654

 

 

 

تنبيهات على موارد مشكوكة للتعارض:

 

بقي التنبيه على اُمور تدور كلّها حول نقطة واحدة، وهي أنّنا قد عرفنا أنّه متى ما أمكن الجمع العرفي بين الدليلين خرجا عن التعارض وقواعده، ومتى ما لم يمكن الجمع العرفي بينهما دخلا في التعارض وقواعده. وهناك موارد يقع البحث والتشكيك في أنّه هل يمكن الجمع العرفي فيها، فلا تطبّق عليها قوانين التعارض، أو لا يمكن ذلك فنطبّق عليها تلك القوانين. فنتكلّم في هذه الاُمور عن موارد من هذا القبيل فنقول:

 

الأمر الأوّل: إذا تعارض عامّ مع مطلق:

فقد جاء في كلماتهم قبل المحقق الخراساني(رحمه الله) أنّه يُقدّم العام؛ لأنّه يرفع موضوع الإطلاق؛ لأنّ إحدى مقدّماته عدم البيان، والعام بيان، ولا يمكن العكس؛ لأنّ العامّ يكون ظهوره بالوضع لا بمقدّمات الحكمة.

وأورد على ذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ هذا إنّما يتمّ لو كانا متّصلين في كلام واحد. وأمّا مع الانفصال فالإطلاق قد انعقد؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة إنّما هي عدم البيان المتّصل لا عدم البيان ولو منفصلا، فيقع التعارض بينهما، ولا يرفع العموم موضوع الإطلاق. نعم، قد يتقدّم العموم على الإطلاق بالأظهرية، وهذا أمر آخر.

ولكنّ مدرسة المحقق النائيني (رحمه الله) وافقت على ما كان يقال قبل المحقق الخراساني (رحمه الله)من تقدّم العموم ورفعه لموضوع الإطلاق(1).

وذكر السيد الاُستاذ(2) في وجهه: أنّ إحدى مقدّمات الحكمة ليست عبارة عن عدم البيان المتّصل، ولا عبارة عن عدم البيان ولو منفصلا بنحو الشرط المتأخّر، بل أمر بين الأمرين، فبذلك وجّه ووضّح مراد المحقّق النائيني(رحمه الله)، واختاره.


(1) راجع فوائد الاصول ج 4 ص 729 ـ 731 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج 2 ص 513.

(2) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 376.

655

فكأنّه ـ دامت بركاته ـ أحسّ أنّه واقع بين محذورين: فإمّا أن يقول بأنّ الإطلاق قوامه بعدم البيان المتصل، وهذا لازمه عدم تقدّم العموم على الإطلاق عند انفصال أحدهما عن الآخر.

وإمّا أن يقول بأنّ الإطلاق قوامه بعدم البيان مطلقاً، أي ولو متأخّراً، وهذا لازمه عدم حجّيّة إطلاق كلام المولى ما دام يحتمل ورود القيد بعد ذلك، فذهب إلى أمر بين الأمرين، وهو أنّ الإطلاق في كلّ آن قوامه بعدم بيان التقييد في ذلك الآن، فإطلاق الكلام حدوثاً ينعقد بعدم بيان التقييد المتّصل، ويستمرّ ما دام عدم التقييد مستمراً. وهذا يُريحه من كلا المحذورين، فمن ناحية يثبت بذلك مدّعاه من تقدّم العامّ على المطلق؛ لأنّ العامّ بيان، فمتى ما ورد انتفى الإطلاق. ومن ناحية اُخرى حينما يرد مطلق يُؤخَذ به وإن احتمل ورود التقييد بعد ذلك؛ وذلك لأنّه ما دام التقييد غير وارد يكون الإطلاق منعقداً.

إلاّ أنّ هذا الكلام بالرغم ممّا قد يتراءى في بادىء الأمر من فنّيّته لا محصّل له. ولتوضيح ذلك نذكر كلاماً للمحقّق النائيني (رحمه الله) يكون هو المنشأ لهذه الكلمات، وهو افتراض ثلاث دلالات للكلام، فلو قال المتكلم مثلا: (أكرم كلّ عالم) فلهذا الكلام ثلاث دلالات:

1 ـ الدلالة التصوّرية، حيث إنّ هذا الكلام يبعث في النفس تصوّر مضمونه، ومعاني كلماته.

2 ـ الدلالة التصديقية، بمعنى كشف هذا الكلام بما هو كلام ـ بغضّ النظر عن شيء آخر ـ عن مراد المتكلّم، وهو في المثال عبارة عن إرادة المولى وجوب إكرام كلّ عالم بنحو العموم.

3 ـ الدلالة التصديقية، بمعنى الكشف الفعلي عن المراد الجدّي، فقد لا يكون مطابقاً للدلالة التصديقية بالمعنى الأوّل، كما لو ورد مخصّص لهذا العامّ، فلا يكون الكشف الفعلي كشفاً عن إرادة العموم بالرغم من أنّ الكلام بما هو كلام يكشف عن إرادة العموم؛ لأنّه ورد عاماً(1).

إذا عرفت ذلك قلنا: إنْ أراد السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بالدلالة الإطلاقية التي تستمرّ ما دام عدم ورود القيد مستمرّاً، وتنقطع بوروده الدلالة التصديقية الثانية في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)، فما ذكره من استمرار هذه الدلالة ما لم يرد القيد وانقطاعها بوروده


(1) راجع فوائد الاصول ج 4 ص 716 ـ 717 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج 2 ص 508.

656

صحيح، إلاّ أنّ هذا الذي سمّاه المحقق النائيني (رحمه الله)بالدلالة التصديقية الثانية ليس في الحقيقة ظهوراً، وإنّما هو عبارة عن حجّيّة الدلالة التصديقية الاُولى، وطبعاً حجّيّة المطلق تستمرّ ما استمرّ عدم ورود القيد، وتنقطع بوروده، لكنّ الكلام في أنّه لماذا يصبح العامّ مقيّداً للمطلق، ولا يصبح المطلق مخصّصاً للعامّ. وإن أراد بذلك الدلالة التصديقية الاُولى من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)فليس من المعقول ما افترضه من كون الإطلاق حدوثاً وبقاءً تابعاً لعدم ورود القيد حدوثاً وبقاءً، وإنّما الأمر يدور عقلا بين أمرين، فإنّ الإطلاق يتكوّن من ظهور حال المتكلّم في أنّه بصدد بيان تمام مراده، فإمّا أن نقول: إنّ ظاهر حاله هو أنّه بصدد بيان تمام مراده بشخص هذا الكلام. وإمّا أن نقول: إنّ ظاهر حاله أنّه بصدد بيان تمام مراده بمجموع كلماته، ولا يوجد شقّ ثالث.

فعلى الأوّل يكون الإطلاق مُنعقداً وباقياً بمجرّد عدم ورود القيد المتّصل. وعلى الثاني يكون ورود المقيّد المنفصل كاشفاً عن عدم الإطلاق من أوّل الأمر، فما افترضه من حالة وسط بين الحالتين غير معقول(1). وعليه فما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله)كلام فنّي لا بأس به، فالعموم بما هو عموم لا يتقدّم على الأطلاق. نعم، غالباً يتقدّم العامّ على المطلق بالأظهرية؛ لأنّ العموم بذاته أقوى من الإطلاق وإن كان قد يتّفق التساوي أو أقوائية الإطلاق لنكتة، فربّ إطلاق يكون في الدرجات العالية من القوّة كقوله في باب مفطّرات الصوم: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال ( أو أربع خصال حسب اختلاف النسخ): الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء(2) فإطلاقه لنفي مفطّرية غير هذه الأشياء قويّ جدّاً.


(1) وهنا اعتراض آخر على كلام السيّد الخوئي (رحمه الله) ورد ذكره في بحوث السيد الهاشمي، المجلّد السابع، وهو أنّه هل يدّعى أنّ الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكلّ زمان هو وصول البيان والقيد إلى المكلف، أو صدوره واقعاً؟

أمّا الأوّل فلا معنىً لإدّعائه؛ إذ من الواضح أنّ خصوصيّة الوصول غير دخيلة في تكوّن الظهور التصديقي لكلام المتكلّم، وإنّما المعقول دخلها في الحجّيّة.

وأمّا الثاني فيلزم منه أنّنا لو احتملنا ورود بيان منفصل في الزمان الثاني ابتلى المطلق بالإجمال بلحاظ ذلك الزمان؛ لأنّه على تقدير صدور البيان واقعاً يكون الإطلاق مرفوعاً في هذا الزمان، فلم يتمّ التخلّص تماماً من المحذور الثاني. اللّهم إلاّ بمعنى إمكانية التمسّك باستصحاب بقاء الظهور الإطلاقي المنعقد في الزمان الأوّل لو فرض عدم احتمال وجود البيان من أوّل الامر. وهذا إثبات لنتيجة الإطلاق بالأصل العملي، لا اللفظي الذي هو الغرض من الإطلاق. بحوث في علم الاُصول: ج 7 ص 282.

(2) الوسائل: ج 10 ب 1 مما يمسك عنه الصائم ح 1.

657

والسرّ في أقوائية العموم من الإطلاق فى ذاته هو أنّ ظهور حال المتكلّم في أنّه لا يأتي في بيانه شيء زائد غير موجود في مراده أقوى من ظهور حاله في أنّه لا يترك في بيانه شيئاً موجوداً في مراده، والظهور الثاني هو أساس الإطلاقات جميعاً، حيث إنّ الإطلاق يكون على أساس أنّ المتكلّم ترك القيد، وظاهر حاله أنّه لو كان القيد داخلا في مراده لما ترك ذكره. وأمّا العموم فهو من القسم الأوّل، فإنّ المتكلّم قد ذكر العموم، وظاهر حاله أنّه لا يذكر شيئاً خارجاً عن مراده، فهو أقوى من الإطلاق.

والشاهد على أقوائية ظهور الحال في عدم ذكر ما لا يكون مراداً من ظهورها في أنّه يذكر كلّ ما هو داخل في المراد هو أنّه لولا ذلك لما صحّ ما تطابق عليه العرف والفقهاء من حمل المطلق على المقيّد، فلو قال: (اعتق رقبة) وقال: (اعتق رقبة مؤمنة) فالأمر دائر بين مخالفة ظهور الحال الأوّل في المقيّد بأن يكون الإيمان غير داخل في المراد، ومع ذلك ذكره في المقيّد، وظهور الحال الأوّل في المطلق، بأن يكون الإيمان داخلا في المراد ومع ذلك تركه في المطلق، فقدّموا المقيّد على المطلق، أي قدّموا الظهور الأوّل على الظهور الثاني، فكذلك في تعارض العموم والإطلاق يتقدّم العامّ على المطلق بنفس النكتة وإن كان وضوح التقدّم هنا لعلّه أهون وأخفّ إلى حدٍّ ما منه في المطلق والمقيد.

