266


غاية الوضوح، أمّا لو قلنا بأنّ الملكيّة عنوان منتزع من جواز التصرّف ونحوه من الأحكام التكليفيّة، وليست موضوعاً لحكم من تلك الأحكام، فهنا نقول: لا معنى لاستصحاب الملكيّة؛ لأنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما له أثر، وهذا الأمر الانتزاعي لا أثر له شرعي، ولا أثر شرعي لاستصحابه، فلا يجري استصحابه، وإنّما يجب أن ننتقل إلى استصحاب الحكم، وعندئذ قد يختلّ الاستصحاب، فلو أنّ جواز التصرّف كان مختلاًّ؛ وذلك لسفه، أو صغر، أو جنون، أو نحو ذلك من أسباب الحجر، وبعد ذلك ارتفع السبب، وفي نفس الوقت شككنا في بقاء الملكيّة، فلو كانت الملكيّة هي الموضوع للحكم فما أسهل أن يجري استصحاب الملكيّة، وإذا استصحبنا الملكيّة يترتّب عليها جواز التصرّف؛ لأنّ الحاجب قد ارتفع والملكيّة مستصحبة، فيجوز التصرّف. أمّا لو فرضنا أنّ الملكيّة أمر انتزاعي بحت منتزع من الأحكام، فهنا استصحاب الملكيّة لا معنى له، واستصحاب جواز التصرّف لا معنى له؛ لأنّ جواز التصرّف كان مسبوقاً بالعدم، فهنا يشكل الاستصحاب من هذه الناحية، إلاّ أن نفحص عن استصحاب موضوعيّ آخر ينتهي إلى نفس النتيجة العمليّة، وهذا قد يحصل وقد لا يحصل.

حقيقة الطهارة والنجاسة:

وأمّا الأمر الخامس: وهو البحث عن حقيقة الطهارة والنجاسة، هل هما حكمان جعليّان جعلتهما الشريعة أو أنّهما أمران حقيقيّان تكوينيّان واقعيّان كشفت عنهما الشريعة؟ فلعلّ المشهور بين المحققين المتأخّرين هو: أنّ النجاسة والطهارة حكمان جعليان جعلتهما الشريعة، ولكن نسب إلى الشيخ الأنصاري(رحمه الله) أنّ الطهارة والنجاسة أمران تكوينيّان واقعيّان، فالنجاسة نوع قذارة واقعيّة حقيقيّة، والطهارة نوع نظافة معنويّة واقعيّة حقيقيّة، وليستا جعليّتين، والشريعة كشفت عنهما وأخبرتنا عنهما.

استدلال السيّد الخوئي على مجعوليّة الطهارة والنجاسة:

إختار السيّد الخوئي(رحمه الله) ما هو المشهور من كونهما أمرين مجعولين، ووردت في ما نسب إليه في تقرير بحثه عدّة وجوه لذلك(1)، وهي ما يلي:

الوجه الأوّل: ظاهر نصوص الشريعة أنّها بصدد التشريع وليست بصدد الإخبار عن الواقع.

وهذا الكلام فيه احتمالان: أحد الإحتمالين ما لعلّه الأظهر، وهو: أنْ يكون مقصوده بذلك: أنّ الأصل في كلام المشرّع أنّه قد صدر منه بما أنّه مشرّع وليس بما هو مخبر، فحينما يقول: جعل الله الماء طهوراً، أو حينما يقول: الماء طاهر، والبول قذر أو نجس، أو الكلب رجس نجس، أو نحو ذلك فالظاهر من هذه الكلمات أنّها صدرت منه بما أنّه مشرّع، أي: إنّها ظاهرة في الجعل والتشريع، وحملها على الإخبار باعتباره مطّلعاً على أسرار العالَم وخصائص الأشياء فيخبرنا أنّ الكلب فيه قذارة والماء فيه طهارة ونظافة خلاف الظاهر، بل ظاهر كلام المشرّع أنّه كلام صدر منه بما هو مشرّع.


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3 ص 84 ـ 85 بحسب طبعة مطبعة النجف

267


الوجه الثاني: أنّه توجد لدينا بعض المصاديق للطهارة والنجاسة بحيث لا يحتمل أن نفسّرها على أساس تفسير قضيّة تكوينيّة وواقعيّة، ولا بدّ أن نفسّرها على أساس تفسير قضيّة جعليّة واعتباريّة، مثاله: ولد الكافر إن لم نقل: إنّ نجاسة الكافر ليست إلاّ قضيّة اعتباريّة لا قضيّة تكوينيّة خارجيّة، فولد الكافر ملحق بأبيه، ولنفرض أنّنا أخذنا هذا الولد وأتينا به إلى بلادنا وأبعدناه عن أبيه، لكنّه ما دام صغيراً لم يبلغ الحلم هو بحكم الشريعة ملحق بأبيه ويحكم عليه بالكفر، فهو نجس، ثمّ صادف أنّ أباه هناك في بلاده أسلم لسبب من الأسباب حيث رأى أدلّة الإسلام واعتقد بها، فأسلم، وبمجرّد أن أسلم أصبح هذا الولد طاهراً، فهل نحتمل أنّ هناك خصوصيّات تكوينيّة في هذا الولد، وقذارة واقعيّة فيه باعتباره كافراً مسيحيّاً، وبمجرّد أن أسلم أبوه تبدّلت تلك الخصوصيّات التكوينيّة، وأصبح نظيفاً؟! هذا لا نحتمله، فهذه الطهارة والنجاسة هي حتماً طهارة ونجاسة جعليّة.

الوجه الثالث: أنّه ماذا تقولون في الطهارة الظاهريّة والنجاسة الظاهريّة؟! فمن الواضح أنّ الطهارة الظاهريّة والنجاسة الظاهريّة جعليتان، ولا يمكن أن تكونا تكوينيّتين، فإنّ الحكم الظاهري حتماً جعلي يجعله الشارع، ولا يمكن أن يكون شيئاً حقيقياً واقعياً وخارجياً.

مناقشة استدلال السيّد الخوئي:

ونحن نبدأ في مناقشتنا مع السيّد الخوئي(رحمه الله) بهذا الوجه الثالث، وهذا الوجه الثالث إن كان هذا الظاهر الموجود في التقرير مقصوداً، فهو واضح البطلان، فلا أحد يقول: إنّ الحكم الظاهري هو شيء حقيقي وواقعي وتكويني، وحتّى الشيخ الأنصاري ـ إن صحّ ما نسب إليه من أنّ الطهارة والنجاسة أمران تكوينيان ـ هو حتماً يعترف أنّ إثباتهما الظاهري إثبات جعلي، ومعنى كون الحكم ظاهرياً هو: أنّ المولى فرض واعتبر ظاهراً تحقّق ذاك الشيء، فاستصحاب بقاء الحياة مثلاً يعني: اعتبار الحياة وجعلها ظاهراً، ولكن الحياة ليست شيئاً اعتبارياً جعلياً، بل هي شيء تكويني نحكم ببقائه ظاهراً، وهذا الحكم اعتباري جعلي، إنّما الكلام في المستصحب وهو الحياة، هل هو تكويني أو اعتباري، ونقول: لا شكّ في كونه تكوينياً، كذلك في ما نحن فيه حينما نبحث أنّ الطهارة والنجاسة هل هما أمران واقعيان أو أمران مجعولان، نتكلّم في أصل الطهارة والنجاسة، ولا نتكلّم في إثباتهما الظاهري، فإثباتهما الظاهري حتماً إثبات جعلي اعتباري، ككلّ حكم ظاهري ولو كان متعلّقاً بأوضح الاُمور تكوينيّةً.

وأمّا الوجه الثاني، وهو النقض بالكافر أو بولده، فهذا قد يثبت أنّه إذن بعض النجاسات تكون نجاستها اعتباريّة، لكن هذا لا يثبت على الإطلاق أنّ النجاسة والطهارة أمران اعتباريان جعليان، وإن شئت فقل: لعلّ الطهارة والنجاسة بالأصل أمران حقيقيّان واقعيّان وثابتان في أكثر موارد الطهارة والنجاسة، ولكن في بعض الموارد اتّفق أنّ هذا الشيء الواقعي فرضه المولى فرضاً واعتبره اعتباراً، أو نزّل ذاك الشيء الآخر منزلة هذا تنزيلاً لحكمة مّا، فالكافر مثلاً فرضه المولى بمنزلة الكلب في النجاسة لحكمة إبعاد المسلمين عن الكفّار، وعدم اكتسابهم من قذاراتهم المعنوية، فلا يمكن أن يكون بعض موارد النقض دليلاً شاملاً يدلّ على أنّ الطهارة والنجاسة بشكل عامّ أمران جعليّان.

