386

 

 

 

الاستصحاب التعليقي

 

التنبيه السادس: يقع البحث في هذا التنبيه عن الاستصحاب التعليقي، والآن يكون البحث في استصحاب الحكم التعليقي في الشبهات الحكمية. وأمّا الاستصحاب التعليقي في الموضوعات فسوف نعقد له بحثاً ضمن تنبيهات هذا التنبيه إن شاء الله تعالى.

فالشك في الحكم الشرعي يُقسَّم في اصطلاح القوم بحثياً إلى ثلاثة أقسام؛ إذ تارةً يكون الشكّ في أصل جعل الحكم بقاءً وهو الذي يسمى بالشك في النسخ واُخرى يكون الجعل معلوماً، لكن يشكّ في سعة دائرة الحكم وضيقه، واحتمال أخذ قيد فيه يضيّقه، كما إذا شكّ في أنّ النجاسة للماء المتغيّر قد اُخذت فيها فعليّة التغيّر، فتكون مخصوصة بفرض وجود التغيّر، أو المأخوذ فيها هو حدوث التغير، فتكون ثابتة بعد ارتفاعه أيضاً. وهذا هو الذي يصطلح عليه بالشبهة الحكمية. وثالثة يكون أصل الجعل ودائرته وأبعاد ما اُخذ فيه كلّ ذلك معلوماً واضحاً وإنّما الشكّ في الحكم ناجم عن عدم معلومية الصغرى الخارجية، كما إذا شكّ في أنّ هذا الماء هل تغير أو لم يتغيّر، أو هل بقي تغيّره أو لم يبقَ تغيّره، فإنّ هذا الشكّ منصبّ على الموضوع والصغرى الخارجية. وهذا هو الذي يصطلح عليه بالشبهات الموضوعية.

فأنحاء الشكّ في الحكم ثلاثة بحثيّاً. وإنّما قلنا بحثياً لأنّه ربما يبرهن على أنّ القسم الأوّل وهو الشك في النسخ يرجع بشكل وآخر إلى القسم الثاني. فلا يكون قسيماً له.

وأيّا كان فموضوع كلامنا الآن هو القسم الثاني وهو الشك في الحكم من حيث سعته وضيقه الذي يسمّى بالشبهة الحكمية، فإنّه هنا تارةً يكون الشكّ باعتبار أن المكلف يشك في اعتبار قيد زائد على قيود الحكم، كما إذا شكّ في أنّ وجوب إكرام العالم مشروط بعدالته ـ ايضاً ـ أم لا، وقد كانت كلّ القيود المتيقّنة والمشكوكة ثابتة، فكان هذا الشخص بالأمس عالماً وعادلاً أمّا اليوم فقد زالت عدالته فيحصل عنده الشك في وجوب اكرامه تبعاً لأحتمال دخل العدالة. ومثل هذا الشك الحكمي يكون الاستصحاب فيه استصحاباً تنجيزيّاً، حيث إن القضية المستصحبة تنجيزية في الحالة السابقة لا تعليقية. وطوراً تكون الخصوصيات المأخوذة في موضوع الحكم متيقنها ومشكوكها غير حاصلة كلّها سابقاً، بل حصل

387

المشكوك ولم يحصل المتيّقن إلاّ بعد زوال القيد المشكوك. ففي المثال المذكور نفرض أنّ زيداً بالأمس كان عادلاً لكنه لم يكن عالماً أما اليوم الذي زالت فيه عدالته فهو عالم. ففي مثل هذا يكون المورد مورد الاستصحاب التعليقي، حيث لا قضية تنجزية، بل القضية هي أنّه لو كان قد أصبح عالماً بالأمس لوجب إكرامه جزماً لِوجدان شرائطها لحكم متيقنها ومشكوكها، فالآن ـ أيضاً ـ كذلك. فهذا هو الاستصحاب التعليقي، وأن شئت قلت في تعريفه: استصحاب الحكم عند الشكّ في بقاء الحكم المرتّب على موضوع مركب من جزئين ـ على أقلّ تقدير ـ عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدّل بعض حالاته المحتملة الدخل قبل وجود الجزء الآخر.

ولقد كان المشهور قبل الميرزا(رحمه الله)جريان هذا الاستصحاب إلاّ أنّ الميرزا(رحمه الله)قد برهن على عدم جريانه، فأصبح المشهور من بعده عدم الجريان.

وصورة هذا الاستصحاب: أنّه توجد قضية متيّقنة معلّقة هي: لو كان عالماً لوجوب إكرامه فيستصحب بقاؤها إلى الحالة الثانية، ليحكم فيها بوجوب الإكرام لتحقّق الشرط وهو العلم حسب الفرض، فيكون جريانه كجريان الاستصحاب في سائر الشبهات الحكمية.

وهذا الاستصحاب يقع مهمّ البحث فيه وفي مناقشاته في مقامين:

أحدهما: يبحث فيه عن أصل جريانه وتماميّة أركانه.

والثاني: يبحث فيه عن وجود معارض له وعدم وجوده.

ولنشرع في كل من المقامين تفصيلاً:

 

تمامية الأركان في الاستصحاب التعليقي

المقام الأوّل: في تمامية الأركان في الاستصحاب التعليقي.

ومنطلق الإشكال في هذه النقطة أنّه لا يقين بالحدوث كي يجري الاستصحاب، وثمّة عبائر للميرزا(رحمه الله) يبدو على ملامحها في توضيح هذا الإشكال أنّ الاستصحاب يشترط فيه أن يكون المستصحب أمراً في صفحة الوجود، ومربوطاً بلوح الوجود وعالمه، وهذا ليس شيئاً في صفحة الوجود كي تكون الحالة السابقة موجودة.

ومن الواضح أنّ هذا الكلام باطل، فإنّه لا يشترط في الاستصحاب سوى حالة سابقة يتعقّل تعلّق اليقين بها،سواء كانت من لوح الوجود أو من لوح الواقع الذي هو أوسع من

388

الوجود، والذي تدخل فيه الملازمات، وما يشابهها، فإنّ الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم مثلاً أمر واقعي صالح لتعلّق اليقين به على حدّ الموجودات. إذن فهذه العبائر ليست إلاّ ضرباً من المسامحة في التعبير، ولا يراد بها واقع المطلب، وإنّما المراد الواقعي أنّنا لا نكتفي في الاستصحاب بمجرّد اليقين بالحدوث، بل لا بدّ أن يكون متعلّق اليقين أمراً يحمل حكماً وأثراً شرعياً عملياً لكي يجري الاستصحاب بلحاظه، والمدّعى: أنّ المقام لا يوجد فيه يقين بقضية حادثة لها أثر شرعي عملي حتّى يجري فيها الاستصحاب، فاليقين بالحدوث بالنحو الذي هو شرط في الاستصحاب وركن فيه غير موجود في الاستصحابات التعليقية.

ولتوضيح هذا البيان نقول:

هنالك أمران تشريعيان في نظر الميرزا(رحمه الله):

أحدهما: الجعل، وهو القضية الحقيقة التي يعتبرها الشارع ويفرض فيها الموضوع موضع التقدير ليحكم عليه بالمحمول على ذلك التقدير. وهكذا الحال في القضايا الحقيقية الاُخرى غير الجعلية أيضاً.

والثاني: المجعول، وهي القضية الفعلية التي تتحقّق حينما يتحّقق الموضوع فعلياً في الخارج حيث تكون فعلية الموضوع بتمام شرائطه واجزائه موجباً لفعلية المحمول أيضاً، وبذلك تتكون قضية فعلية منجّزة.

وفي المقام إن اُريد استصحاب الأمر التشريعي الأوّل وتسميته بالاستصحاب التعليقي، فهذا جوابه: أنّه لا شكّ في بقاء تلك القضية الحقيقة المجعولة من قبل الشارع؛ إذ المفروض عدم احتمال النسخ ـ ولو فرض ذلك كان من استصحاب عدم النسخ وهو استصحاب تنجيزي ـ. وإن اُريد استصحاب الأمر التشريعي الثاني، وهي القضية الفعلية في الخارج، فهذا وإن كان الشك فيه موجوداً غير أنّ اليقين بالحدوث غير متحقّق بالنسبة إليه؛ إذ لم تكن الخصوصيات والقيود المأخوذة من الحكم كلّها قد تحقّقت في السابق حدوثاً كي يصبح الحكم فعلياً أيضاً.

إذن فبلحاظ أحد الأمرين التشريعيين وهو الجعل لا شكّ في البقاء، وبلحاظ الأمر الثاني وهو المجعول لا يقين بالحدوث، وليست لدينا هنا قضية تشريعية اُخرى غيرهما.

نعم، هنالك قضية ثالثة قد تمّ فيها اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء، وهي القضية التعليقية القائلة بأنّ زيداً لو كان عالماً بالأمس لوجب إكرامه، فإنّنا على علم بهذه الشرطية بالنسبة للسابق، وعلى شكّ منها في الوقت الحاضر، غير أنّ هذه القضية لا جدوى في تعلّق

389

اليقين والشك بها على اعتبار أنّها قضية عقليّة، وليست شيئاً من القضيتين التشريعيتين، أمّا أنّها ليست الثانية فواضح، فإنّها فعلية، وهذه تعليقية، وأمّا أنّها ليست الاُولى فلأنّ القضية الشرعية الجعلية والتي نسمّيها بالقضية الحقيقية ليس التعليق فيها على العلم في المثال فحسب، وإنّما التعليق فيها على كلّ الخصوصيات والقيود المأخوذة في موضع الحكم، لأنّ الحكم يرتّب على مجموع ما اعتبر دخيلاً، فتلك هي القضية التعليقية. ولهذا لم نكن في شكّ من جهتها. وأمّا هذه القضية التعليقية فهي قضية عقلية منتزعة في طول جعل القضية الحقيقيّة من قبل الشارع، فإنّه حيث علم أنّ العلم دخيل في الموضوع، وعلم أنّ زيداً في الحالة السابقة كانت الشرائط والقيود حتى المحتملات منها قد تحقّقت في حقّه عدا هذا القيد المتيّقن وهو العلم، فكان هو الجزء الأخير من القيود، هنالك حكم العقل بأنّ هذا الجزء لو تحقق ترتّب عليه الحكم؛ لأنّ الحكم يترتّب حيث تتمّ شرائطه وقيوده. وعليه فلا معنى لإجراء الاستصحاب بلحاظ هذه القضية الثالثة.

