578

إلى الإطلاق فرع الحاجة إلى النظر، فإذا كان الوارد إنّما يثبت الموضوع تكويناً وحقيقة بلا حاجة إلى النظر، فلا محالة يترتّب عليه كلّ آثاره، ولا معنىً للإطلاق.

ب ـ إنّه لا يمكن تخيّل اشتراط تأخّر زمان الوارد عن زمان المورود، كما توهّم في الحاكم؛ فإنّ الوارد ليس كالحاكم بحاجة إلى النظر إلى المورود حتّى يتوهّم أنّ النظر إليه فرع ثبوته مسبقاً مثلاً.

6 ـ إنّ الورود لا يحتاج إلى لسان لفظي؛ لأنّه ليس تصرّفاً في الألفاظ من قبيل الحكومة التنزيلية، وإنّما هو تصرّف معنوي حقيقي في ركن من أركان المورود، وهو الموضوع، وذلك يكون حتّى إذا لم يكن للوارد لسان لفظي، وهذا بخلاف الحكومة التنزيلية كما سيتجلّى بعد ذلك بوضوح إن شاء الله.

 

نظرية الحكومة:

المقدّمة الثانية: أنّ باب الحكومة ـ أيضاً ـ خارج عن باب التعارض. والكلام في الحكومة يقع في ثلاث نقاط:

1 ـ في تعريف الحكومة.

2 ـ في نكتة تقدّم الحاكم على المحكوم.

3 ـ في ملاحظات عامّة حول الحكومة.

 

النقطة الاُولى في تعريف الحكومة:

الحكومة تكون عبارة عن النظر لأحد الدليلين إلى الآخر بقرار شخصي من المتكلّم، ويكون ذلك عادةً بجعل خصوصيّة في أحد الدليلين تدلّ على نظره إلى الدليل الآخر، ولذلك ثلاث وسائل إثبات:

1 ـ لسان التفسير، سواء كان بارزاً بمثل أي وأعني، أو مستبطناً.

2 ـ لسان التنزيل.

3 ـ مناسبات الحكم والموضوع، كما في دليل نفي الضرر الظاهر في النظر إلى أدلّة الأحكام الواقعية، لا في نفي الحكم الضرري ابتداءً، حيث إنّه لم يكن من المترقّب من الشريعة جعل أحكام ضررية في نفسها، وإنّما المترقّب جعل أحكام قد تصبح ضررية.

هذا. والسيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ لم يفسّر الحكومة بتفسير جامع، بل قسّم

579

الحكومة راساً إلى قسمين(1):

1 ـ الحكومة في الأحكام الظاهرية بعضها على بعض. وقال: إنّ هذا يكون بملاك رفع الموضوع من قبيل حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل الأصل، لأنّه يوجب العلم.

2 ـ الحكومة في الأحكام الواقعية بعضها على بعض، وقال: إنّ ذلك يكون بملاك النظر كما في حكومة (لا ربا بين الوالد وولده) على دليل حرمة الربا، حيث إنّ الأوّل ناظر إلى الثاني؛ إذ لولا الثاني للغا الأوّل.

وكأنّ مقصوده بذلك أنّ في باب الحكومة في الأحكام الواقعية دائماً يكون النظر موجوداً؛ إذ لولا المحكوم للغا الحاكم، في حين أنّه ليس الأمر كذلك في باب الأحكام الظاهرية؛ فإنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يلغو وإن فرض عدم ورود (رفع ما لا يعلمون)، إلاّ أنّك ترى أنّه في باب الأحكام الواقعيّة ـ أيضاً ـ قد لا يلغو الحاكم لولا المحكوم، كما في حكومة دليل حجّيّة الأمارة وجعلها علماً ـ على مبناهم ـ على دليل حرمة الإفتاء بغير علم.

وعلى أيّ حال، فالحكومة لا تكون إلاّ بملاك النظر، وفرضها تارةً بملاك النظر، واُخرى بملاك رفع الموضوع ـ وكأنّها مشترك لفظي بينهما ـ غير صحيح. نعم، وسائل إثبات النظر تختلف كما مضى.

وأمّا ما ذكره ـ دامت بركاته ـ من فرض حكومة دليل الأمارة على دليل الأصل بملاك رفع الموضوع، فيرد عليه: انّه إن فرضت الغاية في الأصل مطلق ما يعتبره المولى علماً لا خصوص العلم الحقيقي، فالدليل الذي يجعل الأمارة علماً يكون وارداً عليه لا حاكماً، فإنّه يرفع موضوعه حقيقة. وإن فرضت الغاية فيه خصوص العلم الحقيقي اللغوي، فإن كان دليل جعل الأمارة علماً ناظراً إليه أصبح حاكماً عليه بملاك النظر، وإن لم يكن ناظراً إليه، وإنّما كان يدلّ على مجرّد فرض غير العلم واعتبارِه علماً، فهذا ليس له أيّ أثر، ولا يثبت آثار العلم بالدليل المحكوم؛ لأنّ الغاية المأخوذة فيه إنّما هو العلم الحقيقي دون الاعتباري، ولا بالدليل الحاكم؛ لأنّه لم ينظر إلى ذلك، وإنّما غاية ما صنع أنّه اعتبر وفرض اللاعلم علماً، وأيّ قيمة لذلك؟

 

النقطة الثانية في نكتة تقدّم الحاكم على المحكوم:

إنّ نكتة تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هي أنّ الحاكم له ظهوران: الظهور الأوّل


(1) راجع مصباح الاصول ج3 ص348 ـ 349.

580

هو ظهوره فيما ينافي ظاهر المحكوم، فمثلاً يدلّ دليل حرمة الربا على حرمة كلّ ربا بإطلاقه، ويدلّ قوله: (لا ربا بين الوالد وولده) على عدم حرمة الربا بين الوالد والولد. وهذان الظهوران متعارضان. والظهور الثاني هو ظهوره ـ بحكم نظره إلى المحكوم ـ في أنّ المتكلّم يريد تقديم الظهور الأوّل على ظهور المحكوم، فيدخل ذلك في كبرىً عقلائية، وهي: أنّ من حقّ المتكلّم أن يجعل نظاماً خاصّاً في مقام تفهيم وتفهّم مقاصده، وإذا جعل ذلك كان متّبعاً، فلا محالة يتقدّم الحاكم على المحكوم.

هذا. وهناك تقريبان مشهوران لتقديم الحاكم على المحكوم:

التقريب الأوّل: أنّ الحاكم يرفع موضوع المحكوم، فالمحكوم الذي كان موضوعه عدم العلم مثلاً وقد جعل الحاكم العلم، لم يبقَ له مجال؛ لانتفائه بانتفاء الموضوع، وليس المحكوم متعرّضاً لإثبات موضوعه، فلا تعارض بينهما، فلا محالة يعمل بهما معاً.

ويرد عليه: أنّ دليل المحكوم إن فرض موضوعه عدم ما اعتبره المتكلّم علماً مثلاً، وكان دليل الحاكم يجعل العلم اعتباراً، فهذا رفع للموضوع تكويناً وحقيقة، ويدخل ذلك في باب الورود، لا الحكومة. وأمّا إن فرض أنّ موضوعه هو عدم العلم الحقيقي، فمجموع الدليل المحكوم مع دليل وجود الموضوع يكون معارضاً للدليل الحاكم، فيحتاج تقديم الدليل الحاكم إلى نكتة.

التقريب الثاني: أنّ الحاكم يتعرّض لشيء زائد لا يتعرّض له المحكوم، فالحاكم مثلاً يتعرّض إلى أنّ الربا بين الوالد وولده ليس ربا، إضافةً إلى تعرّضه لعدم الحرمة، لكنّ المحكوم يتعرّض فقط للحرمة، ولا يتعرّض لكون ذلك ربا، فيتقدّم الأوّل على الثاني.

ويرد عليه: أنّ مجرّد تعرّض الحاكم لشيء زائد، وهو مثلاً نفي كون هذا ربا لا يكون نكتة للتقدّم. نعم، هذا يستلزم النظر إلى المحكوم، فيتقدّم عليه بملاك النظر، ولذا حينما يوجد النظر وحده ولا يوجد تعرّض الحاكم لشيء زائد ترى أنّه يتقدّم ـ أيضاً ـ على المحكوم، وذلك من قبيل موارد الحكومة بمناسبات الحكم والموضوع، فدليل نفي الضرر مثلاً ينظر إلى أدلّة الأحكام الأوّلية، وتلك الأدلّة تشمل بالإطلاق صورة كون ذلك الحكم ضررياً، ودليل (لا ضرر) أيضاً يشمل ذلك بالإطلاق، فكلاهما يتعرّضان لشيء واحد، ومع ذلك يتقدّم الثاني على الأوّل لأجل النظر.

 

النقطة الثالثة في ملاحظات عامّة حول الحكومة:

وهي تستفاد من النقطتين السابقيتن. ونتعرض هنا لخمس ملاحظات:

581

1 ـ إنّ الحاكم يقدّم على المحكوم سواء كان متّصلاً أو منفصلاً. فان كان متّصلاً رفع الظهور؛ لأنّه يحقّ للمتكلّم عقلائياً أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن لدفع انعقاد الظهور التصديقي ما دام متشاغلاً بالكلام. وإن كان منفصلاً لم يرفع الظهور، وإنّما يرفع الحجّيّة؛ لأنّ الظهور قد انعقد بانتهاء الكلام، والحاكم شأنه من هذه الناحية شأن المخصّص الذي يرفع الظهور لو كان متّصلاً، ويرفع الحجّيّة فقط لو كان منفصلاً.

2 ـ إنّ الحاكم يقدّم ـ ولو كان من أضعف الظهورات ـ على المحكوم ولو كان من أقوى الظهورات. وقاعدة تقديم أقوى الظهورين لا تأتي هنا؛ وذلك لأنّ تقديم أقوى الظهورين إنّما هو على أساس نظام عامّ لفهم المراد من الكلام عند العرف والعقلاء. وتقديم الحاكم على المحكوم يكون على أساس نظام خاصّ فرضه المتكلّم لفهم مراده، وطبعاً النظام الخاصّ الذي يفرضه المتكلّم لفهم مراده يتقدّم على النظام العامّ.

وهذه هي نكتة تقديم الحاكم ولو كان أضعف الظهورات على المحكوم ولو كان أقواها، لا ما ذكره السيّد الاُستاذ من عدم المعارضة بينهما، فقد مضى توضيح وجود المعارضة بينهما.