وأمّا الوجه الأوّل، وهو: أنّ الكلمات التي تصدر من المشرّع يجب أن تحمل على أنّها صدرت من المشرّع بما

268


هو مشرّع، لا أنّها صدرت منه بما هو إنسان مخبر عن حقائق الاُمور، وكاشف عن الدقائق الموجودة في هذا العالم، فهذا الوجه ـ أيضاً ـ غير صحيح ـ إن كان هذا هو المقصود ولعله الظاهر من العبارة ـ وذلك لأنّه صحيح: أنّنا على العموم نقول: أنّ الأصل في الشارع عندما يصدر كلاماً أن يكون كلامه بما هو مشرّع لا بما هو مخبر لكن هذا الكلام إنّما نقوله على العموم بنكتة، وتلك النكتة هي: أنّ هذا المشرّع بوصفه حاكماً وبوصفه مشرّعاً لدين من الأديان، منقطع الصلة بالاُمور التكوينيّة. نعم، قد يشرح التكوينيّات، وقد يشرح الآفاق والأنفس، والعجائب الموجودة في الآفاق والأنفس لهدف تحكيم الاعتقادات، ولأهداف اُخرى، ولكن بما أنّه مشرّع لدين لا يكون بصدد بيان أسرار الآفاق، وإنّما هو بصدد التشريع، هذا المعنى على العموم صحيح، لكن لو أنّ هناك خصوصيّات تكوينيّة أصبحت موضوعة لآثار شرعيّة، فكان عليه أن يكشفها، ونحن لا نعلم بها كي نرتّب آثارها الشرعية، فهنا ليس حمل كلام هذا المشرع على الكشف والإخبار عن تلك الاُمور خلاف طبع المشرّع، فلو فرضنا أنّ النجاسة والطهارة أمران تكوينيّان لكنّهما ـ على أيّ حال ـ موضوعان لآثار شرعية، فالقذارة التكوينيّة للبول موضوع لبطلان الصلاة ولحرمة الشرب مثلاً، وكذلك طهارة ومطهّريّة الماء موضوع لأحكام، فهنا لا معنى للقول بأنّ حمل كلام الشارع على الكشف عن ذلك خلاف الظاهر. نعم، بشكل عامّ نحن نقول: إنّ كلام المشرّع يحمل على عالم التشريع، وهذا معناه: أنّ غرض المشرّع راجع الى تكميل تشريعه وليس إلى عوالم التكوين، فهو حينما يتكلّم بما هو بارئ ومكوّن يحكي عن الغيب، ويحكي عن أسرار العالَم، ولكن حينما يتكلّم بما هو مشرّع يكون في عالم آخر، ولا ينظر في هذه الحال إلى بيان أسرار التكوين في ذاتها، ولا إشكال في أن حديثه عن الطهارة والنجاسة يكون ناظراً إلى عالم التشريع، ولأجل تحقيق أهداف التشريع، ولكن هذا لا ينافي حمل كلامه على الإخبار عن الاُمور التكوينيّة المؤثّرة في تحديد الأحكام، وتشخيص موضوعاتها التي يعجز الإنسان الاعتيادي عن تشخيصها.

الاستدلال ببعض الروايات على مجعولية الطهارة والنجاسة:

ولعلّ أقوى الوجوه التي يمكن أن تذكر لإثبات كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين لا واقعيّين هو التمسّك ببعض الروايات، ولعلّ مقصود السيّد الخوئي(رحمه الله) من الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرها هو ذلك.

وعلى أيّ حال، فهناك عدد من الروايات قد يستظهر منها كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين، ونحن نذكر هنا بهذا الصدد روايات ثلاث:

الرواية الاُولى: رواية داود بن فرقد، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال:«كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسّع الله عليكم ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون»(1).

هذه الرواية ظاهرها: أنّ الماء لم يجعل من قبل الله تبارك وتعالى طهوراً لبني اسرائيل، إنّما جعله طهوراً لكم


(1) الوسائل: ب 1 من الماء المطلق، ح 4

269


أنتم أيّها المسلمون، إذن، فهذه الطهارة طهارة تشريعيّة؛ إذ لو كانت طهارة تكوينيّة لم يكن فرق فيها بين المسلمين وبين بني اسرائيل، وليس في عصرنا هذا أصبحت للماء خصوصيّة تكوينيّة لم تكن موجودة في زمان بني إسرائيل، وإذا كانت الطهارة تشريعيّة فالنجاسة التي تكون هذه رافعة لها ـ أيضاً ـ تشريعية؛ لأنّ رفع النجاسة التكوينيّة بالتشريع غير معقول.

الرواية الثانية: رواية محمّد بن حمران، وجميل بن درّاج، «أنّهما سألا أبا عبدالله(عليه السلام) عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل، أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم، فقال: لا، ولكن يتيمّم الجنب ويصلّي بهم، فإنّ الله عزّ وجلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(1). فهنا جعل التراب طهوراً جعل تشريعي وليس جعلاً تكوينياً؛ لأنّ جعل التراب طهوراً يقصد به الطهارة الحدثيّة، بمعنى رفع الجنابة، والطهارة الحدثية تشريعية وليست تكوينية، وعندئذ فبوحدة السياق نفهم أنّ الجعل في قوله:«كما جعل الماء طهوراً» أيضاً جعل تشريعي، وطهوريّة الماء مطلقة ليست مخصوصة بالطهارة عن الحدث، بل تشمل الطهارة عن الحدث وعن الخبث، وإنّما سمّيت الطهارة الحدثية بالطهارة تشبيهاً للحدث بالخبث، ولفرض الحدث كأنّه نوع قذارة، ولهذا سمّي رفعها طهارة فكأنما الحدث نوع قذارة إلاّ أنّها قذارة معنوية، ورفعها طهارة معنوية، فإذا كان المقصود بطهوريّة الماء ما يشمل مطهّريته للخبث،وعرفنا بوحدة السياق أنّ المقصود الجعل التشريعي للتطهير، عرفنا بذلك أنّ النجاسة التي ترفع بهذا التطهير التشريعي ـ أيضاً ـ نجاسة تشريعيّة؛ لأنّ الشيء التكويني لا يمكن رفعه بالتشريع.

الرواية الثالثة: رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام):«لا صلاة إلاّ بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمّا البول فإنّه لابدّ من غسله»(2) بناءً على أنّ المسح بثلاثة أحجار لا يرفع غالباً القذارة التكوينيّة، فيكون هذا شاهداً على أنّ المقصود الطهارة التشريعيّة ورفع القذارة التشريعيّة.

مناقشة الاستدلال:

إلاّ أنّ الاستدلال بكلّ هذه الروايات قابل للمناقشة.

فالرواية الأخيرة لو حملت على التطهير التكويني فالأحجار الثلاثة وإن كانت في الغالب لا تولّد الطهارة والنقاء التامّين، ولذا يكون الاستنجاء بالماء أفضل، ولكن لا شكّ في أنّها توجب مستوى من الطهارة والنقاء التكوينيين، فمعنى الرواية: أنّه في باب الاستنجاء يجزيك هذا المستوى من الطهور المتمثّل في ثلاثة أحجار.

والرواية الثانية لو تمّ أنّ ما فيها من قوله:«جعل التراب طهوراً» يقصد به الطهارة التشريعيّة، باعتبار أنّ الطهارة الحدثية لا تكون إلاّ تشريعيّة، فوحدة السياق تقتضي أنّ المقصود بقوله:«كما جعل الماء طهوراً» أيضاً هي الطهارة التشريعيّة، فإذا شككنا في تشريعيّة وتكوينيّة الطهارة الخبثيّة لم يكن مقتضى الإطلاق شمول الطهارة

270

هذا تمام ما أردنا أن نذكره من التفاصيل التي تقال في الاستصحاب مع تفنيدها، وبعد هذا نشرع في ذكر تنبيهات الاستصحاب.

 

 


للطهارة الخبثية، وإثبات أنّ الطهارة الخبثية إذن تشريعيّة، بل أصبح هذا الشكّ والإجمال مانعاً عن الجزم بالإطلاق، فإنّ وحدة السياق صرفت قوله:«كما جعل الماء طهوراً» إلى الجعل التشريعي. فلو كانت الطهارة الخبثية تكوينيّة لا تشريعيّة فالكلام منصرف عنها.

وأمّا الرواية الاُولى فعيبها اشتمالها على أمر خرافيّ يقطع بكذبه، وهو أنّ بني إسرائيل كانوا يقرضون لحومهم بالمقاريض إذا أصاب أحدهم البول.

نتيجة البحث:

فإذا لم يتمّ دليل على تشريعيّة الطهارة والنجاسة قلنا: لا إشكال في أنّ الطهارة والنجاسة حتّى لو كانتا أمرين تشريعيّين ومجعولين فهما في غير مثل الكافر الذي لا تكون نجاسته ناظرة إلى قذارة تكوينيّة، بل قذارته معنوية بحت، لا شكّ في أنّهما تكشفان عن نوع من نظافة وقذارة تكوينيّتين، فإما أنّ تلك النظافة والقذارة التكوينيّتين هما الطهارة والنجاسة بمعناهما الشرعي، أي: أنّ الطهارة والنجاسة الشرعيتين أمران تكوينيان كشف عنهما الشارع، وإمّا أنّهما الملاك لتشريع الطهارة والنجاسة وجعلهما، فاصل ثبوت نظافة وقذارة تكوينيّة في موردهما ممّا لا شكّ فيه، ووجود أمر مجعول هو المشكوك، وهو الذي يحتاج إلى دليل وعدم تماميّة شيء من الأدلّة على ذلك كاف في عدم ترتيب الأثر العملي الذي يترتّب على مجعوليّة الطهارة والنجاسة.

والأثر العملي لذلك يظهر في موارد استصحاب النجاسة لدى ارتفاع بعض مستويات القذارة التكوينيّة ببعض التطهيرات التكوينيّة التي شككنا بنحو الشبهة الحكميّة في كفايتها في التطهير شرعاً، فبناءً على كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين يجري استصحاب النجاسة؛ لأنّها كانت مقطوعاً بها وقد شككنا في ارتفاعها. أمّا بناءً على كونهما أمرين تكوينيّين فيشكل الاستصحاب؛ لأنّ المفروض أنّ مستوىً من القذارة أو النجاسة التكوينيّة قد ارتفع يقيناً، والمستوى الآخر لم يثبت كونه موضوعاً للأحكام، فتصل النوبة إلى الاُصول الحكميّة المتأخّرة والتي تختلف باختلاف الموارد.