هذه هي الصورة التي تفهم من كلام الشيخ النائيني لإبطال جريان الاستصحاب التعليقي.

يبقى بعد ذلك أن نستعرض أهمّ المناقشات التي اُثيرت حول مقالة الميرزا(رحمه الله)هذه لنرى كيف أنّها انحرفت في فهمها المقصود للميرزا(رحمه الله) فأطالت عليه بالنقد والنقاش.

فنقول: ربما يناقش كما ناقش المحقّق العراقي(قدس سره)(1) في هذا البيان بأنّ الاستصحاب لو كان يشترط في جريانه وجود موضوع ومحمول في الخارج، بحيث يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود، وقلنا: إنّ هذا لا يكون إلاّ بعد فعلية الموضوع فكيف يجري استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل مع أنّه ـ أيضاً ـ ليس أمراً في صفحة الوجود لعدم فرض فعلية الموضوع.

وكأنّ هذا الإشكال مبنيّ على تصوّر أنّ الميرزا(رحمه الله)يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب أمراً خارجيّاً وجوديّاً، لكنّه قد اتّضح أنّه لا يقصد هذا المعنى، وإنّما مقصوده ما ذكرناه من أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون أمراً يعقل تعلّق اليقين به، ويكون قضيّة يترتّب عليها أثر عملي، وهنا لا توجد إلاّ قضايا ثلاث: إحداها: القضية الحقيقة الجعليّة. وهي لا شكّ في بقائها. والثانية: القضية الفعلية الخارجية. وهي لا يقين بحدوثها.


(1) راجع نهاية الافكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 168.

390

والثالثة: قضية عقلية لا معنى للاستصحاب بلحاظها.

فهذا النقض من قبل المحقق العراقي (قدس سره) على مقالة الميرزا(رحمه الله) لا محصّل له.

وأغرب منه نقض آخر أورده أيضاً(1) حاصله: أنه لو كان الموضوع يشترط فعلية وجوده حتّى يجري استصحاب الحكم فكيف يجري الفقيه استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية الكلّيّة دون أن يكون ثمّة موضوع في الخارج، فهو يجري استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيره قبل أن يجد ماءً في الخارج قد تغيّر برهة من الزمن، ثمّ زال عنه تغيّره، بل يكتفي في ذلك بفرض ماء، وفرض تغيّره، وأنّه على ذلك التقدير كان يتنجس، فبعد زواله ـ أيضاً ـ باق على نجاسته، ولو لا كفاية فرض الحالة السابقة لما جرى الاستصحاب عند الفقيه إلاّ في موارد نادرة لا تأتي في الحسبان.

وهذا الكلام غريب جداً، فإنّ ثمّة أمرين: أحدهما: أن المستصحب ينبغي أن يكون قضيّة فعلية لا تعليقية، كي يُسرّى إلى الحالة الثانية اللاحقة. والثاني: أنّ هاتين الحالتين السابقة المتيّقنة واللاحقة المشكوكة هل يجب إحرازهما بالنظر التصديقي، بأن يكونا في الخارج بالفعل، أو يكفي للمجتهد أن يلحظهما بالنظر التصوّري، والمختار المشهور عند المحقّقين أنّ النظر التصوّري كاف في جريان الاستصحاب، ولا يحتاج إلى إحراز للحالتين السابقة واللاحقة بالنظر التصديقي، بأن يقعا في الخارج بالفعل. ولقد بيّنا فيما سبق من المباحث ـ عند البحث عن التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية ـ النكتة الفنيّة في كفاية النظر التصوّري. وعليه فكفاية فرض الحالة السابقة المتيّقنة واللاحقة المشكوكة لجريان الاستصحاب بشأن الحالة الثانية شيء وإثبات حكم بالاستصحاب على شيء لاحقاً لفعلية قيد فرض تعليق الحكم عليه سابقاً شيء آخر. ففي الأوّل الحالة السابقة محفوظة ولو بالنظر التصوّري على شكل القضية الفعلية لا التعليق على أمر مفروض الفقدان، وفي الثاني ليس الإشكال كون الحالة السابقة مجرّد حالة فرضية وتصويرية كي ينقض بموارد استصحاب الفقيه في الشبهات الحكمية، بل الإشكال هو أنّ القيد المعلّق عليه الحكم لو اُخذ في نفس عالم التصوّر والفرض الثابت للفقيه في سائر موارد الاستصحاب في الشبهات الحكمية مفروض الوجود، بأن فرض في تصوّر الفقيه أنّ زيداً كان عالماً مثلاً في زمان عدالته فإذن أصبح الاستصحاب استصحاباً لحكم تنجيزي لا لحكم تعليقي، وهذا خارج عن محل


(1) راجع نفس المصدر.

391

الكلام. ولو لم يؤخذ هذا القيد في الحالة السابقة حتّى بالنظر التصوّري فبقي الحكم بلحاظ الحالة السابقة تعليقياً واُريد إثبات الحكم في الحالة اللاحقة التي فقدت قيداً آخر كان مفروض الوجود في الحالة السابقة ومحتمل الدخل في الحكم وهو العدالة، فهذه الحالة ليست لاحقة لتلك الحالة، أي: لا توحّد بين القضية المشكوكة والمتيّقنة، والقضية المتيقنة لا زالت متيّقنة، والمشكوكة كانت مشكوكة من أوّل الأمر، وإن جعل مصبّ الإشارة نفس هذا الوجود الخارجي وقيل: إنّ هذا لو كان بالأمس عالماً لوجب إكرامه والآن كما كان، فقد توحّدت القضية المتيّقنة والمشكوكة، ولكن هذه قضية عقلية انتزاعية.

ولعمري إنّ الفرق بين مورد كلام الشيخ النائيني(رحمه الله) ومورد نقض الشيخ العراقي(رحمه الله)واضح، وكأنّه اشتباه نشأ من الخلط بين التقديرية الموجودة في القضية الحقيقية المجعولة على موضوع مقدّر الوجود والتقديرية في نظر الفقيه في استصحاب الحكم الكلّي.

ثمّ إنّ السيد الحكيم(رحمه الله)اختار في المستمسك(1) التفصيل بين ما لو قال المولى مثلاً: (العنب الغالي يحرم) أو قال: (العنب إذا غلى يحرم) فذكر: أنّ القيد إذا كان راجعاً إلى الموضوع لم يجرِ الاستصحاب، وإذا كان راجعاً إلى الحكم جرى الاستصحاب، وذكر في وجهه: أنّه إذا كان راجعاً إلى الموضوع لم يجرِ الاستصحاب باعتبار عدم حصول اليقين بالحكم. وأمّا إذا كان راجعاً إلى الحكم دون الموضوع فقد حصل اليقين بالحكم. ولا يقال: إنّ الشيء الثابت إنّما هو الجعل، ولم يتحقّق للحكم ثبوت في مرحلة الوجود الخارجي بلون من الألوان، فإنّ هذا تفكيك بين الجعل والمجعول، بأن يوجد الجعل ولا يوجد المجعول إلاّ متأخراً عن الجعل، وهذا مستحيل، فإنّهما متلازمان.

وذكر: أنّ المحقق النائيني(رحمه الله)قال بعدم جريان الاستصحاب التعليقي مطلقاً من باب أنّ القيد دائماً يرجع إلى الموضوع وإن كان بحسب الظاهر قيداً للحكم، فالقضية الشرطية مرجعها إلى القضية الحملية، والشرط يرجع إلى الموضوع، حيث برهن على أنّ انفكاك الحكم عن الموضوع وتأخّره عنه محال، فلو فرض قيد للحكم دون الموضوع كان هذا معناه تأخّر الحكم عن الموضوع وعدم وجوده عند وجوده حينما يكون ذلك القيد مفقوداً.

وذكر في مقام الردّ على هذا الذي نسبه إلى المحقّق النائيني(رحمه الله): أنّه إن كان يقصد برجوع قوله (العنب إذا غلى يحرم) إلى قوله (العنب الغالي يحرم) أنّه عبّر عن القضية الحملية بلسان


(1) راجع المستمسك: ج1، ص415 ـ 419 بحسب الطبعة الرابعة بمطبعة الآداب في النجف الأشرف.

392

القضية الشرطية من باب المجاز، أو الكناية والمسامحة في التعبير ونحو ذلك، فهذا خلاف ظاهر الكلام بلا قرينة، وإن قصد بذلك أنّ روح هذه العبارة ترجع إلى تلك العبارة وأنّهما في الروح واحد ببرهان عقلي، فليكن هذا صحيحاً، وليكن البرهان تامّاً، ولتكن روح القضيتين واحدة، لكن هذا لا دخل له بجريان الاستصحاب وعدمه، فإنّه في جريان الاستصحاب ينظر إلى نفس القضية التشريعية، لا إلى مآلها ومرجعها بحسب الروح، فمثلاً لو قال المولى: (إن كان شهر رمضان فصم) جرى استصحاب بقاء شهر رمضان عند الشك فيه، ووجب الصوم، وأمّا إن قال: (صم في شهر رمضان) لم يجرِ استصحاب بقائه ؛لأنّ ذلك لا يُثبت كون الصوم في شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، في حين أنّ روح القضيتين واحدة.

أقول: إنّ ما ذكره في المستمسك توجد فيه مواقع للنظر:

فأوّلاً: يرد عليه: أنّه لو تمّ ما ذكره من البرهان على جريان الاستصحاب إذا كان القيد راجعاً إلى الحكم من استحالة انفكاك المجعول عن الجعل، لم يفرّق فيه بين فرض رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع، فإنّه عند رجوع القيد إلى الموضوع ـ أيضاً ـ يكون الجعل ثابتاً حين إنشاء القضية، فيكون المجعول ثابتاً لاستحالة الانفكاك بينهما.