 

الأمر الثاني: إذا تعارض المطلق البدلي والمطلق الشمولي:

كما لو قال: (اكرم عالماً) وقال: (لا تكرم الفاسق) بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل ذلك، فقد ذكر ـ أيضاً ـ الشيخ(قدس سره) على ما نسب إليه وغيره: أنّ المطلق الشمولي مقدّم على المطلق البدلي، وهنا ـ أيضاً ـ خالف المحقّق الخراساني (رحمه الله)قائلا: إنّ كليهما ظهور إطلاقي، ومجرّد كون أحدهما شمولياً والآخر بدلياً لا يوجب التقدّم(1).

والمحقّق النائيني (رحمه الله) اختار ما قاله القدماء(2) موجّهاً له بوجوه، نذكر أحدها، وأمّا الباقي فلا يكون قابلا للفهم، وهو: أنّ تقييد الإطلاق البدلي أهون من تقييد الإطلاق الشمولي؛ لأنّ المطلق الشمولي لو قيّدناه لكان معنى ذلك رفع اليد عن جزء مدلول الخطاب، لأنّنا رفعنا اليد عن بعض الأحكام التي دلّ عليها الخطاب من الوجوبات. وهذا بخلاف ما لو


(1) راجع الكفاية ج 1 ص 169 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكيني.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 161 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيد الخوئي(رحمه الله).

658

قيّدنا الإطلاق البدلي الذي لم يدلّ إلاّ على حكم واحد، ونحن نعمل به. وأورد على ذلك السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بإيرادين:

الأوّل: أنّ الميزان في تقديم دليل على دليل إنّما هو القرينية، لا استحسان من هذا القبيل.

الثاني: أن المطلق البدلي يدلّ بالدلالة الالتزامية على ترخيصات عديدة في التطبيق على الأفراد بعدد المصاديق، وهذا إطلاق شمولي حاله حال المطلق الشمولي، فتقييد المطلق البدلي يلزم منه رفع اليد عن بعض هذه الأحكام الترخيصية، فالمرجّح الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) منتف؛ لأنّ كلا المطلقين على حدٍّ سواء في أنّ تقييده يستلزم رفع اليد عن بعض أجزاء مدلوله(1).

أقول: إنّ كلاًّ من إشكالي السيّد الاُستاذ، وكلام المحقّق النائيني، وأصل طرح البحث بالنحو الذي طرحه القدماء غير صحيح. أمّا الإشكال الثاني فبعد تسليم مبنى دلالة المطلق البدلي بالالتزام على الترخيصات الشمولية ـ وهذا بحثه في محلّه ـ نقول: إنّ السيّد الاُستاذ معترف بتبعيّة الدلالة الالتزامية في الحجّيّة للدلالة المطابقية، وعليه نقول: إنّ ما يكون مقدّماً على الدلالة المطابقية في نفسها لبدليتها يقدّم قهراً على الدلالة الالتزامية التي هي في طول المطابقية، وشموليتها لا تشفع لها.

وأمّا الإشكال الأوّل ففيه: أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) لم يرد تقديم أحدهما على الآخر بغير القرينية حتّى يقال له: إنّ التقديم إنّما يجب أن يكون بملاك القرينية لا بملاك آخر استحساني، لكنّه (رحمه الله) يدّعي أنّ كون المطلق الشمولي تقييده مستلزماً لرفع اليد عن بعض أجزاء مدلوله، بخلاف البدلي يكون نكتة لقرينية المطلق الشمولي لتقييد المطلق البدلي، فلو اُريد تفنيد كلامه يجب أن يفنّد عن طريق توضيح عدم صلاحيّة ذلك للقرينيّة.

وأمّا كلام المحقق النائيني (رحمه الله) فيرد عليه: أنّ فيه خلطاً بين المطلق الشمولي والعموم الشمولي، فإنّه لو كان المعارض للمطلق البدلي هو العموم الشمولي الذي يدلّ على صبّ الحكم رأساً على الأفراد أمكن أن يقال: إنّ تخصيصه رفع لليد عن بعض أجزاء ما دلّ عليه نفس الخطاب. وأمّا المطلق البدلي فتقييده لا يوجب إلاّ افتراض قيد زائد لم يذكره، لا رفع اليد عن جزء ممّا ذكره، وهذا الكلام بهذا التقريب يرجع إلى ما بيّناه في تقديم العامّ على المطلق، ولكنّ المعارض فيما نحن فيه للمطلق البدلي هو مطلق شمولي، لا عامّ شمولي، وقد


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 379.

659

نقّح في محلّه أنّ المطلق لا يصبّ الحكم رأساً على الأفراد كالعامّ، وإنّما يصبّ الحكم على الطبيعة، وانحلاله إلى أفراد عديدة بعدد الأفراد إنّما هو انحلال عقلي، وفي مرتبة اُخرى غير مرتبة الجعل والخطاب، فرفع اليد عن بعض الأفراد ليس رفعاً لليد عن جزء مدلول الخطاب كما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله).

وأمّا أصل طرح البحث بعنوان تعارض الإطلاق البدلي مع الإطلاق الشمولي، وترجيح الثاني على الأوّل بكونه شمولياً، والأوّل بدلياً فهو أيضاً غير صحيح، فلابدّ من تغيير طرح البحث في المقام. وتوضيحه: أنّ الدالّ على أصل الإطلاق غير الدالّ على بدليّتة أو شموليّته، فليس عندنا في المطلق البدلي دالّ واحد يدلّ على الإطلاق البدلي، وفي المطلق الشمولي دالّ واحد يدلّ على الإطلاق الشمولي حتّى يدّعى ترجيح الثاني على الأوّل؛ لكون هذا شموليّاً وذاك بدليّاً، بل الدالّ على الإطلاق في كلّ منهما شيء والدالّ على البدلية أو الشمولية شيء آخر، فالمطلق البدلي فيه دالّان: أحدهما يدلّ على الإطلاق، وكون الحكم ثابتاً على الطبيعة، والثاني يدلّ على البدليه، وأنّ الطبيعة لو حظت على نحو صرف الوجود، والمطلق الشمولي ـ أيضاً ـ فيه دالّان: أحدهما يدلّ على الإطلاق، والثاني يدل على أنّ الطبيعة لو حظت فانية في تمام الأفراد على نحو الشمول ولو فرض الدالّ على الشمول نفس عدم وجود الدالّ على البدلية بناءً على أنّ الشمول هو مقتضى الأصل في الإطلاق، وأنّ البدلية تحتاج إلى مؤونة زائدة، والمعارضة في الحقيقة إنّما هي بين الدالّين الأوّلين، أي: بين الإطلاقين، لا بين ما يدلّ على البدليّة وما يدلّ على الشموليّة، فنحن لو فرضنا أنّ المطلق البدلي فيه دالّ واحد يدلّ على الإطلاق البدلي، والمطلق الشمولي فيه دالّ واحد يدلّ على الإطلاق الشمولي، لو صلت النوبة إلى البحث عن أنّه هل الإطلاق الشمولي يقدّم على الإطلاق البدلي، أو لا؟ كما بحثوه، لكنّ الأمر ليس هكذا، فإنّ الدال على الشمولية أو البدلية إنّما يدلّ على أنّ الطبيعة لو حظت فانية في الأفراد في عرض واحد، أو لو حظت بنحو صرف الوجود. وأمّا أنّها هل هي مطلقة فلو حظت بنحو الشمول أو البدلية في دائرة أفراد المطلق، أو مقيّدة فلوحظت كذلك في دائرة أضيق، وهي دائرة المقيّد؟ فهذا مطلب أخر، فالإطلاق يثبت بدالّ آخر، وهو مقدّمات الحكمة غير ما يدلّ على البدليّة أو الشموليّة، ولذا قد يقيّد الإطلاق بمقيّد، ولا تنثلم بذلك البدليّة أو المشوليّة، والمعارضة إنّما هي بين الإطلاقين، ولا معنىً لترجيح أحدهما على الآخر بدعوى أنّ هذا شموليّ وذاك بدليّ.

بقي في المقام شيء واحد، وهو: أنّه يمكن أن يدّعى تقديم الاطلاق الشمولي على

660

الإطلاق البدلي، لا بعنوان الشمولية والبدلية، بل بنكتة اُخرى، وهي: أنّنا أثبتنا في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ العاميّن من وجه المتعارضين لو كان أحدهما إلزاميّاً والآخر ترخيصيّاً قدّم الإلزامي على الترخيصي بنكتة بيّناها هناك. وهذا لا يرتبط بمسألة البدليّة والشموليّة، فقد يكون كلاهما شمولياً ومع ذلك يقدّم الإلزامي على الترخيصي، كما لو قال: (أكل الجبن جائز) وقال: (أكل المالح حرام) فانّه يحكم عندئذ بحرمة أكل الجبن المالح من دون إيقاع المعارضة بين الدليلين، فقد يقال: إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، فيقدّم قوله: (لا تكرم الفاسق) على قوله: (أكرم عالماً) بناءً على أنّ العرف يرى نسبة قوله: (أكرم عالماً) إلى قوله: (لا تكرم الفاسق) نسبة الدليل الترخيصي إلى الإلزامي لما يستبطن

المطلق البدلي من التوسعة على المكلّف، وإطلاق العنان له(1).