هذا تمام ما أردنا بيانه تحت عنوان بحث الحكم الوضعي، والحمد لله ربّ العالمين.


(1) الوسائل: ب 24 من التيمّم، ح 2

(2) الوسائل: ب 9 من أحكام الخلوة، ح 1

271

الاستصحاب

4

 

 

 

 

تنبيهات الاستصحاب

 

 

✽ وفاء الاستصحاب بدور القطع الموضوعي.

✽ جريان الاستصحاب عند الشكّ التقديري.

✽ جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين.

✽ جريان الاستصحاب في الكليّات.

✽ استصحاب الزمان والزمانيات.

✽ الاستصحاب التعليقي.

✽ استصحاب عدم النسخ.

✽ الأصل المثبت.

✽ الاستصحاب في متعلّقات الاحكام.

✽ استصحاب جزء الموضوع.

✽ تأثير العلم بانتقاض أحد جزئي الموضوع في جريان الاستصحاب.

✽ الرجوع الى عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص.

273

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وفاء الاستصحاب بدور القطع الموضوعي:

 

التنبيه الأوّل: في سعة دائرة المجعول في باب الاستصحاب وضيقها، وأقصد بذلك أنّ الاستصحاب هل يُثبت آثار العلم الطريقي فقط من التنجيز والتعذير، أو تترتّب عليه ـ أيضاً ـ آثار العلم الموضوعي؟

ولهذا البحث ثمرات مهمة ولو فنّاً وصناعةً:

فمن ثمراته جواز الإفتاء بالحكم الواقعي عند إثباته بالاستصحاب وعدمه، فمثلاً لو جرى استصحاب وجوب صلاة الجمعة وقلنا بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، جاز الإفتاء بوجوب صلاة الجمعة واقعاً، وإلاّ فلا يجوز ذلك، وإنّما يجوز الإفتاء بالوجوب الظاهري. هذا بناءً على أنّ موضوع جواز الإفتاء بحكم هو العلم به لا ثبوته واقعاً، وإلاّ لكان جواز الإفتاء به من آثار الحكم المستصحب، فيترتّب على الاستصحاب بلا إشكال.

ومنها: أنّه لو قام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي أصبح بهذا حاكماً على البراءة ورافعاً لموضوعها؛ لأنّ البراءة مغيّاة بالعلم، والاستصحاب يقوم مقام العلم تعبّداً، بخلاف ما لو لم يقم مقام العلم الموضوعي، فلا يحكم عندئذ على البراءة، ولا يقدّم عليها بهذا الوجه.

ومنها: حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي بنفس ذلك البيان.

وقبل أن نشرع في بيان وجوه الاستدلال على قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي والتكلم فيها نذكر شيئاً، وهو: أنّ تلك الوجوه إنّما ينفتح باب البحث عنها بناءً على ما اخترناه من أنّ المقصود من دليل الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين، وأمّا بناءً على ما

274

ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّ المقصود بالنقض في دليل الاستصحاب هو نقض المتيقّن، فلا يوجد رجاء معتدّ به في إثبات قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي.

وتوضيح ذلك: أنّه تارة يفرض أنّ المراد الاستعمالي من النهي في لا تنقض اليقين(بمعنى لا تنقض المتيقّن) هو النهي عن النقض الحقيقي للمتيقّن، واُخرى يفرض أنّه هو النهي عن النقض العملي له، فإن فرض الأوّل، فبما أنّ نقض المتيقّن ليس مقدوراً واختياريّاً يكون المراد الجدّي من هذا النهي هو الإرشاد إلى عدم انتقاض المتيقّن، من قبيل إرشاديّة قوله:«دعي الصلاة أيّام أقرائك» الى البطلان بناءً على عدم كونه تحريماً للصلاة حرمة تكليفيّة، وبما أنّ انتقاض المتيقّن قد يكون ثابتاً في الواقع فالمقصود من ذلك هو عدم الانتقاض، وبقاء الواقع تعبدّاً وتنزيلاً، وبكلمة اُخرى: يكون المقصود إنشاء عدم الانتقاض والتعبّدية، وهذا كما ترى إنّما يوجب ترتيب آثار الواقع دون آثار العلم الموضوعي.

وإن فرض الثاني وهو النهي عن النقض العملي، فهنا بالإمكان فرض كون المراد الجدّي ـ أيضاً ـ هو النهي؛ لأنّ النقض العملي يكون داخلاً تحت الاختيار، فإن حملت العبارة على ذلك فهي إنّما تدلّ ـ كما ترى ـ على حرمة عدم ترتيب آثار المتيقّن، ولا ربط لها بالعلم الموضوعي وآثاره، وبالإمكان فرض هذا النهي ـ أيضاً ـ كنائياً كما كان يفرض كنائياً بناءً على الأوّل، إلاّ أنّ الكناية هنا أطول مسافةً منها هناك؛ إذ أنّه هناك كان النهي عن نقض المتيقّن كناية عن عدم انتفاضه، وهنا يكون النهي عن لازم ذلك كناية عن عدم الملزوم، فإنّ انتقاض المتيقّن لازمه النقض العملي، فقد نهى عن اللازم كناية عن عدم الملزوم، بينما كان على الأوّل ينهى عن نفس الملزوم كنايةً عن عدمه، وعلى أيّ حال فقد أصبح المراد الجدّي ـ أيضاً ـ هو التعبّد ببقاء الواقع، وهذا إنّما يوجب ترتيب آثار الواقع، ولا علاقة له بالعلم الموضوعي وآثاره.

فقد تحصّل أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره) ومن يحذو حذوه في حمل النقض في الحديث على نقض المتيقّن ليس من حقّه الذهاب إلى قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، وحكومته على البراءة، وحكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي بالتقريب المشهور عندهم، وإنّما ينفتح باب البحث عن ذلك بنحو معتدّ به بناءً على ما ذهبنا إليه من حمل النقض على نقض اليقين.

هذا. والهدف هنا من البحث هو البحث عن التقريبات المنسجمة مع قيام الاستصحاب

275

مقام القطع الموضوعي بحسب عالم الإثبات، ونحذف هنا البحث الثبوتي، فإنّ البحث عن قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي والموضوعي وترتّب التنجيز والتعذير عليه مع آثار القطع الموضوعي تارة يكون ثبوتياً، أي: بحثاً عن إمكان إثبات ذلك من كلام يفرض وروده من الشارع، واُخرى اثباتياً وهو دلالة العبارة الواردة في تشريع الاستصحاب على ذلك بعد الفراغ عن إمكان ذلك ثبوتاً. أمّا البحث الثبوتي فقد مضى منّا مفصّلاً في مبحث القطع فنحذفه هنا، وأمّا البحث الإثباتي ـ بعد فرض الفراغ عن مرحلة الثبوت ـ فيمكن تقريب مفاد دليل الاستصحاب بنحو ينسجم مع قيامه مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً بوجوه:

الوجه الأوّل: ما يُتراءى من بعض كلمات السيّد الاُستاذ(1) ـ وإن لم يكن التفاته الأساسي إلى هذا البحث ـ من أنّ مفاد دليل الاستصحاب بمدلوله المطابقي هو التعبّد ببقاء اليقين، وإذا تعبّدنا ببقاء اليقين عملنا ـ لا محالة ـ بكلا قسمي آثاره، أي: آثاره العقليّة من التنجيز والتعذير، وآثاره الشرعيّة كجواز الإفتاء مثلاً.

وكلماته وإن كانت مجملة من ناحية: أنّه هل يقصد كون المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب هو التعبّد ببقاء اليقين، أو يقصد: أنّه يستفاد ذلك منه ولو بغير الدلالة المطابقية الابتدائية، لكن يتراءى من بعض كلماته(2) الأوّل.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا موقوف على كون المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب هو النفي لا النهي، فيكون قد نفى انتقاض اليقين، أي: أنّه حكم تعبّداً ببقاء اليقين، فيكون هذا مثلاً من قبيل ما لو قال (اليقين باق)، ولو قال هكذا فلا إشكال بعد فرض الفراغ عن مرحلة الثبوت في أنّه يرتّب آثار اليقين الطريقي والموضوعي معاً، ولكن هذا غير ثابت، فلعلّ المدلول المطابقي لقوله:«لا ينقض اليقين الشكّ» هو النهي، بل بعض عبارات الأدلّة صريحة في النهي، كما في(لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ). نعم يمكن أن يفرض أنّ النهي كناية عن نفي الانتقاض، لكن هذا يكون تقريباً آخر يأتي ـ إن شاء الله ـ غير ما هو المفروض الآن من دلالة الدليل بالمطابقة على المقصود.


(1) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى ما أفاده السيّد الخوئي في بحث القطع، راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 38 ـ 39، والدراسات: ج 3، ص 37.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى المورد الذي أشرنا إليه، أو إلى كلام السيّد الخوئي في بحث الشكّ في المقتضي، راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 30.