وثانياً: يرد عليه: أنّه لو فرض عدم جريان الاستصحاب التعليقي إذا رجع القيد إلى الموضوع، وفرض برهان على رجوع القيد دائماً إلى الموضوع، فلا بدّ من القول بعدم جريان الاستصحاب التعليقي دائماً، ولا معنى لقوله: إن الاستصحاب تلحظ فيه نفس القضية التشريعية دون مآلها بحسب الروح، فإنّ القضية التشريعية التي يدور مدارها الاستصحاب ليست إلاّ المفاد الشرعي الذي يستفاد من الكلام بماله من القرائن الحالية والمقالية والعقلية المتصلة والمنفصلة. والبرهان العقلي على رجوع القيد إلى الموضوع قرينة على صرف القضية عن ظاهرها، وهي الشرطية إلى الحملية وقياس المقام بمثال (إن كان شهر رمضان فصم) و(صم في شهر رمضان) قياس مع الفارق، فإنّ هاتين القضيتين مفاد إحداهما غير مفاد الاُخرى، ولا توجد أيّ قرينة لإرجاع إحداهما إلى الآخرى. ومعنى وحدتهما في الروح ليس إلاّ وحدتهما في النتيجة العملية، أي: إنّ المكلّف على أيّ حال يصوم في شهر رمضان لا في شهر شعبان أو شوال مثلاً.

وثالثاً: يرد عليه: أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)لا يقول بما نسبه إليه، ولم يذكر أيّ برهان على رجوع قيد الحكم إلى قيد الموضوع، وكيف يقول برجوع قيد الحكم إلى قيد الموضوع مع أنّه

393

هو الذي يرى الميزان في باب المفاهيم كون القيد راجعاً إلى الحكم أو إلى الموضوع، فإذا كان القيد راجعاً إلى الحكم كانت القضية ذات مفهوم، وإذا كان راجعاً إلى الموضوع وكانت القضية وصفية أو لقبية فلا مفهوم لها؟! فلو أرجع كلّ القيود إلى الموضوع لا نسدّ عنده باب المفاهيم رأساً، مع أنّه ليس كذلك.

صحيحٌ أنّه هو يسمّي كل القيود بقيود الموضوع، لكنه لا يقصد بالموضوع ما قصده به السيد الحكيم(رحمه الله)في المستمسك، ممّا هو معروض الحكم من قبيل الماء بالنسبة للطهارة أو النجاسة، أو من قبيل العالم بالنسبة لوجوب الإكرام، وإنما يقصد بذلك القيود المقدّرة الوجود التي رتّب عليها حكم مقدّر الوجود، ويصبح الحكم فعلياً بصيرورتها فعلية، توضيح ذلك: أنّه(رحمه الله)يرى أنّ الأحكام مجعولات ومخلوقات للمولى لا للأسباب الشرعية من قبيل زوال الشمس وغروبها مثلاً؛ إذ لا يتعقّل كونها مخلوقة لها إلاّ بناءً على دعوى أنّ الشارع أعطى لها السببية فأصبحت سبباً للحكم حقيقةً، فحينما تزول الشمس مثلاً يكون زوالها سبباً للحكم فيوجد الحكم، ولكن جعل السببية محال، إذن فالمولى هو الذي يوجد هذه الأحكام مباشرةً، ثم هنا طريقان لتصوير إيجاد المولى لها:

أحدهما: أن يفترض أنّه متى ما يوجد مصداق للموضوع بحسب الخارج يجعل المولى الحكم على طبقه ويوجده، وهذا وإن كان ممكناً عقلاً لكنه غير محتمل خارجاً.

والثاني: أنّه يُنشي من أوّل الأمر حكماً مقدّر الوجود على موضوع مقدّر الوجود، ويصبح الحكم فعلياً متى ما أصبح الموضوع فعلياً.

هذا ما يقوله المحقّق النائيني(رحمه الله) فكلّما يكون دخيلاً في الحكم بمعنى أخذه مقدّر الوجود، ودخل فعليته في فعلية الحكم يسمّيه موضوع الحكم، وأيّ ربط لهذا بما ذكره في المستمسك من رجوع قيد الحكم إلى قيد الموضوع بالمعنى المقصود لصاحب المستمسك؟!

والمحقّق النائيني(رحمه الله)يقول في كلماته: إنّ القضية الحملية ترجع إلى القضية الشرطية، ويقصد بذلك بيان كون الموضوع مقدّر الوجود، فحيث إنّ الشرط يكون بمعنى التقدير، وتكون التقديرية في القضية الشرطية بارزة وفي القضية الحملية مستترة يُرجع القضية الحملية إلى القضية الشرطية، ولم يذكر أبداً كون القضية الشرطية راجعة إلى القضية الحملية إلاّ في مقام تأكيد العكس، أعني: رجوع القضية الحملية إلى الشرطية واتّحادها معها.

ثمّ إنّنا نذكر تعميقاً لفهمنا لما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)من الوجه في عدم جريان الاستصحاب التعليقي اُموراً:

394

الأوّل: إنّ المحقق النائيني(رحمه الله)ذكر في مقام بيان عدم جريان الاستصحاب أنّ قيود الحكم ترجع إلى الموضوع، فقبل تحقّقها لا تحقُّقَ للحكم حتى يستصحب(1) فكأنّما يبدو من هذا الكلام أنّه لو لم ترجع قيود الحكم إلى الموضوع جرى الاستصحاب، وأنّه ذكر(رحمه الله)رجوع القيود إلى الموضوع دفعاً لفرضية لو تمت لجرى الاستصحاب التعليقي، فما هي تلك الفرضية؟

فنقول: لو كان المقصود بما جاء في هذا الكلام من كلمة الموضوع وقيود الحكم ما مضى عن المستمسك إذن يستفاد منه ما نسبه إليه في المستمسك من التفصيل بين ما لو كان القيد راجعاً إلى الحكم أو راجعاً إلى الموضوع، مع دعوى رجوع القيد دائماً إلى الموضوع، ولكن قد مضى أنّه ليس مقصوده(رحمه الله)ذاك المعنى من الموضوع وقيود الحكم وإنّما يقصد بالموضوع القيود المقدّرة الوجود التي قدّر عليها الحكم.

وقد فهم تلميذه المقرّر الكاظمي(رحمه الله)من كلامه أنّ المقصود هو التحرّز عن مبنى كون الأحكام مجعولة للأسباب الشرعية لا للمولى بنحو القضية الحقيقية المجعولة على القيود المقدّرة الوجود. ولهذا اعترض(رحمه الله)عليه تحت الخط بأنّه لا فرق بين ما إذا قلنا بأنّ الحكم مجعول للمولى بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المقدر الوجود أو قلنا بأنّه مجعول للأسباب الشرعية، فإنّه على الثاني ـ أيضاً ـ ليس للحكم وجود قبل وجود السبب حتّى يستصحب.

أقول: لو كان مقصود المحقّق النائيني(رحمه الله)ما ذكره المقرّر الكاظمي(رحمه الله)فبالإمكان أن يدفع إشكال المقرّر بأن يقال: إنّ المحقق النائيني(رحمه الله)أبطل فرضية استصحاب القضية التعليقية بأنّها عقلية؛ إذ تارةً يفرض استصحاب جعل الحكم، واُخرى يفرض استصحاب الحكم الفعلي، وثالثة يفرض استصحاب القضية التعليقية. فالمحقق النائيني(رحمه الله)أبطل الأوّل بعدم الشكّ في البقاء، والثاني بعدم اليقين بالحدوث، والثالث بأنّها قضية عقلية. أمّا لو قلنا بأنّ الأحكام مجعولة للأسباب وأنّ الشارع جعلها أسباباً، إذن فالقضية التعليقية ليست عقلية، بل هي شرعية، فلا يتمّ تقريب المحقّق النائيني(رحمه الله).

نعم، بالإمكان أن يُذكر تقريب آخر لإبطال الاستصحاب، لكنّ المقصود أنّ التقريب الذي جاء به المحقّق النائيني(رحمه الله)يتوقّف على أن لا يفترض أنّ الأحكام مجعولة للاسباب وأنّ


(1) راجع فوائد الاُصول: الجزء الرابع ص171 بحسب الطبعة التي هي من منشورات مؤسسة النصر ومكتبة الصدر، وص467 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

395

الشارع جعلها أسباباً.

إلاّ أنّني أظنّ أنّ مقصود المحقّق النائيني(رحمه الله) لم يكن هو الاحتراز عن مبنى جعل السببية، وكون الأحكام مجعولة لتلك الأسباب، بل مقصوده هو الاحتراز عمّا يقوله المحقّق العراقي وصاحب المستمسك من ثبوت الحكم بالفعل قبل وجود تلك القيود، فلو قيل بذلك بأيّ بيان من البيانات كأن يقال مثلاً بأنّ القيد في الحقيقة إنّما هو الوجود اللحاظي في نفس المولى، وهو فعليّ كما قال بذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله)في مقام تصوير الشرط المتأخر، إذن فما دام أنّ الحكم كان ثابتاً بالفعل جرى استصحابه.

وأمّا أنّ هذا الكلام هل هو صحيح كتقريب لجريان الاستصحاب في المقام أو لا فسيأتي الحديث عنه ـ ان شاء الله ـ.

الثاني: أنّ الإشكال على استصحاب القضية التعليقية المذكور في تقرير الشيخ الكاظمي(1) وفي أجود التقريرات(2) هو أنّ القضية التعليقية عقلية، إلاّ أنّ الشيخ الكاظمي اختصّ بذكر إشكال آخر(3) أيضاً، وهو: أنّ القضية التعليقية مقطوعة البقاء، فإنّنا نعلم الآن ـ أيضاً ـ أنّ العنب إذا غلى يحرم، وأنّه مهما انضمّت القيود بعضها إلى بعض ثبت الحكم.

وهذا الإشكال لا يرد حينما نريد إجراء الاستصحاب بعد العلم بوجود الزبيب خارجاً؛ لأنّنا نشير إلى هذا الوجود الخارجي ونقول: هذا الوجود كان سابقاً إذا غلى يحرم، ونعلّق الحرمة في هذا الكلام على غليانه فحسب دون عنبيّته؛ لأنّ عنبيّته سابقاً مقطوع بها. ومن الواضح أنّ حرمة هذا الوجود الآن على تقدير غليانه مشكوكة وليست مقطوعاً بها.

نعم، يرد هذا الإشكال على استصحاب الفقيه قبل وجود الموضوع خارجاً، فإنّه عندما يتصوّر زبيباً فرضيّاً يضطّر أن يأخذ في طرف المعلّق عليه العنبيّة والغليان معاً كي يفرض القطع بالحرمة حدوثاً، ومع افتراض ذلك معلّقاً عليه تكون الحرمة مقطوعة بقاءً أيضاً.

ولعلّ النظر في الإشكال كان إلى هذا النحو من إجراء الاستصحاب.

الثالث: قد عرفت أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)ذكر ثلاث فرضيات:

1 ـ استصحاب جعل الحكم.

