانت خارجية والمخاطب نفس هذا الشخص لصحّ أن يقال: إنه بعد أن عرف في الحكم الأخير أنّ المورد صورة التمكّن من اللقاء يكون ـ لا محالة ـ مورداً لكلّ ذلك، لكنّها قضية حقيقية.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ ذيل الحديث أوجب عدم انعقاد الإطلاق في الخطابات السابقة، قلنا: إنّ احتمال دخل التمكّن من اللقاء في الحكم الذي هو محلّ البحث ليس عرفياً. وتوضيحه: أنّ الحكم بالتوقّف والإرجاء والاحتياط يعقل عرفاً اختصاصه بصورة التمكّن من اللقاء، فمع التمكّن يؤمر بالاحتياط، وإن ضاق به الاحتياط راجع الإمام (عليه السلام)وسأله عن الحكم الواقعي. وأمّا مع عدم التمكن فيلزم من الاحتياط ابتلاؤه به طيلة عمره. وأمّا الحكم بالترجيح بالأصدقية والأعدلية والأفقهية فبمناسبات الحكم والموضوع لا دخل للتمكّن من اللقاء وعدمه في ذلك.

الاعتراض الثاني: أنّ الترجيح بالصفات هنا ليس لإحدى الروايتين على الاُخرى وإنّما لأحد الحكمين على الآخر.

وهذا الإشكال قد يسري إلى سائر المرجّحات الاُخرى المذكورة في المقبولة كالشهرة، لكنّ الصحيح أنّ هذا الاعتراض تامّ بلحاظ الصفات دون باقي المرجحات، فلنا دعويان:

الاولى: إنّ الترجيح بالصفات يكون لأحد الحكمين دون إحدى الروايتين.

وهذا واضح من سياق الكلام، حيث صبّ الترجيح على الحكم، فقال: ( الحكم ما حكم به أعدلهما...).

وهناك نكتة في الرواية تشهد لذلك، وهي أنّ الترجيح بالصفات طبّق في المقبولة على أوّل السلسلة، أي: على نفس الحاكمين من دون ان يفرض في المقبولة أنّ الحاكمين هما الراويان المباشران للإمام، بينما لو كان هذا ترجيحاً لإحدى الروايتين لكان ينبغي تطبيقه: إمّا على مجموع السلسلة، وإمّا على اخر السلسلة المباشر للإمام، كما يصنعه القائلون بالترجيح بالصفات في الرواية، وكما هو مقتضى الصناعة؛ لأنّ التعارض في الحجّيّة والتنجيز إنّما هو بين نقلي الراويين المباشرين للإمام. وأمّا من قبلهما من الرواة فلا تعارض في نقلهم، اذ أحدهما ينقل موضوعاً آخر غير ما ينقله الآخر، فأحدهما يقول مثلاً: سمعت زرارة قال: كذا، والآخر يقول مثلا: سمعت أبا بصير قال: كذا، ولا منافاة بين الكلامين في التنجيز، فإنّ

722

التنجيز إنّما يحصل بثبوت قول الإمام، فالتعارض الحقيقي في عالم الحجّيّة يكون بين النقلين المباشرين عن الإمام. وهذا بخلاف باب الحكم الذي يكون التعارض فيه بين الحاكمين، إذن فالترجيح في باب الرواية يكون بصفات الراوي المباشر أو يدّعى أنّه بحسب الارتكاز العرفي يكون بصفات المجموع، بدعوى أنّ الترجيح بالصفات ليس ترجيحاً تعبّدياً صرفاً بين المتعارضين، حتّى يقال: إنّ التعارض في عالم الحجّيّة يكون بين النقلين المباشرين عن الإمام، وإنّما يكون ترجيحاً بلحاظ تقوية احتمال الصدق والمطابقة للواقع. وهذا كما يكون في الراوي المباشر كذلك يكون في غيره.

وعلى أيّ حال، فذكر الترجيح بلحاظ الراوي المباشر لنا فقط لا بلحاظ المجموع، ولا بلحاظ الراوي المباشر للإمام قرينة على أنّه ترجيح للحكم، لا للرواية.