276

وثانياً: أنّنا لا نكتفي بما مضى في الإشكال الأوّل من دعوى أنّه لم يثبت كون مفاد(لا ينقض) هو النفي، بل نترقّى عن ذلك ونقول: إنّ الذي يظهر منه هو إرادة النهي لا النفي؛ إذ لو كان يقصد النفي لكان مقتضى التعبير العرفي أن يسند النفي إلى الانتقاض لا النقض، بأن يقول: لا ينتقض اليقين بالشكّ، فإنّ المناسب للنفي في المقام هو الشيء بوجهته الخارجية وبالمعنى الاسم المصدري، لا بوجهته الصدورية وبالمعنى المصدري، والثاني إنّما يناسب ارادة النهي.

وثالثاً: أنّه لو سلّمنا كون المستفاد من دليل الاستصحاب بمدلوله المطابقي هو النفي، قلنا: إنّ هذا لا يكفي في كون نفي نقض اليقين بمعنى إنشاء بقاء اليقين ودالّاً بالمطابقة على ذلك، بل إنّما يتمّ ذلك إذا كان المقصود بالنقض النقض الحقيقي لا النقض العملي، وسوف يظهر ـ إن شاء الله ـ في نهاية هذا البحث أنّ المقصود هو النقض العملي.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله)، فهو قد سلّم منذ البدء كون مفاد الدليل هو النهي، وسلّم ـ أيضاً ـ كون المقصود بالنقض النقض العملي لا الحقيقي، فلا يرد عليه شيء من الإشكالات السابقة، وبنى على أنّ المقصود بالنهي هو المعنى الأوّلي للنهي، أي: التحريم، لا على كونه كناية عن شيء آخر، وذكر(قدس سره) أنّ الحديث قد دلّ على حرمة النقض العملي لليقين، أي: أنّه دلّ على وجوب الجري العملي بنحو كأنّه متيقّن، أي: أنّه يعمل ما كان يعمله، لو كان متيقّناً، ومن المعلوم أنّه لو كان متيقّناً لكان يعمل على طبق التنجيز والتعذير، وكان يعمل ـ أيضاً ـ بآثار جُعل هذا اليقين موضوعاً لها، فكذلك الآن، وهذا يعني قيام الاستصحاب مقام العلم الطريقي والموضوعي معاً.

وبكلمة اُخرى: أنّ النقض العملي لليقين يكون على نحوين: أحدهما: عدم العمل بأثره المترتّب عليه بما هو يقين طريقي. والثاني: عدم العمل بأثره المترتّب عليه بما هو يقين موضوعي، ومقتضى إطلاق الحديث شموله لكلا القسمين(1).

أقول: أوّلاً: إنّنا تارة نفرض النقض في مقابل الإبرام من باب إبرام اليقين بالمتيقّن، واُخرى نفرضه بمعنى الرفع:

فعلى الأوّل: يكون من الواضح عدم شمول النقض العملي لليقين لرفع اليد عن الحكم


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 78 ـ 79، والمقالات: ج 2، ص 366 ـ 367 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي بقم.

277

الشرعي الذي يكون اليقين موضوعاً له؛ لأنّ الإبرام العملي لليقين بمتيقّنه إنّما يكون باعتبار اقتضائه للعمل بمتيقّنه، لا باعتبار ما له من أثر شرعي جعل ذلك اليقين موضوعاً له، كما هو واضح.

والتحقيق: أنّه حتّى على الثاني ـ أيضاً ـ لا يشمل النقض العملي رفع اليد عن الآثار الشرعية لليقين، وإنّما يكون الرفع العملي لليقين بمعنى رفع اليد عن آثاره العقلية من التنجيز والتعذير. والشاهد على ذلك أنّه لا يستحسن عرفاً إسناد النقض إلى ما لا توجد له إلاّ آثار شرعية، وليس له أثر التنجيز والتعذير، فلا يستحسن مثلاً أن يقال: لا تنقض الماء بالتغيّر، بمعنى لا ترفع اليد عن أحكام الماء بتغيّره، أو لا تنقض جنون الشخص بمجرّد مضيّ مقدار من الزمان، أي: لا ترفع اليد عن أحكام جنونه من الحجر وغيره بمجرّد مضيّ الزمان. والسرّ في عدم شمول النقض العملي لرفع اليد عن الآثار الشرعية هو: أنّ موضوع الحكم ليس مقتضياً للعمل على طبق الحكم حتّى يكون عدم العمل به رفعاً عملياً له، فإنّ اقتضاء شيء للجري العملي: إمّا عبارة عن الاقتضاء العقلي له، وهو منحصر في مسألة التنجيز والتعذير، فاليقين يقتضي عقلاً جري العمل وفق متعلقه بالتنجيز والتعذير، وإمّا عبارة عن الاقتضاء التشريعي له، وهذا الاقتضاء إنّما يكون لنفس الحكم والتشريع لا لموضوعه، فالحكم له اقتضاء تشريعي ذاتاً ومباشرةً للعمل بمتعلّقه، وإسناد الاقتضاء إلى موضوعه يكون بشي من المسامحة الواضحة التي لا تصحّح إسناد النقض العملي إليه.

إن قلت: إنّ هذا البيان إنّما يكون في غير اليقين من سائر الموضوعات، وأمّا اليقين حينما يصبح موضوعاً فهو يقتضي عقلاً الجري العملي نحو حكمه كاقتضاء اليقين بالموضوعات للتنجيز أو التعذير بلحاظ حكمها، فسائر الموضوعات لا تقتضي عقلاً الجري نحو حكمها، وإنّما اليقين بها يقتضي عقلاً ذلك، وأمّا خصوص اليقين فهو يقتضي عقلاً ذلك من باب أنّ اليقين باليقين هو عين اليقين؛ لأنّه يكون في الحقيقة منكشفاً بنفسه ومعلوماً بالعلم الحضوري، لا بيقين آخر، فهو الذي يقتضي الجري نحو حكمه.

قلت: إنّ هذا الفرق بين اليقين وغيره ليس شيئاً عرفياً يعتمد عليه العرف، ويصحّح بذلك إسناد النقض العملي إلى اليقين باعتبار أحكامه الشرعية.

وثانياً: أنّ المنهي عنه إنّما هو نقض اليقين بالشكّ، ورفع اليد عن حكم يكون اليقين موضوعاً له بعد انتفاء ذلك اليقين وزواله بالشكّ ليس نقضاً لليقين بالشكّ، وإنّما هو نقض لليقين باليقين؛ لأنّنا نقطع بارتفاع موضوعه الذي هو اليقين، فالحكم بجواز الإفتاء مثلاً

278

الذي فرض موضوعه اليقين قد زال يقيناً لولا تشريع جواز آخر بنفس دليل الاستصحاب، إذن فهذا نقض لليقين باليقين. نعم، هذا اليقين قد تولّد من الشكّ، وصار الشكّ سبباً له، لكن هذا غير نقض اليقين بالشكّ.

الوجه الثالث: فرض الحديث كناية عن التعبّد ببقاء اليقين، وجعل العلم والطريقية، فيترتّب عليه كلا قسمي آثار العلم. وتصوير الكناية يكون بأحد وجهين:

الأوّل: فرض النقض نقضاً حقيقياً. والنقض الحقيقي لليقين وإن كان غير مقدور فلا يمكن تعلّق النهي به، لكنّنا نفرض النهي نهياً كنائياً لا حقيقياً، فلا مانع من تعلّقه به، ويكون كناية عن عدم الانتقاض، من قبيل: (لا تصلّ أيّام أقرائك)، حيث إنّ الصلاة غير مقدورة لها بناءً على كونها اسماً للصحيح، ويكون النهي كناية عن عدم إمكان الصلاة، فبقرينة وجود الانتقاض تكويناً يعرف أنّ المقصود هو التعبّد بعدم الانتقاض، وجعل العلم والطريقية.

الثاني: فرض النقض نقضاً عملياً. وبالرغم من أنّ النقض العملي يكون من عمل الشخص فقد يقال: أيّ مانع من تعلّق النهي الحقيقي به؟ لا يحمل النهي على التحريم، بل يجعل كنائياً، وذلك بقرينة: أنّ الاستصحاب ليس مختصّاً بالأحكام الإلزامية التي يعقل فيها تحريم النقض، فقد يجري في غيرها، ولا معنىً لحرمة النقض العملي بلحاظ مثل إباحة عمل أو استحبابه مثلاً، وهذا هو السرّ في أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) بالرغم من حمله للنقض على النقض العملي ذهب إلى أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو جعل العلم ببعض مراتبه(1)، فاذا التفتنا إلى أنّ النهي التحريمي في غير الآثار الإلزامية لا معنى له قلنا: إنّ النهي عن النقض العملي لليقين الذي هو لازم الانتقاض الحقيقي لليقين كناية عن عدم الملزوم. وهذه الكناية تفترق عن التقريب الأوّل للكناية بكونها أبعد مسافة منها على التقريب الأوّل؛ لأنّ النهي في التقريب الأوّل كان عن نفس الملزوم، وهو نقض اليقين كنايةً عن عدمه، وهنا يكون نهياً عن اللازم كنايةً عن عدم الملزوم.

وهذا الوجه الثالث بكلا تقريبيه يوجد بينه وبين الوجه الأوّل قاسم مشترك، وهو القول بأنّ مفاد حديث الاستصحاب جعل العلم والطريقية. ويبدو ذلك في بادئ الرأي شيئاً مستحيلاً؛ وذلك لأنّ اليقين والشكّ قد اُخذا موضوعاً للاستصحاب، أي: متعلّقاً للمتعلّق في


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 19 بحسب طبعة جامعة المدرّسين في قم، و ج 4، ص 486 و 596 من نفس الطبعة، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 9.