هذا. وظهور الحاكم في النظر، وكون ظهوره المعارض لظهور المحكوم مقدّماً عليه ـ أيضاً ـ لا يشترط أن يكون أقوى من ظهور المحكوم، فهو يوجب التقدّم ولو كان من اضعف الظهورات، فإنّ ظهور الحاكم في النظر قد يكون قوياً جدّاً فيقول مثلاً: إنّما عنيت الشكّ بين الثلاث والأربع، وقد يكون أضعف من ذلك، ويتدرّج في الضعف إلى أن يصل إلى مرتبة مناسبات الحكم والموضوع، وعلى أيّ حال فمهما بلغ الظهور في النظر من الضعف ـ ما دام لم يسقط عن كونه ظهوراً ـ يكون حجّة؛ فإنّه يكفي في تخصيص القرارات النوعية أقلّ الظهورات.

3 ـ إنّ موازين التمسّك بالمحكوم عند أقسام الشكّ في الحاكم المنفصل هي نفس موازين التمسّك بالعامّ عند أقسام الشكّ في التخصيص المنفصل، فيجوز التمسّك به في باب الحكومة عندما يجوز التمسّك به في باب التخصيص، ولا يجوز حينما لا يجوز هناك؛ وذلك لأنّ الحاكم المنفصل لم يرفع ظهور المحكوم، ولا أوجب انتفاء موضوعه، فحاله في ذلك حال المخصّص.

4 ـ إذا تعدّدت الآثار فإنّما تثبت تلك الآثار بمقدار نظر الحاكم، فمثلاً الصلاة مشروطة بالطهارة عن الحدث وبالطهارة عن الخبث، ولها آثار اُخرى، فحينما يقول: (الطواف بالبيت صلاة) لا بدّ أن يرى مقدار نظر هذا الكلام إلى تلك الآثار، فلا تثبت إلاّ الآثار التي يكون الحاكم ناظراً إليها؛ وذلك لأنّ نكتة الحكومة ودلالته على الحكم هي النظر، فتتقدّر بمقدار

582

النظر، وإثبات كلّ الآثار يتوقّف على إثبات الإطلاق بدليل من الأدلّة، وهذا بخلاف الورود على ما عرفت.

5 ـ إنّ الحكومة تختصّ بالأدلّة اللفظية، ولا معنىً لها في الأدلّة العقلية؛ فإنّ الدليل العقلي راساً يثبت الحكم، لا أنّه ينظر إلى دليل المحكوم، وإنّما النظر شأن اللفظ، سواء كان نظراً تفسيرياً؛ فإنّ التفسير اُسلوب من أساليب اللفظ، أو نظراً تنزيلياً؛ فإنّ التنزيل لا واقع له إلاّ في عالم التعبير اللفظي، أو كان بمناسبات الحكم والموضوع؛ فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تنشئ ظهوراً في الدليل اللفظي، فيصبح ذاك الظهور حجّة.

 

التخصيص:

المقدّمة الثالثة: أنّ باب التخصيص ـ أيضاً ـ خارج عن باب التعارض.

وتوضيح الكلام في ذلك تارةً يقع في المخصّص المتّصل، واُخرى في المخصّص المنفصل.

 

المخصّص المتّصل:

أمّا الكلام في المخصص المتّصل، فهناك أسئلة فنيّة ينبغي الإجابة عنها، والمهمّ منها والذي ينبغي ذكره في هذا المقام سؤالان:

1 ـ لماذا يقدّم الخاصّ على العامّ؟

2 ـ بعد فرض عدم حمل العامّ على العموم الذي هو معناه الأوّلي يُسأل عن المبرّر لحمله على تمام الباقي، مع أنّ تحته درجات متعدّدة يمكن حمل العامّ ـ بعد رفع اليد عن معناه الأصلي ـ على واحدة منها.

والبحث ـ في الحقيقة ـ لا يعدو أن يكون مجرّد بحث علمي لا عملي؛ فإنّ تقدّم المخصّص المتّصل على العامّ، وكذا حجّيّة العامّ في الباقي لا إشكال فيه عرفاً، وإنّما الكلام في تفسير ذلك فنّاً.

وعلى أيّة حال فينبغي الالتفات إلى أنّ المخصّص الذي يكون داخلاً في هذا البحث ليس هو المخصّص الذي يكون من شؤون المدخول، من قبيل الوصف، كما في قوله: (أكرم كلّ عالم عادل) فإنّه عندئذ لا يوجد عامّ وخاصّ؛ وإنّما العموم رأساً دخل على خصوص العلماء العدول، ولا كلام فيه، وإنّما الكلام في المخصّص الذي يكون بكلام مستقلّ من قبيل قوله: (أكرم كلّ عالم) و(لا تكرم فسّاق العلماء).

583

وأمّا حال الاستثناء من قبيل (أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً) أو (أكرم كلّ عالم إلاّ زيداً) فسنشير إليه في الأثناء إن شاء الله.

وعلى أي حال، ففي الإجابة عن هذين السؤالين اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل: هو الاتّجاه المختار من افتراض وجود دلالة تصوّرية جديدة مخلوقة للسياق في مقابل الدلالة التصوّرية للعامّ والدلالة التصوّرية للخاصّ، ولا نقصد بذلك البرهنة على تقديم الخاصّ على العامّ، وإنّما المقصود تفسير ذلك بعد الفراغ عنه بحسب الوجدان العرفي.

ونوضّح المقصود بعد ذكر مقدّمة، وهي: انّ الكلام يدلّ بالدلالة التصوّرية على معناه المستفاد من نظام اللغة، أي: إنّه يُخطر بالبال معناه، ثمّ بعد ذلك تتحقّق دلالة تصديقية من الدرجة الاُولى، وهي كشف الكلام عن المراد الاستعمالي للمتكلّم، أعني إرادته لا نتقاش المعنى في الذهن.

والدلالة الاُولى أعني التصورية ليس فيها كشف، وليست إلاّ مجرّد انتقاش الصورة في الذهن، ولذا سمّيت بالدلالة التصوّرية، والدلالة الثانية تكشف عن إرادة المتكلّم لهذا الانتقاش.

وتتعيّن الصورة التي يريد المتكلم نقشها في الذهن على أساس الغلبة أو التعهّد العامّ بين العقلاء مع غلبة جري أيّ متكلّم وفق ذلك التعهّد، فمثلاً حينما يقول المتكلّم: (رايت أسداً) فهنا صورتان ذهنيّتان يمكن أن يصوّرهما الكلام: إحداهما صورة المعنى الحقيقي، أي رؤية الحيوان المفترس، والاُخرى صورة المعنى المجازي، أي الرجل الشجاع. ونكتشف ـ ولو كشفاً ظنياً مثلاً ـ إرادة المتكلّم الحيوان المفترس: إمّا على أساس غلبة استعمال اللفظ بلا قرينة في معناه الحقيقي. وإمّا على أساس التعهّد النوعي باستعمال اللفظ عند عدم القرينة في معناه الحقيقي مع غلبة جريان كلّ فرد وفق ذلك التعهّد، وبعد ذلك تصل النوبة إلى الدلالة التصديقية من الدرجة الثانية، وهي كشف الكلام عن كون داعي المتكلّم إلى إرادة نقش الصورة في ذهن السامع، وهي صورة النسبة الطلبيّة من الأمر هو الجدّ مثلاً، أي وجود ذلك الطلب في نفسه حقيقة لا داعي الاستهزاء، أو التعجيز، أو غير ذلك.

وهذا الكشف ـ أيضاً ـ يكون على نفس أحد الأساسين، أي الغلبة أو التعهّد النوعي مع غلبة الجري على وفقه.

ثمّ الدلالة التصوّريّة تكون للمواد، وتكون لهيئات المفردات، وتكون للحالات السياقيّة

584

الثابتة عند تركّب المفردات بعضها ببعض، من قبيل حالة التكرار المفيدة للتأكيد مثلاً، والتقديم والتأخير، ووحدة السياق، ونسب الكلام بعضه مع بعض كالأعميّة والأخصيّة، وما إلى ذلك من الحالات السياقيّة، وقد تختلف الدلالة التصوّرية للحالة السياقية عن الدلالة التصوّرية للمفرد، ويكون عندئذ ما يستقرّ في النفس ويلتفت إليه تفصيلاً هي الصورة التي تعطيها الحالة السياقية وإن كان بالتحليل السيكولوجي قد مرّت النفس بتلك الصور الاُخرى، وطوتها إلى أن وصلت إلى الصورة التركبية، مثال ذلك أنّه حينما نسمع من المتكلّم: (رأيت اسداً يرمي) فكلمة (أسد) تعطي للذهن المعنى الحقيقي لأسد، كما أنّ كلمة (يرمي) تعطي للذهن المعنى الحقيقي للرمي، إلاّ أنّ الحالة التركيبية والسياقية بين أسد والرمي غير المنسجمة إلاّ مع الإنسان يمكن أن يفترض أنّها بالوضع(1) تنقش في الذهن معنى الرجل الشجاع، وهذه الصورة هي الصورة التي تستقرّ في الذهن، ويلتفت إليها تفصيلاً، دون صورة الحيوان المفترس.

هذا حال الدلالة التصورية، وكذلك الحال في الدلالة الاستعمالية، فتوجد دلالة استعمالية بعدد الدلالات التصورية، إلاّ أنّ الذي يلتفت إليه تفصيلاً هي الدلالة الاستعمالية وفق الدلالة التصورية السياقية. وأمّا الدلالة الجدّيّة فهي تتبع ما يستقرّ من الدلالة الاستعماليّة التابع لما يستقرّ من الدلالة التصوّريّة. إذن فتكون الدلالة الجدّيّة دائماً موافقة للمدلول السياقي عند اختلافه مع مداليل المفردات.