2 ـ استصحاب الحكم الفعلي.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج4، ص469 بحسب طبعة جماعة المدرسين.

(2) راجع أجود التقريرات: ج2، ص412.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج4 ص469 بحسب طبعة جماعة المدرسين.

396

3 ـ استصحاب القضية التعليقية.

وأبطل الأوّل بالعلم بالبقاء، والثاني بعدم العلم بالحدوث والثالث بأنها قضية عقلية.

ثمّ ذكر بعد انتهائه من هذه الفروض فرضية، وهي استصحاب السببية وناقشها(1). وقد يقال: إنّ هذه هي عين الفرضية الثالثة وهي استصحاب القضية التعليقية، فما معنى ذكرها مستقلاًّ ومناقشتها؟

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه تارةً يقصد بالسببية تلك الحالة الثابتة حتى في زمان عدم وجود السبب ولا المسبب. وهذا مرجعه إلى القضية التعليقية فيتسجّل ما عرفته من الإشكال، وهو: أنّه لا معنى لذكرها كفرضية رابعة. واُخرى يقصد بها السببية بمعنى التأثير الفعلي الذي لا يتحّقق إلاّ بعد تحقّق تمام السبب خارجاً، وهذا يكون فرضية رابعة. والذي يناسب تقرير الكاظمي(رحمه الله)هو الأوّل، حيث إنّه اعترف بأنّ السببية كانت موجودة حدوثاً، وذكر في مقام مناقشة استصحابها أنّها عقلية وأنها متيّقنة البقاء، والذي يناسب أجود التقريرات هو الثاني، حيث إنّه اعترض على استصحاب السببية بأنّه إن قصد استصحاب جعل السببية فهو مقطوع البقاء لعدم احتمال النسخ، وإن قصد استصحاب السببية الفعلية فهي فرع تحقق السبب خارجاً بتمام قيوده وأجزائه، فهي ليست متيّقنة الحدوث.

وبعد أن عرفنا كلام المحقق النائيني(رحمه الله)في مقام إبطال الاستصحاب التعليقي نشرع في تمحيصه، ونعقد الكلام في ذلك في مقامين:

الأوّل: في ما هو المختار عندنا من مناقشته، وهي مناقشة في إطلاق كلامه لا في أصل كلامه، فيثبت بها التفصيل في جريان الاستصحاب التعليقي.

والثاني: في مناقشات اُخرى لو تمّت لأبطلت أصل كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)لا إطلاقه.

أما المقام الأوّل: فالمدعى في المقام هو التفصيل بين ما لو كان كل قيود الموضوع في عرض واحد، أو كان بعضها مأخوذاً في موضوع بعض، فلا يجري الاستصحاب في الأوّل، ويجري في الثاني.

وتوضيح المقصود: أنّنا نوافق على رجوع قيود الحكم إلى الموضوع، وأقصد بالموضوع ما هو مصطلح المحقّق النائيني(رحمه الله)من القيود المأخوذة في الحكم مقدّرة الوجود المحكوم عليها


(1) راجع فوائد الاُصول: ج4 ص471 و472 بحسب طبعة جماعة المدرسين، وأجود التقريرات: ج2، ص412 ـ 413.

397

بنحو القضية الحقيقية، لا الموضوع بالمعنى الذي مضى عن صاحب المستمسك، ولكن ليس هناك برهان يقتضي كون تلك القيود مأخوذة كلّها في عرض واحد، بل قد يؤخذ قيد في موضوع تقدير القيد الآخر. فتارةً يقول: (العنب الغالي يحرم)، أو يقول: (إذا كان العصير عنباً وكان غالياً يحرم) فقيد العنبيّة والغليان يكونان في عرض واحد، ومرجع القضية الاُولى إلى القضية الثانية لرجوع القضايا الحملية إلى القضايا الشرطية كما ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله) فحينما يقول (العنب الغالي يحرم) كأنما قال: (إذا كان عنبٌ وكان غالياً يحرم)، فكلّ من قيد العنبية وقيد الغليان مقدّر في عرض تقدير الآخر.

واُخرى يفرض أحد القيدين موضوعاً لتقدير القيد الآخر وذلك: إمّا بأن يذكر القيد الثاني بنحو القضية الشرطية المحمولة على القيد الأوّل، بأن يقول: (العنب إذا غلى يحرم) أو بأن يذكره لا بنحو الشرط، بل بنحو القيد، يجعله في قضية محمولة على القيد الأوّل بأن يقول مثلاً: (العنب يحرم الغالي منه) ففي القسم الأوّل وهو ما كان القيدان في عرض واحد لا يجري الاستصحاب، وفي القسم الثاني يجري.

وهذا التفصيل يختلف عن التفصيل بين فرض أخذ القيد الثاني بلسان القضية الشرطية وأخذه بلسان القضية الحملية الذي مضى نقله عن المستمسك، فمفروض هذا التفصيل هو إلحاق مثل قوله: (العنب يحرم الغالي منه) بقوله: (العنب الغالي يحرم) ومفروض تفصيلنا هو الحاق ذلك بقوله: (العنب إذا غلى يحرم).

وقد اختار السيّد الطباطبائي اليزدي(رحمه الله) في باب الاستصحاب التعليقي التفصيل الذي مضى عن المستمسك، أعني التفصيل بين ما لو أخذ القيد الثاني بلسان القضية الشرطية المحمولة على القيد الأوّل فقال مثلاً: (العنب إذا غلى يحرم) جرى الاستصحاب، ومتى ما اُخذ بلسان القضية الحملية لم يجرِ الاستصحاب.

وذكر في وجه ذلك: أنّه لو اُخذ القيد الثاني بلسان القضية الشرطية فهذا يعني جعل الملازمة؛ لأنّ القضية الشرطية مفادها الملازمة بين الشرط والجزاء، فتصبح الملازمة شرعية وتستصحب، ولو اُخذ بلسان القضية الحملية فهذا جعل للمحمول على الموضوع والملازمة لا تكون إلاّ عقلية انتزاعية(1).


(1) راجع رسالة السيّد الطباطبائي اليزدي(رحمه الله)في منجزات المريض المطبوعة في ملاحق تعليقته على المكاسب ص17.

398

وهذا البيان يرد عليه: أنّه إن قصدت به مجعوليّة الملازمة وشرعيّتها مباشرةً، فهذا غير معقول مطلقاً، فإنّ الملازمة من الاُمور التكوينية لا التشريعية، وإن قصدت به شرعيّتها باعتبار شرعيّة منشأ انتزاعها، فهذا ثابت حتّى في القضية الحملية ولو كان بلسان: (العنب الغالي يحرم).

وأمّا التفصيل الذي نحن نتبنّاه فهو: أنّه لو كان القيد الثاني الذي لم يوجد في الزمان السابق ثمّ وجد بعد طروّ تغيّر على حالة القيد الأوّل مأخوذاً مع القيد الأوّل في عرض واحد، كأن يقول: (العنب الغالي يحرم) أو يقول: (العصير إذا كان عنباً وكان غالياً يحرم) لم يجرِ الاستصحاب، ولو كان القيد الأوّل مأخوذاً بعنوان الموضوع لتقدير القيد الثاني سواءً كان بلسان قضية شرطية محمولة على القيد الأوّل كقوله: (العنب إذا غلى يحرم) أو بلسان قضية حملية محمولة عليه كقوله: (العنب يحرم الغالي منه) جرى الاستصحاب.

وإذا أردنا أن نتكلّم بلغة الشيخ النائيني(رحمه الله)الذي يقول: هل يستصحب الجعل أو المجعول أو التعليقية العقلية الانتزاعية؟ قلنا: نستصحب المجعول، وقول الشيخ النائيني(رحمه الله): إنّ المجعول لم يكن فعلياً لعدم الغليان مثلاً إنّما يأتي فيما إذا كان الغليان مع العنبية مثلاً قيدين في عرض واحد، فلا يوجد عندئذ إلاّ حكم واحد وهو الحرمة وموضوعه العنب الغالي، وهذا الحكم لم تفترض فعليّته لعدم افتراض الغليان. أمّا إذا كان الغليان مأخوذاً كموضوع أو كشرط للحرمة، وكان العنب مأخوذاً في موضوع القضية التي كان موضوعها أو شرطها الغليان، كما لو قال: (العنب يحرم الغالي منه) أو قال: (العنب إذا غلى يحرم) ففي الحقيقة يوجد في المقام حكمان، أو قل: قضيّتان: إحداهما: قضيّةٌ أمّ، وهي: (إذا غلى يحرم) أو (يحرم الغالي منه) وقد جعلت هذه القضية على العنب. والثانية: قضّيةٌ بنت وهي: (يحرم) وقد جعلت على الغليان، والثانية هي التي لم تفترض فعليّتها لعدم افتراض فعلية موضوعها، وهو الغليان، ولكنّ الاُولى افترضت فعلية لافتراض فعلية موضوعها، وهو العنب، فنحن نستصحب القضيّة الأُمّ أو الحكم الأُمّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ هذا البيان يستنبط من كلام الشيخ الإصفهاني(رحمه الله)بفرق أنّه(رحمه الله)لم يوضّح أنّ الأمر الذي هو جزء من القضية الأُم وربطت به القضية البنت قد يكون على شكل الموضوع في القضية الحملية، ومحموله القضية البنت. واُخرى يكون على شكل الشرط، وجزاؤه القضية البنت.

ولولا أنّه(رحمه الله)اعتقد بوجود وجه آخر لحلّ مشكلة الاستصحاب التعليقي زائداً على هذا الوجه، وأنّ ذاك

399

وليس هذا رجوعاً إلى استصحاب الملازمة كما يظهر ذلك بالالتفات إلى استصحاب الجعل في الشكّ في النسخ، فإنّ المستصحب هناك نفس القضية التي هي شرعية وهي: (يحرم البول) مثلاً لا الملازمة بين الحرمة والبول غير القابلة للجعل شرعاً، والمنتزعة من الجعل.

ولا فرق في تماميّة ما ذكرناه من التفصيل بين ما لو تصورنا استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية بمعنى استصحاب الفعلية التي لا تكون في مسلك الشيخ النائيني إلاّ بعد تحقّق الموضوع خارجاً، ولازمه أنّه لا يمكن للفقيه إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية ما لم يعشْ تحقّق الموضوع خارجاً، أو تصورناه بمعنى استصحاب المجعول الذي قلنا في تحقيق سابق لنا: إنّه عين الجعل، ولكن منظوراً إليه بالعنوان الأوّلي لا بالحمل الشائع، وإنّه ليست لنا فعليّة وراء ذلك بفعلية الموضوع.