 

الامر الثالث: في انقلاب النسبة:

وهذا ـ أيضاً ـ بحث في صغرىً من الصغريات المشتبهة بين كبرى التعارض وكبرى الجمع العرفي، فقد يرد دليلان متعارضان بلحاظ أنفسهما، لكنّ أحد الدليلين بعد جمعه مع دليل ثالث بالإمكان دعوى زوال معارضته للدليل الآخر، وتحقّق الجمع العرفي بينهما، فمثلا لو ورد: (أكرم العلماء) وورد: (لاتكرم العلماء) فهما دليلان متعارضان في حد أنفسهما، لكنّه ورد دليل ثالث يقول: (لا تكرم فسّاق العلماء) فقد يقال: إنّ هذا يخصّص قوله: (أكرم العلماء) فيختصّ بالعدول، فيصبح أخصّ من قوله: (لا تكرم العلماء) فيخصّصه بالفساق. والكلام في ذلك يقع في عدة مقامات:

 

تماميّة كبرى انقلاب النسبة في نفسها:

المقام الأوّل: في تماميّة كبرى انقلاب النسبة في نفسها بعد افتراض وجود مبرّر لملاحظة


(1) دليل الترخيص لا يدلّ عادة على أكثر من الترخيص الحيثي وتوضيح ذلك: أنّ قوله مثلا: (أكل الجبن جائز) إنّما يدلّ على أنّ الجبن من حيث هو جبن يجوز أكله، وهذا لا ينافي حرمة أكل بعض أفراد الجبن لانطباق حيثية اُخرى عليه، كالغصب وغيره، فبهذه النكتة يتقدّم دليل التحريم عليه الثابت على عنوان آخر كانت نسبته إلى هذا العنوان عموماً من وجه، وكذلك الكلام في المطلق البدلي في المقام، من قبيل: (أكرم عالماً) فهو إنّما يقتضي الترخيص في تطبيق هذا المطلق على العالم الفاسق، بمعنى أنّه من حيث تحقيق عنوان إكرام العالم الذي وجب علينا لا مانع من التطبيق على العالم الفاسق، ولكن هذا لا ينافي افتراض حرمة إكرام العالم الفاسق لكونه فاسقاً، فبهذا يثبت تقدّم النهي الشمولي عليه.

661

النسبة بين العامّ ومخصّصه قبل ملاحظتها بين العامّين المتعارضين مثلا، وقد ذهب المحقّق النائيني(رحمه الله) والسيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى تماميّتها، حتّى أنّ السيّد الاُستاذ ادّعى أنّ هذا من المطالب البديهيّة التي يكفي تصوّرها في مقام تصديقها، وذهب المحقّق الخراساني (رحمه الله)إلى عدم تماميّتها، وهو الحق.

والذي يتحصّل من مجموع بيانات مدرسة المحقّق النائيني(رحمه الله) إذا أردنا إرجاعها إلى تعبير محدّد هو أحد تعبيرين:

 

التعبير الأوّل: أنّه قد فرغنا في ما سبق أنّ أحد المتعارضين لو كان أخصّ من الآخر قدّم عليه، وعندئذ نقول: إنّ المتعارضين طبعاً هما الدليلان اللذان يكون كلّ منهما في نفسه حجّة لولا المعارض، ولو فرض أحدهما غير حجّة فلا معنىً للتعارض، بل يبقى الدليل الآخر حجّة من غير معارض، فقوام كون الدليل معارضاً لدليل آخر يكون بحجّيّته، فنحن في تشخيص طرف المعارضة يجب أن نرى ما هي الحجّة المنافية حتّى تكون هي المعارض، وعليه نقول في المقام: إنّ قوله: ( لا تكرم العلماء) يصدق عليه هذا العنوان، وهو أنّه حجّة منافية لأكرم العلماء. وأمّا قوله: (أكرم العلماء) فلا يصدق هذا العنوان إلاّ على جزء من مدلوله، وهو في العلماء العدول؛ إذ هو لا يكون حجّة بغضّ النظر عن معارضه، إلاّ في العدول؛ لأنّه قد خرج منه الفسّاق بالمخصّص المنفصل، فهو بهذا المقدار حجّة منافية لقوله: (لا تكرم العلماء) وعليه فيتقدّم على قوله (أكرم العلماء) بالأخصّيّة.

ويرد عليه: أنّ ما ذكر في هذا التعبير من أنّ المعارضة فرع ثبوت الحجّيّة لولا المعارض، وأنّه لو لم يكن حجّة في نفسه لم يكن معارضاً وإن كان صحيحاً، لكنّ دعوى كون ميزان التقديم هو أخصّيّة المعارض بما هو معارض أوّل الكلام؛ وذلك لأنّ هنا عنوانين: أحدهما: عنوان كون الخبر حجّة، والثاني: عنوان كونه ظاهراً في المعنى الفلاني، والميزان في المعارضة هو العنوان الأوّل، أي: إنّه لولا كونه حجّة لم يكن معارضاً، لكن كون الميزان في التقديم والقرينيّة هو الأخصّيّة بالعنوان الأوّل غير معلوم، فلعلّ الميزان في التقديم والقرينيّة هو أخصّيّة هذا الخبر بمقدار ماله من ظهور، لا بمقدار ما له من حجّيّة، فهذا يحتاج إلى استيناف بحث جديد لم يفرغ عنه سابقاً، ولا يتضمّنه هذا المقدار من التعبير.

 

التعبير الثاني: أنّ الدلالة لها ثلاث مراتب:

662

1 ـ الدلالة التصوّرية، وهي ثابتة للكلام ولو مع القرينة المتّصلة على الخلاف، فلو قال: (رأيت أسداً، وأعني به الرجل الشجاع) حصل في الذهن لا محالة تصوّر الحيوان المفترس.

2 ـ الدلالة التصديقية الاُولى، وهي ظهور الكلام في مراد المتكلم، وهذه الدلالة تنثلم بالقرينة المتّصلة، لكنّها لا تنثلم بالقرينة المنفصلة.

3 ـ الدلالة التصديقية الثانية، أي الكشف الفعلي عن المراد الجدّي، وهذا ينثلم بالقرينة المنفصلة أيضاً.

فلو كان الميزان في التقديم بالأخصّيّة هو أخصّيّة الدلالة الاُولى أو الثانية، لم يصحّ انقلاب النسبة، ولو كان الميزان هو أخصّيّة الدلالة الثالثة فهي ثابتة في المقام؛ لأنّ قوله: (أكرم العلماء) لا يكشف كشفاً فعلياً عن المراد الجدّي إلاّ بلحاظ العدول؛ لأنّ الفسّاق قد خرج عنه بالتخصيص وعليه فيكون أخصّ من (لا تكرم العلماء).

ويرد عليه: أنّه إن اُريد بالدلالة التصديقية الاُولى ظهور الكلام في المراد الاستعمالي، وظهوره في المراد الجدّي، وأعني بالأوّل ما استعمل المتكلم اللفظ فيه ولو هزلا مثلا، وبالثاني ما كان جادّاً فيه، فلا توجد وراء ذلك دلالة اُخرى للكلام، ولا يبقى شيء آخر عدا الحجّيّة، إلاّ أنّه عبّر عنها بتعبير مُلتو، وهي الكشف الفعلي عن المراد الجدّي، فمرجع هذا الكلام إلى أنّ ما هو حجّة في وجوب الإكرام يكون بما هو حجّة أخصّ من قوله: ( لا تكرم العلماء)، فيرجع ذلك إلى التعبير الأول.

وإن اُريد بالدلالة التصديقية الاُولى الدلالة الاستعمالية، فعندئذ توجد وراء هذه الدلالة دلالة اُخرى وهي الدلالة التصديقية الجدّيّة، أعني ظهور الكلام في كون المراد الاستعمالي مراداً جدّيّاً، إلاّ أنّ هذه الدلالة ـ أيضاً ـ لا تنهدم بالقرينة المنفصلة، فإنّ قوامها بظهور حال المتكلّم في جدّيّة ما يظهر من الكلام بكلّ ما تحفّ به من قرائن متّصلة، وبعد انعقاد هذه الدلالة بلحاظ هذا الظهور الحالي لا معنىً لانثلامها؛ فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) يريد تطبيق نفس مباني تقديم الخاصّ على العامّ ونكاته على المقام، ولا يدّعي هنا كبرىً جديدة تطبّق على المقام، ونحن نقول: إنّ تلك الكبريات والمباني لا يمكن انطباقها على المقام، فنزاعنا معه صغروي، وتوضيح ذلك يكون بالرجوع إلى مباني تقديم الخاصّ على العامّ، ونحن نتكلّم فعلا على مسلك المحقّق النائيني (رحمه الله)في تقديم الخاصّ على العامّ: فنقول:

إنّ المخصّص لو كان متّصلا وكان مضيّقاً لمدخول العامّ كما في (أكرم كلّ عام عادل) فلا

663

إشكال في هدمه للدلالة التصوّرية للعموم؛ إذ الأداة موضوعة لاستيعاب تمام أفراد المدخول، والمدخول هنا هو العالم العادل، لا العالم، ولو كان متّصلا ولكنّه كان في جملة مستقلّة، كأن يقول: (أكرم كلّ عالم و لا تكرم العالم الفاسق) فهنا يقال بأنّ الظهور التصوّري في العموم لم ينثلم إلاّ على مبنى اختصصنا به، وهو دعوى وضع جديد لسياق اجتماع جملتين إحداهما خاصّ والاُخرى عامّ فوق وضع نفس الجملتين، ويندك وضع نفس الجملتين في وضع سياقهما لعموم مقتطع منه الخاصّ، وبناءً على ما ذهبوا إليه من عدم انثلام الظهور التصوّري يكون الوجه في تقديم المخصّص المتّصل الذي هو في جملة مستقلّة أحد أمرين: إمّا الأظهريّة. وأمّا دعوى تباني العقلاء على أنّهم حينما يريدون تفسير مرادهم يفسّرون العامّ بالخاصّ دون العكس، ومختار المحقّق النائيني(رحمه الله) هو الثاني، فالخاصّ المتّصل يقدّم على العامّ، لا للاظهريّة، بل لهدمه لظهور العامّ بالقرينيّة حسب بناء العقلاء. وأمّا لو كان المخصّص منفصلا فيضاف دعوى بناء عقلائي آخر حتّى يتمّ التخصيص، وهو البناء على جعل ما يكون حين الاتّصال قرينة هادمة للظهور قرينة هادمة للحجّيّة حين الانفصال، أي: إنّ العقلاء حينما لم يضطّرّوا إلى تأجيل تفسير مرادهم يفسّرون العامّ بالخاصّ دون العكس، وحينما يضطرّون إلى تأجيل التفسير يؤجِلون التفسير، لكنّهم يتحفّظون على نفس طريقتهم في التفسير المتّصل، فيجعلون ما هو مفسّر حين الاتّصال مفسّراً حين الانفصال، فما يرفع الظهور التصديقي الجدّي حين الاتّصال يرفع الحجّيّة حين الانفصال.