الثانية: إنّ باقي المرجّحات ترجيح للرواية لا للحكم، حيث إن الإمام (عليه السلام)بعد فرض تساوي الحاكمين في الصفات انتقل إلى مدرك الحكم، وقال: يؤخذ بالمجمع عليه ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور، فالأمر بالأخذ بعد الترجيح بالصفات اُضيف إلى الرواية، وفي ذلك ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن تكون اضافته إلى الرواية إضافة بالعرض، ويكون المقصود الأخذ بالحكم الذي على طبقة الرواية المشهورة مثلا.

وهذا خلاف الظاهر فإنّ ظاهر إضافة الأمر بالأخذ إلى الرواية كونها إضافة حقيقية لا بالعرض.

الثاني: أن تكون إضافته إلى الرواية حقيقية، لكن لا بما هي رواية، بل بما هي فاصلة للخصومة، فكأنّما بيّن الإمام (عليه السلام) أنّه بعد سقوط الحاكمين تجعل الرواية المشهورة مثلا حاكمة وفاصلة للخصومة من دون أن يفتى بمضمونها.

وهذا ـ أيضاً ـ خلاف الظاهر، فإنّ اضافة الأخذ إلى الرواية ظاهرها الأخذ بها بما هي رواية، لا بعنوان آخر.

الثالث: ما اتّضح من خلال ما سبق، وهو إضافته إلى الرواية بما هي رواية، وقد اتّضح تعيّن هذا الاحتمال، ويثبت بذلك كون الترجيح للرواية، وهو المطلوب.

ثمّ إنّ المرفوعة مشتملة على ثلاث مرجحات: الشهرة، والصفات، ومخالفة العامّة. والمقبولة مشتملة على أربع مرجحات: الصفات، والشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامة، لكن عرفت أنّ الشهرة في المقبولة ترجع إلى تمييز الحجّة عن اللاحجّة، والصفات

723

ترجع إلى باب الحكم، فالمرجّح فيها ينحصر في موافقة الكتاب ومخالفة العامّة. وسوف يأتي أنّهما في المقبولة مرجّحان مستقلاّن، لا أنّ الكتاب جزء المرجّح، وحيث إنّ المرفوعة لا نقول بحجّيتها لضعف السند، ونقول بحجّية المقبولة، فنعمل بالمقبولة، ولا نُعمِل قواعد التعارض بينهما، ولا يتحصّل من المقبولة شيء زائد على ما في رواية الراوندي.

 

الجهة الثانية: في النسبة بين المقبولة والمرفوعة بعد فرض قبولهما معاً:

فنقول: إنّ هناك عدة موادّ للتعارض بين المقبولة والمرفوعة.

المادّة الاُولى: أنّ المقبولة بدأت بالترجيح بالصفات وثنّت بالشهرة ـ بعد غضّ النظر عمّا مضى من ان الترجيح بالصفات يكون لباب الحكم، وأنّ الشهرة أخذت كتمييز بين الحجّة واللاحجّة ـ والمرفوعة بالعكس، أي: بدأت بالشهرة وثنّت بالصفات.

وذكر الشيخ الأعظم(قدس سره) أنّه يمكن أن تقدّم المقبولة عملا بالمرفوعة التي تحكم بتقديم المشهور على الشاذّ النادر، فإن المرفوعة لم تنقل إلاّ عن غوالي اللئالي مرفوعاً عن العلاّمة، والعلاّمة مرفوعاً عن زرارة، لكن المقبولة مشهورة فترجّح بالشهرة(1).

وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): أنّه لا يمكن العمل بالمرفوعة في مقام تقديم المقبولة عليها، إذ معنى ذلك أنّ المرفوعة تلغي نفسها بنفسها، ويلزم من وجود الشيء عدمه(2).

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّ التعارض بين المقبولة والمرفوعة ـ بعد فرض تماميّة دلالتهما على الترجيح بالصفات وبالشهرة بنحو متعاكس يكون بنحو العموم من وجه؛ إذ مقتضى إطلاق ترجيح المقبولة بالصفات هو الترجيح بها، سواء كان الآخر أشهر أو لا، ومقتضى إطلاق ترجيح المرفوعة بالشهرة هو الترجيح بها سواء كان الآخر أعدل وأصدق، أو لا.