279

قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ»، فيستفاد منه كون النظر الإنشائي للمولى في المقام إلى الشكّ نظراً فراغياً، أي: إنّه يفرض الموضوع مفروغاً عنه، فيرتّب عليه الحكم. وهذا ما يعترف به القوم؛ ولذا جعلوا الاستصحاب السببي حاكماً على الاستصحاب المسبّبي برفعه لموضوعه الذي هو الشكّ، فلو لم يكن ينظر إليه بما هو مفروغ عنه فزواله بالاستصحاب السببي لم يكن يضرّ بجريان الاستصحاب المسبّبي، فإذا فرض أنّه ينظر إلى الشكّ نظر الفراغ عن وجوده، قلنا: إنّ ادّعاء وجوده بنفس الإنشاء الذي ينظر فيه إليه نظر الفراغ عنه يكون تهافتاً في عالم النظر الإنشائي، فكيف يعقل حمل الحديث على جعل الطريقية واعتبار العلم وعدم الشكّ؟!(1)

ولعلّ هذا هو السرّ فيما ذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله) من التفكيك بين الاستصحاب والأمارات، فإنّه(قدس سره) وإن لم يذكر دليلاً على ذلك التفكيك، وإنّما ذكره كتنظيم للأدلّة وبيان


(1) قد تقول: لا يوجد تهافت في المقام؛ لأنّ المستفاد من نفي الشكّ مثلاً: أنّ الشكّ الموجود في ذاته وبقطع النظر عن الجعل والاعتبار منفيّ جعلاً واعتباراً، فما فرغ المتكلّم عن وجوده هو ذات الشكّ التكويني وبقطع النظر عن الجعل والاعتبار، وما أثبته من اليقين هو اليقين الجعلي والاعتباري، ولا تنافي بين الأمرين، وهذا ما يفهم من مثل قوله:(شكّك ليس بشكّ).

ولكن هذا الكلام إنّما يصحّ في فرضين:

الفرض الأوّل: أن يقصد بالجعل والاعتبار التنزيل، وهو معقول في مثل قوله:(شكّك ليس بشكّ) فإنّ النظر إلى الشكّ لدى التنزيل نظر واحد، وليس نظرين، فيقول القائل:(شكّك المنظور إليه بالنظر الواقعي منزّل منزلة اليقين وعدم الشكّ)، ولا تهافت في ذلك. وأمّا في ما نحن فيه، فعلى مسلك الشيخ النائيني(رحمه الله) القائل بعدم إمكانية تنزيل حاكم شيئاً منزلة شيء آخر في آثاره التي حكم بها حاكم آخر، لا يمكن تنزيل الشكّ أو احتمال بقاء الحالة السابقة منزلة اليقين الطريقي؛ لأنّ آثار اليقين الطريقي عبارة عن التنجيز والتعذير، وهما عقليان، وليسا شرعيين حتّى يمكن إثباتهما بالتنزيل.

والفرض الثاني: أن يفرض كون الكلام إخباراً لا إنشاءً، وكون الاعتبار ثابتاً من قبل، فيقول المتكلّم بنظر واحد وهو النظر الإخباري:(إنّ الشكّ الثابت تكويناً منفيّ جعلاً واعتباراً)، فهنا ـ أيضاً ـ لم يلزم الجمع بين نظرين في نظر واحد. إلاّ أنّ هذا في ذاته خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ إذا حصل العجز عن أيّ تفسير آخر معقول للحديث غير مخالف للظاهر، بينما الشيخ النائيني(رحمه الله) في فسحة عن الالتزام بهذا التفسير؛ لأنّه يعتقد ـ كما سيأتي في المتن ـ إمكانية اعتبار الطريقية واليقين بلحاظ الجري العملي، فيمكن أن يفرض الفراغ عن ثبوت الشكّ وعدم اليقين بلحاظ الكشف، وتعتبر الطريقية واليقين بلحاظ الجري العملي، ولا تهافت في ذلك.

وإذا غضضنا النظر عن هذين الفرضين، وعن فرض تعدّد جهات اليقين وإمكانية التفكيك بينهما في جعل الطريقية، فنفي الشكّ التكويني بالجعل والاعتبار في إنشاء واحد يعني الجمع بين نظرين في إنشاء واحد، وهما النظر الواقعي والنظر الجعلي والاعتباري. وهذا غير معقول.

280

مراتبها ومواقعها، لكنّه شيء يندفع به ما ذكرناه من الاستحالة والتهافت في عالم النظر الانشائي.

وتوضيح ذلك: أنّه(قدس سره) ذكر فرقاً بين جعل الطريقية الذي يقول به في باب الأمارات وجعل الطريقية الذي يقول به في الاستصحاب، بخلاف السيّد الاُستاذ الذي لم يفرّق بين البابين(1)، والفرق الذي ذكره هو: أنّ العلم له مرتبة الكشف وإراءة الواقع، وله مرتبة اقتضاء الجري العملي، والأمارة جعلت علماً بلحاظ المرتبة الاُولى، والاستصحاب جعل علماًبلحاظ المرتبة الثانية.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ يدفع ما ذكرناه من التهافت، فإنّه يقال عندئذ: إنّ المولى في قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» قد فرغ عن وجود الشكّ خارجاً بلحاظ عالم الانكشاف، وادّعى وجوده بلحاظ عالم الجري العمليّ، فلا منافاة بينهما.

إلاّ أنّه بهذا ينهار أصل الموضوع، وهو قيام الاستصحاب بجعله علماً مقام العلم الموضوعي؛ وذلك لأنّ الظاهر من دليل جعل العلم موضوعاً لحكم هو جعله موضوعاً له بما له من الانكشاف وإراءة الواقع، لا بمجرّد ما له من الاقتضاء للجري العملي، فكيف يقوم مقامه الاستصحاب الذي اعتبر علماً بلحاظ الجري العملي فقط، لا بلحاظ جهة الانكشاف؟!

نعم، لو فرض في مورد كون العلم موضوعاً لحكم بما هو مقتض للجري العملي، قام الاستصحاب مقامه، لكنّه عندئذ قد ينفتح باب قيام الاُصول غير المحرزة ـ أيضاً ـ مقامه، لأنّها ـ أيضاً ـ مقتضية للجري العملي كالاستصحاب، فلا يختصّ هذا بالاستصحاب، وقد لاينفتح هذا الباب.

توضيحه: أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يدّعي أنّ للعلم مرتبتين: مرتبة الانكشاف ومرتبة الجري العملي، وأنّ الأمارة جعلت تعبداً علماً في مرتبته الاُولى، والاستصحاب جعل تعبداً علماً في مرتبته الثانية، والاُصول غير المحرزة لم تجعل علماً في شيء من المرتبتين وإن كانت تنجّز وتعذّر. وعلى هذا إن فرض في مورد أنّ العلم بما له من مرتبة الانكشاف موضوع لحكم كما هو ظاهر جعل العلم موضوعاً لحكم، لم يصحّ ما أفاده(قدس سره)من قيام الاستصحاب


(1) تجد كلام الشيخ النائيني(رحمه الله) في قوائد الاصول ج 3 ص 17 ـ 19 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وتجد كلام السيّد الخوئي(رحمه الله) في مصباح الاصول ج 2 ص 37 ـ 38 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

281

مقام العلم الموضوعي. وإن فرض أنّ العلم بمرتبته الثانية موضوع لحكم فهذا يتصوّر على نحوين:

أحدهما: أن يكون اقتضاء العلم للجري العملي بما هو مرتبة ثانية للعلم واقتضاءٌ للعلم قد جعل موضوعاً، فعندئذ يقوم الاستصحاب مقامه؛ لأنّه فرض علماً من هذه الناحية، ولا تقوم الاُصول غير المحرزة مقامه؛ لأنّها لم تفرض علماً أصلاً.

والثاني: أن يكون العلم بما له من اقتضاء للجري العملي موضوعاً، بمعنى أنّ تمام الموضوع في الحقيقة هو اقتضاء الجري العملي من دون لحاظ إضافة ذلك إلى العلم، وخصوصية كونه مرتبة ثانية للعلم، وعندئذ تقوم الاُصول غير المحرزة ـ أيضاً ـ مقام العلم؛ لأنّها ـ أيضاً ـ تقتضي الجري العملي.

وعلى أيّة حال، ففي ما هو المتعارف من موضوعية العلم من كونه موضوعاً بما هو كاشف ـ على ما هو الظاهر من دليل جعله موضوعاً ـ ينهار ما أفاده(قدس سره) من قيام الاستصحاب مقامه من باب جعل الطريقية.

ثمّ إنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ذكر: أنّ هنا تهافتاً بين ما اختاره المحقق النائيني(رحمه الله) في مبحث الشكّ في المقتضي وما اختاره في مبحث قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي. ولكي يتبيّن ما ادعاه(قدس سره) من التهافت نذكر إجمالاً مبنى الشيخ النائيني(قدس سره)في الشكّ في المقتضي، فنقول: إنّهم قالوا: إنّ إسناد النقض إلى شيء يحتاج إلى كون ذلك الشيء فيه نوع استحكام واستقرار وتركز، وإلاّ لكان منحلاًّ بنفسه، ولا معنى لإسناد النقض إليه ثمّ قال قوم: إنّه قد أسند النقض إلى المتيقّن، وإنّما ذكر اليقين مجازاً، فجعلوه مختصّاً بفرض إحراز المقتضي ليتصوّر نوع استحكام للمتيقّن، وقال قوم: إنّه قد اُسند إلى اليقين، واليقين فيه نوع من الاستحكام في نفسه، فلا حاجة إلى تخصيص ذلك بفرض إحراز المقتضي. ووقف المحقّق النائيني(رحمه الله) موقفاً وسطاً بين هذين الموقفين، فاختار: أنّ النقض هو نقض المتيقن، كما قاله أصحاب القول الأوّل، لكنّه قال: إنّ هذا النقض قد اُسند إلى اليقين بمعناه الحقيقي، باعتبار أنّ الجري العملي للمتيقّن إنّما يكون بواسطة اليقين، فأسند النقض العملي للمتيقّن إلى اليقين(1).