والمدّعى في المقام تطبيق نفس هذه الكبريات على مجموع الأدلّة الثلاثة، أعني قوله: (أكرم العلماء) وقوله: ( لا تكرم العلماء) وقوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) فيقال: إنّه لو ضمّ بعضها إلى بعضها إلى بعض بأن قال المتكلم: (أكرم العلماء، ولا تكرم العلماء، ولا تكرم فسّاق العلماء) أصبح ظاهر الكلام هو تخصيص النهي عن الإكرام بخصوص فسّاق العلماء، فعند الانفصال ـ أيضاً ـ يخصّص النهي بفسّاقهم، لكن لا بانهدام الظهور في غير الفسّاق، وإنّما بانهدام الحجّيّة فيه.

ولكنّ التحقيق: أنّه لا يمكن تطبيق تلك الكبريات في المقام، فإنّنا نقول: ما الذي اُريد جعله قرينة على تخصيص (لا تكرم العلمآء)؟ هل هو العامّ الأوّل، أعني قوله: (أكرم العلماء) أو مجموع العامّ الأوّل مع الدليل الثالث، اعني (أكرم العلماء) مع (لا تكرم فسّاق العلماء)؟

فإن قيل بالأوّل، قلنا: إنّ قوله: (أكرم العلماء) ليس على تقدير اتّصاله بقوله: (لا تكرم العلماء) قرينة هادمة لظهوره حتّى يكون الآن قرينة هادمة لحجّيّته، بل على تقدير الاتّصال

664

يقع التهافت والتعارض بينهما. وإن قيل بالثاني، أعني أنّ مجموع العامّ الأوّل مع الدليل الثالث قرينة على تخصيص قوله: (لا تكرم العلماء) قلنا: إنّ هذا المجموع بما هو مجموع لو كان موجوداً متّصلا بقوله: (لا تكرم العلماء) لهدم ظهوره في العموم بالقرينية على التخصيص. إذن لو وجد منفصلا عنه لهدم حجّيّته في العموم بالقرينيّة على التخصيص عملا بالبناء العقلائي المفروض، وهو أنّ ما يكون عند اتّصاله قرينة هادمة للظهور يكون عند انفصاله قرينة هادمة للحجّيّة، ولكنّ هذا المجموع بما هو مجموع لم يوجد منفصلا عن قوله: (لا تكرم العلماء) وإنّما وجد الجميع بشكل متقطع.

والخلاصة: أنّ ما هو هادم للظهور بالقرينية عند الاتّصال هو مجموع الدليل الأوّل والثالث مجتمعين في كلام واحد، وما وجد بالفعل منفصلا عن (لا تكرم العلماء) هو الدليل الأوّل والثالث غير مجتمعين في دليل واحد، فلا ينطبق عليه البناء العقلائي القائل بأنّ ما يهدم الظهور بالقرينيّة عند الاتّصال يهدم الحجّيّة بالقرينيّة عند الانفصال، فتتميم المطلب يحتاج إلى دعوى بناء عقلائي جديد لم يدّعه المحقّق النائيني (رحمه الله) ولا ندّعيه.

هذا كلّه لو مشينا على مسلك المحقّق النائيني (رحمه الله) في تقديم الخاصّ على العامّ من أنّ ما يكون قرينة رافعة للظهور عند الاتّصال يكون قرينة رافعة للحجّيّة عند الانفصال.

وقد عرفت فيما مضى أنّنا وافقنا على هذا الكلام مع تطوير له، وإرجاع له إلى مسألة دوران الأمر في ارتكاب المؤونة بين الأقلّ والأكثر، حيث إنّ الفصل بين العامّ والخاصّ والذي هو فصل بين القرينة وذي القرينة مؤونة، وكون العام هو القرينة على الخاصّ دون العكس مؤونة اُخرى، ونحن نقطع بوقوع المؤونة الاُولى، ولكن المؤونة الثانية مشكوكة في المقام، فتنفى بالأصل.

وقد يتخيّل أنّ هذا البيان يأتي في ما نحن فيه؛ لأنّ الفصل بين الثلاثة مؤونة، ونحن نقطع بوقوعها، ولو وصل بعضها ببعض لكانت النتيجة اختصاص قوله: (لا تكرم العلماء) بفساق العلماء، فافتراض إرادة معنىً آخر غير هذا مؤونة زائدة تنفى بالأصل.

ولكنّ التحقيق خلاف ذلك؛ لأنّه حتّى على تخصيص النهي بالفسّاق لا بدّ من افتراض مؤونة زائدة في المقام؛ لأنّه لو فرض كون المقصود من قوله: (لا تكرم العلماء) هو فسّاق العلماء، فالذي يصلح للقرينيّة إنّما هو مجموع النصّ الأوّل والثالث متّصلين، وهذا المجموع بشكل متّصل ليس موجوداً حتّى يقال: إنّ ذات القرينة موجودة إلاّ أنّها فصلت عن ذي القرينة، إذن فالقرينة الفعلية على هذا الفرض عبارة عن مجموع النصّ الأوّل والثالث مع

665

انفصال أحدهما عن الآخر، وهذا بنفسه مؤونة زائدة(1).

 

إمكان تقديم لحاظ العام مع الخاص وأخذ النسبة بينه و بين معارضه في المرتبة المتأخرة عن لحاظه مع الخاص:

المقام الثاني: في أنّه لو تمّ القول بانقلاب النسبة على تقدير لحاظ نسبة العامّ مع المخصّص قبل نسبته مع العامّ الآخر مثلا، فهل هناك مبرّر لتقديم لحاظه مع الخاصّ وأخذ النسبة بينه وبين معارضه في المرتبة المتأخّرة عن لحاظه مع الخاصّ، أو لا؟

قد يقال: إنّ المبرّر لذلك هو أنّنا بهذا الوجه نكون قد عملنا بكلّ الأدّلة ولو في الجملة، بخلاف ما لولا حظنا أوّلا العامّين واسقطناهما بالمعارضة، ثمّ رجعنا إلى المخصّص، فإنّ هذا يستلزم طرح الدليلين بكاملهما، وهكذا لو فرضنا عامّين من وجه مع مخصّص يخرج مادّة الافتراق من أحدهما، كما لو قال: (أكرم العلماء) ـ ولنفرض أنّهم ينقسمون إلى بصريين وكوفيين ـ وقال: (لا تكرم الكوفيين) وقال أيضاً: (لا تكرم العالم البصري) فإنّه لو خصّص الدليل الأوّل بالثالث، ثمّ خصّص به الثاني، فقد عملنا بكلّ الأدلّة ولو في الجملة، ولو اُوقع التعارض أوّلا بين العامّين من وجه، وسقطا في مادّة الاجتماع، وبقيت مادّة الافتراق (لأكرم العلماء) معارضة لقوله: (لا تكرم العالم البصري) فلو قدّم الدليل الأوّل على الثالث لزم إلغاء الثالث كاملا، ولو عكس لزم إلغاء الأوّل كاملا، ففراراً من طرح دليل ما بشكل كامل نلتزم بملاحظة نسبة العامّ مع الخاصّ قبل لحاظها مع العامّ الآخر.

ويرد عليه: أنّ مجرّد طرح دليل بكامله ليس فيه محذور، وإنّما الذي فيه محذور هو طرح دليل من دون مبرّر للطرح، والكلام إنّما هو في أنّه هل هناك مبرّر للطرح، أو لا؟ ولماذا يفترض لحاظ نسبة العامّ مع مخصّصه أوّلا ثمّ لا يبقى مجال للطرح؟ ولماذا لا يكون العكس، بأن تلحظ النسبة بين العامّين، ويقال مثلا: إنّهما سقطا بمبرّر وهو المعارضة، ثمّ يرجع إلى الخاصّ؟

ويمكن أن يقال: إنّ ما مضى من تقريب كبرى انقلاب النسبة على تقدير لحاظ نسبة


(1) وأما لو بنينا على تقديم الخاصّ على العامّ بالأقوائيّة في الظهور فأيضاً هذا لا يبرّر تقديم قوله: (أكرم العلماء) على قوله: (لا تكرم العلماء) بالأخصّصيّة بعد فرض تخصيصه بلا تكرم فسّاق العلماء؛ لأنّ قوله: (أكرم العلماء) يساوي في حدّ ذاته في الظهور قوله: (لا تكرم العلماء) والمخصّص المنفصل له لا يقوّي ظهوره، فإنّ الكلام المنفصل عن كلام آخر كما لا يهدم ظهوره كذلك لا يقوّيه.

666

العامّ والخاصّ قبل لحاظ نسبة العامّين بنفسه أيضاً يتكفّل البرهنة على صحّة هذا التقدير، فإنّه مضى أنّ المعارض إنّما هو ما يكون حجّة بغضّ النظر عن المعارضة، والعام الأوّل بغضّ النظر عن المعارضة إنّما هو حجّة في خصوص العدول؛ لا بتلائه بلحاظ الفسّاق بالمخصّص، فهذا البيان ـ كما ترى ـ بنفسه يبرهن على أنّه لا بدّ أن تلحظ نسبة العامّ والخاصّ قبل لحاظ نسبة العامّين المتعارضين؛ لأنّه أوّلا يجب أن يُشخّص ما هو المعارض في كلّ من الطرفين، ثمّ ينظر إلى النسبة بين المتعارضين، وتعيين الموقف تجاههما.

وهذا الكلام صحيح مع شيء من التعميق، فإنّه قد يقال في مقابل هذا الكلام لو بقي على هذا المستوى: إنّه لماذا لا يعكس الأمر بأن يقال: إنّ تخصيص العامّ بالخاصّ فرع حجّيّة العامّ بغضّ النظر عن المخصّص، فإذا سقط العامّ بالمعارضة عن الحجّيّة لم تصل النوبة إلى التخصيص، إذن يجب أن نعرف في المرتبة السابقة على التخصيص ما هو حال العامّ من السقوط أو عدم السقوط تجاه معارضه؟

إذن فلا بد من تعميق المطلب بتوضيح هذه النكتة وهي: أنّه فرق بين إسقاط المخصّص للعموم عن الحجّيّة واسقاط المعارض لمعارضه عن الحجّيّة، فإسقاط المخصّص للعموم عن الحجّيّة يكون برفعه لمقتضي الحجّيّة، وتقدّمه على العموم بالقرينيّة والحكومة، وإسقاط المعارض لمعارضه ليس برفع مقتضي حجّيّته وتقدّمه عليه، بل يكون بمزاحمته إيّاه في الحجّيّة، وكونهِ مثله في وجود مقتضي الحجّيّة فيه، فيتعارضان ويتساقطان. وعليه نقول: إنّ وجود مقتضي الحجّيّة في عموم قوله: (لا تكرم العلماء) فرع عدم مخصّصيّة وقرينيّة قوله: (أكرم العلماء) وعدم مخصّصيّته وقرينيّته فرع عدم تخصيصه مسبقاً بلا تكرم فسّاق العلماء؛ لأنّه لو صحّ تخصيصه مسبقاً بذلك لا نقلبت النسبة حسب الفرض.

