539

الثاني: أن لا يكون المولى متصدّياً بالخصوص لبيان ناظرية هذا الدليل إلى ذاك الدليل وتحكيمه عليه، لكن بناء العرف العامّ يكون على ذلك، مثاله هو بناء العرف العامّ على تحكيم الخاصّ على العامّ ـ على الأقلّ في خصوص المخصّصات المتّصلة، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم ولا تكرم فسّاق العلماء) ـ وهذا ما يسمّى بالتخصيص وشبهه.

وبهذا اتّضحت نكتة أقوائية الحكومة من التخصيص، وهو أنّ المتكلّم في الحكومة بنفسه تصّدى لبيان الناظرية، وفي التخصيص ليس الأمر هكذا، وإنّما بناء العرف العامّ على ذلك، فنحتاج إلى إجراء أصالة عرفيّة المولى.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في تقدّم الأمارات على الاُصول.

والثاني: في نسبة الاُصول بعضها مع بعض.

 

المقام الأوّل: في تقدّم الأمارات على الاُصول

ويقع الكلام فيه في جهتين:

الاُولى: في تقدّمها على الاُصول بملاك إفناء الموضوع.

والثانية: في تقدّمها عليها بملاك القرينيّة.

أمّا الجهة الاُولى، وهي تقدّم الأمارات على الاُصول بملاك الإفناء، فطبعاً لا يترقّب دعوى تقدّمها عليها بالتخصّص ؛ إذ لا تُفني بلسان الإخبار، وإنّما الذي يمكن أن يدّعى هو التقدّم بالورود، وقد عرفت أنّ الورود على قسمين، وهنا يمكن دعوى كلّ واحد من قسمي الورود:

أمّا القسم الأوّل، وهو الورود بلحاظ المدلول اللغوي العامّ، فيمكن دعواه في المقام بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ المتفاهم عرفاً ـ ولو بواسطة بعض القرائن ـ من العلم الذي هو غاية للاُصول هو مطلق الحجّة مثلاً، لا خصوص العلم بمعنى القطع، فالأمارة تُفني موضوع الأصل بالتعبّد وإقامة الحجّة.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ المتفاهم من العلم المأخوذ غاية للاُصول وإن كان هو القطع، لكنّ المتفاهم عرفاً من أدلّة الاُصول ـ ولو بواسطة بعض القرائن ـ أنّ متعلّق العلم ليس هو الحرام الواقعي مثلاً في قوله: (حتّى تعلم أنّه حرام) أو النقيض الواقعي للمتيّقن السابق في

540

الاستصحاب، بل مطلق ما ثبت بالحجّة مثلاً حرمته، أو كونه نقيض المستصحب، والمفروض أنّ الأمارة تثبت ذلك.

وهذان الوجهان غير صحيحين ؛ إذ حمل العلم على معنىً أعمّ من القطع، وهو مطلق قيام الحجّة مثلاً، أو حمل المتيقّن أو الحرام على معنى أعمّ من نقيض المتيّقن السابق، أو الحرمة الواقعية وهو مطلق ما ثبت بالحجّة كونه كذلك، خلاف الظاهر ومؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة، والقرائن التي يمكن ذكرها في المقام كلّها غير صحيحة، كما سوف يتّضح ـ ان شاء الله ـ حينما نتكلّم عن حكومة الأمارات على الاُصول.

وأمّا القسم الثاني، وهو الورود بلحاظ اعتبارات خاصّة للمتكلّم، فيمكن دعواه في المقام ـ أيضاً ـ بأحد وجهين:

الوجه الأوّل، أن يقال: إنّ الشارع له اعتبارات خاصّة في العلم، ومقصوده من العلم في دليل جعله غايةً للاُصول ما يراه هو علماً، ودليل حجية الأمارة دلّ على أنّه يرى الأمارة علماً.

ويستفاد من بعض كلمات مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) أنّ هذا الوجه داخل في الحكومة.

لكنّ التحقيق أنّه إن فرض أنّ مقصود الشارع من العلم في دليل جعله غاية للاُصول ما هو يراه علماً، إذن فدليل جعل الأمارة علماً يُفني موضوع الأصل حقيقةً، وهو الورود. وإن فرض أنّ المقصود هو العلم الحقيقي إذن فدليل اعتبار الأمارة علماً لا يحقّق الورودَ ولا الحكومة إلاّ إذا ضمّت إلى ذلك مسألة النظر، فأصبح حكومة بملاك النظر، وإلاّ فمجرّد اعتباره غير العلم علماً لا قيمة له.

الوجه الثاني، أن يقال: إنّ الشارع له اعتبارات خاصّة في المتيّقن، ومتعلّق العلم، فيقصد مثلاً بالحرام في قوله: (حتّى تعلم أنّه حرام) وبنقيض المتيّقن السابق في الاستصحاب ما هو يراه حراماً أو نقيضاً للمتيّقن السابق، وعندئذ يدّعى أنّ دليل حجّيّة الأمارة مفاده هو جعل الحكم المماثل، فبذلك يعلم بما يراه الشارع حراماً، أو نقيضاً للمتيقن، فتحصل الغاية.

ولا يرد على ذلك كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) في مسألة قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي، حيث إنّ أحد تقريبات قيامها مقامه هو دعوى أنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يجعل العلم بالمؤدّى منزلة العلم بالواقع، فاعترض عليه المحقّق الخراساني (رحمه الله) بأنّه لا ملازمة بين كون المؤدّى بمنزلة الواقع وكون العلم به بمنزلة العلم بالواقع، فهذا الكلام وإن كان فنّيّاً

541

هناك إلى حدٍّ، لكنّه لا يأتي على التقريب الذي نحن فرضناه ؛ إذ نحن فرضنا التوسعة في مفهوم الحرام أو متعلّق اليقين الذي جعل غاية للأصل بحيث توجب الأمارة العلم بفرد من أفراد ذلك المفهوم حقيقةً، وبكلمة اُخرى: أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على تقريب الحكومة، لا تقريب الورود.

هذا. ولو تمّت المدّعيات في هذين الوجهين ثبت ورود الأمارة على الاُصول، إلاّ أنّه يبقى سؤال في المقام وهو: أنّه لماذا لا نعكس المطلب وندّعي في الاُصول التي يمكن فيها دعوى جعل اليقين أو المتيّقن أنّها واردة على الأمارة، فمثلاً يقال في الاستصحاب: إنّ مفاده جعل اليقين، فيكون وارداً على حجّيّة الأمارة المغيّاة باليقين بالخلاف، وفي أصالة الحلّ التي يسمّونها بالأصل التنزيلي بدعوى أنّها تجعل الحلّ بلسان أنّه هو الحلّ الواقعي يمكن أن يقال: إنّها واردة على الأمارة حينما ينافيها؛ لأنّها تفيد اليقين الواقعي بمتيّقن اعتباري يخالف مفاد الأمارة، فالتوارد يكون من الطرفين.

ويمكن الجواب على ذلك بأحد وجهين:

الأوّل: أن يقال: إنّ دليل حجّية الأمارة نصّ في موارد الاُصول ؛ لأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة والظهور هو السيرة العقلائية أو المتشرعية، وهي ثابتة في موارد الاُصول، فحتماً يجب أن يكون موضوعها بنحو لا ينتفي بالاُصول.

ويرد عليه: أنّ هذا معناه تقدّم الأمارة على الاُصول بملاك آخر غير ملاك الورود وإفناء الموضوع، وهو ملاك النصوصية. نعم، في طول النصوصية يقع بحث علمّي صِرف في أنّه هل تكون الأمارة مقدّمة على الأصل واردة عليه أو مخصصة له مثلاً، وهذا خُلف ما كان المفروض، وهو إثبات تقدّم الأمارة بملاك الإفناء.

الثاني: أن يقال: إنّ الأصل اُخذ في موضوعه عدم العلم، لكن الأمارة لم يؤخذ في موضوعها عدم العلم.

وهذا الوجه فيه اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل، هو اتّجاه كان يوجد قبل الميرزا، ويستفاد ـ أيضاً ـ من بعض عبائر الميرزا(رحمه الله)، وهو دعوى الفرق الثبوتي وبحسب مرحلة الجعل بين الاُصول والأمارات، فالمولى جعل الاُصول على موضوع الشكّ وعدم العلم، ولكنّه حينما جعل الأمارات لم يقيّد موضوعها بعدم العلم، فالشك وعدم العلم ليس موضوعاً للأمارات، وإنّما هو مورد لها، إذن فمن الطبيعي ـ بناءً على هذا الاتّجاه ـ أن تفني الأمارة موضوع الأصل، وهو عدم العلم، ولا

542

يفني الأصل موضوع الأمارة ؛ إذ ليس من موضوعها عدم العلم حتّى يُفنى بالأصل.

ولكن يرد على ذلك: انّه إن قصد بعدم دخل الشكّ وعدم العلم في موضوع الأمارات عدم كونه مقدّر الوجود، فهذا مستحيل ؛ إذ لولا تقييدها بوجه من الوجوه بالشكّ للزمت حجّية الأمارة مطلقاً حتّى مع العلم بالخلاف، وهذا غير معقول، ولا يرتفع الإطلاق إلاّ بالتقييد.

وإن قصد بكون الشكّ مورداً للأمارات لا موضوعاً لها أنّه لم يؤخذ حيثية تقييدية وإنّما أخذ بنحو الشرط، أي: إنّه لم يقل: خبر الثقة حجّة على الشاكّ، وإنّما قال: خبر الثقة حجّة على الإنسان إن كان شاكّاً، قلنا: إنّ هذا يكفي في ورود الاُصول عليها؛ إذ على أيّ حال أصبح الشكّ وعدم العلم دخيلاً في الحكم بوجه من الوجوه، ومفروض الوجود، ولا نقصد نحن بالموضوع إلاّ هذا، والأصل يرفع ذلك لا محالة، فلا يبقى مورد للأمارة سواء سمّيتَ هذا الشكّ دخيلاً في الموضوع، أو سمّيته مورداً للأمارة، أو بأيّ اسم آخر.