وقد مضى تفصيل ذلك في محلّه، وإجماله: أنّ الفرق بين الجعل والمجعول إنّما هو بالاعتبار، فالمولى حينما يجعل مثلاً نجاسة البول فهذا بعنوانه الأوّلي وبمنظار الحمل الأوّلي نجاسة مستندة إلى البول، وبالحمل الشائع ليست نجاسة، بل هي حالة مستندة إلى المولى، وجزء من المولى، فهو بالاعتبار الأوّل مجعول، وبالاعتبار الثاني جعل. وإذا جعل المولى نجاسة الماء المتغيّر فهذا بعنوانه الأوّلي نجاسة عارضة على الماء المتغيّر، يستصحب الفقيه بقاءها بعد فرض زوال التغيّر وهو جالس في الغرفة غير مطّلع على الواقع الخارجي، ولم يقع الموضوع في الخارج أصلاً.

فعلى كلا هذين التصوّرين لاستصحاب الحكم نقول في المقام بالتفصيل بين مثل قوله: (العنب الغالي حرام) ومثل قوله: (العنب إذا غلى يحرم) أو (العنب يحرم الغالي منه).

ففي الأوّل لا يجري استصحاب الحرمة لا على التصوّر الأوّل؛ لأنّ المجعول لم يوجد خارجاً في حالة العنبية حتّى يستصحب؛ لأنّ وجوده فرع وجود كلّ قيود الموضوع ومنها الغليان، ولا على التصوّر الثاني؛ لأنّه على هذا التصوّر وإن كان اليقين السابق متحقّقاً؛ لأنّنا في الحقيقة نستصحب الجعل بالحمل الأوّلي، والجعل ثابت حدوثاً، ولكنّ الجعل بعنوانه الأوّلي وبمنظار الحمل الأوّلي لم يكن هو حرمة العنب، وإنما هو حرمة العنب الغالي، فالعنب


الوجه الآخر يحلّ الإشكال على الإطلاق لكان يقول بالتفصيل الذي اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في المقام.

راجع نهاية الدراية: ج3، ص89 ـ 90 بحسب انتشارات مهدوي، وج 5، 172 ـ 173 بحسب طبعة آل البيت.

400

الغالي يحقّ للفقيه أن يفترض تغيّراً في بعض حالاته ويستصحب حرمته، حيث لا يعتبر تلك الحالة مقوّمة للموضوع، فيُرى بمنظار ذلك الحمل الأوّلي أنّ الحرمة حكم متيّقن سابقاً مشكوك لاحقاً، ولا يحقّ له أن يفترض تغيّراً في العنب ويستصحب حكمه؛ لأنّ الحكم لم يكن للعنب.

وفي الثاني والثالث يجري استصحاب الحكم بلا فرق ـ أيضاً ـ بين التصوّرين للاستصحاب.

فعلى التصوّر الأوّل، أعني تصوّر استصحاب المجعول الذي يوجد عند وجود الموضوع خارجاً، نقول: إنّ هنا مجعولين وحكمين أحدهما يتحقّق خارجاً عند وجود العنب، وهو الحكم بالقضية الشرطية، وهي (إذا غلى يحرم) أو الحملية وهي (يحرم المغليّ منه) فهذا الحكم يصبح فعلياً بمجرد وجود العنب خارجاً؛ لأنّ موضوعه هو العنب. والثاني الحرمة، وهو يتحقّق خارجاً ويكون فعلياً عند وجود العنب مع الغليان خارجاً، ونحن نستصحب الحكم الأوّل الذي نقطع بتحقّقه وفعليّته خارجاً.

وعلى التصوّر الثاني الذي هو في واقعه استصحاب للجعل بمنظار الحمل الأؤّلي يقال: إنّه يوجد لنا جعلان: أحدهما جعل قضية شرطية أو حملية على العنب، والثاني جعل الجزاء أو المحمول في تلك القضية الشرطية أو الحملية. ويكون الثاني بمنظار الحمل الأوّلي حالة ثابتة للعنب الغالي، ويكون الأوّل بمنظار الحمل الأوّلي حالة ثابتة للعنب، وهذا هو الذي نستصحبه(1).

 


(1) قد تقول: إنّ اختلاف الصيغ التعبيريّة لا يؤثّر في روح الحكم وهو الحبّ والبغض وإرادة البعث والزجر، ولا شكّ في أنّ البغض تعلّق بشرب العنب الغالي سواءً عبّر بتعبير يجعل القيدين في عرض واحد، أو بتعبير يجعل أحدهما مأخوذاً في موضوع تقدير الآخر.

والجواب: أنّه لو كانت هذه التغييرات تغييرات تعبيريّة بحت فمن الواضح أنّها لا تؤثّر في الحساب، ولكنّ المدّعى: أنّ ما يجعله المولى على عهدة المكلّف يتصوّر بنحوين وإن كانت المبادئ الكامنة في المتعلّق واحدة. وهذا أمر معقول، وتكون العبرة بما جعله المولى في العهدة، ولذا نرى أنّه في الأوامر الامتحانية تنشغل العهدة مع أنّه لا توجد مبادئ للحكم في المتعلّق أصلاً، وإنّما توجد في أصل انشغال العهدة. وقد يفترض أنّ المبادئ الواقعية تكون في إكرام العالم مثلاً، ولكنّ المولى يجعل في العهدة إكرام المعمّمين لما يعلم من التلازم بين العنوانين مع كون الثاني هو المحسوس لدى المكلّف لا الأوّل، أو لما يرى من غلبة حالة التعمّم لدى العلم مع احتمال خطأ المكلّف في اعتقاد عدم العلم في معمّم كان عالماً في الواقع، فدفعاً لاحتمال فوات المصلحة بخطأ المكلف قد يعمد إلى تغيير مصبّ انشغال العهدة من إكرام العلماء إلى إكرام المعمّمين.

401

وأمّا المقام الثاني: فهنا إشكالات على كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)لو تمّت تبطل كلامه بشكل مطلق، ومن دون تفصيل:

الإشكال الأوّل: إنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)ـ كما مضى ـ ذكر أنّه هل يستصحب الجعل أو المجعول أو الملازمة؟ أمّا الأوّل فمقطوع البقاء، وأمّا الثاني فغير حادث حين العنبيّة، وأمّا الثالث فأمر عقليّ لا شرعي؛ لاستحالة جعل الملازمة.

وقد يقال في مقام الإشكال على ذلك: إنّنا نأخذ الشقّ الثالث، وقولكم: إنّه أمر عقلي لا شرعي فلا يمكن استصحابه، جوابه: أنّ الملازمة وإن لم تكن تحت سلطان المولى مباشرة، لكنّها تحت سلطانه بواسطة كون منشأ انتزاعها تحت سلطانه. إذن فأمر رفعها ووضعها بيد الشارع.

وهذا الكلام تامّ في مقام إبطال المقدار الذي جاء في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)إلاّ أنّه لا يصلح لتصحيح الاستصحاب التعليقي.

وتوضيح الحال في ذلك: أنّه أساساً ليس من شرط الاستصحاب أن يكون المستصحب شرعياً وتحت سلطان الشارع حتّى يدور النزاع بين المحقّق النائيني(رحمه الله)والمستشكل في أنّ الملازمة في المقام هل هي تحت سلطان الشارع أو لا، فإنّ الاستصحاب وإن كان جعلاً شرعياً لكن هذا لا يستلزم كون المستصحب تحت سلطان المولى، بل يكفي أنّ التعبّد الاستصحابي بالمستصحب هو داخل تحت سلطان المولى دائماً، وإنّما يشترط في الاستصحاب الانتهاء إلى أثر عملي عقلي من التنجيز والتعذير سواء كان المستصحب داخل تحت سلطان المولى أو لا، وعندئذ يقال في المقام: هل يدّعى أنّ استصحاب الملازمة


فإذا اتّضح أنّ اختلاف ما يجعل في العهدة مع وحدة ما في المتعلّق من المبادئ أمر معقول، وأنّ العبرة بما يجعل في العهدة. قلنا في المقام: إنّ المولى تارةً يجعل على عاتق المكلف حرمة العنب الغالي بقوله: (العنب الغالي يحرم) واُخرى يجعل على عاتقه (أنّ العنب إذا غلى يحرم) مثلاً:

ففي الفرض الأوّل لا يجري الاستصحاب؛ لأنّه: إن اُريد استصحاب حرمة العنب الغالي فلا شكّ في بقائها. وإن أريدت الإشارة إلى عنب خارجي أو عنب فرضي واستصحاب حرمته، فالعنب لم يكن حدوثاً متيّقن الحرمة، وإنّما العنب الغالي كان حدوثاً متيّقن الحرمة.

أمّا في الفرض الثاني فأيضاً لو اُريد استصحاب (أنّ العنب إذا غلى يحرم) فلا شكّ في بقائها، ولكن لو اُريدت الإشارة إلى عنب خارجي أو عنب فرضي واستصحاب كونه (إذا غلى يحرم) فهذا الحكم كان متيّقن الحدوث له، فلا بأس باستصحابه.

402

بنفسه ينتهي إلى الأثر العملي من التنجيز، أو ينتهي إلى ذلك بواسطة ما يترتّب عليه من ثبوت الحرمة؟

فإن قيل بالأوّل فمن الواضح أنّ الملازمة وحدها غير كافية لهذا الأثر، ولو فرض محالاً اجتماع العلم بالملازمة وبتحقّق العصير العنبي في الخارج مع عدم العلم بالحرمة لا يحصل تنجيز. وإن قيل بالثاني كان إثبات الحرمة باستصحاب الملازمة تعويلاً على الأصل المثبت، وهو غير جائز.

وبالإمكان أن يقال: إنّ هذا الإشكال يتمّ بناءً على كلّ المباني في الجعل الاستصحابي ما عدا مبنى جعل الحكم المماثل.

وأمّا بناءً على مبنى جعل الحكم المماثل فنقول: إنّ المجعول في المقام هو ملازمة ظاهرية مماثلة للملازمة الواقعية، وبما أنّ الملازمة يستحيل جعلها ابتداءً فهذا يكشف عن جعل منشأ انتزاعها، وليس هذا تعويلاً على الأصل المثبت، فإنّ جعل منشأ الانتزاع ملازم لنفس الحكم الظاهري، فيثبت منشأ الانتزاع، وهو الحكم الظاهري بأنّ الزبيب إذا غلى يحرم.