إذا عرفت هذه المقدمة قلنا:

إنّه لو قال المولى مثلاً: (اكرم العلماء، ولا تكرم النحويين) فهناك ثلاث دلالات تصورية: الاُولى: دلالة العامّ على العموم، والثانية: دلالة الخاصّ على الخصوص، والثالثة: دلالة الحالة


(1)قوله: (يمكن أن يفترض أنّها بالوضع) كأنّه إشارة إلى إمكان افتراض آخر أيضاً، وهو ما سيأتي في المقدّمة الرابعة من افتراض تخريج الأمر على أساس الأقوائية، بأن يقال: إنّه لمّا صعب على الذهن تصوّر الصورة التي يقتضيها مجموع كلمة (أسد) وكلمة (يرمي) ـ لو حملا على المعنى الحقيقي، وهي صورة حيوان مفترس يرمي بالنبل ـ اقتضى هذا المجموع أن يتّجه الذهن إلى الاستقرار على صورة ثالثة، وهي: إمّا صورة الحيوان المفترس الذي يرمي بالنظر مثلاً لا بالنبل، أو صورة الرجل الشجاع الذي يرمي بالنبل، أي إنّ أحد المعنيين المجازين لإحدى الكلمتين يبرز إلى الذهن بعد أن كان مغموراً تحت شعاع المعنى الحقيقي، وهنا يقع التزاحم بين اقتضاء كلمة (أسد) لاستقرار الذهن على الحيوان المفترس واقتضاء كلمة (يرمي) لاستقرار الذهن على الرمي بالنبل، فإذا كان الثاني أقوى تقدّم في التأثير بالأقوائية، وأدّى ذلك إلى استقرار الذهن على صورة الرجل الشجاع الذي يرمي بالنبل.

585

السياقية على صورة العموم المقتطع منه الخاصّ، وتلك الحالة السياقية هي اجتماع جملتين مع كون النسبة بينهما هي نسبة الأخصّيّة والأعمّيّة، أي: إنّ موضوع إحداهما أخصّ من الاُخرى، والدلالة التصوّريّة التي تستقرّ في النفس هي هذه الدلالة الثالثة، أي: العموم المقتطع منه الخاصّ، لا العموم، إذن فالدلالة التصديقية الجدّية التي تنعقد في المقام هي عبارة عن طلب إكرام من عدا النحويين من العلماء(1). وبهذا اتّضح الجواب عن كلا السؤالين:

أمّا السؤال الأوّل وهو: لماذا يقدّم الخاص على العام؟

فالجواب: أنّنا لا نقدّم الخاصّ على العامّ، وإنّما نقول: إنّ الدلالتين التصوّريّتين للخاصّ والعامّ تندكّان في دلالة تصوّرية ثالثة وهي صورة العامّ المقتطع منه الخاصّ، والدلالة التصديقية إنّما تنعقد على طبق هذه الصورة.

وأمّا السؤال الثاني وهو: لماذا يكون العامّ حجّة في تمام الباقي؟

فالجواب: أنّ الدلالة التصديقية قد انعقدت على طبق الدلالة التصوّرية النهائية المستقرّة في الذهن، وهي العموم المقتطع منه الخاصّ المساوق لتمام الباقي.

ولو قال المتكلم: (لا يجب إكرام أي عالم) و(أكرم النحويين) فهنا بالإمكان الجمع بين الجملتين بأحد شكلين:

الأوّل: التخصيص، بأن يقال: إنّ الحالة السياقية للعامّ المجتمع معه الخاصّ، تدلّ على العموم المقتطع منه الخاصّ.

والثاني: حمل الأمر على الاستحباب، بأن يقال: إنّ الحالة السياقية لأمر اجتمع معه الترخيص تدلّ على الاستحباب، إلاّ أنّنا ندّعي أنّ وضع الواضع للحالة السياقية الثانية مخصوص بغير صورة وجود الحالة السياقية الاُولى، وطبعاً ليس المقصود إثبات ذلك بالبرهان، فإنّنا لا نقصد إثبات قاعدة التخصيص بالبرهان، وإنّما نقصد التفسير الفنّي لما هو مسلّم من قاعدة التخصيص.

هذا كلّه في ما لو كان التخصيص بجملة مستقلّة من قبيل: (أكرم العلماء) و(ولا تكرم النحويين). وأمّا ما يكون من قبيل: (أكرم كلّ عالم عادل) فقد مضى أنّ أداة العموم تدلّ


(1) ورد في كتاب السيّد الهاشمي (حفظه الله) عن لسان اُستاذنا الردّ على فرضية وضع سياق العامّ المتّصل بالخاص للعموم المقتطع منه الخاصّ، وأن دعوى هذا الوضع عهدتها على مدّعيها.

586

رأساً على شمول أفراد المدخول بجميع قيوده، فلا كلام في مثل ذلك.

وأمّا ما يكون من قبيل: (أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً) فطبعاً الإشكال الفني الذي كان يوجد في المقام والذي احتاج إلى الإجابة الفنية بتفسيرنا الفنّي بإبراز الدلالة التصوّرية الثالثة لا يوجد فيه، لأنّ أداة الاستثناء لها نظر إلى المستثنى منه، وهي حاكمة عليه، فلا إشكال في التخصيص فيه والاقتطاع من العامّ، إلاّ أنّ التفسير الفنّي الذي ذكرناه يأتي هنا في نفسه؛ لأنّه ليست هناك أداة عموم دخلت على مدخول يدّعى أنّ الاستثناء يكون من شؤونه، وإنّما الموجود هو كلمة (العشرة) وهي تدلّ دلالة تصوّرية على تمام العشرة، والاستثناء تدل دلالة تصوريّة على الاقتطاع، والحالة السياقية من المركّب منهما تدلّ دلالة تصوّرية على عشرة مقتطع منها زيد، فهي الدلالة التي تستقرّ في النفس، وتكون على طبقها الدلالة التصديقية الجدّية.

وأمّا مثل قولنا: (أكرم كلّ عالم إلاّ زيداً) فإنْ فرضت (إلاّ) بمعنى غير ووصفاً للعالم كان من قبيل قولنا: (أكرم كلّ عالم عادل) وإن فرضت أداة الاقتطاع والاستثناء كان من قبيل: (أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً) فإنّه وإن كان توجد هنا أداة عموم مع مدخولها، لكن ليست كلمة (إلاّ) من شؤون المدخول وقيوده، وإنّما هي اقتطاع من العموم.

الاتّجاه الثاني: هو الاتّجاه المشهور للأصحاب، وهو الاقتصار على ملاحظة دلالة العامّ ودلالة الخاصّ، وغضّ النظر عن دلالة تصوّرية جديدة نحن أبرزناها، وعندئذ يكون لتفسير سرّ باب التخصيص عدّة وجوه.

الوجه الأوّل: ما ارتضاه المحقّق النائيني (رحمه الله) وهو(1): أنّ أداة العموم تدل على العموم في طول الاطلاق ومقدمات الحكمة، أي: إنّ أداة العموم لا تدلّ على شمول أفراد مدلول المدخول، أي: مدلول (عالم) في قولنا: (أكرم كلّ عالم) مثلاً، وإنّما تدلّ على شمول أفراد المراد من المدخول التي تحدّد ولو بتعدّد الدالّ والمدلول من المدخول ومقدّمات الحكمة، فكلّ ما يمنع عن جريان مقدّمات الحكمة يكون وارداً على أداة العموم، ورافعاً للعموم بقدر رفعه لجريان مقدّمات الحكمة، فإذا قال: (أكرم كلّ عالم، ولا تكرم النحويين) فلا إشكال في أنّ قوله: (لا تكرم النحويين) يرفع موضوع مقدّمات الحكمة بمقدار النحويين، فهو يرفع


(1) راجع فوائد الاصول الجزء الاول والثاني ص518 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج1 ـ ص450 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيد الخوئي (رحمه الله).

587

موضوع العموم بهذا المقدار، وينعقد العموم رأساً فيما عدا النحويين، فيتّضح بذلك سرّ التخصيص، وسرّ حجّيّة العامّ في الباقي.

وهنا سؤال يمكن إثارته في المقام، وهو: أنّه إذا كانت دلالة أداة العموم على الشمول في طول مقدّمات الحكمة لزمت لغوية وضع واضع اللغة لها؛ لأنّه متى ما لم تجرِ مقدّمات الحكمة لا تفيد الأداة، ومتى ما جرت أغنتنا عن أداة العموم.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنّ أداة العموم تفيد فائدة زائدة باعتبار انقسام العموم إلى البدلية والمجموعية والاستغراقية. والإطلاق ـ أيضاًـ وإن كان قد يدلّ تارةً على البدلية واُخرى على الاستغراقية، إلاّ أنّه لا باس بتعدّد الدوالّ، فإنّ دلالة العموم على ذلك ليست في طول دلالة الإطلاق على ذلك؛ فلا تكون لغواً.

إلاّ أنّ هذا الجواب إنّما يتمّ لو كانت البدلية والمجموعية والاستغراقية مستفادة من نفس أداة العموم، بأن يقال مثلاً: إن كلمة (المجموع) تدلّ على العموم المجموعي، وكلمة (الجميع) على العموم الاستغراقي، وكلمة (أيّ) على العموم البدلي، لكنّه ليس الأمر كذلك.

والصحيح في الجواب أن يقال: إنّ اداة العموم يختلف مدلولها عن الإطلاق، حيث إنّ أداة العموم تعطي صورة الشمول للأفراد، والإطلاق يعطي صورة الطبيعة والماهية بلا قيد، ويكفي ـ طبعاً ـ في رفع اللّغْوية اللُغَويّة إبراز فائدة لُغَوية، والفائدة اللُغَوية عبارة عن اختلاف الصورتين المعطيتين إلى الذهن ولو لم تترتّب على ذلك فائدة فقهية.

وعلى أيّة حال فهذا التفسير لمسألة التخصيص غير صحيح؛ فإنّه مع كونه خلاف الوجدان كما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1) والسيد الاُستاذ(2) بإمكاننا إبراز النكتة الفنّية لضعفه، وهي: أنّه خلط بين الدلالة التصوّرية والدلالة التصديقية.

وتوضيح ذلك: أنّه ماذا يقصد بكلمة المراد في قوله: (إنّ أداة العموم تدلّ على شمول أفراد مراد المدخول)؟ هل يقصد به مفهوم المراد، أو يقصد به واقع المراد؟

فإن قصد به مفهوم المراد فمن الواضح عدم تبادر مفهوم المراد إلى الذهن، وإن قصد به واقع المراد فهو من باب الدلالة التصديقية، ونحن يجب أن نتكلّم في مفاد الكلام، أي: الصورة التي ينقشها في الذهن قبل أن نصل إلى مرحلة المراد، فما هو المعنى الذي يفهم من


(1) لم أجده في الكفاية.

(2) راجع أجود التقريرات ج1 ص441 تحت الخط بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيد الخوئي (رحمه الله)والمحاضرات للفياض ج5 ص158 ـ 161 بحسب طبعة مطبعة مهر بقم.