وإن قصد بالموردية معنى آخر غير هذا فنحن لا نفهمه حتّى نناقشه.

وعلى أيّ حال فنحن نقول: إنّ الشكّ دخيل في حجّية الأمارة حتماً ولو بالنحو الذي قلناه من كونه مقدّر الوجود، وإلاّ لزم حجّية الأمارة في مورد العلم، وهذا يكفي في تحقّق الورود من جانب الأصل.

الاتّجاه الثاني(1)، هو جعل الفرق إثباتياً، وذلك بأن يقال: إنّ الشكّ وعدم العلم وإن كان مأخوذاً ثبوتاً في جعل الاُصول والأمارات معاً، لكنّه بحسب لسان الدليل قد ذكر قيد عدم العلم في أدّلة للاُصول دون أدّلة الأمارات، وهذا يوجب ورود الأمارات على الاُصول دون العكس.

وهذا له تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّ يقال: إنّنا قد فرضنا أنّ المقصود بالعلم مثلاً حينما يأتي في كلام الشارع هو ما يراه علماً، وهو أعمّ من العلم الوجداني، وقد جاء في كلامه في أدلّة الاُصول قيد عدم العلم، إذن فينتفي موضوعها بالأمارة المفروض إيجادها للعلم التعبّدي. وأمّا أدلّة الامارات فلم يؤخذ في موضوعها عدم العلم بحسب لسان الدليل حتّى يقال أيضاً: إنّ


(1)هذا الاتّجاه بكلا تقريبيه الآتيين إنّما ينظر إلى الوجه الأوّل من الوجهين الماضيين لتقريب الورود بلحاظ اعتبارات خاصّة بالمتكلّم، أي: الوجه القائل بأنّ المتكلّم له اعتبارات خاصّة في العلم، لا في متعلّق العلم.

543

المقصود هو عدم مطلق العلم ولو كان تعبّدياً، غاية ما هناك أنّ العقل أدرك أنّ جعل الأمارة إنّما يكون مع الشكّ وعدم العلم، وذلك ببرهان استحالة حجّيّة الأمارة مع العلم. وطبعاً هذه الاستحالة العقلية إنّما تختصّ بفرض وجود العلم الوجداني، والأصل لا يحقق علماً وجدانياً حتّى يُفني موضوع الأمارة.

ولكنّ هذا البيان إنّما يتمّ في فرضين:

1 ـ أن يفرض أنّ هذا المخصّص العقلي مخصّص منفصل، ولم يشكّل ارتكازاً كالمتّصل.

2 ـ أن يفرض أنّه شكّل ارتكازاً كالمتّصل، إلاّ أنّ هذا الارتكاز بنفسه يخصّص العامّ من دون أن يصرف الذهنَ إلى أخذ كلمة (عدم العلم) مثلاً في الدليل بأن يكون المتكلّم كأنّه صرّح به، وإنّما حذفه اعتماداً على هذا الارتكاز.

وأمّا لو فرض أنّ هذا المخصّص المتّصل الارتكازي يصرف الذهن إلى كلمة محذوفة تعبّر عنه بتعبير عرفي، وطبعاً ليس من اللازم أن يكون مفاد تلك الكلمة مساوياً لمفاد ذلك الارتكاز حتّى تختصّ بالعلم الوجداني، بل تكون أكبر منه باعتبار أنّ الكلمة العرفية التي يمكن انسباق الذهن إليها في المقام، وتعدّ أنّ المتكلم كأنّه صرّح بها هي كلمة (عدم العلم) مثلاً، وهي حسب الفرض تفيد نفي العلم الوجداني والتعبدي معاً، فيصير التوارد ـ أيضاً ـ من الطرفين ؛ لأنّه في الحقيقة أخذ قيد عدم العلم في لسان الدليل من كلا الطرفين.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ دليل الأصل اقترن بقرينة متّصلة منعته عن إفادة جعل العلم، فلا يكون رافعاً لموضوع الأمارة، لكنّ دليل الأمارة لم يقترن بتلك القرينة، فهو يجعل العلم ويرفع موضوع الأصل، وتلك القرينة هي أخذ عدم العلم قيداً في موضوع دليل الأصل، فإنّ هذا يمنع عن إفادة الأصل جعل العلم، وإلاّ وقع التهافت بين الموضوع والمحمول.

وفيه: إنّ الموضوع إنّما هو عدم العلم من غير ناحية هذا الجعل، لا مطلقاً، فلا يكون أيّ تهافت بين الموضوع والمحمول.

بقي هنا سؤال، وهو: أنّه هل من الصحيح أنّ عدم العلم لم يؤخذ في دليل الأمارة بغضّ النظر عن المخصّص العقلي، واُخذ في لسان دليل الأصل، أو لا؟

وهذا يرتبط بالفحص عن أدلّة حجّية الأمارة والأصل ؛ فإن فرضنا أنّ دليل حجّية الأمارة منحصر بمثل قوله: (يونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني) صحّ ذلك في الأمارة، وإن أتممنا دلالة مثل قوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) كما أتمّ المشهور دلالة هذه الآية، فعندئذ إن فرض أنّ الدليل الذي اُخذ فيه عدم العلم ليس فيه مفهوم يقيّد

544

باقي أدلّة حجّية الأمارة كفى في الإطلاق ذلك الدليل الذي لم يؤخذ فيه عدم العلم، وإن فرض أنّ القضية ذات مفهوم لكونها قضية شرطية مثلاً، إذن فيقيّد بها باقي الأدلّة، ونبتلي مرّة اُخرى بالتوارد من كلا الطرفين.

هذا في جانب الأمارة.

وأمّا في جانب الاُصول فيوجد مالم يؤخذ فيه الشكّ وعدم العلم، كما في بعض أدلّة قاعدة اليد، فإنّهم يقدّمون الأمارة عليها كما يقدّمونها على الاستصحاب والبراءة مثلاً.

والإنصاف: أنّ الإنسان العرفي يفهم أنّ تقدّم الأمارة على الأصل وعدمها غير مرتبط بصدفة من هذا القبيل، أعني وجود كلمة (لا تعلمون) مثلاً في دليل حجّية الأمارة وعدمه، وأنّ الأمارة تقدّم على الأصل سواء وجد مثل ذلك أو لا، فهذه كلّها تلفيقات.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ دعوى ورود الأمارة على الاُصول بلحاظ الاصطلاحات والاعتبارات الخاصّة للمتكلّم موقوفة على ثلاثة افتراضات:

1 ـ افتراض أنّ الشارع حينما يطلق كلمة العلم يقصد به ما هو يراه علماً(1) ونحو ذلك. وهذا شيء يأتي تحقيقه ـ إن شاء الله ـ في بحث التعادل والتراجيح.

2 ـ افتراض أنّ جعل الحجّيّة في الأمارات يكون بمعنى جعل العلم. وهذا شيء مضى تحقيقه في بحث الأحكام الظاهرية.

3 ـ افتراض نكتة للفرق بين الأمارات والاُصول. وهذا ما تكلّمنا عنه هنا.

فإن تمّ مجموع هذه الاُمور (وهو غير تامّ) تمّ الهيكل العامّ لدعوى الورود في المقام.

على أنّه بعد فرض تماميّة هذه الاُمور يوجد هنا إشكال بالإمكان إثارته في المقام، إلاّ أنّنا نؤجّله إلى تقريب حكومة الأمارت على الاُصول ؛ لأنّه إشكال مشترك بين الورود والحكومة.

وعلى أيّ حال، فقد تحصّل عدم تماميّة الورود(2).

واما الجهة الثانية، وهي في تقدم الامارات على الاصول بملاك القرينيّة فنقول قد


(1) هذا في الصيغة الاُولى من صيغتي دعوى الورود بلحاظ المصطلحات الخاصّة للمتكلّم. أمّا في الصيغة الثانية فافتراض إدخال رؤية المتكلّم في تفسير الكلمة إنّما يكون في متعلّق العلم، لا في العلم.

ولعلّ هذا يدخل فيما هو المقصود بما ورد في المتن من كلمة (ونحو ذلك).

(2) سيأتي في بحث تقدّم الاستصحاب على الاصل تقريب آخر لورود الأمارة على أصل البراءة، يذكره اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ويتبنّاه، إلاّ أنّه لا يثبت به ورود الأمارة على الاستصحاب.

545

عرفت ان القرينيّة على قسمين:

احدهما: ان يكون المتكلم هو الذي تصدى بالخصوص لجعل احد كلاميه قرينة على الاخر وهو ما يسمّى الحكومة.

والاخر: هو ما اذا كانت القرينيّة حسب البناء العرفي العام وهو التخصيص وشبهه اذن فالكلام يقع في مقامين:

المقام الاول: في دعوى حكومة الامارات على الاصول وقد عرفت ان الحكومة والناظرية، تكون بأحد اقسام ثلاثة:

1 ـ النظر التفسيري من قبيل اي واعني.

2 ـ النظر التنزيلي من قبيل الطواف بالبيت صلاة.

3 ـ النظر المضموني من قبيل نفي الحرج.

وفي المقام من الواضح عدم وجود نظر تفسيري للأمارات إلى الاُصول، فالكلام إنّما يقع في القسمين الآخرين من الحكومة.

أمّا القسم الأوّل، وهو النظر التنزيلي، فبالإمكان دعوى أنّ دليل حجيّة الأمارة ينزّل الأمارة منزلة العلم، وفرقه عمّا سبق من الورود واضح، وهو أنّه في الورود كانت الأمارة تعتبر علماً من دون نظر إلى آثار العلم، والمفروض أنّ دليل الأصل جعل الأصل مغيّى بما يراه الشارع علماً، فالأمارة تفني موضوعه. وأمّا هنا فتنزّل الأمارة منزلة العلم في الآثار.