اذن فوجود مقتضي الحجّيّة لقوله: (لا تكرم العلماء) صار فرع عدم تخصيص قوله: (أكرم العلماء) مسبقاً بقوله: (لاتكرم فسّاق العلماء) فلا يعقل ما نعيّته عنه؛ فإنّ ما يكون متفرّعاً على عدم شيء يستحيل أن يمنع عن وجوده، ولا يمكن العكس، بأن يقال: إنّ تخصيص (أكرم العلماء) بالمخصّص فرع عدم سقوطه بالمعارض، فهو يسقط أوّلا مع معارضه (ثمّ نأخذ بالخاصّ؛ وذلك لأنّ المعارض لا يرفع مقتضي الحجّيّة في معارضه، وإنّما يزاحمه ويعانده معاندة المثل بالمثل، فقوله: (أكرم العلماء) كما هو مبتلىً بالمعارض الذي لا يرفع مقتضي حجّيّته، وإنّما يزاحمه في الحجّيّة كذلك مبتلىً في عرض ذلك الابتلاء بالمخصّص الذي يرفع مقتضي حجّيّة عمومه، فالمخصّص يؤثّر أثره لا محالة؛ لعدم وجود أيّ مانع عن ذلك، فلا

667

يبقى في قوله: (أكرم العلماء) مقتض للحجّيّة إلاّ بمقدار العلماء العدول، فهو بدوره ـ حسب الفرض ـ يقتضي رفع حجّيّة عموم قوله: (لا تكرم العلماء) برفع مقتضي الحجّيّة فيه بالقرينيّة، بينما لا يقتضي قوله: (لا تكرم العلماء) رفع مقتضي الحجّيّة في قوله: (أكرم العلماء) غاية ما هناك أنّه يزاحمه ويعانده، وطبعاً يتقدّم ما فيه قوّة التقدّم ورفع المقتضي على ما ليس فيه عدا قوّة المعارضة.

 

في صغريات كبرى انقلاب النسبة:

المقام الثالث: في صغريات انقلاب النسبة بعد تسليم كبراه، أي: تسليم انقلاب النسبة لو لوحظ العامّ مع الدليل الآخر بعد لحاظه مع مخصّصه، وتسليم هذا الترتّب في اللحاظ، فنقول: إنّ هناك ثلاث صغريات نتكلّم عنها:

الصغرى الاُولى: ما لو ورد عامّان متعارضان بالتباين مع ورود المخصّص، فالعامّان المتعارضان من قبيل أن يرد: (يستحب إكرام العراقي) ويرد: (يكره إكرام العراقي) وأمّا المخصّص فتارة يفرض مخصّصاً لكلا العاميّن كما لو قال: (يحرم إكرام العراقي الفاسق) واُخرى يفرض مخصّصاً لأحدهما.

أمّا إذا فرض مخصّصاً لكليهما فهذا المخصّص ليس له أيّ أثر في انقلاب النسبة؛ لأنّه يُخرج من أحدهما نفس ما يخرجه من الآخر، فتبقى النسبة على حالها، فالوظيفة هي تخصيص العامّين به، والمعاملة مع العامّين معاملة المتعارضين في غير ما خرج بالتخصيص.

ولو فرض تعدّد المخصّص الذي يخصّص كليهما فالكلام نفس الكلام، إلاّ أنّه إذا فرض شيء من التعارض بين المخصّصين فأوّلا يصفّى حسابهما، وتجعل النتيجة بعد ذلك مخصّصة للعامين.

ولو فرض وجود مخصّص لكليهما، ومخصّص لأحدهما، فالمخصّص لكليهما لا أثر له في انقلاب النسبة، فنبقى نحن والمخصّص الآخر الذي فرض مخصّصاً لأحدهما، والذي سنذكر حكمه الآن.

وأمّا إذا فرض مخصّصاً لأحدهما، كأن يقول: (لا يستحب إكرام العراقي الفاسق) فهذا من أوضح مصاديق كبرى انقلاب النسبة، فإنّ قوله: (لا يستحب إكرام العراقي الفاسق) يخصّص العامّ الأوّل، وهو قوله: (يستحب إكرام العراقي) فيختصّ بغير الفاسق، فيكون أخصّ من قوله: (يكره إكرام العراقي) فيخصّصه بناءً على كبرى انقلاب النسبة، هذا إذا

668

اختصّ أحد العاميّن بالابتلاء بمخصِّص له.

وأمّا لو فرضنا ورود مخصّصين كلّ منهما يخصّص أحد العامّين، فهذا تحته أربعة شقوق:

الشقّ الأوّل: أن يتباين المخصّصان موضوعاً كما لو ورد: (لا يستحب إكرام الفاسق العراقي) وهذا مخصّص للعامّ الأوّل، وورد: (لا يكره اكرام العادل العراقي، وهذا مخصّص للعام الثاني) وعندئذ تارة يكون مجموع موضوعي المخصّصين مستوعباً لتمام أفراد موضوع العاميّن، كما في هذا المثال مثلا، واُخرى ليس هكذا، كما لو قال: (لا يستحبّ إكرام أهل الموصل، ولا يكره إكرام أهل العمارة).

فإن فرض الأوّل فكلّ منهما يخصّص عامّه، ويرتفع التعارض، سواءً قلنا بانقلاب النسبة، أو لا، فإنّ ما هو الحجّة من كلّ من العامّين لا معارض له.

وإن فرض الثاني فبعد التخصيصين تكون النسبة بين العامّين العموم من وجه، فبين العراقي غير العماري والعراقي غير الموصلي عموم من وجه، ونعامل معهما معاملة التعارض بالعموم من وجه، لا التباين، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لا. ومعنى ما قلناه من انّه نعامل معهما معاملة التعارض بالعموم من وجه لا التباين انّ التعارض ان كان بنحو التباين فالتعارض سندي، وإن كان بالعموم من وجه فالتعارض في مادّة الاجتماع، وبعد عدم حجّيّة كلّ منهما في مقدار ما سقط بالتخصيص لا وجه لافتراض التعارض السندي؛ إذ أصبح لكلّ منهما مورد غير مبتلىً بمعارض حجّة، فلا بأس بالتعبّد بسندهما معاً.

الشق الثاني: أن تكون النسبة بين موضوعي المخصّصين العموم من وجه، كما لو قال: (لا يستحبّ، إكرام الفاسق العراقي)، وهذا مخصّص للعام الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام الشيعي العراقي) وهذا مخصّص للعامّ الثاني، وعندئذ إن فرضنا عدم التعارض بين المخصّصين كما هو الحال في هذا المثال كان كلا المخصّصين حجّة، وخصّص كلّ عامّ بمخصّصه، والنسبة بعد ذلك بين العامّين العموم من وجه، ونعامل معهما معاملة التعارض بالعموم من وجه، لا بالتباين، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لا. وإن فرضنا التعارض بين نفس المخصّصين كما لو قال: (يكره إكرام الفاسق العراقي) وهذا مخصّص للعامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام الشيعي العراقي) وهذا مخصّص للعامّ الثاني، فالمخصّصان يتعارضان بالعموم من وجه، فيتساقطان في مادّة الاجتماع، وكلّ منهما يخصّص عامّه في مادّة افتراقه، وتكون النسبة بعد ذلك بين العامّين العموم من وجه، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لا.

الشق الثالث: أن يكون بين موضوعي المخصّصين عموم وخصوص مطلق، كما لو قال: (لا

669

يستحبّ إكرام السنّي من العراق الفاسق في مذهبه)، وهذا يخصّص العامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام السنّي من العراق) وهذا يخصّص العامّ الثاني. فإن فرضنا عدم التعارض بين الخاصّين كما في هذا المثال خصّص كلّ عامّ بمخصّصه، ونتيجة ذلك بناءً على انقلاب النسبة أنّ المخصَّص بأعمّ المخصّصين يكون أخصّ من الآخر؛ لأنّ نقيض الأعمّ أخصّ.

وإن فرضنا التعارض بينهما كما لو قال: (يكره إكرام الفاسق السنّي من العراق) وهذا مخصّص للعامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام السنّي من العراق) وهذا مخصّص للعامّ الثاني، فعندئذ يخصّص أعمّ الخاصّين بأخصّهما، ثمّ يخصّص كلّ من العامّين بمخصّصه، وتكون النسبة بين العامّين بعد التخصيص عموماً من وجه، ونعامل معهما معاملة العموم من وجه، لا التباين، أي: لا نوقع التعارض بين السندين، وإنّما التعارض في مادّة الاجتماع.

الشق الرابع: أن نفرض أنّ النسبة بين موضوعي المخصّصين التساوي، كما لو قال: (لا يستحبّ إكرام العراقي الفاسق) وهذا مخصّص العامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام العراقي الفاسق) وهذا مخصّص للعامّ الثاني، فنخصّص كلاّ من العامّين بمخصّصه، وتبقى نسبة التباين على حالها؛ لأنّ ما خرج من أحدهما بنفسه هو عين ما خرج من الآخر.

وخلاصة الكلام: أنّ كبرى انقلاب النسبة تعني صيرورة مالم يكن قرينة قبل خروج شيء منه بالقرينة قرينة بعد خروجه منه بذلك. وأمّا انقلاب التعارض التبايني إلى التعارض بنحو العموم من وجه، فهي كبرى اُخرى غير كبرى انقلاب النسبة، والكبرى الاُولى غير مقبولة لما عرفت، والكبرى الثانية مقبولة بلا إشكال؛ لأنّ المعارض في الحقيقة إنّما هو المقدار الذي يكون حجّة كما عرفت، أي: إنّ المقدار الذي لا يكون حجّة لا معنىً لمزاحمته لحجّيّة مفاد الخبر الآخر.