والتعارض بالعموم من وجه تعارض دلالي، ولا يسرى إلى السند. فإن بنينا على أنّ المرجّحات مخصوصة بالتعارض السندي، ولا تشمل العامين من وجه، فلا معنى لترجيح المقبولة هنا بكونها هي المشهورة. وإن بنينا على شمول المرجحات للعامين من وجه قلنا بعد تسليم أنّ المقبولة هي المشهورة وأنّ المرفوعة ليست مشهورة: انّه إن فرض أنّ الراوي في


(1) راجع الرسائل ص 447 ـ 448 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

(2) راجع نهاية الدراية ج 5 ـ 6 ص 317 بحسب طبعة آل البيت.

724

المرفوعة ليس أصدق تمّ كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)، ولا يأتي عليه إشكال المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)من أنّه لزم من وجوده عدمه؛ وذلك لأنّ المقبولة داخلة في مادّة الافتراق للمرفوعة، فلماذا لا تؤخذ بالمرفوعة في ترجيح المقبولة مع أنّها ليست مبتلاة بالمعارض سنداً لأنّ المفروض عدم التباين، ولا دلالةً لأنّ مادّة الافتراق لا معارض لها. إذن فالمرفوعة تدلّ بمادة افتراقها على العمل بالمقبولة في مادّة اجتماعها، فهدمت مادّة الافتراق مادّة الاجتماع، فلم يلزم من وجود شيء واحد عدمه، ولا يلزم من إسقاط مادّة اجتماعها تخصيصها بالفرد النادر؛ إذ تبقى لها مادّة الافتراق، وهي كلّما كان أحد الخبرين هو المشهور من دون أن يكون الآخر أرجع في الصفات، ولا مبرّر لفرض ذلك هو الفرد النادر في مقابل ما لو كان الآخر أرجع في الصفات. وأمّا إذا فرض ان الراوي في المرفوعة أصدق مثلا كما لو أخذنا بالراوي الأخير، وكان زرارة أصدق من عمر بن حنظلة، فعندئذ لا يصحّ ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)من ترجيح المقبولة على المرفوعة بالشهرة عملا بنفس المرفوعة؛ إذ ليس ذلك بأولى من العكس، أي: ترجيح المرفوعة بالصفات على المقبولة عملا بنفس المقبولة.

نعم، لا يرد عليه إشكال المحقّق الإصفهاني(رحمه الله).

وتوضيح ذلك: أنّ المقبولة والمرفوعة يكون تحتهما أفراد طولية للتعارض، فأوّلها مثلا الخبر الدالّ على وجوب السورة مع الخبر الدالّ على عدمه، فالمقبولة تقدّم الأصدق منهما والمرفوعة تقدّم المشهور منهما، وفي هذه المرتبة يتوّلد فرد جديد للتعارض، وهو نفس المقبولة والمرفوعة، وهذا الفرد ـ أيضاً ـ تعالجه المقبولة والمرفوعة، فإحداهما تقول: قدّم الأصدق، والاُخرى تقول: قدّم الأشهر، وفي هذه المرتبة ـ أيضاً ـ يقع التعارض، وهكذا، وعندئذ فالمحذور هو أنّه في أيّ مرتبة أعملنا المرفوعة دون المقبولة فقد أعملنا أحد المتعارضين دون الآخر جزافاً، لا أنّه يلزم من وجود الشيء عدمه، فإنّ التقديم في أيّ مرتبة إنّما يسقط ما في المرتبة السابقة، لا ما في نفس تلك المرتبة.

هذا كلّه بناء على إغفال نكتة في المقام لو أبرزناها يتّضح أنّ التعارض بين المقبولة والمرفوعة ليس بنحو الإطلاقين من وجه، وإنّما يكون بنحو يقتضي الجمع العرفي، ولا تصل النوبة بعد ذلك إلى ترجيح إحداهما على الاُخرى، بل لا بدّ من الجمع بينهما.