هذا. وكلمات المحقّق النائيني (رحمه الله) مشوّشة في المقام، لا يعلم أنّ المقصود بها الورود أو الحكومة، وهو وإن كان يسمّي ما يذكره بالحكومة، لكن من المحتمل أن يكون مقصوده ما سمّيناه بالورود. وهنا امتيازات بين ذاك الورود وهذه الحكومة قد يؤثّر ذكرها في مقام فهم مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله)، وتوضيح معطيات مدرسته في المقام. وأقصد بالامتيازات خصوصيات تشكّل القوّة في فرضية التقدّم الورودي، والضعف في فرضية التقدّم الحكومتي. ونحن نذكر هنا ثلاثة امتيازات:

الامتياز الأوّل: أنّ المقام في الحقيقة صغرىً من صغريات مبحث قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي، وقد استشكل صاحب الكفاية (رحمه الله) في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنفس دليل قيامها مقام القطع الطريقي منطلقاً من فكرة التنزيل، وذلك الإشكال هو: أنّ إقامتها مقام القطع الموضوعي تكون بالنظر الاستقلالي إليها وإلى القطع ؛ لأنّ المفروض ترتيب نفس آثار القطع عليها. وأمّا إقامتها مقام القطع الطريقي فتكون بالنظر الآلي إليهما ؛ إذ

546

المقصود الواقعي هو إقامة المؤدّى مقام المقطوع، لا إقامة الأمارة مقام القطع ؛ لأنّ الأثر الشرعي إنّما هو للمقطوع، وأمّا أثر القطع وهو التنجيز والتعذير فهو أثر عقلي، لا يمكن للشارع إثباته على الأمارة بالتنزيل، فيلزم من إقامة الأمارة مقام القطع الموضوعي والطريقي معاً الجمع بين النظر الآلي والاستقلالي، وهو محال.

ونحن قد أجبنا على هذا الإشكال في محلّه حتّى مع فرض الانطلاق من فكرة التنزيل، لكنّ المقصود هنا إبراز قوّة الورود في مقابل الحكومة من هذه الناحية، فنقول: إنّ هذا الإشكال لو تمّ فإنّما يتمّ في الحكومة، لا في الورود ؛ لأنّه في الحكومة يكون النظر إلى الآثار، والأثر الشرعي تارة يكون للقطع، واُخرى للمقطوع. وأمّا الورود فلا ينظر إلى الآثار، وإنّما يجعل ويعتبر الأمارة علماً، فيثبت لها الآثار بشكل طبيعي حسب ما يفرض من أنّ الأثر الشرعي للعلم جعل على كلّ ما يراه الشارع علماً، وإنّ الأثر العقلي للعلم وهو انقطاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان أثر يرتّبه العقل على كلّ ما يراه الشارع علماً ولو لم يكن علماً تكويناً، فلا يقبح العقاب عند وجود علم من هذا القبيل.

الامتياز الثاني: أنّه في الورود يتمسّك لإثبات الآثار على الموضوع الجديد بالدليل المورود لا بالدليل الوارد، وفي التنزيل يتمسّك لإثبات الآثار عليه بالدليل الحاكم دون المحكوم، حيث إنّه في باب الورود ليس الدليل الوارد ناظراً إلى الآثار أصلاً، والدليل المورود قد أثبت الآثار ـ حسب الفرض ـ حتّى للفرد الاصطلاحي الاعتباري للموضوع، وفي باب الحكومة يكون دليل التنزيل ناظراً إلى الآثار، والدليل المحكوم لا يثبت الآثار للفرد التنزيلي، وإنّما يثبته للفرد الحقيقي، ويترتّب على ذلك أنّه لو كان للموضوع آثار عديدة فترتيب تلك الآثار جميعاً في الحكومة على الموضوع التنزيلي موقوف على استفادة الإطلاق من دليل التنزيل، فلو كان وارداً مثلاً في مورد أحد الآثار، ولم يكن له إطلاق لباقي الآثار لا يثبت باقي الآثار. وأمّا في الورود فالدليل الوارد لا حاجة إلى إثبات إطلاق فيه، وهو أصلاً لا ينظر إلى الآثار، بل بمجرّد أنّه يعتبر الفرد داخلاً في الموضوع الفلاني يترتّب عليه كلّ الآثار. وهذا يشكّل في المقام عامل قوّة للورود ليس موجوداً في الحكومة.

وتوضيحه: أنّ أهمّ أدلّة حجّيّة الأمارات، أو من أهمّها هو السيرة العقلائية الدالّة على حجّية خبر الثقة، والظهورات، وهذه السيرة لو فرضت بنحو الورود أي: إنّها تجعل وتعتبر الأمارة علماً (والمفروض أنها ممضاة من قبل الشارع بالسكوت) فلا محالة يترتّب على الأمارة كلّ آثار العلم. ومنها قطع الاُصول، فتصبح واردة على الاُصول ؛ لأنّ المفروض في

547

تقريب الورود أنّ دليل الأثر وهو دليل انقطاع الأصل بالعلم جعل الأثر على مطلق أفراد العلم ولو كانت اعتبارية وجعلية. وأمّا لو فرضت بنحو الحكومة، أي: إنّ السيرة نزّلت الأمارة منزلة العلم، فهنا ينفتح باب البحث عن أنّ هذا التنزيل له إطلاق لآثار العلم الموضوعي، أو لا. فقد يقال مثلاً: إنّ هذه السيرة دليل لبّيّ نقتصر فيه على القدر المتيّقن، وإنّ القدر المتيّقن هو كون الأمارة بمنزلة العلم في آثار العلم الطريقي، وليس عند العقلاء علم موضوعي حتّى نرى أنّهم يرتّبون أثره على الأمارة، أو لا.

الامتياز الثالث: أنّك قد عرفت أنّ الورود له تقريبان ؛ لأنّنا في الورود ندّعي أنّ الأصل ينقضه مجرّد حصول العلم ولو العلم الاعتباري وبالحكم الواقعي، ولو حكماً اعتبارياً، فيكفي في الورود فرض اعتبار الأمارة علماً، ويكفي فيه ـ ايضاً ـ فرض اعتبار المؤدّى واقعاً، فيمكن أن يتمّ الورود سواء كان المبنى في دليل الأمارة هو مبنى جعل الطريقية، أو كان المبنى فيه هو مبنى جعل المؤدّى واقعاً. وامّا في الحكومة فتتمّ الحكومة لو بنينا على مبنى تنزيل الأمارة منزلة الطريق والعلم. أمّا لو بنينا على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فقد يقال أيضاً: إنّه تتمّ الحكومة ؛ لأنّه لو صار المؤدّى منزّلاً منزلة الواقع فالعلم به يكون بمنزلة العلم بالواقع، لكن هنا يأتي إشكال المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّه لا ملازمة بين جعل المؤدّى بمنزلة الواقع وجعل العلم به بمنزلة العلم بالواقع، فمثلاً لو نزّل زيد منزلة عمرو في الآثار ليس معنى ذلك تنزيل ثوبه منزلة ثوب عمرو في الآثار أيضاً.

نعم، لنا شيء من التمحيص لهذا الإشكال، وهو: أنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو كانت غاية الأصل عبارة عن العلم بالواقع بنحو التقييد، وأمّا لو كانت غايته بنحو التركيب، أي: كانت عبارة عن العلم بالحرمة مثلاً، وكون تلك الحرمة حرمة واقعية، فتتمّ الحكومة ؛ لأنّ الجزء الأوّل من الموضوع وهو العلم بالحرمة ثابت بالوجدان، وأعني بذلك العلم بالمؤدّى والحرمة الظاهرية، والجزء الثاني وهو كون ذلك المؤدّى أو تلك الحرمة حرمة واقعية ثابت بالتنزيل.

والظاهر أنّه بذكر هذه الامتيازات الثلاثة اتّضح الورود والحكومة في المقام بحدودهما بشكل عميق.

وبعد هذا نقول: إنّه لو سلّمت للافتراضات التي يتوقّف عليها الورود أو الحكومة التنزيلية في المقام، قلنا مع ذلك: إنّه لا يتمّ الورود ولا الحكومة، وذلك لورود إشكال مشترك عليهما، ونستعين في توضيح هذا الإشكال باستذكار شيء مضى في بحث حجّيّة خبر الواحد فنقول:

548

مضى في بحث حجّيّة خبر الواحد الاستدلال على حجّيّته بالسيرة العقلائية، واعتراض على ذلك برادعية الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وأجابت مدرسة الميرزا(رحمه الله) عن ذلك بأنّ السيرة تتقدّم على الآيات ؛ لأنّ الآيات تنهى عن العمل بغير العلم، والسيرة تثبت أنّ خبر الواحد علم، فتنفي موضوع الآيات، ونحن أجبنا عن ذلك بأنّه لو كان جعل الحجّية معناه جعل العلم والطريقية، فمفاد الآيات الناهية عن العمل بغير العلم (التي لا تدلّ على النهي التحريمي النفسي من قبيل حرمة شرب الخمر، وإنّما ترشد إلى عدم الحجّيّة حسب الفرض) هو الإرشاد إلى عدم كون خبر الواحد علماً، فهي تعارض السيرة، وتكون في عرضها، لا محكومةً لها. وعليه، فالآيات تردع عن السيرة.

نعم، قلنا هناك: إنّه مع ذلك لا تصلح الآيات للردع ؛ لأنّ سيرةً عميقةً في نفوس العقلاء من هذا القبيل لا يكفي في ردعها إطلاق آية من هذا القبيل التي وقع البحث مئآت السنين بين العلماء في أنّها هل تردع أو لا، وإنّما ردعها يجب أن يكون من قبيل الردع عن القياس ردعاً واضحاً منصوصاً بنصّ متظافر.