وكلّ ما ذكرناه إلى هنا كان مأخوذاً من مقالات(1) المحقّق العراقي(رحمه الله)على فوارق دقيقة بين طرز بياننا وبيانه، إلاّ أنّ روح المطلب واحد.

إلاّ أنّ التحقيق عدم تماميّة استصحاب الملازمة حتّى على مبنى جعل الحكم المماثل، وعدم تماميّة ما اختاره(رحمه الله) من التفصيل بين هذا المبنى وسائر المباني.

وتوضيح ذلك: أنّ المدلول المطابقي لقوله: (لا تنقض اليقين بالشكّ) هو النهي عن النقض، وبما أنّ النقض التكويني غير معقول يحمل على النقض العملي، إلاّ أنّ هذا النهي عن النقض إرشاد ـ حسب مبنى جعل الحكم المماثل ـ إلى جعل الحكم المماثل، والنقض العملي لا يشمل الملازمة في المقام؛ لعدم ترتّب عمل عليها، فهذا قرينة على اختصاص النهي بغيرها، ويكون المرشد إليه تابعاً للمدلول المطابقي، وهو النهي الإرشادي، ولا معنىً لإجراء الإطلاق فيه مستقلاًّ، فيتحصّل في المقام عدم جريان استصحاب الملازمة بلا فرق بين المباني في تعيين ما هو المرشد إليه بالنهي الموجود في الحديث، وبهذا يتضح عدم جريان الاستصحاب في كلّ الأحكام الوضعية المنتزعة من الأحكام التكليفية، كالشرطيّة، والسببيّة، والمانعيّة، ونحو ذلك.


(1) ج 2، ص 399 ـ 400 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي.

403

ويمكن أن يذكر في المقام إشكال ثان، وهو أنّه بهذا البيان لا تثبت الملازمة الظاهريّة، فإنّنا لو اكتشفنا باستصحاب الملازمة جعل المولى منشأ انتزاع تلك الملازمة ظاهراً، أي جعل الحرمة الظاهرية على تقدير غليان الزبيب، كان معنى ذلك الملازمة الواقعية بين غليان الزبيب والحرمة الظاهرية، والمفروض أنّ الاستصحاب يثبت حكماً ظاهرياً مماثلاً للمستصحب، لا حكماً واقعياً.

إلاّ أنّ هذا الإشكال بالإمكان الإجابة عليه إذا لم نلتزم بحرفية كون مفاد دليل الاستصحاب هو الحكم الظاهري.

توضيح ذلك: أنّ مفاد دليل الاستصحاب إنّما هو حكم اُخذ في موضوعه الشكّ في الواقع،ولوحظ فيه التحفّظ على نفس ملاكات الواقع، والمفروض أن يكون هذا الحكم مماثلاً للمستصحب. وهذا المقدار ثابت في المقام، فإنّ الملازمة الواقعية بين غليان هذا الجسم والحرمة الظاهرية مماثل للملازمة الواقعية بين غليانه والحرمة الواقعية، لفرض التماثل بين طرف هذه الملازمة وهي الحرمة الظاهرية وطرف تلك الملازمة وهي الحرمة الواقعية. وهذا الحكم المماثل، أعني الملازمة الواقعية بين غليان الزبيب والحرمة الظاهرية أخذ في موضوعه الشكّ في الملازمة الواقعية بين غليانه والحرمة الواقعية، وهذا الاستصحاب قد لوحظ فيه التحفّظ على ملاكات الواقع، ولا يوجد في مفاد دليل الاستصحاب مؤونة زائدة أزيد من هذا المقدار، فالعمدة هو الإشكال الأوّل.

الإشكال الثاني: كلام المستمسك(1) والمحقّق العراقي(رحمه الله)(2) في المقام، وهو أنّنا نختار استصحاب الحرمة الفعلية، وقولكم: إنّها لم تكن فعلية وثابتة لأنّها معلّقة على الغليان غير صحيح، فإنّ الغليان وكذا كلّ شرائط الحكم ليست شرائط للحكم وقيوداً له بوجودها الخارجي، وإنّما هي شرائط له بوجودها اللحاظي في ذهن المولى، وهو ثابت من أوّل الأمر، ولا توجد فعلية متأخّرة عن الجعل تتحقّق عند تحقّق الموضوع. إذن فالحكم كان فعلياً من أوّل الأمر، ونستصحبه.

أقول: إنّ عدم تعلّق الحكم بالقيد الخارجي صحيح، وترتّبه على الوجود اللحاظي


(1) راجع المستمسك: ج1، ص415 ـ 419، بحسب الطبعة الرابعة لمطبعة الآداب النجف الأشرف.

(2) راجع المقالات: ج2 ص400 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص163 ـ 167.

404

للموضوع وقيوده صحيح، وعدم وجود فعلية للحكم وراء عالم الجعل توجد عند وجود الموضوع ـ أيضاً ـ صحيح، إلاّ أنّ كلّ هذا اكتنف ـ بحسب تصورات المحقق العراقي(رحمه الله)ـ بأمرين خاطئين عندنا: (الأوّل) يرتبط بكيفية تصوير حقيقة الحكم(1)، وهذا مرّ في محله، لا نتكلّم عنه هنا. (والثاني) يرتبط بالمقام، وهو تخيّل جريان الاستصحاب.

والصحيح: أنّ تلك المقدّمات لا تنتج هذه النتيجة: وتوضيح ذلك أنّ المجعول بناءً على تلك المقدّمات هو نفس الجعل. إذن نحن نستصحب نفس الجعل. إلاّ أنّ الجعل تارةً ينظر إليه بمنظار الحمل الشائع، وعندئذ ليس حكماً شرعياً مرتبطاً بالعصير المغلي، وإنما هي حالة من حالات المولى، وليس فيه شكّ في البقاء، وإنّما الذي يتصوّر فيه هو الشكّ في الحدوث دائماً، واُخرى ينظر إليه بمنظار العنوان الأوّلي، وهو بهذا المنظار عبارة عن نجاسة العنب الغالي، وهو بهذا المنظار يقع فيه شكّ في البقاء إذا لاحظنا اُفق ثبوت هذا الحكم بهذا المنظار، وهو العصير العنبي الغالي، ففي هذا الاُفق لا بأس بجريان الاستصحاب في فرض طروء تغيّر في العصير العنبي يوجب الشكّ في بقاء حكمه وأمّا إذا لاحظنا اُفقاً آخر وهو العنب غير الغالي فلا نرى بهذا المنظار ثبوت صفة الحرمة له أصلاً حتّى يشكّ في البقاء ويستصحب.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله)(2).

وحاصله: اتّخاذ شقّ رابع غير الشقوق الثلاثة التي أبطلها المحقّق النائيني(رحمه الله)من استصحاب الملازمة، واستصحاب الحرمة الفعلية، واستصحاب الجعل، وهو استصحاب الحرمة استصحاباً منوطاً ومقيّداً.

بيان ذلك: أنّ العلم الفعلي قد يكون علماً مطلقاً وقد يكون علماً منوطاً، فالعلم بالملازمة بين الغليان والحرمة مثلاً علم فعلي ثابت في النفس ملازم لعلم فعلي آخر منوط ومقيّد، وهو العلم بالحرمة في اُفق الغليان، وعلى تقديره، وهذا نظير ما يتصوّر في الإخبار، فمثلاً حينما يقول: إن طلعت الشمس فالنهار موجود فهذا ليس مجرّد إخبار عن الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار، بل هو إخبار عن أمر خارجي، وهو وجود النهار كما هو واضح، ولا معنى لافتراض كونه إخباراً عن وجود النهار على الإطلاق وبلا قيد، لوضوح أنّ طلوع الشمس قيد لذلك، ومن دونه لا يوجد نهار، وهذا القيد ليس قيداً في المخبر به، وإلاّ لكان


(1) حيث ذكر أنّها عين الإرادة والكراهة، وليس الحكم أمراً جعلياً.

(2) راجع المقالات ج2 ص401 ـ 402 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي.

405

إخباراً عن المقيّد والقيد، وعندئذ لا يصدق الكلام في مثل لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا ممّا لا يوجد فيه القيد، وبالتالي لا يوجد فيه المقيّد، إذن هو قيد في الإخبار، وليس معنى قيديّته في الإخبار كون طلوع الشمس بوجوده الخارجي قيداً، أي: إنّ الإخبار لم يتمّ قبل طلوع الشمس مثلاً، وذلك لبداهة تماميّة الإخبار سواءً حصل القيد خارجاً، أو لم يحصل، أو لم يكن بالإمكان أن يحصل كما في مثال تعدّد الآلهة. إذن فتعيّن أن يكون معنى قيديّته كون الشرط بوجوده التقديري والفرضي قيداً في الإخبار أي: إنّ الإخبار بوجود النهار يكون في اُفق فرض طلوع الشمس، وهذا المطلب بعينه نتصوّره في العلم(1).

إذا عرفت هذا قلنا في المقام: إنّ العلم بالملازمة بين غليان العنب وحرمته يولّد علماً فعليّاً بالحرمة في اُفق الغليان، ومعلقاً على تقديره، وهذا علم منوط ومشروط، وهذا العلم المنوط يتبعه الشكّ المنوط حينما يصير العنب زبيباً، وهذا يوجب جريان الاستصحاب المنوط، فيثبت بذلك العلم بحرمة الزبيب منوطاً بتقدير الغليان، وهو المطلوب.

وقد ذكر(رحمه الله) هذا الوجه مبنياً على مبنى جعل العلم في باب الاستصحاب، أو مبنى النهي عن نقض اليقين، أي: على المباني التي تثبت العلم بوجه من الوجوه، لا على المباني التي تثبت المتيقّن(2).

ويرد عليه: أنّ منوطيّة العلم الموجود فعلاً بالشرط وهو الغليان أمر غير معقول.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّ الإناطة والشرط في عالم المفاهيم لها معنى، وفي عالم الوجودات الحقيقية لها معنىً آخر، فمعنى الاشتراط في عالم المفاهيم هو التقييد والتحصيص، فحينما يُشرط الإنسان مثلاً بالعلم في قولنا: (أكرم الإنسان العالم) يكون معنى هذا الشرط


(1) إذ لو كان علمه مطلقاً لا منوطاً لصحّ له الإخبار المطلق في حين أنّه لا يصحّ له ذلك، ولو لم يكن له علم أصلاً لما صحّ له الإخبار المنوط في حين أنّه صحّ له ذلك.