وعليه، فلو كان عندنا عامّان وخصّص أحدهما بمخصّص فصار أخصّ من الآخر، فتخصيص العامّ الآخر به مبني على انقلاب النسبة(1)، ولو خصّص كلّ منهما بمخصّص مع استيعاب المخصّصين لتمام أفراد موضوع العامّ ارتفع التعارض، ولم يرتبط ذلك بكبرى انقلاب النسبة، ومع عدم الاستيعاب تصبح النسبة بين العاميّن عموماً من وجه إذا أخرج كلّ منهما من عامّه غير ما أخرجه الآخر من عامّه، ونعامل معهما معاملة العموم من وجه، لا


(1) ولكن حجّيّة العامّ الآخر في ما سقط العامّ الأوّل عن حجّيّته ليس مبنيّاً على انقلاب النسبة، فإنّه يكفي في حجّيّته في ذاك المورد سقوط مزاحمه عن اقتضاء الحجّيّة في ذاك المورد.

670

معاملة التباين. وهذا غير مرتبط بكبرى انقلاب النسبة وإن تخيّل السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ذلك، وإذا اُخرج بالتّخصيص من أحدهما عين ما اُخرج من الآخر بقيت النسبة على حالها. وهذا أيضاً غير مرتبط بكبرى انقلاب النسبة.

الصغرى الثانية: ما لو كان عندنا عامّان من وجه مع مخصّص، كما لو قال: (يستحبّ إكرام الهاشمي) وقال: (يكره إكرام الفاسق) وعندئذ تارةً يفرض ورود مخصّص يخرج مادة الاجتماع: إمّا من كليهما، كما لو ورد: (إنّ إكرام الهاشمي الفاسق مباح اُي بالمعنى الأخصّ من الإباحة الذي هو في قبال باقي الأحكام الأربعة، وإمّا من أحدهما، كما لو ورد: (يكره إكرام الهاشمي الفاسق) فيخصّص كلا العامّين أو أحدهما بالمخصّص، ويرتفع التعارض من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه.

واُخرى يفرض ورد مخصّص واحد أخرج مادّة الافتراق من أحدهما، كما لو ورد: (يجب إكرام الهاشمي العادل) وهذا يدخل في مصاديق كبرى انقلاب النسبة، فإنّ العامّ الأوّل بعد تخصيصه بالخاصّ يصبح أخصّ من العامّ الثاني: فيتقدّم عليه بناءً على كبرى: انقلاب النسبة.

وثالثة يفرض أنّ كلّ واحد من العامّين ورد عليه مخصّص أخرج مادّة الافتراق منه، كما لو ورد (يجب إكرام الهاشمي العادل) وهذا مخصّص للعام الأوّل، وورد: (يحرم إكرام الفاسق غير الهاشمي) وهذا مخصّص للعامّ الثاني فهنا مسلكان.

الأوّل: مسلك المحقق النائيني (رحمه الله) من أنّ كلّ عامّ يخصّص بمخصّصه، وهما يتعارضان في مادّة الاجتماع، ويسقطان، وبالتالي قد يسقط كلّ واحد من العامّين بتمامه جزء منه بالتخصيص وجزء منه بالمعارضة. وهذا المسلك هو الصحيح، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لم نقل.

الثاني: مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وهو وقوع التعارض الرباعيّ الأطراف للعلم الإجمالي بكذب أحدها، ولذا لو غضّ النظر عن أيّ واحد منها أمكن الجمع بين الباقي من دون أي تعارض، أو علم بكذب أحدها، فلو غضّ النظر عن أحد الخاصّين مثلا خصّص العامّ الاخر بمخصّصه، وصار ذلك العامّ بدوره مخصّصاً للعامّ الأوّل بناءً على انقلاب النسبة. ومقصوده ـ دامت بركاته ـ دعوى التعارض السندي بين الأدلّة الاربعة.

والصحيح ـ كما أشرنا إليه ـ هو المسلك الأوّل. وتوضيح ذلك: أنّ التعارض السندي له أحد ملاكين:

671

الأوّل: أن ينصبّ العلم الإجمالي بالكذب ابتداءً على السند، كما لو علمنا إجمالا أنّ أحد الراويين لم يسمع ما ينقله من الإمام(عليه السلام) بل كذب عملا، أو أخطأ، وفي مثل ذلك يقع التعارض في السند حتّى لو فرض أنّ النسبة بين المضمونين نسبة القرينة وذي القرينة كالعموم والخصوص المطلق مثلا، فلا يقدّم الخاصّ على العامّ بدعوى القرينيّة والتخصيص، بل يتعارضان.

إلاّ أنّ الغالب والعادة في المتعارضين ليس هو هذا، فإنّنا عادة نحتمل صدق كلا الراويين حتّى لو فرض التعارض التبايني بين المضمونين؛ إذ نحتمل أن يكون كلّ من الكلامين صادراً من الإمام (عليه السلام) إلاّ أنّ أحد الظهورين غير مراد استعمالا أو جدّاً ولو بأن يكون أحدهما وارداً تقيّة.

نعم، نعلم إجمالا بكذب أحد الظهورين، أي: إنّه على تقدير صدورهما معاً من الإمام فأحدهما غير مقصود، فالمعارضة أوّلا وبالذات بين الظهورين والدلالتين، لا السندين.

الثاني: أن يتعدّى التعارض من الدلالتين إلى السندين، وذلك ببيان مطلب:، إمّا بصيغته المشهورية، أو بعد تعميقه، ونذكر هنا صيغته المشهورية، وهي: أنّه بعد أن وقوع التعارض بين الدلالتين فإن أمكن حلّه في نفس دائرة الدلالات بالجمع العرفي بينهما، فهو، وإلاّ استحكم التعارض بينهما، فوقع التساقط و الاجمال، و عندئذ يكون التعبّد بسند المجمل لغواً، فتسقط حجّيّة السند لأجل اللغوية.

إذا عرفت هذا فنقول: ما معنى دعوى التعارض بين الأدلّة الاربعة؟ فإن كان المقصود التعارض بينها بالملاك الأوّل، أي: إنّه انصبّ العلم الإجمالي بالكذب على أحد الأسانيد ابتداءً، فهذا واضح البطلان؛ إذ عادة نحتمل صدق الجميع مع كذب بعض الظهورات ولو بمعنى صدوره للتقيّة. وإن كان المقصود دعوى التعارض بين الدلالات ثمّ سريانه بعد استحكامه في دائرة الدلالات إلى دائرة الأسانيد، قلنا: إنّ سريان التعارض إلى الأسانيد الأربعة بأن يتشكّل منها تعارض سندي واحد رباعي الأطراف إنّما يكون لو فرض تعارض دلالي رباعي الأطراف مستحكم في دائرته، وهذا معناه أنّ كلّ ظهور من الظهورات الأربعة يعارض مجموع الظهورات الثلاثة الاُخرى من دون إمكان حلّه، وعندئذ لو أردنا أن نتمشى مع صيغة التعارض الرباعي قلنا: إنّ تعارض الخاصّ الأوّل مع مجموع العامّين والخاصّ الثاني محلول؛ لأنّ هذا الخاصّ مقدّم على عامّه، والمقدّم على أحد أجزاء المجموع مقدّم على المجموع.

672

وبكلمة اُخرى: أنّ المرّكب من المحكوم وغير المحكوم محكوم، وتعارض الخاصّ الثاني مع مجموع العامّين والخاصّ الأوّل ـ أيضاً ـ محلول؛ لأنّ الخاصّ الثاني مقدّم على عامّه، فهو مقدّم على المجموع، فالتعارض إنّما يبقى مستحكماً بين العامّين، فيتعدّى إلى سندهما فقط.

والصحيح: أنّه ليس هنا تعارض دلالي رباعي الأطراف، وإنّما هنا ثلاث تعارضات دلاليّة، كلّ واحد منها ثنائيّ الأطراف، فيجب أن نحسب حساب كلّ واحد منها مستقلاّ، لنرى هل يكون مستحكماً في دائرة الظهور حتّى يسري إلى دائرة السند أولا؟.

الأوّل: هو التعارض بين العامّ الأوّل وخاصه. وهذا تعارض ثنائي الأطراف، فإنّ كلاّ منهما لو فرض صدق صاحبه لسقط، ولا يؤثّر في ذلك صدق الباقي أو كذبه. وهذا التعارض ليس مستحكماً بين طرفيه في دائرة الظهور؛ لأنّ الخاصّ يتقدّم على العامّ، فلا يسري إلى السند.

الثاني: هو التعارض بين العامّ الثاني وخاصّه. وهذا ـ أيضاً ـ تعارض ثنائي الأطراف، فإنّ كلاّ منهما لو فرض صدق صاحبه لسقط، ولا يؤثّر في ذلك صدق الباقي وكذبه. وهذا التعارض ـ ايضاً ـ محلول بتقدّم الخاصّ على العامّ، فلا يسري إلى السند.

الثالث: هو التعارض بين العامّين في مادّة الاجتماع، وهو مستحكم في المقام؛ إذ لا يمكن تقديم أحد العامّين على الآخر وجعله مخصّصاً له، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لم نقل. أمّا اذا لم نقل بانقلاب النسبة فواضح. وأمّا إذا قلنا بانقلاب النسبة فهو هنا عبارة عن لحاظ أحدالعامّين مع خاصّه قبل لحاظ العامّ الآخر مع خاصّه حتّى تنقلب النسبة، ويصبح العامّ الأوّل أخصّ من العامّ الثاني.

وهذا كما ترى جزاف محض، فليس تخصيص أيّ واحد من العامّين بخاصّه بأولى وأقدم من تخصيص الآخر بخاصّه. اذن فهذا التعارض هو الذي بقي مستحكماً، فيسري إلى السند بعد أن كان كلّ واحد من العامّين مخصّصاً بلحاظ مادّة افتراقه.

فإن قلت: إنّ هنا تعارضاً سنديّاً ثلاثي الأطراف بين كلّ عامّ مع خاصّه والعام الآخر؛ لأنّ خاصّه يخرج منه مادّة الافتراق والعامّ الآخر يعارضه في مادّة الاجتماع، فلا يبقى له شيء.