588

جملة: (أكرم كلّ عالم، ولا تكرم النحويين) لو سمع ذلك من جدار؟ أفهل تدلّ كلمة (كلّ) هنا على شمول أفراد مراد المدخول مع أنّه لا إرادة للجدار؟! فهذا في الحقيقة لعب على حبلين: حبل الدلالة التصوّرية وحبل الدلالة التصديقية.

الوجه الثاني: كون تقديم الخاصّ على العامّ لأجل الأظهرية، حيث إنّ الخاصّ فيما يختصّ به صريح ولو نسبياً، والعامّ ظاهر فيه.

وهذا الوجه يرد عليه: أنّه لا يفسّر تقديم الخاصّ على العامّ في مورد تتفوّق أظهرية العامّ على الخاصّ، كما لو قال: (لا يجب إكرام أيّ عالم) و(أكرم النحويين) بناءً على ما هو المشهور من أنّ دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق، فهي أضعف من دلالة العامّ التي هي بالوضع، فلماذا لا يحمل الخاصّ على الاستحباب، ويحمل العامّ على من عدا النحويين؟

على أنّ هذا الوجه لو تمّ فإنّما يفسّر السؤال الأوّل، وهو: أنّه لماذا نقدّم الخاصّ على العامّ، ولا يفسر السؤال الثاني، وهو: حجّيّة العامّ في تمام الباقي، ولذا التجأوا في تفسير السؤال الثاني إلى بيان آخر، وهو: التبعيض في الدلالات التضمّنية، حيث يقال: إنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) له دلالات تضمّنية بعدد أفراد العامّ، فسقط بعضها بالتخصيص، ولا موجب لسقوط الباقي.

هذا ما نسب إلى الشيخ الأعظم (رحمه الله) وحُمل على مرحلة الدلالة الاستعمالية، فاعترض عليه بما هو واضح من أنّ الدلالة الاستعمالية تكون بلحاظ الوضع، والوضع يكون في تمام المعنى مجموعاً، فالدلالة الاستعمالية هي دلالة واحدة بلحاظ المجموع، واذا سقطت فاللفظ قد استعمل في غير ما وضع له راساً، ومحتملاته عديدة، ولهذا سحب المحقّق الخراساني (رحمه الله)والسيد الاُستاذ وغيرهما هذا البيان إلى مرحلة الدلالة الجدّية، حيث إنّ هناك دلالات جدّية عديدة، فكلّ فرد داخل في الدلالة الاستعماليّة يكون ظاهر حال المتكلّم دخوله في الدلالة الجدّية، فإذا سقطت بعض الدلالات بقي الباقي.

إلاّ أنّ هذا البيان إنّما يتمّ مثلاً في العامّ الاستغراقي دون المجموعي (كما أشرنا إلى ذلك في أحد تنبيهات الاستصحاب في مسالة دوران الأمر بين عموم العامّ واستصحاب حكم المخصّص عندما فسّر كلام الشيخ، أي: تفصيله في حجّيّة العموم بين ما إذا كان الزمان مفرّداً وعدمه بكون العموم استغراقياً أو مجموعياً) ووجه ذلك هو: أنّه في العموم المجموعي يدلّ العامّ على وجوب إكرام زيد في ضمن مجموع العشرة مثلاً، وبعد فرض استثناء واحد من العشرة لو وجب إكرام زيد لوجب إكرامه في ضمن مجموع التسعة، وهذا لم يكن اللفظ

589

مستعملاً فيه، حيث إنّ المفروض أنّ العامّ استعمل في العشرة، فلم تكن دلالة جدّية على طبقه، في حين أنّ الشيء الذي عليه العمل والمفروغ من صحّته هو حجّيّة العامّ في الباقي مطلقاً.

الوجه الثالث: دعوى تقدّم الخاصّ على العامّ من ناحية القرينية، والقرينة تقدّم على ذي القرينة ولو كانت أضعف منه في الظهور.

وهذا ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله) ومدرسته، ويفسر بذلك السؤال الأوّل ويكملونه بما مضى عن المحقّق الخراساني من التفكيك بين الدلالات التضمّنية الجدّية تفسيراً للسؤال الثاني.

وتحقيق حال دعوى القرينة هو أنّ القرينية تتصوّر في مراحل.

الاُولى: هي القرينية في مرحلة الدلالة التصوّرية، وهي بأحد نحوين.

1 ـ ما اخترناه في تفسير التخصيص من أنّ الحالة السياقية تولّد دلالة تصوّرية ثالثة من المزج بين الدلالتين الاُوليين، وتكون هي المستقرّة في الذهن، ويمكن افتراض ذلك في باب المجازات من قبيل (رأيت اسداً يرمي) كما مرّ.

2 ـ إرجاع ذلك إلى اُنس الذهن وعدمه. وهذا أمر واقع في أغلب المجازات، فمثلاً في (رأيت أسداً يرمي) لو تصوّر المعنى الحقيقي لأسد مع افتراض الرمي، فهذا معناه أن تنتقش في الذهن صورة غريبة على الذهن، لم يرها، ولم يتعوّد عليها، وهي صورة حيوان مفترس بيده القوس ويرمي، فالذهن يرفض آنيّاً هذه الصورة، ويتصوّر صورةً اُخرى كانت تعطيها ـ ايضاً ـ كلمة (أسد)، إلاّ أنّها كانت واقعة تحت الشعاع بلحاظ أنّ كلمة (أسد) كانت تعطي صورة اُخرى مشعّة، وهي الصورة المتبادرة إلى الذهن ابتداءً، فبعد رفض الذهن تلك الصورة خرجت الصورة الاُخرى من تحت الشعاع، وانتقل إليها الذهن، فتصوّر صورة مأنوساً بها، وهي صورة رجل شجاع يرمي. وهذا التفسير للقرينية في أغلب المجازات أمر واقع، وتبقى القرينية بالمعنى الأوّل فيها مجرّد افتراض معقول. وأمّا في باب العامّ والخاصّ فتتعيّن ما اخترناه من القرينية بالمعنى الأوّل دون المعنى الثاني، فإنّ تصوّر الموجبة الكلّيّة مع تصور السالبة الجزئية مثلاً في قولنا: (أكرم العلماء، ولا تكرم النحويين) ليس غريباً على الذهن حتّى ينتقل لذلك إلى صورة اُخرى(1).

 


(1) التضادّ أو التناقض وإن كان مرتبطاً بباب التصديق لا التصوّر، ولكن بما أنّهما لا يجتمعان في الوجود،

590

هذا. والظاهر أنّ مقصودهم بقرينية الخاصّ للعامّ ليست هي القرينية بلحاظ المدلول التصوّري.

الثانية: هي القرينية في مرحلة الدلالة الاستعمالية، وذلك بأن يدّعى أنّ الخاصّ ناظر إلى العامّ، أي: إلى المدلول الاستعمالي للعامّ، فكأنّه فسّر مراده الاستعمالي للعامّ بمثل أي وأعني.

الثالثة: هي القرينية في مرحلة الدلالة الجدّيّة بأن يدّعى أنّ الخاصّ ناظر إلى العامّ، أي إلى مدلوله الجدّي، فيفسّر ما اُريد جدّاً من العامّ، من قبيل حكومة (لا ربا بين الوالد وولده) على أدلّة حرمة الربا، فإنّه ليس بصدد تفسير استعمال اللفظ في المعنى، وإنّما هو بصدد بيان الحكم، فهو ناظر إلى مرحلة الدلالة الجدّيّة.

وبناءً على هاتين القرينيّتين يصبّح الخاصّ حاكماً على العامّ بملاك النظر حكومة الدلالة على الدلالة، لا المدلول على المدلول، إلاّ أنّ فرقه عن باب الحكومة هو أنّ الحاكم ينظر إلى المحكوم بقرار شخصي من قبل المتكلّم، ولكنّ الخاصّ ليس فيه أيّ قرار شخصي يدلّ على نظره إلى العامّ، وإنّما يجب افتراض قرار وتعهّد نوعي بذلك مع أصالة جري كلّ شخص وفق هذا القرار بحكم الغلبة.

وهذا التفسير لتقدّم الخاصّ على العامّ تفسير معقول في نفسه، إلاّ أنّ ما اخترناه من وجود دلالة تصوّرية ثالثة سياقية هي التي تتمخّض عنها الدلالتان الأوّليتان، وهي التي تستقرّ في النفس وهي الدلالة على صورة العامّ المقتطع منه الخاصّ، يرفع موضوع هذا التفسير.

ثمّ إنّ هذا التفسير هل بالإمكان جعله جواباً على السؤال الثاني أيضاً، أو ليس كذلك؟

أصحاب القول بالقرينية لم يحاولوا تفسير السؤال الثاني على هذا الأساس، وإنّما لجأوا إلى تلك التكملة التي مضت، إلاّ أنّنا نقول:

إنّه لو فرض أنّ القرار والتباني النوعي وقع على جعل الخاصّ قرينة على إخراج مقدار مدلوله عن العموم، فالخاصّ إنّما هو قرينة على الجانب السلبي فقط، إذن فهذا لا يفسّر


وبما أنّ المنشأ الأوّل للتصوّر هو الوجود يصعب على الذهن الاستقرار على تصوّر وجود المتضادّين، فينتقل إلى صورة ثالثة كما هو الحال تماماً في (رأيت أسداً يرمي) حيث صعب على الذهن تصوّر حيوان مفترس يرمي بالنبل ؛ لعدم وجود ذلك في الخارج، فانتقل إلى صورة ثالثة.

591

السؤال الثاني، وتقع الحاجة إلى تلك التكملة. وأمّا لو فرض أنّ التباني وقع على كون الخاصّ بذاته قرينة على الجانب السلبي وبحدّه قرينة على الجانب الإيجابي، وهو كون الباقي بتمامه مقصوداً، وأنّه لم يخرج من العامّ مقدار آخر، فهذا يفسر السؤال الثاني أيضاً(1).