وبعد التذكير بهذا المقطع نقول: إنّ لنا فيما نحن فيه كلاماً من سنخ الكلام الذي مضى في بحث خبر الواحد، فنقول: إنّ أدلّة الاُصول لو كان مفادها المطابقي هو جعل الحلّية الظاهرية المغياة بالعلم، كما يقال مثلاً في أصالة الحل، وكانت تدلّ عندئذ على نفي حجّية الخبر المعارض لها بالملازمة، صحّ أن يقال: إنّ دليل جعل الخبر علماً رافع لموضوعها بالورود أو الحكومة، ولكن من الواضح في جلّ أدلّة الاُصول عدم كون الأمر كذلك، فقوله مثلاً: (رفع ما لا يعلمون) لا يدلّ ابتداءً على جعل حلّية ظاهرية مغياة بالعلم، وبالملازمة على نفي حجّيّة الأمارة، بل يدلّ ابتداءً على نفي الإلزام والتسجيل، أي: على نفي حجّية الأمارة بأيّ لسان من ألسنة جعل الحجّية، من جعل العلم والطريقية وغير ذلك، فهو في عرض دليل جعل الأمارة علماً، ويتعارضان.

فإن قلت: إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ على الحكومة، وأمّا على الورود فلا يتمّ هذا الإشكال؛ لأنّ معنى (رفع ما لا يعلمون) على الورود هو (رفع ما لا أراه علماً) ودليل حجّية الخبر يقول: إنّي أرى الخبر علماً، وبهذا يتّضح ـ أيضاً ـ عدم تماميّة هذا الإشكال على مدرسة الميرزا في مبحث حجّية خبر الواحد لو كان مقصودهم دعوى ورود السيرة على آيات النهي عن العمل بغير العلم.

قلت: المفروض أنّ الحجّيّة معناها جعل العلم والطريقية، ورفع ما لا يعلمون يعني عدم

549

جعل الحجّيّة، أي عدم جعل العلم والطريقية، إذن فمقصوده من كلمة (لا يعلمون) هو عدم العلم الحقيقي، لا عدم ما يراه هو علماً، وإلاّ لأصبح معنى الكلام: أنّ ما لا أراه علماً لا أراه علماً، وهذا كما ترى فضول من الكلام، إذن فالمقصود هو أنّ ما لا يكون علماً حقيقة وتكويناً لا أراه علماً، فأصبح ذلك معارضاً لدليل حجّية الأمارة.

فقد تحصّل حتّى الآن عدم تماميّة الورود والحكومة التنزيلية.

وأمّا القسم الآخر، من الحكومة، وهو الحكومة بالنظر المضموني فنؤجّل الكلام عنه إلى ما بعد الكلام عن فرض التخصيص ؛ لأنّه يتوقّف على بعض ما يأتي، فلنفترض الآن موقّتاً عدم تمامية الحكومة بالنظر المضموني أيضاً، وهذا معناه أنّه لم يسلم لنا الورود ولا الحكومة إطلاقاً، فلننتقل إلى تقديم الأمارة بملاك القرينية العامة فنقول:

المقام الثاني: في دعوى تقديم الأمارة على الاُصول بملاك القرينية حسب البناء العرفي العامّ، وهو التخصيص وما يشبهه، فيجب أن نتكلّم في قرينية وأخصّية الأمارة بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من الاُصول، ولو لم تتمّ الأخصّيّة والقرينيّة تصل النوبة إلى البحث عن تقديمها على الأصل من باب تقديم أحد المتعارضين على المعارض الآخر، والكلام في ذلك يقع في جهات:

الجهة الاُولى: في تقدم الأمارة على أصالة البراءة.

والحق: أنّ الأمارة تتقدّم على أصالة البراءة بالأخصّيّة، ولا يقال: إنّ النسبة عموم من وجه؛ إذ قد تجري البراءة من دون أمارة، وقد توجد أمارة من دون أن تعارضها البراءة، كما إذا كانت الأمارة ترخيصيّة ؛ فإنّه يقال: إن قدّمت البراءة على الأمارة في مورد التعارض كان هذا معناه عدم حجّية الأمارة في مورد التوافق أيضاً ؛ وذلك لأنّ معنى حجّيّة البراءة هو أنّ الشكّ بنفسه تمام الموضوع للتأمين، والمفروض أنّ الشكّ يؤمّن حتّى إذا كانت الأماره تفيد الإلزام، وعندئذ نقول: لا معنى لفرض أنّ الأمارة مؤمّنة عند مطابقتها للبراءة، فإنّ المفروض أنّ الأمارة أيضاً اُخذ في موضوعها الشكّ، والمفروض أنّ هذا الشكّ تمام الملاك للتأمين، سواء كانت هناك أماريّة أو لا، وجعل الأماريّة جزءً لموضوع التأمين في طول وجود جزء آخر هو بنفسه تمام الموضوع للتأمين لغوٌ من الكلام، وبقاء موارد الاستحباب والكراهة للأمارة لا تحلّ المشكلة بالرغم من أنّها موارد كثيرة؛ وذلك لأنّها بالنسبة لغرض جعل الحجّية للأمارة، أي التنجيز والتعذير تكون كالعدم، فلزمت لغويّة الأمارة تقريباً، فهي بحكم الأخصّ من البراءة.

550

على أنّ هناك وجهاً آخر غير هذا التقريب لإثبات تقديم الأمارة على البراءة، وهو: أنّ أكثر أدلّة حجّيّة الأمارة نصّ في مورد البراءة، فطبعاً تقدّم على البراءة.

ولنتكلّم في خبر الثقة، ومنه يظهر الحال في حجّيّة الظهور، فنقول: إنّ من جملة ما يستدلّ به على حجّيّة خبر الثقة آية النفر، وهي إن تمّت دلالاتها على حجّيّة خبر الثقة فإنّما دلّت على ذلك بواسطة ما فيها من قصة الإنذار والحذر، وذلك إنّما هو في الأحكام الإلزامية طبعاً، فهي نصّ في مورد البراءة، وكذلك الكلام في آية النبأ بناءً على الاستدلال بها على حجّيّة خبر الثقة، فإنّ موردها هو مورد إقامة الحدّ على بني المصطلق بلحاظ الارتداد التي هي تكليف إلزامي، وكذلك الكلام في قوله: «يونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني.. إلخ» فإنّ القدر المتيّقن من معالم الدين يظهر في الإيجابيات، ولو أنّ أحداً اقتصر على سلبيات الإسلام وترخيصاته لا يقال عنه: إنّه أخذ بمعالم الدين، وكذلك الكلام في قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أديّا إليك عنّي فعنّي يؤديان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما» فإن الاطاعة إنّما تكون في موارد الإلزام.

وأمّا سيرة المتشرّعة فمن الواضح أنّنا لا نحتمل (بحسب ما نعرف من تأريخ المتشرّعة في زمن الائمة (عليهم السلام)، ومن بعدهم، وما ورد من استدلالاتهم، وما عرفناه من أذواقهم ونحو ذلك)أنهم كانوا يعملون بأخبار الثقاة في خصوص الترخيصيّات ولم يكونوا يعلمون بها في الإلزاميات، كما أنّ سيرة العقلاء ـ أيضاً ـ لا يحتمل فيها اختصاصها بالترخيصيّات، كيف والمتيّقن منها هو الإلزاميات، فإنّهم يقولون بقاعدة: قبح العقاب بلا بيان، فالبناء على الترخيص في الترخيصيات ثابت بالأصل الأوّلي من دون تأثير لحجّيّة خبر الثقة فيها.

وبالكلام في السيرة اتّضح حال حجّيّة الظهور.

الجهة الثانية: في تقديم الأمارة على الاستصحاب.

وهنا ـ أيضاً ـ نقول بتقديم الأمارة على الاستصحاب بالأخصّية، فإنّنا لو أخذنا بالأمارة بقي للاستصحاب موارد عدم قيام الأمارة، ولو أخذنا بالاستصحاب لم يبقَ مورد للأمارة(1)، إلاّ حينما يفرض نادراً عدم الحالة السابقة، او توارد الحالتين، أو تساقط


(1) لا يخفى أنّ هنا لا يأتي البيان الماضي عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقديم الأمارة على البراءة لكونها بمنزلة الأخصّ، فإنّه (رحمه الله) قال هناك: لا يمكن تخصيص حجّيّة الأمارة بفرض مطابقتها للبراءة ؛ لأنّ الشكّ الذي هو جزء الموضوع موضوع للتّأمين في حجّيّة البراءة هو تمام الموضوع له في البراءة، فضمّ الجزء الآخر وهو الأمارة إلى ما

551

الاستصحابين بالعلم الإجمالي.

ولا يقال: إنّ العلم الإجمالي الكبير يُسقط الاستصحاب في كلّ الشبهات الحكمية.

فإنّه يقال: إنّه في زمن المعصومين ـ عليهم السلام ـ كان هذا العلم الإجمالي الكبير في الغالب محلولاً.

على أنّ دليل الأمارة ـ أيضاً ـ نصٌّ في مورد الاستصحاب ؛ لأنّك عرفت أنّ المتيّقن من أكثر أدّلة الأمارة هو الالزاميات، وهي عادةً تكون مورداً لاستصحاب العدم.

الجهة الثالثة: في تقديم الأمارة على أصالة الطهارة.