قلت: هذا التعارض إن فرض بالملاك الأوّل: أعني العلم ابتداءً بكذب أحد الأسانيد، فهذا العلم غير موجود عادة كما قلنا، وغير مفروض في المقام. وإن فرض بالملاك الثاني باعتبار أنّ مجموع أحد الخاصّين مع العام الآخر لا يجتمع في الدلالة مع العام الذي يكون هذا

673

الخاصّ مخصّصاً له، قلنا: إنّ هذا الكلام إنّما كان يتمّ لو فرض أنّ العامّ الآخر كان قرينة على خلاف العامّ الأوّل في نفسه، فعندئذ يكون العامّ الأوّل مبتلىً بالتعارض مع مجموع أمرين كلّ منهما بمفرده قرينة يخرج شيئاً من العامّ، لكنّ جعل أحدهما قرينة دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فيكون مجموعهما هو المتعارض معه، ولكنّ المفروض أنّ العامّ الآخر ليس قرينة على خلاف العامّ الأوّل، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لم نقل كما عرفت وجه ذلك آنفاً. وعليه فمجموع ما جعل معارضاً للعامّ الأوّل وهو خاصّه مع العامّ الآخر منحلّ إلى ما هو قرينة، وهو الخاص، فيتقدّم، وينحلّ التعارض بلحاظه وما يكون تعارضه مستحكماً وهو العام الآخر.

لا يقال: إنّ دليل حجّيّة السند لا يمكنه أن يشمل العامّ الأوّل مع مخصّصه ومع العامّ الآخر الذي هو بمنزلة الخاصّ بمادّة الاجتماع؛ لخروج مادّة الافتراق عنه بمخصّصه، فيقع التعارض بين العامّ الأوّل ومجموع المخصّص والعامّ الآخر.

فإنّه يقال: إنّ دليل الحجّيّة إنّما يجعل الحجّيّة لسند العامّ الأوّل في مقابل ما يعارضه بلحاظ مقدار ما يتحصّل بعد الجمع العرفي مع مخصّصه، والمفروض أنّ مخصّصه يخرج منه مادّة الافتراق بالقرينية، فلا معنىً لإبقاء تلك الحصّة للعامّ كي يشمله دليل حجّيّة السند، بل يسقط أوّلا تلك الحصّة بالتخصيص ثمّ نتوجّه إلى حساب حجّيّة السند.

نعم، لو رفعنا يدنا عن الخاصّ نجا سند العامّ عن المعارضة؛ لأنّ العامّ الآخر إنّما يعارضه في مادة الاجتماع، لكنّ هذا ليس ميزاناً فنّياً لإدخال الخاصّ في عالم التعارض.

كما أنّ ما ذكره السيد الاُستاذ من أنّنا لو رفعنا يدنا من أيّ واحد من الأدلّة الأربعة ارتفع العلم الإجمالي بالكذب، ولم يوجد تعارض بين الباقي، ليس فنّياً، فإنّ ميزان المعارضة ليس هو هذا، وإنّما ميزان المعارضة هو ما قلناه من أحد أمرين: إمّا أن يعلم ابتداءً بكذب أحد الأسانيد، أو أن يسري من دائرة الدلالة إلى دائرة السند بالبيان الماضي بتلك الصيغة، أو بعد تعميقه. وأمّا مجرّد أنّ الخبر الفلاني أصبح صدفة بحيث لو غضضنا النظر عنه لارتفع التعارض بين أدلّة اُخرى باعتبار أنّ العامّ الآخر إنّما يعارض سنده فيما لو لم يبقَ لمدلوله شيء غير خارج بالتخصيص، فلا يجعله داخلا في ميدان المعارضة.

الصغرى الثالثة: أن يرد عامّ مع تعدّد المخصّصات، ولنفرضها ـ لأجل التسهيل ـ مخصّصين، وفي هذين المخصّصين ثلاث حالات:

الحالة الاُولى: أن يكونا بحسب الموضوع متباينين، وعندئذ: إمّا أن لا يستوعبا العامّ كما

674

لو قال: (أكرم العلماء) وقال: (لا تكرم زيداً العالم) وقال: (لا تكرم عمراً العالم). وإمّا أن يستوعباه: إمّا حقيقة أو حكماً، بأن يكون تخصيص العامّ بهما تخصيصاً للأكثر المستهجن، كما لو قال: (أكرم العراقيين وقال: لا تكرم أهل شمال العراق) وقال: (لا تكرم أهل جنوب العراق) بناءً على كون أهل شمال العراق وجنوبه مستوعباً حقيقة أو حكماً للعراقيين.

أمّا القسم الأوّل، وهو ما إذا لم يكونا مستوعبين للعام فلا إشكال في أنّ العامّ يخصّص بهما، ولا يوجد أيّ مجال لتوهّم انقلاب النسبة؛ إذ حتّى لو خصّص العامّ أوّلا بأحدهما بقيت نسبته إلى الخاصّ الآخر نفس نسبة العموم المطلق.

وأمّا القسم الثاني، وهو ما لو كانا مستوعبين ولو حكماً فيقع فيه التعارض الثلاثي الأطراف بين العامّ وكلّ واحد من الخاصّين، فكلّ واحد منهما يعارض مجموع الآخرين، فإنّ قوام وقوع التعارض بين مجموع أدلّة من هذا القبيل يكون بأمرين وكلاهما ثابت في المقام:

الأوّل: العلم بكذب أحد الظهورات، وهذا ثابت كما هو واضح

والثاني: عدم قرينيّة بعضها على بعض، وهذا ـ أيضاً ـ ثابت، فلا العامّ قرينة على الخاصّ كما هو واضح، ولا أحد الخاصّين قرينة على العامّ؛ إذ لو فرضت قرينيّة أحد الخاصّين على العامّ فهل هو جمعاً مع الخاصّ الآخر قرينة عليه أو بدلا عن الخاصّ الآخر قرينة عليه؟ فإن فرض الأوّل قلنا: إنّ مجموعهما يلغي العامّ، فكيف يكون الملغي قرينة للملغى. وإن فرض الثاني لزم الترجيح بلا مرجح.

وقد اتّضح بما ذكرناه الفرق بين هذا وبين العامّين من وجه اللذين ورد على كلّ منهما مخصّص يخرج مادّة الافتراق، حيث لم نوافق هناك على ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من التعارض الرباعي الأطراف، وهنا نقول بالتعارض الثلاثي الأطراف، فإنّ الأمر الأوّل وهو العلم بكذب أحد الظهورات وإن كان ثابتاً هناك، لكنّ الأمر الثاني وهو عدم قرينيّة بعضها على بعض لم يكن ثابتاً هناك، لكنّه ثابت هنا.

الحالة الثانية: أن يكونا بحسب الموضوع عامّين من وجه، كما لو قال: (أكرم العراقي) وقال: (لا تكرم عراقياً غير هاشمي) وقال: (لا تكرم العراقي الفاسق) وهذان المخصّصان تارةً يفرض ورودهما في زمان واحد، واُخرى يفرض ورودهما في زمانين، فأحدهما عن الباقر(عليه السلام)والآخر عن الصادق(عليه السلام) مثلا.

أمّا الأوّل، أي: ما إذا ورد المخصّصان في زمان واحد، فلا إشكال في أنّ العامّ يخصّص بهما

675

معاً بعد افتراض عدم كونهما مستوعبين ولو حكماً للعامّ، وفرقه عمّا إذا كان المخصّصان متباينين موضوعاً من دون استيعاب أنّه هناك لم يكن أيّ مجال لتوهّم انقلاب النسبة؛ إذ حتّى لو خصّص العامّ أوّلا بأحدهما بقيت نسبته مع الآخر نفس نسبة العموم المطلق. وأمّا هنا فيمكن افتراض انقلاب النسبة بتخصيص العامّ بأحدهما أوّلا، فتنقلب نسبته مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه، إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال لانقلاب النسبة، فإنّ تقديم أحد الخاصّين على الآخر في التخصيص، ثمّ لحاظ نسبة العامّ إلى الخاصّ الآخر جزاف صِرف.

ويمكن أن يتوهّم أنّنا نخصّص أوّلا العامّ بمادّة الاجتماع بينهما فتصبح نسبة العامّ إلى كلّ من الخاصّين عموماً من وجه، فيقال: إنّنا لم نخصّص العامّ أوّلا بأحد الخاصّين حتّى يقال: لا مرجّح لأحدهما على الآخر، بل خصّصناه بهما معاً في مادّة الاجتماع، فلم نقدّم أحد الخاصّين في التخصيص جزافاً.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ مشتمل على الجزاف؛ لإنّه ترجيح لمادّة الاجتماع في التخصيص على مادّة الافتراق بلا مرجّح، وقرينيّة الخاصّ للعامّ ثابتة بنهج واحد لتمام مفاد الخاصّ من دون فرق بين مادة اجتماعه مع الخاصّ الآخر ومادّة افتراقه عنه.

وأمّا الثاني، وهو ما إذا فرض المخصّصان في زمانين، كما لو ورد (أكرم العراقي) ثم ورد (لا تكرم عراقياً غير هاشمي) ثم ورد في زمان آخر (لا تكرم العراقي الفاسق) فالحال فيه هو الحال في ما إذا ورد المخصّصان في زمان واحد، وإنّما أفردناه بالبحث لأجل إشكال ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في المقام على ما في تقرير بحثه(1) وأجاب عنه.

والبيان الفنّي للإشكال في المقام هو: أنّ المخصّص الثاني لو قسناه إلى العامّ بعرضه العريض كان أخصّ منه مطلقاً، لكنّه بناءً على انقلاب النسبة لا وجه لقياسه بالعامّ بعرضه العريض؛ وذلك لأنّ المخصّص الأوّل لمّا ورد لا ينتظر في تخصيصه للعامّ ورود أخيه، بل يتقدّم في الوقت على العامّ ويخصّصه، فيسقط العامّ عن الحجّيّة بمقدار ذلك المخصّص، فحينما يرد المخصّص الثاني يلقي العامّ مخصّصاً وغير حجّة، إلاّ فيما عدا ما خرج بالمخصّص الأوّل، فنسبته إليه بناءً على انقلاب النسبة إنّما هي العموم من وجه.

وأجاب ـ دامت بركاته ـ عن هذا الإشكال بأنّ المخصّصين وإن كانا بحسب الظاهر في زمانين، فورد مثلا أحدهما عن الباقر (عليه السلام) والآخر عن الصادق (عليه السلام)إلاّ أنّهما ينظران معاً إلى


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 392 ـ 393.

676

زمان واحد، وهو عصر التشريع؛ إذ ليس لكلّ إمام تشريع مستقلّ، فكأنّ المخصّصين وردا في زمان واحد.