وذكر المحقّق العراقي(قدس سره): أنّ هذا مناف لمختاره(رحمه الله) في باب قيام الاستصحاب مقام العلم


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 373 ـ 374 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 379.

282

الموضوعي؛ لأنّه إن فرض النقض نقضاً للمتيقّن فإنّما يجب الجري العملي على طبق المتيقّن، ولا علاقة لذلك بآثار العلم الموضوعي. وإن فرض نقضاً لليقين كفى ما في اليقين من استحكام، ولا حاجة إلى تخصيص الاستصحاب بغير موارد الشكّ في المقتضي(1).

أقول: إنّ هذا التهافت يبدو واضحاً في المقام بالنظر إلى ما يتراءى من عبائر التقريرات، حيث إنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) لم يشرح كيفية استفادة جعل الطريقية من دليل الاستصحاب، ولم يوضّح حدود المطلب فيتراءى التناقض بين مطلبيه في البابين.

والتحقيق عدم التناقض بينهما، فإنّه(قدس سره) لو كان يختار: أنّ مفاد الحديث هو النهي التحريمي كما اختاره المحقّق العراقي(رحمه الله)، لكان هذا التناقض مسجّلاً عليه؛ إذ لو كان روح المطلب هو حرمة نقض المتيقّن وإن صحّ إسناد هذا النقض إلى اليقين إذن فلا معنى لقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي، ولو كان روح المطلب هو حرمة نقض اليقين إذن لكفى استحكام اليقين، ولم نحتج إلى فرض إحراز المقتضي، ولكنه(قدس سره) لا يقول بأنّ مفاد الحديث هو النهي التحريمي، وإنّما يرى أنّ مفاده هو النهي الكنائي، فهو قد نهى عن نقض المتيقن مسنداً لهذا النهي إلى اليقين، وهو نهي عن النقض العملي، ولكنّه ليس نهياً تحريمياً عن النقض العملي، وإنّما هو كناية عن بقاء مقتضي الجري العملي تعبّداً. وهذا يحتمل فيه احتمالان:

الأوّل: أنْ يكون المقصود من بقاء مقتضي الجري العملي هو بقاء المتيقّن.

والثاني: أن يكون المقصود منه هو بقاء اليقين.

والمحقّق النائيني(رحمه الله) يرجّح الثاني على الأوّل باعتبار ما يرى من أنّ الحجّيّات المجعولة عقلائياً إنّما تكون كلّها بحسب الارتكاز العقلائي جعلاً للطريقيّة، ولا يتصوّرون في حجّيّاتهم غير ذلك، فيرى(قدس سره) أنّ هذا الارتكاز موجب لانصراف الكلام(2) إلى المعنى الثاني. إذن ففي حين أنّ نقض المتيقّن اُسند إلى اليقين، فيحتاج إلى إحراز المقتضي مثلاً يكون الكلام كناية عن اعتبار بقاء اليقين، فتترتّب آثار العلم الموضوعي والطريقي معاً، فلا تهافت في كلامه(قدس سره) بحسب مبانيه وإن كانت مبانيه غير صحيحة.

نعم، يبقى هنا إشكال آخر وهو: أنّه لعلّه إنّما نزّل الشارع الاستصحاب منزلة اليقين من حيث الآثار العقلية، وهي التنجيز والتعذير، دون الآثار الشرعية، فمن أين عرفنا أنّه قد


(1) راجع نهاية الافكار القسم الاول من الجزء الرابع ص 79 ـ 81.

(2) لعل دعوى هذا الانصراف في خصوص الاستصحاب دون الاُصول العملية البحت يكون بسبب ما لحجّيّة الاستصحاب من جذور الارتكاز العقلائي ولو بمستوىً طفيف، بخلاف الاُصول التعبّدية البحت.

283

جعل الشارع هنا الشكّ علماً، ونزّل الاستصحاب منزلة اليقين في كلا قسمي الآثار؟ ولا معنىً لدعوى جريان الإطلاق في المقام؛ لأنّ هذا التنزيل ليس هو المفاد المطابقي للكلام حسب الفرض، وإنّما المفاد المطابقي له هو النهي، والمفروض أنّ النهي جعل كناية، فلا يُدرى أنّه جعل كناية عن تنزيل الشكّ منزلة العلم في كلا قسمي الآثر، أو جعل كناية عن تنزيله منزلته في خصوص الآثار العقلية من التنجيز والتعذير، ولا تعيّن للأوّل في قبال الثاني، ويكفي في كنائيّة النهي الثاني.

وهذا الإشكال - أيضاً ـ يظهر جوابه بالنظر إلى مباني المحقّق النائيني(رحمه الله) فإنّه(قدس سره) لا يرى أنّ ترتّب التنجيز والتعذير على الاستصحاب أو الأمارة يكون بتنزيلهما منزلة العلم، بل يرى استحالة ذلك؛ لأنّ تنزيل الشارع شيئاً منزلة شيء إنّما يعقل إذا كان آثار الشيء المنزّل عليه من مجعولاته هو، فله أن ينزّل الطواف مثلاً منزلة الصلاة، دون ما إذا كانت آثاره من قبل حاكم آخر، وهو العقل، كما في المقام، فهو(قدس سره) لا يبني على التنزيل في المقام، وإنّما يبني على الاعتبار والفرض، أي: إنّ المولى جعل الاستصحاب أو الأمارة علماً بالاعتبار من دون نظر إلى الآثار. وهذا الشيء الوجداني البسيط، وهو اعتبار الاستصحاب علماً، وفرضه علماً ويقيناً لايعقل تبعّضه، ويترتّب بشكل عفوي وتلقائي كلّ آثار العلم عليه، فبهذا المبنى يرتفع هذا الإشكال - أيضاً ـ وإن كان هذا المبنى - أيضاً ـ غير صحيح، كما شرحناه في محلّه(1).

 


(1) وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الاستصحاب لا يقوم مقام العلم الموضوعي؛ لأنّ قيامه مقام العلم الموضوعي يجب أن يكون بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ إمّا القول بأنّ مفاد الدليل هو تحريم النقض، ومقتضى الإطلاق شمول الحديث لنقض آثار اليقين الطريقي وآثار اليقين الموضوعي معاً.

2 ـ أو القول بأنّ مفاد الحديث هو جعل الطريقية والعلم ولو بلحاظ بعض جهاته. وهذا الجعل إمّا أن يكون بالدلالة المطابقية كما لو فرض السلب في الحديث نفياً لا نهياً، وفرض النقض حقيقياً لا عملياً، أو يكون بالكناية.

3 ـ أو القول بأنّ مفاد الحديث هو التنزيل. وهذا - أيضاً ـ إمّا أن يكون بالكناية، أو بحمل السلب على النفي والنقض على النقض الحقيقي، وتفسير ذلك بالتنزيل.

أمّا الأوّل، فأقلّ ما يرد عليه: أنّه لا ينسجم مع الاستصحابات الترخيصية، كما هو الحال في مورد النصّ، فإنّ استصحاب الطهارة استصحاب ترخيصي.

وأمّا الثاني، فأقلّ ما يرد عليه بطلان المبنى، فإنّ جعل الفرد الاعتباري لا قيمة له ما لم يرجع بروحه إلى التنزيل.

284

 

 

 

جريان الاستصحاب عند الشكّ التقديري:

 

التنبيه الثاني: في جريان الاستصحاب عند الشك التقديري وعدمه. فلو علم بشيء ثمّ غفل عنه، وكان حاله بحيث لو التفت إليه لشكّ، فهو الآن متيقّن بذلك الشيء وإن لم يكن ملتفتاً الى يقينه، فإنّ اليقين قد تركّز في أعماق نفسه. وأمّا الشك فليس موجوداً حتّى بالوجود الارتكازي الإجمالي؛ إذ لم يلتفت أوّلاً ليحصل له الشكّ ثمّ يبقى الشكّ مرتكزاً في أعماق نفسه، وإنّما له شكّ تقديري، أي: لو التفت لشكّ، ففي مثل هذا المورد هل يجري الاستصحاب أو لا؟ قالوا بعدم جريان الاستصحاب، وذكروا لذلك وجهين:

الوجه الأوّل: وجه ثبوتي جاء في كلمات جملة منهم كالمحقّق الخراساني(1) والمحقّق


وأمّا الثالث، فمع فرض الكناية أقلّ ما يرد عليه عدم تماميّة الإطلاق لدى الكناية، والقدر المتيقّن هو قيام الاستصحاب مقام العلم الطريقي، ومع فرض المطابقة وحمل السلب على النفي، والنقض على النقض الحقيقي، أقلّ ما يرد عليه: أنّ حمل السلب في الحديث على النفي خلاف الظاهر.