وهنا لا يأتي بحسب الطبع الأوّلي ما ذكرناه من الأخصّية، فإنّ أكثر موارد الأمارة خال عن أصالة الطهارة، كما هو واضح، إلاّ أنّ هناك عدّة نكات لتقديم الأمارة على أصالة الطهارة، وهي تفيدنا في سائر الاُصول أيضاً، كقاعدة الفراغ، أو التجاوز، أو أيّ أصل آخر، فإنّ بعض تلك النكات على سبيل منع الخلوّ تتمّ في كلّ واحد من تلك الاُصول، كما تفيدنا ـ أيضاً ـ في ما مضى من البراءة والاستصحاب، فيثبت تقديم الأمارة عليهما، ولو فرض إنكار الأخصّيّة، وتلك النكات ما يلي:

1 ـ بالإمكان إثبات أخصّيّة دليل الأمارة من دليل أصالة الطهارة بعد الالتفات إلى مقدّمة، وهي: انّه يوجد عند العرف والمتشرعة ارتكاز عدم الفرق بين باب النجاسة وسائر الأبواب في حجّيّة خبر الثقة وعدمها، ولذا لو دلّ دليل على حجّيّة خبر الثقة وكان مورده في كتاب الصلاة مثلاً، ولم يكن له إطلاق بحسب حاقّ مدلوله اللفظي، لا إشكال في أنّه تفهم منه حجّيّة خبر الثقة في سائر الأبواب، ولو دلّ دليل على عدم حجّية خبر الثقة، وكان مورده في باب النجاسات، ولم يكن له إطلاق بحسب حاقّ مدلوله، يفهم منه عدم الحجّية مطلقاً. وعليه فدليل أصالة الطهارة الدال على عدم حجّيّة خبر الثقة في باب النجاسات يدلّ


هو تمام الموضوع، وهو الشكّ يكون لغواً من الكلام.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يأتي في المقام ؛ لأنّ الشكّ في الاستصحاب ليس تمام الموضوع للتأمين، بل هو جزء الموضوع لا بدّ له من متممّ، فليكن له متمّمان عرضيان: أحدهما: الحالة السابقة، والثاني: الأمارة التي لو فرض تقديم الاستصحاب المعارض لها اختصّت حجّيتها بخصوص عدم وجود الاستصحاب المعارض، وهذا لا يعني أخذ الحالة السابقة الموافقة في موضوع حجّيّة الأمارة حتّى يقال مرّة اُخرى: إنّ ضمّ الأمارة إلى الشكّ مع الحالة السابقة الموافقة الكافي في التأمين، يكون كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

552

بالملازمة على عدم حجّيّة خبر الثقة مطلقاً فيصبح دليل حجّيّة خبر الثقة أخصّ منه، فيقدّم عليه.

2 ـ إنّ العامّين من وجه إنّما يتعارضان ويتساقطان لو لم نكن قاطعين بمطابقة أحدهما المعيّن للواقع في مورد الاجتماع، ونحن هنا نقطع بمطابقة احدهما وهو حجيّة خبر الثقة في مورد الاجتماع للواقع، وذلك لأنّ أحد أدلّة حجّيّة خبر الثقة هو سيرة المتشرعة التي لا تحتاج إلى إثبات عدم الردع ؛ لأنّها هي بنفسها في طول الأخذ من الشارع، ومن الواضح أنّ بناء المتشرّعة على الأخذ بخبر الثقة لم يكن مختصّاً بما عدا باب النجاسات، ولم يكونوا يفرّقون بين هذا الباب وسائر الأبواب. إذن فنقطع بحجّيّة خبر الثقة المعارض لأصالة الطهارة، ونقدمه عليها.

3 ـ لا إشكال في أنّ السيرة العقلائية لا تفرّق بين باب النجاسات وسائر الأبواب، إذن لا يبقى وجه لرفع اليد عن السيرة العقلائية في باب النجاسات إلاّ دعوى رادعية إطلاق دليل أصالة الطهارة، وعندئذ نقول بما قلناه في رادعية الآيات من أنّ سيرة عميقة الجذور من هذا القبيل لا يكفي في ردعها مجرّد إطلاق دليل من الأدلّة من آية أو رواية، بل تحتاج في الردع إلى ردع من قبيل الردع عن القياس.

4 ـ نفترض تعارض دليل حجّيّة خبر الثقة ودليل أصالة الطهارة، لكنّنا نقول في المتعارضين بالعموم من وجه بتقدّم أحدهما على الآخر إذا كان قطعيّ السند دون الآخر، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دليل حجّيّة خبر الثقة قطعي السند. أمّا لكونه من القرآن، أو لكونه سنّة قطعية. وهذا بخلاف دليل أصالة الطهارة.

وهذا الوجه يتمّ في الشبهة الحكمية والموضوعية معاً لو كان دليل حجّية خبر الثقة هو آية النبأ. وأمّا لو كان الدليل هو آية النفر فهي إنّما وردت في الأحكام، ولا ربط لها بالموضوعات، كما أنّه لو كان الدليل هو السنّة القطعيّة فالمتيّقن من مجموعها هو حجّيّة خبر الثقة في الشبهة الحكمية ؛ لأنّ بعضها لا يدلّ على أكثر من ذلك. نعم، نقول بحجّيّة خبر الثقة في الموضوعات ؛ لدلالة بعض الروايات على ذلك، وهي داخلة في القدر المتيّقن ؛ لأنّها وردت في بيان حكم من الأحكام، وهو الحجّيّة، إلاّ أنّه لم يصبح دليل حجّيّة الخبر في الموضوعات قطعياً لكي يتقدّم بذلك على أصالة الطهارة.

5 ـ نفترض أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة مع دليل أصالة الطهارة تعارضا وتساقطا، لكنّنا نرجع عندئذ إلى استصحاب حجّيّة خبر الثقة ؛ لأنّه في أوّل الشريعة اُمضيت السيرة

553

العقلائية الدالّة على حجّيّة خبر الثقة بعدم الردع، ونحن نطمئنّ بأنّ أصالة الطهارة لم تجعل في السنوات الاُولى من البعثة، ونشكّ في أنّه هل سقط خبر الثقة عن الحجّيّة بعد ذلك أو لا، فنستصحب الحجّيّة.

هذه نكات خمس لتقديم الأمارة على أصالة الطهارة ؛ وبالإمكان ـ أيضاً ـ إبراز نكات اُخرى إضافية، إلاّ أنّنا تكفينا هذه النكات، كما تكفينا عن التكلّم في سائر الاُصول؛ لما قلنا من أنّ بعض هذه النكات على سبيل منع الخلوّ ثابت في أيّ أصل من الاُصول يفترض تعارضه مع الأمارة.

بقي هنا ثلاثة تنبيهات:

التنبيه الأوّل: قالوا: إنّ الأمارة تقدّم على الأصل ولو كان موافقاً لها. والوجه في ذلك ما ذهبوا إليه من الحكومة، وأنّ الأمارة ترفع موضوع الأصل، وهو الشكّ، وتورث العلم التعبّدي سواء كان الأصل موافقاً لها أو مخالفاً لها.

وهذا الكلام غير تام مبنىً وبناءً.

أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ تقدّم الأمارة على الأصل ليس بنكتة الحكومة أو الورود، وإنّما بنكتة التخصيص، والتخصيص فرع التعارض، وعند الموافقة لا تعارض حتّى يفترض التخصيص.

وأمّا الثاني فلأنّنا لو سلّمنا الحكومة قلنا: إنّ غاية الاُصول المأخوذة في أدّلتها إنّما هي العلم بالخلاف كما ترى في قوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»، وقوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»، وقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ، ولكن انقضه بيقين آخر». وطبعاً يقصد بذلك اليقين بالخلاف، إذن فالأمارة التي هي تخالف الأصل تحكم أو ترد عليه؛ لأنّها تفني موضوعه وتنجّز غايته بإيجاد العلم التعبّدي بالخلاف. وأمّا الأمارة الموافقة للأصل فلا تفني موضوعه ؛ إذ لا تورث العلم بالخلاف.

لا يقال: كيف لا يكون العلم مطلقاً، أي: سواء كان على وفق الأصل أو على خلافه غاية للأصل، مع أنّ المخصّص اللبّي موجود هنا، وهو يخصّص الأصل بصورة الشك وعدم العلم ؛ لاستحالة جعل الحكم الظاهري مع العلم، سواء كان مخالفاً للأصل أو موافقاً له. وعليه فالأمارة التي تثبت العلم تعبّداً تحكم على هذا الأصل وتوجد غايته.

فإنّه يقال: إنّهم قد اعترفوا بعدم حكومة الأصل على الأمارة، وأنّ الحكومة من طرف واحد، في حين أنّه لا فرق بينهما لو لوحظ المخصّص اللبّي، فإنّ المخصص اللبّي يخصّص الأصل

554

والأمارة معاً بصورة الشكّ، ويجعل العلم غاية لهما معاً، إلاّ أنّ العلم اُخذ غاية في لسان دليل الأصل ولم يؤخذ غاية في لسان دليل الأمارة، وهذا يوجب عدم حكومة الأصل على الأمارة، وكون الحكومة من طرف واحد، وهذه النكتة بنفسها موجودة في المقام ؛ وذلك لأنّ كون العلم الموافق غاية للأصل إنّما ثبت بالمخصّص اللبّي، ولم يؤخذ في لسان الدليل، والمخصّص اللبّي ـ في الحقيقية ـ لا يجعل القيد للأصل هو عدم العلم حتّى يفرض أنّ الأمارة تحكم على الأصل بهذه النكتة لافادتها العلم تعبداً (ولو تمّ ذلك لكانت الحكومة من الطرفين)، وإنّما المخصّص اللبّي يجعل الأصل مقيّداً بصورة التمكّن من جعل الحكم الظاهري، ومختصّاً بذاك الشخص الذي لا يستحيل تعبّده بالحكم الظاهري، وإنّما نعبّر بعنوان عدم العلم أو الشكّ كمعرّف لواقع فرض التمكّن من جعل الحكم الظاهري ومشير إليه، لا أنّ القيد حقيقةً هو عدم العلم.