ثمّ إنّه اشتهر فيما بينهم أنّ الخاصّ المتّصل يهدم ظهور العامّ بخلاف المنفصل الذي لا يهدم إلاّ الحجية. والمقصود بهدم الظهور ينبغي أن يختلف باختلاف هذه المسالك:

فعلى الاتّجاه الأوّل ينبغي أن يقصدوا الظهور في مرتبة الدلالة التصوّرية، حيث إنّ


(1) لا يخفى أنّ الصحيح عندنا أنْ تقدّم الخاصّ على العامّ يكون بالأقوائية، وهذه الدعوى طبعاً لا يمكننا البرهنة عليها، ولكن يمكن تقريبها إلى الذهن بأن يقال: إنّه لو فرض تقديم الخاصّ على العامّ بالقرينية لا بالأقوائية فهذه: إمّا قرينية بلحاظ الدلالة التصديقية، أو قرينية بلحاظ الدلالة التصوّرية.

أمّا القرينية بلحاظ الدلالة التصديقية فالمفروض أن تكون قائمة على اساس تباني العقلاء وتعهّدهم بجعل الخاصّ هو المفسّر للعامّ، دون العكس، مع أصالة كون المتكلّم متّبعاً لنفس طريقة العقلاء. وبعد وضوح أنّ العقلاء لم يجتمعوا في مؤتمر مثلاً يتبانون فيه على ذلك ويتعهّدون بذلك نقول: إنّ هذا التباني والتعهّد المتّفق عليه على غير ميعاد بحاجة إلى نكتة عقلائية أوجبت توافقهم على ذلك، وتلك النكتة هي التضادّ أو التنافر الموجود بين العموم والخصوص، إلاّ أنّ هذا نسبته إلى جرّ العقلاء نحو تأويل العامّ وفرض الخاصّ قرينة، وجرّهم نحو تأويل الخاصّ وفرض العامّ قرينة على حدٍّ سواء، إلاّ بالأقوائية فدعوى القرينية بلحاظ النظام العامّ للكلام لا بقرار خاصّ من قبل المتكلّم لا تتمّ إلاّ بنكتة الأقوائية.

وهذا التخريج يتمّ جواباً على السؤال الأوّل، وهو: لماذا يقدّم الخاصّ على العامّ؟ فالجواب: أنّه يتقدّم بالأقوائية، ولا يتمّ جواباً على السؤال الثاني، وهو لماذا يكون العامّ حجّة في الباقي؟

وأمّا القرينية بلحاظ الدلالة التصوّرية فالمفروض أن تكون قائمة على أساس نكتة في السياق، وتلك النكتة: إمّا هي الوضع، وعهدة دعواه على مدّعيه، أو هي طريقة تقبّل الذهن لصورة الخاصّ إلى صفّ العامّ، حيث يفترض أنّ الذهن ينتقل قهراً من هذا السياق إلى العامّ المقتطع منه الخاصّ، ولكنّنا لا نستطيع أن نصدّق فرضيّة عدم تقبّل الذهن للخاصّ إلى صف العامّ بغير الانتقال إلى العامّ المقتطع منه الخاصّ، إلاّ بنكتة المنافرة في الذهن بين صورتي العامّ والخاصّ، ولا أقصد بالمنافرة التضادّ حتّى يقال: إنّ التضادّ إنّما يكون في مرحلة التصديق لا في مرحلة التصوّر، بل أقصد بها أنّ عدم إمكان اجتماعهما في الوجود الخارجي الذي هو الأساس الأوّل لخلق التصوّر في الذهن جعل تصوّرهما على مورد واحد غريباً على الذهن، سنخ ما مضى عن اُستاذنا (رحمه الله) من غرابة صورة (حيوان مفترس يرمي بالنبال) على الذهن، فالذهن يرفض رأساً هذه الصورة وينتقل إلى صورة اُخرى ينتجها التفاعل بين الصورتين الاُوليين، إلاّ أنّ هذه الصورة الاُخرى كما يمكن أن تكون عبارة عن صورة العامّ المقتطع منه الخاصّ كذلك يمكن أن تكون عبارة عن صورة عامّ مجتمع مع خاصّ استحبابي مثلاً، والذي لا يتنافر مع العامّ، ولابدّ لتعيين إحداهما دون الاُخرى من نكتة أيضاً، وليست تلك النكتة إلاّ الأقوائية. وهذا يفسّر لنا الجواب عن السؤال الأوّل، وهو: لماذا تقدّم الخاصّ على العامّ، وكذلك الجواب عن السؤال الثاني وهو حجّيّة العامّ في الباقي، فإنّ حدّ الخاصّ يصبح حدّاً لصورة العامّ المقتطع منه الخاصّ، ولا يفسّر لنا تقديم الخاصّ على العامّ لدى كونه أضعف منه. ونحن لا نؤمن بهذا التقديم.

592

المدلول التصوّري الثالث السياقي هو الذي يستقرّ في النفس، دون المدلولين الأوّلين.

وعلى الوجه الأوّل من وجوه الاتّجاه الثاني ـ ايضاً ـ الأمر كذلك؛ لأنّ الدلالة التصورية للعموم في طول الإطلاق، وتنهدم بانهدام الإطلاق.

وأمّا على الوجه الثاني، وهو تقديم الأظهر على الظاهر، فإن كان المقصود بذلك أنّ المقتضي للدلالة التصوّرية في جانب الأظهر غلب في تأثيره على المقتضي للدلالة التصوّرية في الجانب الآخر وأفناه، فالأمر ـ أيضاً ـ كذلك. وإن كان المقصود أن الدلالتين التصوّريتين انعقدتا بلا أيّ منافاة بينهما، وكلّ من الدلالتين التصوّريتين تقتضي انعقاد ظهور تصديقي، وتتزاحمان في التأثير، ويتقدّم الأقوى، إذن فالمتّجه هو انهدام الظهور التصديقي.

وأمّا ما هو الحقّ من هذين الوجهين في تقديم الأظهر على الظاهر، فيأتي الكلام عنه ـ إن شاء الله ـ في مقدّمة أخرى.

وأمّا على الوجه الثالث، وهو القرينية، فقد مضى أنّ المقصود هو القرينيّة بلحاظ الدلالة التصديقية، فأيضاً تنهدم الدلالة التصديقية.

والخلاصة: أنّ التقدّم بلحاظ أيّ مرتبة من المراتب الثلاث للدلالة يفترض أن يكون الانهدام في تلك المرتبة، وكان مقصودنا من شرح معنى هدم الخاصّ المتّصل للظهور تعميق الفهم لتلك المسالك في المقام، وتحديد حدودها بالدّقة.

هذا تمام الكلام في المخصّص المتّصل.

 

المخصّص المنفصل:

وأمّا الكلام في المخصّص المنفصل، فهنا لا نفترض مسبقاً مسلّميّة التخصيص فيه ونقول: إنّه ينبغي لحاظ الوجوه السابقة في المخصّص المتّصل، فإن جرت كلّها في المخصّص المنفصل، أو جرى منها ما قامت قرينة على صحّته، ثبت التخصيص في المنفصل، وإلاّ فيحتاج إلى استيناف بحث جديد فنقول:

أمّا الاتّجاه المختار هناك فمن الواضح عدم تأتّيه هنا؛ إذ الكلامان المنفصلان لا ينعقد من مجموعهما ظهور سياقي تصوّري.

وأمّا اتّجاه المشهور فقد مضى تحته ثلاثة أوجه:

1 ـ انهدام العموم بانهدام الإطلاق؛ لكونه في طوله. وتأتّيه هنا وعدمه فرع ما يختار في باب الإطلاق من أنّ إحدى مقدّماته هل هي عدم المقيّد مطلقاً كما عليه السيّد الاُستاذ، أو

593

عدم المقيّد المتّصل كما هو الصحيح؟

فعلى الأوّل يتأتّى في المقام. وعلى الثاني لا يتأتّى(1).

2 ـ تقدّم الخاصّ بالأظهريّة. وتأتّيه في المقام وعدمه فرع أن يرى أنّ صاحب هذا الوجه هل يدّعي أنّ المقتضي لظهور الخاصّ بأقوائيّته تقدّم في التأثير على المقتضي لظهور العامّ ـ وهذا هو المنسجم مع القول بأنّ المخصّص المتّصل يهدم الظهور ـ أو يدّعي أنّ الظهورين منعقدان بلا تناف بينهما، ويتقدّم ظهور الخاصّ على العامّ في الحجّيّة.

فعلى الأوّل لا يتأتّى في المقام. وعلى الثاني يتأتّى فيه(2).

3 ـ قرينية الخاصّ، وقد رجعت بعد التحليل إلى دعوى تباني العرف والعقلاء على جعل الخاصّ شارحاً للعامّ. وهذه دعوى غير محدّدة، فمدّعيها يمكن أن يدّعي التباني على ذلك في خصوص المخصّصات المتّصلة، ويمكن أن يدّعي التباني عليه في كلّ خاصّ مع عامّ ولو منفصلين.

وتحقيق الكلام في المخصّص المنفصل: أنّ المتكلّم الذي تكلّم بعامّ وبخاصّ منفصل، والمفروض عدم البداء في حقّه لا تخلو حاله عن إحدى حالات أربع:

الاُولى: أن يكون مخصّصه بالرغم من انفصاله عن كلامه العامّ بحسب عالم الأصوات والسماع متّصلاً بالعامّ بحسب عالم المداليل اللغويّة، وذلك من قبيل أن يذكر عامّاً ثمّ يأخذه السعال إلى فترة من الزمن، أو يغشى عليه ساعات من النهار ثمّ بعد ارتفاع السعال أو الغشوة يذكر الخاصّ، فإنّه بحسب عالم نظام اللّغة والمداليل لا إشكال في أنّ هذا الخاصّ متّصل بالعامّ حقيقة، ولا يقتنص السامع مراد المتكلّم بمجرّد سماعه لذلك العامّ بدعوى أنّه لم يوصل به مخصّصاً، بل يصبر إلى أن يفيق ليرى ماذا يقول بعد ذلك.

ويلحق بهذا ما لو لم يأخذه مرض ومانع قهري من قبيل الغشوة والسعال إلاّ أنّه كان


(1) نعم، لو فرغنا عن تقدّم المقيّد المنفصل على المطلق بوجه آخر ثبت هنا تقدّم الخاصّ على العامّ رغم انفصاله؛ لأنّ المفروض أنّ أداة العموم وضعت لاستيعاب أفراد المراد من المدخول، والمفروض أنّ إطلاق المدخول قد تقدّم عليه الخاصّ بتقييده رغم الانفصال، فالمراد من المدخول لم يشمل ما اشتمل عليه الخاصّ، فبالتالي لم تستوعب أداة العموم الأفراد التي خرجت بهذا المخصّص.