وتوضيح تلك النكتة: أنّ دليلي الترجيح إن فرض اقتصار كلّ واحد منهما على مرجّح دون المرجّح الآخر، كما لو اقتصر أحدهما على الترجيح بالصفات، والآخر على الترجيح بالشهرة، جاء ما ذكرناه من التعارض بينهما بنحو الإطلاقين من وجه، وإن فرض اقتصار

725

أحدهما على المرجّح الثاني، وذكر الآخر لكلا المرجّحين طولياً كان التعارض بينهما بنحو المطلق والمقيّد، وقيّد ما اشتمل على مرجّح واحد بما اشتمل على مرجّحين، وكذا لو اقتصر أحدهما على أحد المرجّحين والاخر ذكر مرجّحين عرضيّين.

وأمّا إن فرض أنّ كلا منهما ذكر المرجّحين طولياً، ولكن بنحو التعاكس، كما هو الحال فيما نحن فيه، فلو فرض أنّ الإمام (عليه السلام) هو الذي ذكر المرجّحين ابتداءً، كما لو قال: خذ بالأشهر، فإن لم يكن فبالأصدق. وقال أيضاً: خذ بالأصدق، فإن لم يكن فبالأشهر، فعندئذ يوجد هناك دالّان ومدلولان: الدالّ الأوّل هو الإطلاق الذي يدلّ على أنّ ما ذكر أوّلا يرجّح ويوجب التقديم، سواء كان الخبر الآخر واجداً للمزية الاُخرى أو لا، وهذا معناه الترتيب، والدّال الثاني نفس تقديم إحدى المزيّتين على الاُخرى، فإنّه يدلّ بالنصوصية العرفية على أنّ الأوّل ليس في طول الثاني، وإلاّ فلماذا قدّمه، فهو: إمّا مقدّم عليه أو على الأقلّ في عرضه، وإطلاق كلّ من الخبرين المرجّحين يقيّد بنصّ الآخر، ويثبت أنّ المرجّحين في عرض واحد. ومثل هذا الكلام لا يأتي فيما إذا اقتصر الإمام على مرجّح واحد، فإنّه يحتمل اقتصاره على المرجّح الثاني.

هذا كلّه لو أنّ الإمام (عليه السلام) هو ذكر المرجّحين بهذا الترتيب.

وأمّا لو فرض أنّ هذا الترتيب منتزع من كلام الإمام انتزاعاً، بأن سأل الراوي عن الخبرين المتعارضين فذكر الإمام مرجّحاً، ثمّ فرض الراوي تساويهما من تلك الناحية، فذكر الامام مرجّحاً آخر، كما هو الحال في المقبولة والمرفوعة، فهنا ما ذكرناه لا يأتي بذاك الوضوح، فإنّه لو كان الكلام كلاماً ابتدائياً للإمام فالتقديم والتأخير من قبله لا يكون عرفياً أبداً لو فرض الترتيب العكسي. أمّا اذا فرض أنّ كلام الإمام كان جواباً عن سؤال السائل، فلعلّ الإمام في جوابه عن السؤال الأوّل أجاب بالمرجّح الثاني، ولا بأس بذلك، ولذا لا نضايق من أن يقتصر الإمام على ذكر المرجّح الثاني، ثمّ بعد أن فرض السائل عدم هذا المرجّح وطالب بتعيين ما هو الأرجح أو التساوي ذكر الإمام المرجّح الأوّل، ولكن مع هذا ينبغي أن يقال: إنّ ظاهر كلام الإمام أنّ المرجّح الثاني ـ على الأقلّ ـ ليس مقدّماً على المرجّح الأوّل؛ اذ لو كان مقدّماً عليه ولكنّ الإمام لنكتة ما بدأ بذكر المرجّح الثاني فهذا معناه أنّ كلامه الأوّل الذي بدأ فيه بالمرجّح الثاني مقيّد لبّاً بعدم المرجّح الآخر، وهذا القيد غير مأخوذ في الكلام الثاني، وهذا معناه أنّ الجوابين لم ينصبّا على موضوع واحد مع أنّ ظاهرهما أنّهما منصبّان على موضوع واحد، فهذا يكون من قبيل أن يقول الإمام في الجواب