هذا. وبما نقّحناه هنا يبطل تقدّم الاُصول ـ أيضاً ـ بعضها على بعض عند عدم المعارضة، وبذلك تبطل الآثار التي يُرتّبها الأصحاب في باب الاشتغال على طولية الأمارات والاُصول، وطولية الاُصول بعضها مع بعض، من قبيل ما يذكر في باب ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة من أنّ الأصل في الملاقى سقط بالتعارض مع الأصل في الطرف الآخر، ووصلت النوبة إلى الأصل في الملاقي، ونحو ذلك من الكلام، فكلّ هذا لا أساس له.

التنبيه الثاني: أنّ حكومة الأمارة على الأصل بالنظر المضموني قد تُتمّم في طول ما مضى من نكتة تقدّم الأمارة على الأصل بالتخصيص، أعني كون الأمارة نصّاً في الإلزاميات، وذلك بأن يقال: إنّ التنصيص على جعل الحجّيّة في الإلزاميات وتنجيز الحكم على عهدة المكلّف معناه أنّ المولى يفترض تأميناً، وعَدَمَ إلزام في المرتبة السابقة، فيتصدّى إلى إثبات الإلزام والتنجيز، وإلاّ فلا حاجة إلى هذا التنجيز وجعل الشيء على العهدة ؛ إذ إنّ ذاك الشيء هو ثابت مسبقاً على العهدة ومنجّز على المكلّف.

ويرد عليه: أنّه يكفي لقضاء حقّ هذا النظر المفروض استفادته من نصوصية دليل الأمارة في الإلزام كما في قوله: (فاسمع لهما وأطع) مثلاً أن يفترض أنّه ينظر إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند الأصحاب، أو إلى البراءة الشرعية التي هي في رتبة قاعدة قبح العقاب بلا بيان عندنا، فلا تثبت حكومة الأمارة على الاُصول الشرعية المتعارفة.

التنبيه الثالث: أنّ كلّما ذكرناه حتّى الآن إنّما هو في الاُصول الشرعية. وأمّا الأصل العقلي سواء فرض تعذيراً أو تنجيزاً فلا إشكال في ورود الأمارة عليه، فإنّ العقل إنّما يحكم

555

بالتعذير ما لم يعلم المكلّف بالواقع، أو باهتمام المولى بالواقع المشكوك على تقدير وجوده، فإذا عرف اهتمام المولى بذلك بدليل الحجّيّة ـ بأيّ لسان فرض من ألسنة جعل الحجّيّة ولو فرض ذاك الحجّة أصلاً شرعياً كأصالة الاحتياط ـ فلا محالة يرتفع موضوع التعذير، كما أنّ العقل إنما يحكم بالتنجيز ما لم يعلم المكلّف بالواقع أو بعدم اهتمام المولى بالواقع المشكوك على تقدير وجوده، فإذا عرف عدم الاهتمام بذلك بدليل الحجّيّة ـ بأيّ لسان فرض من السنة جعل الحجّيّة ولو فرض ذلك الحجّة أصلاً شرعياً كأصالة البراءة ـ فلا محالة يرتفع موضوع التنجيز.

ويلحق بالاُصول العقلية الأصل الشرعي الذي فرض أخذ عدم الأمارة في موضوع دليله صدفة، كما قد يقال بالنسبة لرواية مسعدة بن صدقة: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام... إلى أن قال بعد ذكر أمثلة من قبيل الثوب المشترى من السوق والزوجة التي يحتمل كونها اُختك أو رضيعتك ونحو ذلك: والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البينة» بناءً على أنّ المقصود بالبيّنة شهادة شخصين تكون شهادتهما حجّة شرعاً.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، أعني تقدم الأمارات على الاُصول.

 

المقام الثاني: في نسبة الاُصول بعضها إلى بعض

إنّ الأصلين اللذين يتكلّم في تقدّم أحدهما على الآخر وعدمه تارةً يفترض موافقة أحدهما للآخر، واُخرى يفترض تنافيهما.

فالمتوافقان من قبيل أصالة الطهارة واستصحابها، والمتنافيان تارةً يكون تنافيهما بلحاظ عالم الجعل تنافياً ذاتياً، من قبيل أصالة الطهارة مع استصحاب النجاسة، واُخرى يكون تنافيهما بلحاظ عالم الجعل تنافياً عرضياً، أي: بواسطة طروّ علم إجمالي من قبيل استصحابي الطهارة في طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة، وثالثة يكون تنافيهما بلحاظ عالم الامتثال والتزاحم عند العمل، من قبيل استصحاب وجوب الصلاة مع استصحاب وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مع عدم القدرة على امتثال كليهما في ظرف جريان الاستصحاب.

فهذه أقسام أربعة نتكلّم فيها في ثلاثة مقامات:

 

المقام الأوّل: في الأصلين المتوافقين أو المتنافيين بلحاظ عالم الجعل تنافياً ذاتياً

وقد ذهبت مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) في ذلك إلى أنّه يتقدّم احد الأصلين على الآخر

556

بالحكومة (ولو كانا متوافقين) في موردين. وأمّا في غير الموردين فيعامل مع دليل الأصلين المتنافيين معاملة المتعارضين، ويطبّق عليهما سائر قواعد باب التعارض.

أمّا موردا الحكومة فهما ما يلي:

1 ـ أن يكون أحد الأصلين بحسب لسان دليله ملغياً للشكّ ومثبتاً للعلم بخلاف الآخر، وذلك من قبيل استصحاب الطهارة او النجاسة مع أصالة الطهارة.

2 ـ أن يكون أحد الأصلين سببيّاً والآخر مسبّبياً، فيقدّم السببي على المسببي ولو كان لسان كليهما رفع الشكّ وجعل العلم، كما في استصحاب طهارة الماء مع استصحاب نجاسة الثوب الذي طهّر به، فإنّ استصحاب طهارة الماء يلغي الشكّ في طهارة الماء وفي كلّ آثارها ومنها طهارة الثوب، ولكنّ استصحاب نجاسة الثوب لا يلغي الشكّ في نجاسة الماء.

أقول: إنّ لنا عدّة تعليقات على هذا الكلام.

التعليق الأوّل: يرجع إلى الأصلين المتوافقين، حيث نقول كما مضى: إنّنا لو سلّمنا مباني الحكومة والورود في الأصلين المتخالفين فذلك لا يتصوّر في المتوافقين ؛ إذ الأصل جعل مغيّى بالعلم بالخلاف، لا بالعلم بالوفاق، ويؤيّد عدم الحكومة والورود في المقام أنّه يلزم من ذلك، أي: من دعوى الحكومة بين الأصلين المتوافقين محاذير عرفية.

منها: في تقدّم الاستصحاب على أصالة الطهارة، فإنّه يلزم اختصاص قاعدة الطهارة بفرض نادر من قبيل توارد الحالتين ؛ إذ في غير مثل ذلك يجري: إمّا استصحاب الطهارة، وإمّا استصحاب النجاسة، ويقدّم عليها.

ومنها: في تقدّم الاستصحاب على أصالة البراءة وأصالة الحل، فمثل قوله: «رفع عن اُمتي ما لا يعلمون» الظاهر في الامتنان على الاُمّة يختصّ بخصوص مثل توارد الحالتين ؛ إذ في غيره يجري الاستصحاب الموافق للأصل أو المخالف له. وهذا ما لا يرتضيه العرف.

ومنها: في تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي، فإنّ ذلك لا ينسجم مع دليل الاستصحاب نفسه، فإنّ صحيحة زرارة تستصحب الوضوء (بمعنى الطهارة الشرعية القابلة للدوام) في حين أنّه يوجد في موردها استصحاب عدم الحدث الذي هو أصل سببي.

ولا يتصوّر أنّ استصحاب عدم الحدث لا يثبت الطهارة، لأنّهما نقيضان، واستصحاب عدم أحد النقيضين لا يثبت الآخر، فإنّ الطهارة ـ كما أشرنا إليه ـ حكم شرعي واعتبار خاصّ مجعول يدوم إلى أن يصدر أحد النواقض، فيكون دوامه أثراً شرعياً لعدم صدور الناقض، وانتقاضه أثراً شرعياً لصدوره، فباستصحاب عدم صدور الناقض تثبت الطهارة.

557

وكذلك الحال في صحيحة اُخرى لزرارة التي استصحب فيها طهارة الثوب مع أنّه يجري في المورد استصحاب عدم الملاقاة للدم الذي هو أصل سببي.

ولعلّ الإمام (عليه السلام) اختار الإصل المسببي في مقام الذكر لكونه ألصق إلى مقصود السائل من معرفة الحكم من الأصل السببي.

التعليق الثاني: يرجع إلى الأصل السببي والمسبّبي.

لا ينبغي الإشكال في أنّ الفهم العرفي يقتضي تقديم الأصل السببي على المسبّبي، ولذا ترى الفقهاء من قبل مئات السنين جيلاً بعد جيل يقدّمون الأصل السببي على المسبّبي بطبعهم الأوّلي قبل ولادة مدرسة الحكومة والورود واصطلاحات جعل العلم والطريقية. نعم، كانوا قد يخطأون فيعكسون مثلاً، أو يوقعون التعارض بينهما، لكنّ هذا من قبيل الأخطاء الاُخرى التي تصدر منهم أحياناً عند التطبيق، وكان الطبع الأوّلي لهم تقديم الأصل السببي على المسبّبي. إذن فأصل تقدّم الأصل السببي على المسبّبي ينبغي أن يكون مفروغاً عنه، ويبقى الكلام في تكييفه الفنّي.