هذا. وقد مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) الإيراد على الوجه الأوّل، وهو حمل الحديث على إرادة التحريم والتمسّك بإطلاق النقض: بأنّ نقض آثار اليقين الموضوعي نقض لليقين باليقين الناشئ من الشكّ، وليس نقضاً لليقين بالشكّ؛ لأنّ الشكّ أوجب اليقين بزوال موضوع الحكم؛ لأنّ المفروض أنّ موضوع الحكم كان هو اليقين وقد زال قطعاً، ولو جعل للاستصحاب فهذا جعل جديد.

وقد تقول: إنّ هذا الإشكال لا يوجب الفرق بين آثار اليقين الموضوعي واليقين الطريقي؛ لأنّه في مورد اليقين الطريقي أيضاً يمكن أن يقال: إنّ التنجيز أو التعذير قد يكون موضوعه اليقين، ويزول بزواله يقيناً، وإثباته بسبب الاستصحاب إثبات جديد، فإن حمل نقض اليقين بالشكّ على ما يشمل نقض اليقين باليقين الناشئ من الشكّ، فليكن الأمر كذلك بلحاظ اليقين الموضوعي والطريقي معاً.

إلاّ أنّ هذا النقاش إنّما يرد لو فرض تفسير الحديث بنقض آثار ذات اليقين، أمّا لو فرض تفسيره بما يقوله الشيخ النائيني(رحمه الله) من إرادة نقض آثار المتيقّن والذي صحّت نسبته إلى اليقين حقيقة باعتباره هو المحرّك نحو المتيقّن، يكون الفرق بين أثر اليقين الموضوعي وأثر اليقين الطريقي واضحاً، فأثر اليقين الموضوعي لم ينقض لدى الشكّ إلاّ باليقين بزوال الموضوع، ولكن أثر اليقين الطريقي الذي هو في روحه أثر المتيقّن يكون بلحاظ المتيقّن نقضه نقضاً بالشكّ، إذ لا يقين بزوال المتيقّن.

(1) راجع حاشية المحقّق الخراساني(رحمه الله) على فوائد الاُصول: ص 174 ـ 175 بحسب طبعة مكتبة بصيرتي.

285

الإصفهاني(1) والمحقّق النائيني(2)(قدس سرهم)، وهو: أنّ الأحكام الظاهرية إنّما تجعل لكي ينجّز بها الواقع او يعذّر عنه، فإنّما تعقل في مورد قابل للتنجيز والتعذير، فهي غير موجودة عند عدم وصولها إلى المكلف كبرىً أو صغرىً، أو غفلة المكلف عنها كبرىً أو صغرىً؛ لأنّها ليس بالإمكان تأثيرها في التنجيز والتعذير في هذه الموارد، وهذا بخلاف الأحكام الواقعية، فإنّها إبراز لأغراض واقعية ثابتة تكويناً سواء وصلت إلى المكلّف أو لا، وسواء غفل المكلّف عنها أو لا.

أقول: هذا الوجه إنّما تكون له صورة بناءً على مبناهم من كون الأحكام الظاهرية عبارة عن مجرد اعتبارات وجعول لكي يترتّب عليها التنجيز والتعذير، وأمّا على ما حقّقناه في محلّه من أنّها تبرز درجة الاهتمام بالأغراض الواقعية، فتلك الدرجة ـ أيضاً ـ أمر واقعي ثابت سواء وصلت إلى المكلّف أو لا، وسواء غفل المكلّف عنها أو لا، وعلى هذا المبنى لا تبقى صورة لهذا الوجه أصلاً.

الوجه الثاني: ما جاء ـ أيضاً ـ في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)(3) وغيره(4)، وهو وجه إثباتي، وهو: أنّه قد اُخذ الشكّ في لسان دليل الاستصحاب موضوعاً، وظاهر جعل شيء موضوعاً هو كونه موضوعاً بوجوده الفعلي لا التقديري، فمثلاً قوله:(لا تكرم العالم) لا يشمل شخصاً لم يصبح عالماً، لكنّه لو كان يبقى عشرين سنة في الحوزة العلميّة لكان عالماً مثلاً.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّنا حينما نراجع الصحيحة الاُولى نرى أنّه وإن جاء فيها قوله:«ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» ولو خلّينا نحن وهذه الجملة لما كانت تشمل فرض تقديريّة الشكّ لدى الجمود على حاقّ لفظها، لكنّه:

أوّلاً: قد عطف على هذه الجملة قوله:«ولكن تنقضه بيقين آخر»، وهذا ظاهر في الحصر، أي: إنّ الناقض منحصر في يقين آخر فلا ينقض اليقين بغيره من شكّ فعليّ أو تقديريّ، أو ظنّ فعليّ أو تقديريّ مثلاً، فدائماً يعمل وفق اليقين السابق مالم يحصل اليقين بالخلاف.


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 127 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 317 ـ 318 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 350 ـ 351.

(3) راجع كفاية الاُصول: ج 2، ص 308 حسب الطبعة المشتملة في حاشيته على تعليق المشكيني.

(4) راجع المصادر السابقة من نهاية الدراية وفوائد الاُصول وأجود التقريرات.

286

وثانياً: لا وجه للجمود على حاقّ اللفظ في قوله:«لا ينقض اليقين بالشكّ» فإنّ العرف لا يحتمل كون فعليّة الشكّ دخيلة في عدم النقض، ويرى أنّ مناط عدم النقض هو ما للشكّ من الوهن الثابت فيه من دون فرق بين فرض فعليّته أو تقديريّته، وتقديريّته لا تجعله أقلّ وهناً إن لم نقل إنّ فعليّته تجعله في نظر العرف أقلّ وهناً. إذن فالعرف لا يحتمل أنّ الشكّ لدى فعليّته لا ينقض اليقين السابق، ولدى تقديريّته ينقض.

هذا. وإن تمّ هذا الوجه جرى في سائر روايات الباب أيضاً، على أنّ الوجه الأوّل ـ أيضاً ـ تامّ في صحيحة عبدالله بن سنان التي تمّت عندنا سنداً ودلالةً على الاستصحاب؛ إذ يقول: فيها:«إنّك قد أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه قد نجّسه»، فترى أنّه جعل العبرة بعدمه اليقين بالخلاف، لا بالشكّ المساوق للتردّد المستظهر منه فعليّة الشكّ مثلاً، وكذا الحال في روايات:(كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر) و(كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام) بناءً على مبنى المحقّق الخراساني(رحمه الله) من تماميّة دلالتها على الاستصحاب، فإنّه ـ أيضاً ـ جعل العبرة فيها بعدم العلم بالخلاف دون الشكّ.

 

ثمرة البحث في جريان الاستصحاب عند الشكّ التقديري:

أمّا الكلام في ثمرة هذا البحث، فقد ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله) وغيره: أنّه تظهر ثمرة البحث في ما إذا كان محدثاً، ثمّ غفل وصلّى، ثمّ التفت.

توضيح الكلام في ذلك: أنّه إذا كان محدثاً ثمّ غفل وصلّى، ثمّ التفت إلى المطلب، واحتمل أنّه من باب الصدفة توضّأ في حالة غفلته، وكان في حال غفلته بنحو لو التفت لشكّ في بقاء الحدث ولم يجزم ببقائه، فهنا هل يحكم بصحّة الصلاة على أساس قاعدة الفراغ، أو لا؟ إن بنينا على عدم جريان الفراغ في موارد كون احتمال الصحّة من باب احتمال الإتيان بالشرط أو الجزء من باب الصدفة، لا في حال الذكر والعمد ـ كما هو الصحيح ـ، فلا إشكال في أنّه لا يحكم بصحّة هذه الصلاة، من دون فرق بين أن يحكم بجريان الاستصحاب لدى الشكّ التقديري وعدمه، ولا يبقى موضوع لهذه الثمرة، وإنّما تفرض في موضوع هذه الثمرة دعوى جريان قاعدة الفراغ حتّى عند إحتمال الصحّة من باب الصدفة، ومن دون فرض الأذكريّة، وعندئذ نقول: لو لم نقبل الاستصحاب عند الشكّ التقديري صحّت الصلاة بقاعدة الفراغ؛ إذ لا يعارضه لا الاستصحاب في حال الصلاة، لعدم جريانه فيها، لكون الشكّ تقديرياً، ولا الاستصحاب بعد الصلاة، لتقدّم قاعدة الفراغ عليه، ولو قبلنا الاستصحاب عند الشكّ

287

التقديري لم تصحّ الصلاة، ولم تجرِ قاعدة الفراغ بعد الصلاة؛ لأنّ الصلاة كانت محكومة في حين الإتيان بها بالبطلان بحكم استصحاب الحدث، وقد اُخذ في موضوع قاعدة الفراغ عدم كون العمل في حين الإتيان به محكوماً بالبطلان، فيرتفع موضوعها بالاستصحاب حال الصلاة، ولذا لا يشكّ أحد في عدم جريان قاعدة الفراغ لو كان شكّه في بقاء الحدث حين الصلاة فعلياً.