(2) المختار عندنا في المخصّص المتّصل كان هو تقدّم الخاصّ على العامّ بالأظهريّة المانعة عن استقرار الظهور الأضعف. فلو كانت الأظهريّة في مورد مّا للعامّ كان العامّ هو المقدّم، وأيّ منهما كان مقدّماً في فرض الاتّصال يكون مقدّماً ـ أيضاً ـ في فرض الانفصال، لا لعدم استقرار الظهور الأضعف حتّى يقال: إنّ الكلام المنفصل لا يمنع عن انعقاد الظهور، بل لقرار عقلائي عامّ على تقدّم الأقوى ظهوراً على الأضعف في الحجّيّة ومفسّريّته إيّاه.

594

هناك شاهد حال أو مقال يشهد بأنّ له كلاماً واحداً يذكره بشكل متقطّع، وذلك من قبيل خطاب طويل يلقيه على جماعة في فترات بينها أكل الحلواء، أو أكل الغذاء، أو نحو ذلك، حيث يتعبون ويملّون لو استمر الخطاب دفعة واحدة الى الأخير، أو من قبيل اُستاذ يدرّس مطلباً واحداً في خلال أيّام عديدة، كلّ يوم يتكلّم ساعة إلى أن ينتهي ذلك المطلب، أو من قبيل أن يصرّح المتكلّم أو يُعرف من حاله أنّه سنخ شخص يقطّع في كلام واحد، فيذكر العامّ في وقت ويذكر الخاصّ في وقت آخر، فإنّه عندئذ يكون الخاصّ ـ بحسب عالم اقتناص المراد ومفهمه ـ متّصلاً حقيقة بالعامّ، بالرغم من الانفصال بحسب عالم الأصوات.

وهذا القسم لا يحتاج إلى مؤونة زائدة من الكلام غير ما مضى في المخصّص المتّصل، فإنّ مخصّصه هنا متّصل حقيقة بحسب عالم اللّغة واقتناص المراد.

الثانية: أن يعبّدنا المتكلّم بفرض منفصلاته متّصلات بلحاظ عالم الحجّيّة، أي: إنّ مخصّصه ليس متّصلاً حقيقة كما في الفرض الأوّل، فينعقد لعمومه ظهور في العموم، ولم يذكر أنّ لي كلاماً واحداً متقطّعاً، لكنّه يقول: إنّني اُنزّل المخصّص المنفصل منزلة المخصّص المتّصل في تقدّمه على العامّ في مرحلة الحجّيّة.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يحتاج إلى مؤونة زائدة من البحث.

الثالثة: أن تصدر من هذا المتكلّم عمومات عديدة، وتصدر منه خصوصات معارضة لتلك العمومات، ويعلم إجمالاً بصدق بعض الخصوصات، وأنّ بعض هذه العمومات لم يقصد منه ظاهره، ولا يعلم إجمالاً بأنّه لم يقصد من بعض الخصوصات ظاهره، وعندئذ فتقديم الخصوصات على العمومات أرجح من العكس، فيتعيّن من دون محذور الترجيح بلا مرجّح، بخلاف العكس؛ وذلك لأنّه لو بني على تقديم العمومات فتقديم الجميع غير معقول؛ للعلم بكذب بعضها، وتقديم بعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

فلا نحتاج في تقديم الخاصّ على العامّ إلى مؤونة زائدة أزيد من ذلك.

الرابعة: ما عدا هذه الحالات الماضية ويحتاج تقديم الخاصّ على العامّ فيه إلى استيناف بحث جديد، فنقول: لو ورد مثلاً (لا يجب إكرام أيّ عالم) وورد منفصلاً عنه (أكرم النحويين)، فهنا لا إشكال في أنّ المتكلّم خرج عن أصل عقلائي؛ وذلك لفصله بين كلامين ينبغي وصلهما؛ وذلك لأنّه قد جعل حتماً أحدهما قرينة على الآخر، فهما كلامان مرتبطان ينبغي وصل أحدهما بالآخر ـ ولو وصلاً تعبّدياً (على الأقلّ) بتنزيله للمنفصلات منزلة المتّصلات ـ وعندئذ لو كان ـ في الواقع ـ قد جَعَلَ الخاصَّ قرينة على تخصيص العامّ فهو لم

595

يرتكب إلاّ مخالفة واحدة لأصل عقلائي، وهي ما عرفت من فصل كلامين ينبغي وصلهما، ولم يرتكب مخالفة اُخرى، ولذا ترى أنّه لو وُصل الكلامان أحدهما بالآخر لم يبقَ نقص في إفادة المراد، وهو العامّ المخصَّص.

وأمّا لو كان ـ في الواقع ـ قد جعل العامّ قرينة على إرادة الاستحباب من الخاصّ، فلم تقتصر مخالفته على الفصل بين كلامين ينبغي وصلهما، بل إضافةً إلى هذه المخالفة المتيقّنة صدرت منه مخالفة اُخرى، فأوّلاً افترض الكلامين المفصولين كأنّهما كلام واحد موصول. وهذه هي المخالفة الاُولى المتيقّنة، وثانياً جعل العامّ في هذا الكلام الواحد المفترض الوصول قرينة على إرادة الاستحباب من الخاصّ، في حين أنّه لا يصلح للقرينيّة على ذلك. ولذا لو وصلتَ أحدهما بالآخر لرأيت أنّ هذا الكلام الواحد لا يعطي معنى استحباب إكرام النحويين، وإنّما يعطي معنى العامّ المخصّص.

وهذا هو الروح الفنّي والتحرير الفنّي للقاعدة الميرزائية التي يُرسلها كأصل مسلّم، وهو: أنّ كلّما يكون في فرض الاتّصال قرينة يكون قرينة في فرض الانفصال، وكلّما لا يكون كذلك لا يكون كذلك(1).

 


(1) لا يخفى أنّنا إن فرغنا ابتداءً من الإحساس الوجداني العرفي في كلّ ما يكون قرينة لدى الاتّصال بقرينيّته لدى الانفصال (كما هو واضح في مورد الأقوائية وفي مورد التفسير بقرار خاصّ من قبل المتكلّم، كما في التفسير بأي وأعني وغير ذلك من موارد الحكومة) لم نحتج إلى تقريب هذه القاعدة للذهن بالتحليل الذي أفاده اُستاذنا(رحمه الله) من أنّ تقديم غير ما كان قرينة على فرض الاتّصال يستبطن مخالفتين، وتقديم ما كان قرينة على فرض الاتّصال لا يستبطن إلاّ مخالفة واحدة.

أمّا لو لم يكن لدينا إحساس مسبق من هذا القبيل فهذا التحليل لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّه إن قصد به حقّاً دوران الأمر بين مخالفة ومخالفتين بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهذا أوّل الكلام؛ لأنّ كون ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أوّل الكلام، ولو لم يكن قرينة عند الانفصال فحمل كلّ منهما على القرينيّة للآخر فيه مخالفة للاُصول العقلائية بقدر ما في الآخر.

وإن قصد به: أنّه وإن لم يكن الأمر بالدقّة من الدوران بين الأقلّ والأكثر في المؤونة وعدد المخالفة، ولكن جعل ما ليس قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أشدّ مؤونة في نظر العرف من جعل ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال، قلنا: إنّ هذا ـ أيضا ـ غير واضح الصحّة. وتوضيح ذلك: أنّ قاعدة كون ما كان قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال يمكن تفسيرها بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يدّعى أنّ نكتة القرينية الموجودة في حال الاتّصال دائماً هي موجودة في حال الانفصال، إلاّ أنّها في حال الاتّصال كانت تهدم الظهور، وفي حال الانفصال تهدم الحجّيّة، أو أنّها في حال الاتّصال كانت تهدم الدلالة التصديقية الاستعمالية، وفي حال الانفصال لا تقوى إلاّ على هدم الدلالة التصديقيّة الجدّيّة كما يقوله

596

وقد اتّضح بما ذكرناه أنّه لابدّ من التخصيص في المخصّص المنفصل على كلّ من الحالات الأربع، وعندئذ لا أثر ـ على مستوى المقام ـ للبحث عن أنّ النصوص الشرعيّة من أيّ قسم هي؟

نعم، يترتّب على ذلك بعض آثار مرتبطة ببحث حجيّة الظهور، فمحلّ البحث عن ذلك هو باب حجّيّة الظهور.

 

الأظهر والظاهر:

المقدّمة الرابعة: أنّ باب الأظهر والظاهر ـ أيضاً ـ خارج عن باب التعارض.

 


المحقّق النائيني(رحمه الله) في القرينة المنفصلة المقيّدة للإطلاق.

وحاصل القاعدة الميرزائيّة على هذا التفسير هي أنّ نكتة القرينيّة منحفظة في كلتا حالتي الاتّصال والانفصال، ولكن بما أنّها في حالة الاتّصال تهدم ظهوراً لا ينهدم لدى الانفصال، فلذا يكون الإحساس بقرينيّتها لدى الاتّصال أوضح منه لدى الانفصال، فلو اُريد تشخيص القرينة من ذي القرينة في المنفصلين كان طريق التشخيص وصل أحد الكلامين بالآخر كي يقوى الإحساس بالقرينيّة.

وهذه القاعدة ـ بناءً على هذا التفسير ـ مؤلّفة من مقدّمتين:

الاُولى: دعوى انحفاظ نكتة القرينيّة في حال الانفصال.

والثانية: دعوى أنّ ما فيه نكتة القرينيّة المنحفظة في حال الانفصال لو جعلت هي القرينة على المراد والهادمة للحجّيّة، فهذا أولى في نظر العرف من جعل الآخر قرينة الذي هو غير مشتمل على نكتة القرينيّة.

والمقدّمة الثانية صحيحة بلا إشكال في مورد تماميّة المقدّمة الاُولى، فالأقوائيّة وكذلك نكات الحكومة التي تنحفظ في حال الانفصال تقتضي ـ بلا شكّ ـ تقديم ما فيه الأقوائيّة أو نكتة التفسير على الآخر في الحجّيّة. ولكنّ المقدّمة الاُولى ليست تامّة في تمام الموارد، فمثلاً قد تكون نكتة القرينيّة رفع القرينة لمقتضي الظهور الأوّل في حال الاتّصال كما هو الحال في القرينة التي ترفع الإطلاق برفع عدم البيان. والحقّ: أنّ البيان الهادم للإطلاق إنَّما هو البيان المتّصل، فنكتة القرينيّة غير منحفظة في حال الانفصال، وكذلك لو آمنّا بأنّ نكتة القرينيّة قد تكون هي السياق المتكوّن من الوصل بين الكلامين من دون إرجاع ذلك إلى الأقوائيّة، والسياق ينهدم ـ لا محالة ـ بالانفصال، فعندئذ لا تكون نكتة القرينيّة منحفظة لدى الانفصال.