والتكييف الفنّي الذي اختارته مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) هو الحكومة بالتقريب الماضي، إلاّ أنّه لو تمّ ـ وقد عرفت عدم تماميّته في بحث تقديم الأمارات على الاُصول ـ فإنّما يتمّ فيما لو كان الأصل السببي ممّا تدّعي مدرسة المحقق النائيني (رحمه الله) أنّه يجعل العلم والطريقية، فماذا يقولون فيما إذا لم يكن الأصل السببي من هذا القبيل؟! وذلك كما لو كان عندنا ماء متوارد الحالتين، فأثبتنا طهارته بأصالة الطهارة دون الاستصحاب ؛ لعدم جريانه عند توارد الحالتين، أو سقوطه فيه بالتعارض، وغسلنابه ثوباً متنجّساً، فإنّه لا إشكال هنا عند الأصحاب، وكذا عند مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) فقهياً في تقدّم أصالة طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب، مع أنّ أصالة الطهارة لا تجعل العلم، ولا ترفع الشكّ.

والسيّد الاُستاذ بعد أن رفع يده عن هذا التكييف أخذ بتكييف ثان لإثبات الحكومة، وهو: أنّ أصالة طهارة الماء مثلاً تنقّح موضوع الدليل الدال على كبرى أنّه كلّما غسل الثوب المتنجّس بالماء الطاهر طهر الثوب، وهذا الدليل يتقدّم بالحكومة على استصحاب النجاسة ؛ لكونه أمارة مقدّمة على الأصل(1).

وقد مضى منّا في بحث الأصل المثبت بيان أنّ الآثار في باب الاُصول لا تثبت بإطلاق


(1) مصباح الاُصول: ج3، ص256.

558

الكبريات، وإنّما تثبت بإطلاق أدلّة الاُصول لتلك الآثار.

والسيد الاُستاذ بعد رفع يده عن هذا التكييف انتقل إلى تكييف ثالث، وهو: أنّ أصالة الطهارة في الماء مثلاً ـ بقرينة لغويّة جعل ذات الطهارة بغضّ النظر عن آثارها ـ تكون ناظرة إلى آثار طهارة الماء، ومنها طهارة الثوب، إذن فأصالة الطهارة في الماء ناظرة إلى استصحاب النجاسة في الثوب دون العكس، فمن هذه الناحية تتمّ الحكومة.

ويرد عليه: أنّ أصالة طهارة الماء ليست ناظرة إلى الأحكام الظاهرية التي تثبت للثوب عند الشكّ في طهارته كاستصحاب النجاسة، وإنّما هي ناظرة إلى نفس الآثار الواقعيّة، للطهارة والنجاسة، ولذا ترى أنّ أصالة الطهارة تلغو لو فرض عدم تلك الآثار الواقعية راساً، ولا تلغو لو فرض عدم تلك الأحكام الظاهرية، إذن فأصالة طهارة الماء تثبت طهارة الثوب، واستصحاب نجاسة الثوب يثبت في عرض ذلك نجاسته فيتعارضان.

والتحقيق في تكييف تقدّم الأصل السببي على المسبّبي عدة اُمور، بعضها يختصّ ببعض الموارد، وبعضها يعمّ كلّ الموارد.

منها: ما يختصّ بتقدّم الاستصحاب السبّبي على الاستصحاب المسبّبي، وهو: أنّ الاستصحاب ـ كما مضى ـ أمر ارتكازي عند العقلاء بدرجة من درجات الارتكاز، كما يشير إلى ذلك تعبير الإمام (عليه السلام) بقول: «لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» سواء فرض ذلك لأجل كاشفية احتمال البقاء أكثر من احتمال الانتقاض، أو لأجل الوهم الموجود في الإنسان الدّاعي إلى الميل إلى فرض بقاء الحالة السابقة. وهذه الارتكازية تتحكّم في فهم لسان الدليل، وهذا الارتكاز بأيّ درجة كان، قويّاً كان أو ضعيفاً من الواضح جدّاً أنّه في مورد الاستصحاب السببي والمسبّبي المتعارضين إنّما يوجد في جانب الاستصحاب السببي، ولا يحسّ بأيّ مقتض في ذلك للاستصحاب المسبّبي يزاحم المقتضي الأوّل، فمثلاً لو كانت حياة زيد سبباً لمجيئه إلى المكان الفلاني كان المرتكز عقلائياً عند الشكّ في حياته هو استصحاب حياته دون استصحاب عدم مجيئه إليه. وهذا يوجب انصراف دليل الاستصحاب عن الاستصحاب المسبّبي في مثل المقام.

ومنها: ما يختصّ بأصالة الطهارة بالنسبة إلى الاستصحاب الموجود في آثار الطهارة، كاستصحاب الحدث، أو الخبث عند الوضوء، أو الغسل بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة،

559

وهو: أنّ أصالة الطهارة في الماء المستفاد من رواية: (كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر)(1)تقدّم على استصحاب بقاء الحدث والخبث بعد استعماله بالأخصّيّة ؛ وذلك لأنّ العدول عن صبّ التأمين على أثر من الآثار كجواز الشرب إلى صبّه على الطهارة التي هي موضوع لتلك الآثار يكون ظاهراً في أنّ النظر يكون إلى عدّة آثار، لا إلى أثر واحد، وفي طليعة آثار طهارة الماء رفع الحدث والخبث، إذن فلا يمكن فرض جريان أصالة الطهارة في الماء في نفسها بحكم تلك الرواية مع تقدّم استصحاب الحدث والخبث عليها، ولا يكفي فرض مورد نادر قد لا يجري فيه الاستصحاب لتوارد الحالتين.

ومنها: ما يعمّ جميع الموارد، وهو أنّ العرف بسذاجته يُسري الناقضيّة من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات.

وتوضيح المقصود: أنّ طهارة الماء ـ مثلاً ـ ثبوتاً وواقعاً لا شكّ في أنّها تنقض نجاسة الثوب، ولا تزاحمها نجاسة الثوب، فالعرف يُسري هذه الحالة من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات، فيرى أنّ إثبات طهارة الماء بأصالة الطهارة تنقض إثبات نجاسة الثوب باستصحاب النجاسة، ولا يقال: إنّ هذا البيان يأتي إذن في الأمارتين ـ أيضاً ـ إذا كانت إحداهما في جانب السبب والاُخرى في جانب المسبّب، فيجب أن تكون الأمارة الدالّة على طهارة الماء مقدّمة على الأمارة الدالّة على نجاسة الثوب، فإنّه يقال: إنّ كلاًّ من الأمارتين باعتبار حجّيّة مثبتاتها ولوازمها أمارة على السبب والمسبّب معاً، فيتعارضان.

التعليق الثالث: في الأصلين العرضيين المتعارضين.

وقد ذهبت مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) إلى أنّه إن كان أحدهما يرفع الشكّ دون الآخر كما في استصحاب النجاسة واصالة الطهارة، تقدّم عليه بالورود أو الحكومة، وإلاّ ـ كما لو كان كلاهما استصحاباً أو أصلاً ـ تعارضا، وليس لنا هنا مزيد كلام في الورود أو الحكومة غير ما عرفته فيما سبق، وعرفت بطلانهما.

نعم هنا ذكر المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) وجهاً آخر لحكومة الاستصحاب وهو: أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو الأمر بالجري العملي على طبق آثار اليقين، والنهي عن نقض آثار اليقين (وبكلمة اُخرى: تنزيل الشكّ في الانتقاض منزلة اليقين بعدمه، لا في الآثار الشرعية، بل


(1) هذا فيما لو تمّ سند حديث قاعدة الطهارة الخاصّ بالماء.

(2) راجع نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الرابع ص 109 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

560

في العمل، أي: يقول: اعمل كما كنت تعمل لو كنت متيقّناً) وهذا مطلق يشمل الأثر العملي لليقين الطريقي وهو الجري نحو الواقع المنكشف به، والأثر العملي لليقين الموضوعي كترك العمل بالاُصول المغياة بالعلم، فإنّه أثر عملي لنفس اليقين بالخلاف، فدليل الاستصحاب ناظر إلى كلّ هذه الآثار، فيكون حاكماً على تلك الاُصول بملاك النظر.

ويرد عليه ما نقّحناه في بحث الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع من أنّه بناءً على كون مفاد الاستصحاب الأمر بالجري العملي وفق اليقين، لا ينظر ذلك إلاّ إلى الجري العملي وفق اليقين الطريقي، فراجع.

وقد تحصّل بطلان الحكومة في المقام بكلّ تقريباتها الثلاثة، أعني الورود والحكومة التنزيلية والحكومة المضمونية التي قرّ بها المحقق العراقي (رحمه الله).

والصحيح: أنّ الأصلين العرضيين المتنافيين إذا كانا بدليل واحد كما في استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة في موارد توارد الحالتين، حصل التساقط والإجمال، وإذا كانا بدليلين فعندئذ إن وجدت نكتة الأخصّيّة وما يشبهها في أحدهما، قدّم، وإلاّ استحكم التعارض، فنقول:

أمّا استصحاب النجاسة مع قاعدة الطهارة فقد نقّحنا في الفقه: أنّ قاعدة الطهارة لا تجري في نفسها عند اليقين بالنجاسة السابقة، إذ دليل قاعدة الطهارة: إمّا هي الروايات الواردة في الموارد الخاصّة وهي ليس لها إطلاق لفرض اليقين بالنجاسة السابقة، وإمّا هي رواية: (كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر)، وهي مجملة؛ لاحتمال كون (قذر) بضمّ الذال وكونه فعلاً لا وصفاً، وإذا كان فعلاً دلّ على الحدوث، فإذا كان الشكّ في البقاء لا تجري القاعدة.

وأمّا الاستصحاب مع قاعدة اليد والفراغ والتجاوز، فهذه القواعد مقدّمة عليه بملاك الأخصّية لندرة موارد عدم الاستصحاب على الخلاف في موردها، مضافاً إلى ورود أدلّتها في موارد كان مقتضى الاستصحاب خلافها، فهي نصّ في مورد الاستصحاب المخالف فتقدم عليه.