وهذا الجواب ممّا لا نفهمه، فإنّ فيه خلطاً بين زمان مدلول الحديث وزمان الحجّيّة، فالإشكال يكون بالنظر إلى زمان الحجّيّة، والجواب ينظر إلى زمان المدلول، وهذا الجواب يكون في محلّه لو جعل جواباً على إشكال يرد في تخصيص عامّ متأخّر بخاصّ متقدمّ عليه زماناً، وهو أنّ الخاصّ يكون من حيث الزمان أعمّ لشموله لما قبل ورود العامّ، فالنسبة بينهما عموم من وجه، فكيف يخصّص العامّ به؟

فالجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إنّ كلاًّ من العامّ والخاصّ ينظران إلى زمان واحد، وهو تمام أزمنة الشريعة المقدّسة، فالنسبة بينهما هي العموم المطلق.

ولكنّ هذا الجواب فيما نحن فيه ممّا لا أساس له، فإنّ الإشكال ينظر إلى زمان الحجّيّة ويقول: إنّ زمان حجّيّة المخصّص الأوّل هو وقت وروده، فخصّص العام عند وروده، والمخصّصان وإن كانا ينظران كلاهما إلى وقت واحد، لكنّ أحدهما كان حجّة بعد زمان حجّيّة الآخر، لا معه، وأحدهما أسقط حجّيّة العامّ في دائرته قبل الآخر لا محالة، فيكون المخصّص الثاني قد جاء وقت تخصّص العامّ بالمخصّص الأوّل، فتكون النسبة بينه و بين المخصّص الثاني بناءً على انقلاب النسبة العموم من وجه، فالجواب عن هذا الإشكال بدعوى وحدة زمان المدلول لكلا المخصّصين ممّا لا ربط له بالإشكال.

والتحقيق: أنّ أصل الإشكال ممّا لا يُفهَم، ويصبح شيئاً مضحكاً لو بنينا على مبنى المشهور من أنّ حجّيّة الخبر يكون بوصوله لا بوروده، فعندئذ يصبح مركز الإشكال اختلاف المخصّصين في زمان الوصول، لا اختلافهما في زمان الصدور، فلو أنّ فقيهاً رأى أوّلا هذا المخصّص وخصّص العامّ به، ثمّ رأى الخاصّ الآخر، كان العامّ بالنظر إلى وظيفة هذا الفقيه معارضاً للخاصّ الآخر بالعموم من وجه، ولو أنّ فقيهاً آخر انعكس أمره، فرأى أوّلا المخصّص الثاني أصبحت نسبة العامّ إلى المخصّص الأوّل بالنظر إلى وظيفته العموم من وجه.

وحلّ الإشكال فنّيّاً هو: أنّ العامّ يكون تخصيصه حدوثاً بورود المخصّص الأوّل وحجّيّته، ويكون بقاءً ذلك التخصيص ببقاء المخصّص الأوّل على حجّيّته، ولذا لو ورد بعد ذلك مخصّص على ذلك المخصّص، أو حاكم عليه يفسّره بتفسير ينسجم مع مفاد العامّ، رجع العامّ إلى حجّيّته، وهذا معناه أنّ تخصيص العامّ بمخصّصه وسقوطه عن الحجّيّة في دائرة مخصّصه ليس من قبيل موت الانسان الذي يحصل دفعة وينتهي أمر ذلك الانسان، وانّما

677

يكون سقوط العامّ عن الحجّيّة في دائرة المخصّص وتخصيصه به أمراً يحصل حدوثاً بحدوث المخصّص الحجّة، ويثبت بقاءً ببقاء ذلك المخصّص على الحجّيّة، إذن فتخصيص العامّ بقاءً بالمخصّص الأوّل يكون في عرض تخصيصه بالمخصّص الثاني.

ولولا ما عرفته من الجواب لاستحكم الإشكال، ولم يكن جواب السيّد الاُستاذ جواباً عليه، وللزم تأسيس اُصول وفقه جديدين، فلو ورد مثلا دليل يدلّ على وجوب شيء ودليل آخر يدلّ على حرمته، ثمّ ورد في زمان ثالث متأخّر عنهما ما يدلّ على الكراهة يجب أن يقال بأنّ الدليلين الأوّلين تعارضا وتساقطا، وبقي دليل الكراهة بلا معارض، ولم يصح ما هو المألوف من إيقاع التعارض الثلاثي بينها، ويزداد ذلك غربةً لو بنينا على أنّ الحجّيّة تكون بالوصول، فمن كان آخر حديث اطّلع عليه هو حديث الوجوب يبني على الوجوب، ومن كان آخر حديث اطّلع عليه هو حديث الحرمة يبني على الحرمة، ومن كان آخر حديث اطّلع عليه هو الكراهة يبني على الكراهة. وحلّ ذلك ما عرفته من أنّ التخصيص والمعارضة شيء يكون حدوثاً بحدوث المخصّص والمعارض الحجّة في نفسه، وبقاءً ببقائه على الحجّيّة في نفسه.

الحالة الثالثة: أن يكونا بحسب الموضوع أعمّ وأخصّ مطلقاً، ونذكرهنا حول ذلك أربع كلمات:

الكلمة الاُولى: أنّ الخاصّ الأخصّ لو كان له مفهوم يخصّص الأعمّ فيجعله موافقاً له، فعندئذ لا إشكال في أنّ الخاصّ الأعمّ يخصّص به، والعام يخصّص بمقدار الخاصّ الأخصّ، وليس أيّ مجال لتوهّم تأثير مبنى انقلاب النسبة في المقام، ومثاله ما لو قال: (أكرم كلّ عراقي) وقال: (لا تكرم العراقي الفاسق) وقال: (العراقي الفاسق إن كان كذّاباً لا تكرمه).

الكلمة الثانية: إن لم يكن للخاصّ الأخصّ مفهوم يخصّص الخاصّ الأعم، كما لو قال: (أكرم كلّ عراقي) وقال: (لا تكرم العراقي الفاسق) وقال: (لا تكرم العراقي الكذّاب)، فعندئذ يخصّص العامّ بكلا المخصّصين في عرض واحد. وتوهّم أنّ العامّ يخصّص في المرتبة السابقة بأخصّ الخاصّين فتنقلب نسبته مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه بناءً على كبرى انقلاب النسبة مدفوع بأنّ المقتضي لتخصيص العامّ بالخاصّ الأعمّ وهو القرينيّة موجود في نفس رتبة تخصيصه بالخاصّ الأخصّ، والمانع مفقود، وتقديم الخاصّ الأخصّ جزاف.

الكلمة الثالثة: إن كان الخاصّ الأخصّ متّصلا بالعامّ، كما لو قال: (أكرم كلّ عراقي، ولا تكرم الكذّاب منهم) ثمّ قال: (لا تكرم العراقي الفاسق)، فهذا لا إشكال في أنّه غير مرتبط

678

بباب انقلاب النسبة، وإنّ النسبة بين الخاصّ المنفصل والعامّ المخصَّص بالمخصّص هي العموم من وجه من أوّل الأمر؛ لأنّ المخصّص المتّصل قد هدم ظهور العامّ في شموله لما تحته، فالخاصّ المنفصل قد قسناه بما يكون العامّ ظاهراً فيه، لا بمقدار أقلّ من ذلك، باعتبار سقوط شيء من دلالة العموم عن الحجّيّة حتّى يرتبط ذلك بباب انقلاب النسبة. وعليه فلا إشكال في أنّ هذا العامّ مع ذلك الخاصّ متعارضان بالعموم من وجه، ولا يكون الخاصّ قرينة على العامّ.

إلاّ إنّ هناك شبهة لا يخلو جوابها عن دقّة، فلا بأس بذكرها، وهي: أنّه مضى فيما سبق قاعدة أعطاها المحقّق النائيني (رحمه الله) و نحن قبلناها، وهي: أنّه كلمّا يكون قرينة هادمة للظهور عند الاتّصال فهي قرينة هادمة للحجّيّة عند الانفصال، فقد يقال: إنّ هذه القاعدة حينما تطبق في المقام تكون نتيجتها تخصيص ذلك العامّ بهذا الخاصّ المنفصل بالرغم من اتّصاله بالخاصّ الأخصّ؛ وذلك لأنّه لو اتّصل به هذا الخاصّ الآخر بأن قال: (أكرم كلّ عراقي، ولا تكرم العراقي الكذّاب، ولا تكرم العراقي الفاسق) فلا إشكال في أنّ هذا الخاصّ الثاني يخصّص العامّ، ولا معنىً للحاظ العامّ أوّلا مخصَّصاً بالخاصّ الأوّل، ثمّ جعل النسبة بينه وبين الخاصّ الثاني عموماً من وجه؛ وذلك لأنّ الخاصّين في عرض واحد، فإذا اتّضح تقدّمه على العامّ عند اتّصاله ثبت تقدّمه عليه عند انفصاله أيضاً بتلك القاعدة الميرزائية. والجواب عن ذلك: أنّ تلك القاعدة وإن كانت صحيحة، لكنّ موردها ما إذا كان طرف المعارضة لتلك القرينة عند الانفصال نفس الظهور الذي يكون طرفاً لمعارضتها عند الاتّصال، فيقال: إنّ هذه القرينة التي تهدم ذاك الظهور عند الاتّصال به تهدم حجّيّته عند الانفصال عنه. وأمّا إذا كانت عند الاتّصال تهدم ظهوراً وعند الانفصال تقع طرفاً للمعارضة لظهور آخر فلا معنىً لجعل هدمها لذاك الظهور ميزاناً لاسقاطها لحجّيّة هذا الظهور. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ هذا الخاصّ لو كان متّصلا بذاك العامّ المتّصل بالخاصّ الآخر لوقع طرفاً للمعارضة لنفس العامّ، لا العامّ، بعد تخصيصه بالخاصّ الآخر، ولكنّه حين انفصاله ليس الظهور الذي يعارضه هو الظهور العمومي حتّى يرفع حجّيّته، فإنّ الظهور العمومي غير موجود حتّى يقع طرفاً لمعارضته، وترتفع حجّيّته؛ لأنّ الظهور العمومي قد انهدم بالمخصّص المتّصل. وإنّما الظهور الموجود هو ظهور العامّ المخصَّص، ونسبته إلى هذا الخاصّ هي العموم من وجه، فلا قرينية في المقام.

الكلمة الرابعة: إن كان العامّ ورد مرّة مستقلاً ومرّة اُخرى متّصلا بأخصّ الخاصّين، كما لو قال: (أكرم كلّ عراقي) وقال: (أكرم كلّ عراقي، ولا تكرم الكذّاب منهم) وقال: (لا تكرم