(2) وإلاّ فالمفروض أنّ المتيّقن وهي الحرمة غير حاصلة في السابق؛ إذ لو رجعنا إلى مسلك فعليّة الحرمة قبل تحقّق الموضوع كان هذا يعني في نظر الشيخ العراقي رجوع الإشكال السابق، والشيخ العراقي حينما أراد تسجيل هذا الإشكال في مقالاته على الشيخ النائيني فرض التنزّل عن هذا المسلك كي يفترض عدم ورود الإشكال السابق. فلهذا كانت الحرمة غير حاصلة بالفعل في السابق، فما معنى استصحابها؟! وما هي فائدة فرض العلم المنوط بالحرمة؟!.

ولا يخفى أنّ حلّ ذلك لا يكون بمجرّد الرجوع إلى مبنى جعل العلم والطريقيّة، وإنّما حلّه يكون بالرجوع إلى مبنى: أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين، دون فرض ذلك استطراقاً إلى نقض المتيّقن، وهذا هو الوارد في كلام الشيخ العراقي في المقالات. لا مسلك جعل العلم والطريقية.

406

أنّنا أخذنا حصّة معيّنة من مفهوم الإنسان، وهي الإنسان العالم في موضوع الأمر بالإكرام، وكذلك الكلام في مفهوم الوجود أو أيّ مفهوم آخر اُريد إشراطه بشيء، فلو قيل مثلاً: (الوجود الطويل حكمه كذا) كان معنى ذلك أنّ حصّة معينة من الوجود وهو المقيّد بالطول حكمه كذا. وأمّا واقع الوجود الخارجي فليس معنى الشرط فيه التقييد والتحصيص؛ إذ هو جزئيّ خارجي لا معنىً لتحصيصه، وإنّما معنى الشرط فيه السببية والتولّد، فيقال مثلاً: (هذا الاحتراق مشروط بالنار) أي: متولد منه، وإنّ النار سبب له. وهذا المعنى من الشرط غير معقول في عالم المفاهيم؛ إذ لا سببيّة ولا تولّد في عالم المفاهيم.

وبعد بيان هذه المقدّمة نقول: إنّه في عالم التصوّر والجعل والاعتبار والفرض ونحو ذلك من التعبيرات يوجد مفهوم وهو المتصوّر، أو المجعول، أو المعتبر، أو المفروض، ويوجد وجود نفسي وهو التصوّر، أو الجعل، أو الاعتبار، أو الفرض، فحينما يتصوّر المولى حرمة العصير المشروط بالغليان، أو يجعله يصحّ أن يقال: إنّ هذه حرمة فعليّة، وفي نفس الوقت يصحّ أن يقال: إنّها حرمة مشروطة. أمّا إنّها فعلية فباعتبار وجودها الذهني. وأمّا إنّها مشروطة فبالمعنى الأوّل من الشرط واعتبار المتصور، أو المجعول الذي هو مفهوم من المفاهيم، وبالمعنى الذي يكون فعلياً ليس مشروطاً، فالحرمة باعتبار وجودها الذهني فعلية، ولكنّها بهذا الاعتبار وجود واقعي لا يقبل التقييد والتحصيص، وليست متولّدة من الشرط ومسبّبة له. هذا بلحاظ الوجود التصوّري والفرضي.

وكذلك الحال بلحاظ الوجود التصديقي، أي العلم، فيحنما يعلم بحرمة مشروطة بالغليان فالعلم وجود نفسي والمعلوم مفهوم، وهذه الحرمة بلحاظ وجودها العلمي فعلية، وهي غير مشروطة بالمعنى الأوّل؛ إذ لا تحصيص في واقع الوجودات، ولا بالمعنى الثاني؛ لأنّ هذا العلم ليس وليداً ومسبّباً للشرط.

إذن فنحن نسأل المحقق العراقي(رحمه الله): أنّه ما هو المقصود بقوله: إنّ العلم بالحرمة فعليّ منوط ومشروط بتقدير الغليان؟

فإن قصد باشتراط الغليان كون المعلوم والمفهوم مضيّقاً ومحصّصاً بتقدير الغليان، فهذا معناه أنّنا علمنا بالحرمة المقيّدة بالغليان، أي علمنا بتحقق القيد والمقيّد خارجاً معاً، وهذا خلف، وليس هذا مراده(رحمه الله)

وإن قصد به كون تقدير الغليان مأخوذاً شرطاً في نفس العلم وهو مراده(رحمه الله)قلنا: هل قصد بذلك اشتراطه بالمعنى الأوّل، أعني التحصيص والتضييق، أو بالمعنى الثاني، أعني

407

السببية والتولّد؟

فإن قصد الأوّل قلنا: إنّ الاشتراط بهذا المعنى إنّما يعقل في عالم المفاهيم لا في عالم الوجودات، وإن قصد الثاني قلنا: إنّ العلم بوجوده الخارجي لا يتولّد من تقدير الغليان، وإنّما العلم وليد برهانه، هذا هو الإشكال الرئيسي في المقام، وهذا الذي بيّناه في العلم يأتي ـ أيضاً ـ في الإرادة والشوق، إلاّ أنّ المقدار المرتبط بالمقام كان هو تطبيق ما بيّنّاه على العلم(1). أمّا تطبيقه على الإرادة والشوق فموكول إلى بحث الواجب المطلق والمشروط.

 


(1) قد تقول: إنّ هذا الذي أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في الحقيقة برهان على عدم إمكان فعليّة العلم المنوط بتقدير الشرط في المقام، وما أفادة الشيخ العراقي(رحمه الله)برهان على فعليّة العلم المنوط بتقدير الشرط. واُستاذنا الشهيد لم يبطل مقدّمة من المقدّمات البرهانية لكلام الشيخ العراقي، فأيّ موقف نحن نتخذه باتجاه برهانين منتهيين إلى نقيضين؟!

ولعل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لم يكن يحسّ بمأزق من هذا القبيل؛ لأنّه لم ير في كلام الشيخ العراقي(رحمه الله)برهاناً على مقصوده، لان قياس العلم بالإخبار لم يذكر في المقدار الوارد في نقل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)برهان عليه، ولكنّنا قد أشرنا إلى برهان ذلك تحت الخط في ما قبل هذا التعليق بتعليقتين فراجع.

هذا. ولو كان الأمر منحصراً بمثل: (العنب إذا غلى يحرم) لأمكن الخروج عن هذا المأزق بدعوى بطلان المبنى الذي قام عليه كلام الشيخ النائيني(رحمه الله)، وردِّه، وهو فرض أنّ الحرمة إنّما تصبح فعليّة لدى فعلية الغليان، حيث إنّ هذا هو مبنى المحقّق النائيني، وهذا هو الذي تنازل إليه الشيخ العراقي في إشكاله هذا كي يكون غاضّاً للنظر عن إشكاله الأوّل، فالواقع بعد فرض بطلان هذا المبنى أنّ العلم تعلّق بالحرمة وأنّ تقدير الغليان قيد للمعلوم، وأن هذا لا يؤدّي إلى فرض العلم بالغليان؛ لأنّ فعليّة الحرمة المقيّدة بالغليان لا تكون بفعلية الغليان، فالعنب الغالي حرام حتّى قبل وجود الغليان، وقبل وجود العنب.

ولكن الإشكال يستفحل في مثل (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا) إذ في القضايا التكوينية لا يوجد جعل أو حكم مسبق على تحقّق الشرط يفترض كونه هو عين فعليّة الجزاء، ولا شكّ فيها في أنّ فعليّة الجزاء لا تكون إلاّ بفعلية الشرط، وعندئذ لو قبلنا كون الشرط قيداً اُنيط به العلم ورد عليه برهان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ولو نفينا ذلك ورد عليه برهان الشيخ العراقي(رحمه الله).

وواقع المطلب هو: انّ ما استبدهَهُ المحقق العراقي(رحمه الله)من كون مثل هذه القضايا الشرطيّة إخباراً عن الجزاء لا عن الملازمة بين الشرط والجزاء، أوّل الكلام، وهذا هو الذي يوجب خروجنا من المأزق، ففي مثل (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) لا بأس بافتراض الإخبار عن وجود النهار المقيّد بطلوع الشمس، بأن يكون إخباراً عن القيد والمقيّد ولو بلحاظ الزمان المستقبل، ولكن في مورد فرض الاستحالة كما في قوله: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)، أو فرض عدم الاطّلاع على وقوع الجزاء في المستقبل لا بدّ من حمل الإخبار على الإخبار بالملازمة، وبه نخلص من مأزق البرهانين المتقابلين.

أمّا لو كان إخباراً عن الجزاء على تقدير الشرط، فلو فرض تقدير الشرط قيداً للمخبر به لزم دخوله تحت الإخبار، وتعلّق الإخبار بالقيد والمقيّد، ولو فرض تقديره قيداً للإخبار وبالتالي قيداً للعلم فكونه قيداً له على حدّ

408

وهنا إشكال آخر يرد على المحقّق العراقي(رحمه الله) وهو: أنّ الاستصحاب إن فرض إجراؤه من قِبل الفقيه قبل وجود الموضوع خارجاً، فعلمه منوط بغليان العنب، فلو ثبت التعبّد بالعلم بواسطة الاستصحاب فمقتضى القاعدة هو أن يثبت التعبّد بالعلم بحرمة الزبيب منوطاً بغليانه عنباً، أي: أنّه لو غلى في حالة العنبية ثمّ فرض طروّ الزبيبيّة عليه كان حراماً، وهذا لا علاقة له بالاستصحاب التعليقي، إلاّ أن يقال بإجراء مسامحة في جانب العلم المنوط بإلغاء هذا القيد في طرف العلم، كما يفترض إلغاء حالة العنبيّة والزبيبية في مقام تصحيح وحدة المتيّقن والمشكوك، إلاّ أنّ إلغاء ذلك في طرف العلم المنوط مؤونة زائدة تحتاج إلى دليل.