ولو فرضنا: أنّنا استقصينا كلّ القرائن فوجدنا نكاتها جميعاً موجودة في حال الانفصال، فنحن إذن لم نستفد شيئاً من القاعدة الميرزائيّة، وإنّما استفدنا من استقصائنا هذا لنكات القرائن.

الوجه الثاني: أن نسلّم أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال قد لا تكون محفوظة في حال الانفصال، ولكن مع ذلك يقال: إنّه رغم عدم انحفاظ تلك النكتة في حال الانفصال يرى العرف أنّ افتراض ما كان قرينة عند الاتّصال للتصرّف في الآخر قرينة عند الانفصال لذلك أولى وأسهل من العكس.

ولعلّ الالتفات إلى فرض عدم وجود نكتة القرينيّة في حال الانفصال كاف في تنبيه الوجدان العرفي إلى عدم وجود أولويّة عرفيّة من هذا القبيل. إذن فهذه القاعدة لم تفدنا شيئاً على كلّ حال.

597

وطبعاً المقصود بكلّ ما قلناه من خروج الأظهر والظاهر، أو العامّ والخاصّ ونحو ذلك عن التعارض هو خروجه عن ميزان وقوع التنافي في مدلولي دليل الحجّيّة العامّ. وأمّا ميزان دخول الروايتين تحت دليل الحجّيّة الخاصّ وهي الأخبار العلاجيّة، فهذا ما سوف يتكلّم عنه بعد ذلك إن شاء الله.

وعلى أيّ حال فالكلام في الأظهر والظاهر ـ أيضاً ـ يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا اتّصل أحدهما بالآخر، وعندئذ يهدم الأظهر ظهور الظاهر لإحدى نكتتين:

1 ـ أن يقع تزاحم في مقام التأثير بين مقتضي الظهور التصوّري في تعيين الصورة النهائيّة التي ستستقرّ في النفس، مثاله قولنا: (رأيت أسداً يرمي) حيث إنّ كلمة (أسد) تقتضي إعطاء صورة الحيوان المفترس للذهن، ولا ينصرف الذهن منها إلى الرجل الشجاع لولا نكتة تقتضي صرفه، وكلمة (يرمي) تقتضي إعطاء صورة الرمي بالنبل، ولا ينصرف الذهن منها إلى الرمي بالبصر إلاّ بنكتة، ولكنّ التحفّظ على استقرار كلتا الصورتين يؤدّي إلى انصراف الذهن إلى حيوان مفترس يرمي بالنبل، ولكنّ هذه الصورة غريبة على النفس، فالنفس تنصرف عنها ولا تقبلها، فيجب: إمّا أن تتّجه نحو صورة رجل شجاع يرمي بالنبل أو نحو صورة حيوان مفترس يرمي بالبصر، وهنا يقع التزاحم بين تأثير المقتضي الموجود في كلمة (أسد) والمقتضي الموجود في كلمة (يرمي) حيث إنّ الأوّل يقتضي استقرار صورة الحيوان المفترس، والثاني يقتضي استقرار صورة الرمي بالنبل، ولا يجتمعان. وطبعاً في مقام التأثير التكويني يغلب ما هو الأقوى تأثيراً، وهذا يستوجب تقديم الأظهر على الظاهر.

2 ـ أن لا يكون تزاحم في مقام التأثير بين مقتضي الظهور التصوّري، فيؤثّر كلّ منهما أثره، كما لو قال: (أكرم العلماء ولا بأس بترك إكرامهم) فإنّ الذهن لا يصعب عليه أن يتصوّر صورة وجوب إكرام العلماء، ويتصوّر في نفس الوقت صورة عدم وجوب إكرامهم(1)، وإنّما التزاحم في التصديق بإرادة المتكلّم هذين المعنيين؛ لحكم العقل بأنّه لا يريد كليهما لما بينهما من التناقض، وعندئذ ينعقد الظهور التصديقي على طبق ما يكون ظهوره التصوّري أقوى، ونكتة ذلك أنّ غلبة مطابقة المراد للمدلول التصوّري تشتدّ باشتداد الظهور في المدلول


(1) بل هذا يؤدّي إلى تصوّر وجود المتناقضين، وهي صورة غريبة على الذهن كما هو الحال تماماً في تصوّر صورة حيوان مفترس يرمي بالنبل في المثال الأوّل.

598

التصوّري، فكلّما كان الظهور التصوّري أقوى كانت غلبة إرادته وندرة إرادة خلافه أكثر، فعند اجتماع ظهورين تصوّريين لا يمكن التصديق بوجود الإرادة على طبق كليهما إذا كان أحدهما أقوى، فمقتضى الغلبة كون الإرادة مطابقة للأقوى، فينعقد الظهور التصديقي على طبق الأقوى من الظهورين التصوريين.

ويمكن ـ أيضاً ـ أن يدّعى ما مضى في التخصيص من افتراض دلالة تصوّرية ثالثة سياقية(1) هي التي تستقرّ في النفس على نكات ومؤونات زائدة لا مجال لشرحها، إلاّ أنّنا نذكر إحداها، وهي أنّه لا يمكن دعوى وجود دلالة سياقية لعنوان الأظهر والظاهر، فإنّه ليس هذا المفهوم هو الذي يتبادر إلى الذهن، وإنّما ينبغي دعوى وجود دلالة سياقية لواقع الأظهر والظاهر، وهذا ليس له ضابط عامّ كما في باب التخصيص، حيث قلنا: إنّ صورة العامّ مع صورة الخاصّ المجتمع معه موضوعة للعموم المقتطع منه الخاصّ، بل قد تختلف الأظهرية والظاهرية في كلام واحد باختلاف المتكلمين بما تكتنفهم من حالات وقرائن حالية، فعندئذ لابدّ: إمّا من تعدّد الوضع بعدد ما يوجد من أظهر وظاهر، أو دعوى الوضع بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاص.

والمقام الثاني: فيما إذا كان الظاهر منفصلاً عن الأظهر، وليس فيه مزيد بحث على ما عرفته في العامّ والخاصّ. فلو فرض الأظهر هو القرينة لم يرتكب إلاّ مخالفة واحدة لأصل عقلائي. ولو فرض العكس فقد ارتكب مضافاً إلى تلك المخالفة المتيقّنة مخالفة اُخرى(2)، كما يأتي هنا باقي الأقسام الأربعة التي مضت في العامّ والخاصّ.

هذا تمام الكلام في المقدّمة الرابعة.

وبهذه المقدّمات الأربع ظهر خروج الورود والحكومة والتخصيص والظاهر والأظهر عن محلّ الكلام، حيث إنّه في هذه الموارد لابدّ من تقديم الوارد والحاكم والخاصّ والأظهر.

 

تنبيهان:

بقي هنا تنبيهان:


(1) مضى منّا عدم قبول ذلك كأمر مستقلّ في مقابل نكتة الأقوائية والأظهرية.

(2) مضى النقاش في ذلك، وعلى أيّ حال، فالأقوائية التي تهدم ظهور الأضعف في فرض الاتّصال تهدم حجّيّته في فرض الانفصال، وذلك ببناء عقلائي قائم على أساس أنّه كلّما كان الظهور أقوى كانت غلبة مطابقته للمراد أكثر.

599

النسبة بين الدليل المتقدّم ودليل حجّيّة ما يقابله:

التنبيه الأوّل: في النسبة بين الشيء الذي حكمنا بتقديمه كالخاصّ ودليل حجّيّة الطرف المقابل كدليل حجّيّة العامّ.

وهذا مجرّد بحث علمي، فنقول بعد الفراغ عن تقدّم الخاصّ مثلاً: هل يكون الخاصّ حاكماً على دليل حجّيّة العموم، أو وارداً عليه، أو ماذا؟

الصحيح: أنّه من باب الورود لا الحكومة، فإنّ معنى تقديم الخاصّ على العامّ أنّ موضوع حجّيّة ظهور العامّ مركّب من الظهور في العموم وعدم ورود دليل خاصّ على خلافه، فبوروده ينتفي أحد الجزءين.

ومدرسة الميرزا ذهبت إلى أنّ التقديم بنكتة الحكومة قائلةً: إنّ موضوع دليل حجّيّة ظهور العامّ مركّب من نفس الظهور ومن عدم العلم بالخلاف، وعند ورود الخلاف ينتفي عدم العلم تعبّداً لا وجداناً.

ويرد عليه: أنّ دليل حجّيّة ظهور العام هو السيرة التي هي دليل لبّي، وقد قلنا عند التكلم في الحكومة: إنّها لا تتصوّر في الأدلّة اللبية، فإنّ الأدلّة اللبية لا تتحمّل الشرح والتفسير، والتضييق والتوسيع.

وطبعاً هذا كلّه في مثل المخصّص المنفصل. وأمّا ما هو من قبيل المخصّص المتّصل فكون تقديمه على دليل حجّيّة الظهور الآخر من باب الورود في غاية الوضوح؛ إذ هو هادم للظهور، وكذا الحال فيما هو ملحق بالمتّصل، وهو الوارد ولو كان منفصلاً.

هذا، وقد يستظهر من بعض كلمات الميرزا(رحمه الله) أنّه يجعل ما ذكره من الحكومة دليلاً على تقدّم الخاصّ على العامّ، في حين أنّه لابدّ من ثبوت تقدّم الخاصّ على العامّ مسبقاً بنكتة اُخرى، ثمّ التكلّم في كون ذلك وروداً على دليل حجّيّة العموم أو حكومة.

 

وجه تقديم سند القرينة الظنّي على دلالة ذي القرينة:

التنبيه الثاني ـ نحن كنّا نتكلَّم حتى الآن عن مثل العامّ والخاصّ فارضين قطعيّة السند فيهما، والآن نُدخل عنصر ظنّيّة سند الخاصّ ظنّاً معتبراً في المقام، كي نرى ما هي النسبة بين ظهور العامّ ودليل حجّيّة سند الخاص؟ ولماذا يقدّم الخاصّ على العامّ رغم ظنيّة سند الخاصّ؟

فنحن حتى الآن فرغنا عن تقدّم الخاصّ من حيث الدلالة على دلالة العامّ، ولكن هل

600

يتقدّم سنديّاً على دلالة العامّ أيضاً؟ ويمكن الآن فرض أنّ العامّ قطعيّ سنداً، فدار الأمر بين عامّ قطعي السند ظنّي الدلالة وخاصّ ظنّي السند واضح الدلالة بالقياس إلى العامّ.