وأمّا الاستصحاب مع البراءة فقد يوجد الاستصحاب ولا توجد البراءة المعارضة، وقد توجد البراءة ولا يوجد الاستصحاب المعارض، وقد يتعارضان، فالنسبة عموم من وجه، إذن فيبدو إشكال التعارض مستحكماً، إلاّ أنّ هذا لا يوجب الوقوع في مشكلة في الشبهات الموضوعية؛ إذ في الشبهات الموضوعية لا يجري استصحاب التكليف إلاّ ومعه استصحاب

561

موضوع التكليف، وهو مقدّم على البراءة بملاك تقدّم الأصل السببي على المسبّبي.

فإنّما يتصوّر الوقوع في المشكلة بالنسبة للشبهات الحكمية، والتحقيق فيها ـ أيضاً ـ تقدّم الاستصحاب. أمّا على البراءة التي تكون في عرض قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فواضح، فإنّه يتقدّم عليها دليل الاحتياط فضلاً عن الاستصحاب. وأمّا على مثل (رفع ما لا يعلمون) فلأنّه لم يتمّ عندنا دليل على البراءة المعارضة لدليل الاحتياط والاستصحاب سنداً ودلالةً، إلاّ ما كان مطلقاً، ولم يتمّ عندنا ما يكون عامّاً، ودليل الاستصحاب عامّ ؛ فإنّ كلمة (أبداً) في قوله: «لا ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» أوضح تعبير عن العموم، والعموم يقدّم على الإطلاق ما لم توجد مزيّة في الإطلاق توجب قوّته.

أضف إلى ذلك أنّ عدم قبول العرف للتفصيل في الاستصحاب المركوز في ذهنه بين موارد استصحاب الإباحة وموارد استصحاب التحريم ؛ لكون الارتكاز فيهما على حدّ سواء، وقبوله للتفصيل في البراءة بين موارد جريان استصحاب الحرمة وغيرها يجعل دليل الاستصحاب أقوى وأظهر في الشمول من دليل البراءة، ويوجب ذلك عدّ دليل الاستصحاب قرينة على رفع اليد عن دليل البراءة، ومقدّماً عليه.

ثمّ إنّه لو سلّم ما قد يقال من كون الاستصحاب ناظراً إلى إثبات الواقع ينفتح باب آخر لإثبات تقدّمه على البراءة ونحوها، ونحن نطرق هنا هذا الباب، وهو وإن لم ينفع في تقديم الاستصحاب على البراءة ونحوها ؛ لإنكار كونه ناظراً إلى إثبات الواقع، لكنّه ينفع في تقديم كلّ ما يكون ناظراً إلى إثبات الواقع من قبيل الأمارات وقاعدة اليد ونحوها، وحاصل الكلام في ذلك: أنّه قد ارتكز في ذهن المتشرّعة أنّ الشارع ليست وسيلة الإثبات عنده منحصرة في العلم، فإنّهم يعلمون إجمالاً ـ وعلى شكل إرتكاز غير محدّد الأطراف ـ أنّ ذوق الشارع في مقام الإثبات ليس على الاقتصار على العلم، وهذا الذوق كان واضحاً على الشريعة من أوائل أيّام الشرع، فلم يكن ذوق الشارع مثلاً على رفض العمل بالظواهر أو القواعد العقلائية من قبيل اليد، وهذا الارتكاز ثابت في أذهانهم وإن لم يعلموا حدود وسائل الإثبات تفصيلاً عند الشارع، وهذا الارتكاز غير المحدّد يجعل مثل دليل البراءة منصرفاً عن كون مفاده نفي سائر وسائل الإثبات عدا العلم، ويجعل عرف المتشرّعة يفهم من مثل قوله: «رفع ما لا يعلمون» أنّه بصدد رفع كلّ ما لم يعلم ولم يثبت بسائر وسائل الإثبات، إذن فكلّ ما يثبت بدليل آخر أنّه من وسائل الإثبات عند الشارع يصبح وارداً على مثل حديث الرفع، بل ما لم يثبت بدليل معتبر كونه وسيلة إثبات عنده لكن احتملنا

562

كونه كذلك، كما لو احتملنا حجّيّة الشهرة مثلاً يمنعنا ذلك عندئذ عن التمسّك راساً بحديث الرفع لنفي التكليف الذي دلّ عليه ذاك الدليل المشكوك، وهو الشهرة مثلاً، فالعلاج في مثل ذلك هو أحد أمرين:

الأوّل: إجراء استصحاب عدم جعل حجّيّة ذلك الدليل المشكوك حجّيّته.

والثاني: إجراء البراءة عن هذه الحجّيّة على ما تقدّم في محلّه من معقولية البراءة عن الأحكام الظاهرية، كالبراءة عن الأحكام الواقعية.

 

المقام الثاني: في التعارض العرضي بلحاظ مرحلة الجعل

إن الأصلين الجاريين في أطراف العلم الإجمالي لو لزمت من جريانهما مخالفة عمليّة قطعيّة فقد مضى في بحث العلم الإجمالي أنّهما يتساقطان بالتعارض، ولا يجريان، ولا يجري أحدهما على سبيل التخيير. ولو لم تلزم من جريانهما مخالفة عملية قطعية فمجرّد كونهما أصلين على خلاف العلم الإجمالي لا يوجب التساقط.

هذا كلّه مضى تحقيقه في بحث العلم الإجمالي، ولا نعيده هنا، وإنّما الذي نتكلّم عنه هنا هو: أنّه لو كان الأصلان تنزيليين من قبيل الاستصحابين مثلاً فهل كونهما تنزيليين يوجب سقوطهما في أطراف العلم الإجمالي ولو لم تلزم من مجموعهما مخالفة عملية قطعية، كما في مستصحبي النجاسة مع العلم بطهارة أحدهما، أو لا؟

قد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) في الاستصحاب: أنّ الاستصحابين يتساقطان لمحذور إثباتي، وهو: أنّ صدر الحديث يدلّ على السالبة الكلّيّة، حيث يقول: لا تنقض اليقين بالشكّ، ولكنّ ذيله يدلّ على موجبه جزئية، حيث يقول: أنقضه بيقين آخر، وهنا عندنا يقين آخر يوجب نقض أحد اليقينين السابقين بنحو الموجبة الجزئية، والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، إذن فلا يثبت جريان الاستصحاب لتعارض الصدر والذيل.

وقد أورد عليه المتأخّرون عنه تارةً بأنّنا لو سلّمنا تعارض الصدر والذيل، فلماذا لا نرجع إلى الروايات الاُخرى غير المذيّلة بهذا الذيل بعد إجمال هذا النصّ، فإنّ ما لا يكون مذيّلاً بهذا الذيل لا إجمال فيه فيؤخذ به، واُخرى بأنّنا لا نسلّم هنا التعارض والإجمال، فإن ظاهره كون اليقين الثاني متعلّقاً بنفس ما تعلّق به اليقين الأوّل لا بالجامع بينه وبين غيره.


(1) راجع الرسائل: ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

563

والمحقّق النائيني(رحمه الله) عدل عمّا يقوله الشيخ الأعظم(قدس سره) من المحذور الإثباتي إلى دعوى محذور ثبوتي في الاُصول التنزيلية التي مفادها ـ حسب ما يراه ـ جعل العلم والطريقية، وهو استحالة اجتماع أصلين منها على خلاف العلم الإجمالي(1).

وفي مقام الاستدلال على هذا المدّعى لا يستفاد من كلام التقريرين لبحثه(قدس سره)شيء زائد على تكرار المدّعى بعبائر مختلفة، إلاّ أنّه يمكن تقريب هذا الكلام بأحد بيانين:

الأوّل: أن يقال بناءً على ما بنى عليه المحقّق النائيني (رحمه الله) في تصوير جعل الطريقية من أنّ ما ليس طريقاً وكاشفاً ظنّياً يستحيل جعله طريقاً، وإنّما يعقل جعل الطريقية بمعنى أنّ ما له كشف تكويني ناقص يتمّم كشفه تعبداً: إنّ جعل الطريقية لكلا الاستصحابين في المقام غير معقول ؛ إذ يستحيل ثبوت الكشف الذاتي لهما معاً بأن يفيد كلاهما الظنّ مع أنّا نعلم إجمالاً بخلاف أحدهما.

ويرد عليه (بغضّ النظر عن النقض عليه بما لو كانت الأطراف ثلاثة أو أكثر، فعندئذ يعقل حصول الظنّ في كلّ واحد منها بعدم الانتقاض بالرغم من العلم بالانتقاض في أحدها): أنّ العبرة لو كانت بالظنّ الفعلي إذن للزم عدم حجّيّة الاستصحاب، ولا خبر الثقة عند عدم الظنّ الفعلي. وهذا ما لا يلتزم به المحقّق النائيني(قدس سره)، وإن كانت العبرة بقابليّة ما جعل طريقاً لإفادة الظنّ لو خلّي ونفسه ولو منع مانع عن فعليّة ذلك، فالأمر في المقام كذلك؛ فإنّ كلاًّ من الاستصحابين لو خلي وحده كان بالإمكان حصول الظنّ فيه على طبق الحالة السابقة.

الثاني: أنّ يقال: إنّ ما كانت حجّيّته بلحاظ حكايته عن الواقع يشترط فيه احتمال المطابقة للواقع، بمعنى احتمال المطابقة لكلتا الحكايتين ـ اذا كانت الحكاية متعدّدة ـ في عرض واحد إذا كانت حجّيّتهما في عرض واحد، لا بنحو البدلية. وفي المقام المفروض حجّيّة كلا الاستصحابين في عرض واحد، لا بنحو البدليّة، مع أنّ احتمال المطابقة في كلتا الحكايتين عرضاً غير موجود.

ويرد عليه ـ بعد إنكار كون الاستصحاب حاكياً عن الواقع ـ: أنّنا لا نقبل شرطاً زائداً في ما تكون حجّيّته على أساس الحكاية إضافة إلى أصل الشرط الموجود في كلّ الأحكام


(1) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 14 و 693 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 499.