نعم، لو فرض إجراء الاستصحاب بعد العلم بوجود الموضوع خارجاً وهو العنب الذي صار زبيباً فقد يتخلّص من الإشكال الذي أثرناه بأن يقال: إنّنا نشير إلى هذا الجسم الخارجي ونقول: إنّنا نعلم أنّه في ما سبق كان إذا غلى يحرم، فالعلم كان منوطاً بفرض الغليان وتقديره، دون فرض العنبيّة؛ لأنّ العنبيّة ثابتة في الخارج(1) فنجرّ هذا العلم إلى ما بعد الزبيبية.

 


تقييد المفاهيم وتحصيصها غير معقول، وكونه قيداً له من باب تقيّد العلم بسببه ـ أيضاً ـ غير معقول؛ لأنّ تقدير الشرط ليس سبباً للعلم بالجزاء، وإنّما العلم بفعليّة الشرط قد يكون سبباً للعلم بفعليّة الجزاء.

ثمّ إنّ ما نقلناه عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في المقام في المتن قد يوحي بالصياغة الواردة في ما كتبناه في المتن إلى أنّ العلم لا يعقل أن يكون منوطاً بمعنى وجود ضيق فيه، وإنما يعقل أن يكون منوطاً بشيء بمعنى كونه مسببّاً عنه، ومتولّداً منه.

فإن كان حقّاً هذا هو مقصوده(رحمه الله)فإنّي أتذكّر أنّه(رحمه الله)عدل عن ذلك حين ما كان يهيّئ أبحاث ما أسماه بعد ذلك بالاُسس المنطقية للاستقراء، حيث رأى عندئذ: أنّ العلم قد يدخل عليه ضيقٌ من غير ضيق المعلوم، ولم يكن يقصد بذلك تضييق العلم مفهوماً وتحصيصه حتى يرد عليه: أنّ هذا إنّما يناسب باب المفاهيم لا باب الوجودات، بل كان يقصد بذلك تحجيم نفس الوجود الخارجي للعلم ببعض التقادير، إلاّ أنّ ذلك لا يبطل نتيجة البرهان الذي أقامه هنا لابطال كلام المحقق النائيني(رحمه الله)؛ لأنّه لم يكن يقبل تحجيم العلم إلاّ بتقدير سببه، من قبيل أنّ علمنا بأنّ هذا الجسم الفلاني مثلثٌ مثلاً يكون محجّماً ومقدّراً بتقدير سلامة بصرنا، فلو سُئلنا: هل على تقدير عدم سلامة البصر وكونه يَرى نتيجة مرضه اُموراً خيالية تعلم ايضاً بذلك؟ لقلنا: لا، في حين أنّ علمنا باستحالة اجتماع النقيضين مثلاً مطلق، أي: ليس مقيّداً ومضيّقاً بتقدير سلامة بصرنا، فالعلم إنّما يعقل أن يكون فعليّاً ومنوطاً في وقت واحد حينما يلحظ بالقياس إلى سببه، مع فرض كون سببه فعليّاً. أمّا لو قيس إلى غير سببه فقد يكون فعلياً، لكنّه لا يكون منوطاً، ولو قيس إلى سببه غير الفعلي فلا يكون فعلياً، لكنّه منوط بسببه، بمعنى منوطيّة كلّ مسبّب بسببه، وبمعنى أنّه لو وجد ذاك العلم لما كان وجوده واسعاً، وعلى كلّ تقدير، بل محدداً بتقدير سببه.

(1) هذا مبنيّ على تفسير الإناطة بمعنى لا يناسب إلاّ مع كون المنوط به تقديرياً لا فعليّاً.

409

لكنّ الصحيح: أنّه هنا ـ أيضاً ـ لا يمكن إجراء الاستصحاب؛ لأنّ هذا العلم يكون منوطاً بفرض غليانه في الزمان السابق، لا بفرض غليانه ولو الآن، والفرق الزمني وإن كان المفروض إلغاؤه في باب الاستصحاب في طرف المستصحب لكنّ إلغاءه في طرف العلم المنوط(1) مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(2) ناقلاً له عن اُستاذه صاحب الكفاية من أنّ حكم حرمة العنب المغلي مجعول بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية، والفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة هو: أنّ الحكم في القضيّة الخارجيّة إنّما هو على الأفراد الموجودين خارجاً. وأمّا في القضية الحقيقيّة فهو يشمل ـ أيضاً ـ الأفراد المقدّرة الوجود، فهذا العنب وإن كان غير غال، لكنّ تقدير غليانه موضوع للحرمة، فالحرمة فعليّة على الغالي المقدّر.

ولا يقصد بهذا ما مضى في الإشكال الثاني من أنّ الشرط للحكم هو الوجود اللحاظي لا الخارجي، بل هو يسلّم أنّ الشرط هو الغليان الخارجي ويتكلّم في استصحاب الحرمة الجزئية لا الحرمة الكلّيّة التي جعلها المولى على لحاظه للغليان، كما في الإشكال الثاني، ولكنّه يقول: إنّ الغليان الخارجي كما تكون أفراده المحقّقة الوجود مشمولة للحكم كذلك تكون أفراده المقدّرة الوجود مشمولة للحكم، فيستصحب تلك الحرمة الجزئية الثابتة بلحاظ الفرد المقدّر الوجود.

وهذا الكلام في غاية الغرابة، فإنّ معنى كون القضيّة الحقيقيّة شاملة للفرد المقدّر الوجود إنّما هو ثبوت الحكم على الفرد المقدّر الوجود بما هو منظور إليه بالنظر الأوّلي الذاتي دون الحمل الشائع؛ إذ بمنظار الحمل الشائع ليس إلاّ صورة نفسية داخلة في نفس المتصوّر، ولكن حينما ينظر إليه بمنظار الحمل الأوّلي الذاتي يُرى عنب غال، فيُحكم عليه بالحرمة، وهذه الحرمة تستصحب في الاُفق الذي تُرى، وهو اُفق النظر بمنظار الحمل الأوّلي إلى العنب الغالي. إذن يثبت الاستصحاب بقاء الحرمة في الظروف التي تُرى ـ أيضاً ـ بهذا المنظار بعد فرض كونه عنباً غالياً، أي: إنّه يستصحب بقاءً حرمة العنب الغالي إذا تغير طعمه بعامل وشككنا أنّ تغيّر طعمه يوجب تغيّر الحكم أو لا مثلاً، ولا يستصحب بقاء الحرمة في اُفُق


(1) مسامحةً وعرفاً كما ورد في كلام الشيخ العراقي(رحمه الله)في المقالات في مقام دفع هذا الإشكال.

(2) في تعليقته على الكفاية: ج5، ص173 ـ 174 بحسب طبعة آل البيت.

410

آخر وهو العنب غير الغالي، بأن تسحب الحرمة إلى الحالات المتأخّرة عن العنب غير الغالي؛ إذ في هذا الاُفُق لا تُرى حرمةٌ حتّى تستصحب.

ثمّ إنّ هذا الذي أفاده(رحمه الله) في مقام توضيح كلام اُستاذه صاحب الكفاية إنّما هو تفسير بما لا يرضى صاحبه، فإنّ الذي ذكره صاحب الكفاية في تعليقه على الرسائل(1) لا يمتّ إلى هذا المعنى بصلة؛ ولذا صرّح في كلامه بأنّ الفرضيّة التي يذكرها خارجة اصلاً عن مسألة الاستصحاب التعليقي، وراجعة إلى مسألة الاستصحاب التنجيزي الذي لا كلام فيه، بل مقصوده هو التفصيل بين شرط الحرمة وشرط الحرام.

وتوضيح ذلك: أنّه كما يقال في باب الوجوب: أنّ الشرط تارةً يكون شرطاً للوجوب واُخرى شرطاً للواجب، إلاّ أنّ شرط الواجب الخارج عن كونه قيداً للوجوب يجب أن يكون اختيارياً كي يصحّ ترشّح الوجوب إليه، كذلك يقول الشيخ الأخوند(رحمه الله) في باب الحرمة: إنّ الشرط وهو الغليان مثلاً يمكن أن يفرض شرطاً للحرام كما يمكن أن يفرض شرطاً للحرمة، ولا يضرّ هنا في فرض كونه شرطاً للحرام دون الحرمة خروجه عن القدرة؛ إذ ليس المفروض ترشّح وجوب إليه، وفي هذه الفرضية، أعني فرضية رجوع الشرط إلى الحرام دون الحرمة لا بأس باستصحاب الحرمة؛ لأنّها فعلية قبل الشرط، ويكون هذا استصحاباً تنجيزياً وخارجاً عن مبحث الخلاف في الاستصحاب التعليقي(2).

 


(1) ص207 بحسب النسخة التي هي من منشورات مكتبة بصيرتي في قم.

(2) قد يتوهم أنّ ما ذكره صاحب الكفاية هنا من جريان الاستصحاب في فرض كون الغليان مثلاً شرطاً للحرام لا للحرمة مرجعه إلى ما اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)من أنّه لو قال: (العنب إذا غلى يحرم) أو قال: (العنب يحرم الغالي منه) صحّ الاستصحاب، ووجه الرجوع إليه: أنّه في هذين المثالين أخذ شرط الغليان في طرف الحكم المحمول، فكان إذن شرطاً للحرمة، وهذا بخلاف ما لو قال: (العنب الغالي حرام) فإنّ الغليان أخذ عندئذ في طرف الموضوع، فهو شرط للحرام.

ولكن لعلّه يظهر بأدنى تأمّل الفرق بين الرأيين، ففي كل من المثال الثاني والثالث كان الغليان موضوعاً والحرمة محمولة حسب مصطلح المنطق من الموضوع والمحمول، وفي المثال الأوّل كان الغليان شرطاً والحرمة جزاءً.

وإنّما مقصود الشيخ الآخوند(رحمه الله)هو أنّ الغليان قد يكون داخلاً في ما يقدّر وجوده حتّى يحكم بالحرمة، وقد لا يكون كذلك، بل يكون قيداً للحرام، ففي الأوّل يكون الاستصحاب تعليقياً، وفي الثاني يكون تنجيزياً لا شك في جريانه، في حين أنّ أستاذنا الشهيد(رحمه الله)يقصد التفصيل بين عرضيّة القيدين المقدّري الوجود، وهما العنبية والغليان، وعدم العرضية بأن يكون العنب مأخوذاً مقدّر الوجود في موضوع قضية مؤتلفة من موضوع أو شرط، وهو الغليان، ومحمول أو جزاء وهو الحرمة، فإن فرض القيدان عرضيين لم يجرِ الاستصحاب؛ لانتفاء اليقين