والصحيح: أنّ سند الخاصّ باق على حجّيّته في المقام بدليل حجّيّة خبر الثقة مثلاً، ودلالة العامّ الظنّيّة ساقطة عن الحجّيّة، والوجه في سقوطها عن الحجّيّة أحد أمرين:

الأوّل: أنّه لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء التي هي من أدلّة حجّيّة خبر الواحد قائمة على العمل بالخبر الخاصّ ولو كان في مقابله عموم. والأوضح من هذا سيرة المتشرّعة التي هي من عمدة أدلّة حجّيّة خبر الواحد، فإنّه لا يحتمل أحد أنّ المتشرّعة إنّما كانوا يأخذون بما قاله الثقات ما لم يوجد هناك عامّ فوقاني يخالفه، بل لا إشكال في أنّهم كانوا يأخذون بالخاصّ ويخصّصون به العامّ، وإذا اعترفنا بوجود مثل هذه السيرة فلا يتعقّل عندئذ وجود سيرة ـ أيضاً ـ على العمل بظهور العامّ بالرغم من ورود الخاصّ، ولا يوجد هناك دليل غير السيرة يدلّ على حجّيّة ظهور العامّ.

الثاني: أنّه لو سلّم عدم ثبوت سيرة على أحد الطرفين وأنّ العقلاء يختلفون في العمل، فمنهم من يقدّم سند الخاصّ، ومنهم من يقدّم ظهور العامّ، قلنا: إنّه بناءً على هذا لا يبقى دليل على حجّيّة ظهور العامّ، فإنّ الدليل على حجّيّة الظواهر إنّما هو السيرة، والمفروض أنّ السيرة منتفية هنا. وأمّا سند الخاصّ فيوجد هناك ما يدلّ على حجّيّته غير السيرة، وهي عبارة عن الأدلّة اللفظيّة التي قبلنا دلالتها على حجّيّة خبر الواحد.

فإن قلت: إنّ هذا الكلام يتمّ في ما لو لم يفرض دليل لفظي على حجّيّة سند العامّ، وكانت حجّيّته بمحض حجّيّة القطع باعتبار افتراض العامّ قطعي الصدور. أمّا حينما يكون سند العامّ ـ أيضاً ـ داخلاً في دليل الحجّيّة اللفظي باعتباره خبر ثقة مثلاً، وقد دلّ الدليل على حجّيّة خبر الثقة، فهنا نقول: إنّ دليل حجّيّة سنده اللفظي بنفسه دليل على حجّيّة ظهوره؛ لأنّه إنّما يدلّ على حجّيّة السند بلسان: (اعمل بمفاد أخبار الثقات) فيقع طرفاً للمعارضة لدليل حجّيّة سند الخاصّ.

قلت: دليل حجّيّة أخبار الثقات لا تدلّ بحسب المتفاهم العرفي على أكثر من كون حال الأخبار الظنّيّة الصدور في العمل بها وبمفادها كحال الأخبار القطعيّة الصدور، ولو فرض العامّ والخاصّ قطعيّين لكان يقدّم الخاصّ على العامّ بلا إشكال، اذن فدليل حجّيّة السند لا يدلّ على حجّيّة دلالة العامّ حتّى في مقابل الخاصّ المشمول لنفس ذلك الدليل.

بقي الكلام في ما هي النسبة بين حجّيّة سند الخاصّ وحجّيّة ظهور العامّ؟

601

فنقول: إنّ النسبة بينهما هي الحكومة الظاهريّة، فإنّ موضوع حجّيّة ظهور العامّ مركّب من جزءين: أحدهما نفس الظهور، والآخر عدم صدور الخاصّ، ودليل حجّيّة سند الخاصّ يعبّدنا بصدور الخاصّ، فينفي موضوع حجّيّة ظهور العامّ تعبّداً، وحيث إنّه لا يضيّق دائرة الموضوع من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده) بل يعبّدنا بعدم تحقّق ما هو الموضوع حقيقة، فتكون الحكومة ظاهرية، والحكومة الظاهريّة بالإمكان أن تأتي في الأدلّة اللبّيّة من قبيل السيرة التي قامت في المقام على حجّيّة ظهور العامّ.

 

سراية التعارض من الدلالة إلى السند:

المقدّمة الخامسة: أنّ التعارض كما يمكن أن يكون في السند كذلك يمكن أن يكون في الدلالة والظهور.

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ الخبرين المتعارضين إن كانا قطعيّي الصدور ظنّيّي الدلالة، فالتعارض طبعاً بين الظهورين دون السندين، وإن كانا بالعكس فبالعكس.

وإن كانا ظنّيّي الصدور والدلالة فهما متعارضان في الظهور؛ إذ يدلّ كلّ منهما على خلاف ما يدلّ عليه الآخر، وهل يسري التعارض إلى السندين أيضاً، أو لا؟(1)، قد يتخيّل أنّه لا يسري التعارض إلى السندين، وأنّ التعارض إنّما هو بين الظهورين، فإنّ كلاًّ من الخبرين يدلّ على خلاف ما يدلّ عليه الآخر، فهما متعارضان في الدلالة. وأمّا من حيث السند فمن المحتمل صدورهما معاً، إذن فلا تعارض بين السندين. وتحقيق الكلام في ذلك: أنّنا تارةً نبني على أنّ حجّيّة كلّ من السند والظهور مشروطة بحجّيّة الآخر؛ إذ لولا حجّيّة الآخر لزمت لغويّة حجّيّته؛ إذ لا معنى لحجّيّة السند من دون ثبوت مفاد الحديث، أو حجّيّة الدلالة من دون ثبوت الصدور، ولا يترتّب أيّ أثر على ذلك، وكون حجّيّة كلّ منهما مشروطة بحجّيّة الآخر لا يستبطن الدور، فإنّ المقصود من ذلك هو كون حجّيّة كلّ منهما مشروطة بتماميّة الآخر من سائر النواحي.

واُخرى نبني على أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بحجّيّة السند؛ لأنّ المراد بحجّيّة الظهور إنّما هي حجّيّة ظهور كلام المولى، لاحجّيّة ظهور كلام أيّ واحد من الناس، ولكنّ حجّيّة السند غير مشروطة بحجّيّة الظهور، فمعنى حجّيّة السند هو البناء على صدور هذا الكلام من المولى


(1) أفاد(رحمه الله): أنّ ثمرة البحث تظهر إذا بنينا على أنّ مقتضى القاعدة في تعارض السندين هو الترجيح.

602

مثلا بغضّ النظر عن أنّه يدلّ على المعنى الفلاني أو لا.

فإن بنينا على المبنى الأوّل وهو أنّ حجّيّة كلّ من السند والظهور مشروطة بحجّيّة الآخر فتعميق الإشكال في سريان التعارض من الظهور إلى السند يكون بأن يقال: إنّ حجّيّة السند مشروطة بحجّيّة الظهور، فإذا تعارض الظهوران وتساقطا انتفت حجّيّة السند بانتفاء شرطها، فيكون سقوط السندين من باب أنّه لا موضوع لحجّيّتهما، لا من باب أنّهما تعارضا في الحجّيّة، وبهذا يبطل ما قد يقال من سريان التعارض من الظهورين إلى السندين؛ لأجل أنّ حجّيّة السند مشروطة بحجّيّة الظهور، فالتنافي بين الظهورين في الحجّيّة يولّد التنافي بين السندين في الحجّيّة، فانّك عرفت ان مقتضى كون حجّيّة السند مشروطة بحجّيّة الظهور أنّه بعد تعارض الظهورين وتساقطهما تنتفي حجّيّة السند من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

والتحقيق في مقام الجواب عن هذا الإشكال هو أنّ حجّيّة السند وإن قيّدت بحجّيّة الظهور، ولكنّ إطلاق دليل حجّيّة السند يثبت في المقام القيد، وهو حجّيّة الظهور، وذلك لأنّ حجّيّة الظهور وعدمها أمر يكون مرتبطاً بالمولى، ومعرفته بيده، فالعامّ الذي يصدّره المولى بشأن حجّيّة السند يدلّ على أنّه قد أحرز تحقّق هذا القيد، وقد قلنا في محلّه: إنّ العامّ حجّة في الشبهة المصداقية للمخصّص إذا كان القيد سنخ قيد من شأن المولى بيانه، ولم تكن نسبته إلى المولى والعبد على حدّ سواء، فمثلا لو دلّ إطلاق الدليل على وجوب الحجّ، وقد عرفنا أن مزاحمة واجب اهم تمنع عن وجوب الحج، فنفس إطلاق الدليل الدالّ على وجوب الحجّ يدلّ على عدم وجود مزاحم أهمّ له، وعليه فالتعارض يسري من الظهور إلى السند.

وإن بنينا على المبنى الثاني، وهو أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بحجّيّة السند دون العكس، فتعميق الاشكال يكون بأن يقال: إنّ دليل حجّيّة الظهور ـ في الحقيقة ـ يدلّ على حجّيّة الظهور على تقدير الصدور؛ لأنّ مفاده إنّما هو حجّيّة ظهور كلام المولى، ودليل حجّيّة السند يثبت المعلّق عليه، أعني شرط حجّيّة الظهور، وهو الصدور من المولى، وبثبوت مجموع القضية الشرطية مع الشرط يثبت الجزاء، وهذا ثابت في كلّ واحد من الخبرين، فيقع التعارض، فالتعارض ـ في الحقيقة ـ له طرفان: أحدهما مجموع القضيّة الشرطية مع الشرط في جانب أحد الخبرين، والآخر مجموع القضية الشرطية مع الشرط في الطرف الآخر، فنحن نعلم إجمالا بعدم أحد المجموعين، وهذا معناه أنّنا نعلم إجمالا بأنّ أحد الخبرين: إمّا سنده غير حجّة أو ظهوره غير حجّة وهذا العلم الاجمالي يتولّد منه العلم الإجمالي بعدم حجّيّة أحد الظهورين: إمّا تخصيصاً، وذلك بأن يكون صادراً لكن ظهوره غير حجّة، أو