وهذا البيان بهذا الترتيب يرد عليه: أنّه لا يوجد أيّ دليل على أخذ هذا القيد ـ أعني: قيد عدم كون العمل حين الإتيان به محكوماً بالبطلان في موضوع قاعدة الفراغ ـ وإنّما نشأ هذا التوهّم من ناحية الالتفات إلى ما أشرنا إليه من الفرع، وهو ما لو كان شاكّاً بالفعل حين الصلاة في بقاء الحدث حيث لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرض، ولكن التحقيق: أنّ عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرض ليس لأجل أخذ هذا القيد في موضوع قاعدة الفراغ، بل لأجل اشتراط كون الشكّ حادثاً بعد العمل كما يظهر من قوله:«كلّما مضى من عملك فامضه كما هو» أو «كلّما شككت في شيء وقد جزته فامضه كما هو»، وهذا الشرط غير موجود في هذا الفرض، وموجود فيما نحن فيه، ولو اُريد أن يؤخذ قيد زائد في موضوع قاعدة الفراغ فليؤخذ قيد أن لا يكون العمل حين العمل باطلاً في نظر العامل، وواصلاً إليه الحكم بالبطلان، وهذا القيد موجود في ما نحن فيه. وعليه، فقاعدة الفراغ في نفسها جارية، ولا يرفع موضوعها الاستصحاب الجاري في حال الصلاة بناءً على جريان الاستصحاب لدى الشكّ التقديري.

وعندئذ يقع الكلام في أنّه هل نأخذ بقاعدة الفراغ ونحكم بصحّة الصلاة، أو أنّه لا يمكن الأخذ بها لابتلائها بالمعارض، وهو الاستصحاب؟ قد يقال: إنّنا نأخذ بقاعدة الفراغ، ولا معارض لها؛ إذ لا يعارضها الاستصحاب لا بوجوده الحدوثي، أي: بوجوده حين الصلاة، ولا بوجوده البقائي، أي: بوجوده بعد الصلاة. أمّا الثاني فواضح، فإنّنا قد اتّفقنا على تقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب الذي يجري في عرضها. وأمّا الأوّل فلأنّ وجود الاستصحاب حين الصلاة ليس معارضاً لجريان القاعدة بعد الصلاة؛ إذ هما حكمان ظاهريان مختلفان واقعان في زمانين، لا في زمان واحد، فلا منافاة بينهما، وهما نظير ما لو كان الشخص في حين صلاته يقلّد من يحكم ببطلان هذه الصلاة، ثمّ بعد الصلاة مات مقلَّده وكانت الوظيفة الرجوع إلى الحيّ، فقلّد من يحكم بصحّة تلك الصلاة.

إلاّ أنّ التحقيق وجود المنافاة بين الاستصحاب بوجوده الحدوثي وقاعدة الفراغ؛ وذلك

288

لأنّ التفكيك بين الوجود الحدوثي لهذا الاستصحاب والوجود البقائي له غير ممكن؛ لأنّ مقتضى هذا التفكيك اختصاص هذا الحكم الظاهري الاستصحابي بصورة الغفلة، وأنّه بمجرّد الالتفات يرتفع، وجعل هذا الحكم إمّا غير عقليّ أو غير عقلائي(1). إذن فهناك ملازمة بين الوجود الحدوثي للاستصحاب والجود البقائي له في المقام، وبما أنّ قاعدة الفراغ تنافي الوجود البقائي للاستصحاب تنافي لا محالة وجوده الحدوثي؛ فإنّ ما ينافي أحد المتلازمين ينافي الآخر قهراً.

وعندئذ هل نقول بتقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب حال الصلاة كما نقول بتقدّمها على الاستصحاب بعد الصلاة، أو لا نقول بالتقدّم، فيتعارضان ويتساقطان؟ هذا يختلف باختلاف المبنى في وجه تقدّم القاعدة على الاستصحاب بعد الصلاة، فإن كان الوجه في ذلك كون القاعدة رافعة للشكّ؛ لكونها أمارة، فترفع موضوع الاستصحاب، وتحكم عليه، لم تتقدّم القاعدة على الوجود الحدوثي للاستصحاب؛ لأنّها إنّما ترفع الشكّ من حين وجودها، وهو ما بعد الصلاة، لا من حين الصلاة. نعم، حيث إنها ترفع موضوع الاستصحاب بعد الصلاة تدلّ بالملازمة على عدم الاستصحاب حين الصلاة؛ لما عرفت من الملازمة بين الوجود الحدوثي للاستصحاب ووجوده البقائي، لكنّ الاستصحاب حين الصلاة ـ أيضاً ـ يدلّ بالملازمة على عدم قاعدة الفراغ وهذا معنى التعارض.

ولا يقال: إنّ قاعدة الفراغ باعتبارها أمارة تحكم مداليلها الالتزامية ـ أيضاً ـ على أصل يعارضها في مورد المداليل الالتزامية.

فإنّه يقال: إنّ قاعدة الفراغ ليست من الأمارات التي تثبت مداليلها الالتزامية، فمثلاً من شكّ بعد الصلاة في أنّه توضّأ أو لا يُجري قاعدة الفراغ، لكنّه لا يبني على ما هو لازم ذلك من عدم لزوم التوضّئ للصلوات الاُخرى. نعم، دليل قاعدة الفراغ أمارة تكون مثبتاتها


(1) قد تقول: إنّ لغوية الاستصحاب بوجوده الحدوثي لولا حجّيّته بقاءً لا تثبت حجّيّته بقاءً دفعاً للغويّة، فإنّ قاعدة صون كلام الحكيم عن اللغوية إنّما تجري في أصل مفاد الكلام، لا في الإطلاق؛ لأنّ تكوّن الإطلاق مشروط بعدم اللغوية، فإذا اُلغي في مورد مّا لم ينعقد، لا أنّه ينعقد ويثبت به ما لولاه لكان الإطلاق لغواً.

والجواب: أنّ الكلام في المقام لم يكن في انعقاد الإطلاق وعدمه كي يرد هذا الإشكال؛ فإنّ الإطلاق في دليل الاستصحاب في حدّ ذاته منعقد في المقام، ومثبت لحجّيّة الاستصحاب بحصّته الحدوثية والبقائية، ولا لغويّة في ذلك، وإنّما الكلام يكون في أنّ قاعدة الفراغ التي ثبتت بدليل منفصل لا بدليل متّصل، فلا توجب هدم الإطلاق لو منعت عن الحصّة البقائية للاستصحاب لا متنعت الحصّة الحدوثية أيضاً؛ لأنّ وجودها بلا بقاء لغو، فالتنافي سار إلى الحصّة الحدوثية.

289

حجّة، لكنّها لا ترفع موضوع جريان الاستصحاب حين الصلاة، وهو الشكّ في الطهارة حتّى تحكم عليه، وإنّما ترفع الشكّ في حجّيّة الاستصحاب، وتبدّله إلى العلم التعبّدي بعدم الاستصحاب مثلاً، كما أنّ دليل الاستصحاب أمارة توجب العلم التعبّدي بعدم قاعدة الفراغ، ويتعارضان.

وإن كان الوجه في تقدّم القاعدة على الاستصحاب هو الأخصّية أو ما بحكمها ـ وهو الصحيح ـ، فالقاعدة تقدّم هنا على الاستصحاب بوجوده المستمرّ، فإنّ المفروض أنّ دليلها أخصّ من دليل الاستصحاب، وخصص به الاستصحاب، فيرفع اليد عن هذا الاستصحاب بلا فرق بين حالة حدوثه وحالة بقائه، وعندئذ ترتفع الثمرة من البين؛ إذ على أيّ حال تصحّ الصلاة بقاعدة الفراغ سواء قلنا بجريان الاستصحاب عند الشكّ التعليقي أو لا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) ذكر هنا فرعاً آخر، وهو: أنّه لو كان عالماً بالطهارة ثمّ شكّ في بقاء الطهارة، ثمّ غفل وصلّى، وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّه قبل الصلاة قد تواردت عليه حالتان: الطهارة والحدث، فبناءً على أنّ الاستصحاب يجري في موارد الشكّ التقديري تصحّ صلاته؛ لأنّه كان في حال الصلاة متطهّراً بالطهارة الظاهريّة، وبناءً على عدم جريانه لا تصحّ الصلاة لعدم ثبوت الطهارة له في الصلاة، لا واقعاً ولا ظاهراً(1).

وإنّما فرض(قدس سره) أنّه شكّ أوّلاً في الطهارة ثمّ غفل، ولم يفرض الغفلة رأساً كي لا تكون الصلاة مورداً لقاعدة الفراغ، وتصحّ على كلّ حال(2)؛ إذ مع فرض الغفلة رأساً يكون شكّه شكاً حادثاً بعد الصلاة، فتجري فيه قاعدة الفراغ، وأمّا إذا كان شاكّاً أوّلاً ثمّ غفل، ثمّ شكّ، فهذا الشكّ هو نفس الشكّ الحادث قبل الصلاة، والعرف لا يرى استحالة إعادة المعدوم.

وإنّما فرض(قدس سره) حصول العلم بعد الصلاة بتوارد الحالتين، لا بأنّه كان محدثاً؛ لأنّه لو علم بعد الصلاة بأنّه كان محدثاً لم يكن هناك موضوع لتوهّم كفاية ما كان له عند الصلاة من استصحاب الطهارة؛ لأنّ الاستصحاب ليس إلاّ حكماً طريقياً، وقد انكشف خلافه، والطهارة عن الحدث شرط واقعي. وهذا بخلاف فرض العلم بتوارد الحالتين، فإنّ هذا الحكم الطريقي لم ينكشف عندئذ خلافه بعد الصلاة.

إلاّ أنّك ترى ـ بغضّ النظر عن مسألة: أنّ الشكّ عند طروّ الغفلة هل يعتبر تقديرياً أو


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 17.

(2) بعد فرض البناء على عدم اشتراط قاعدة الفراغ بالأذكرية.

290

فعلياً ـ أنّ استصحاب الطهارة في حال الصلاة لا يفيدنا حتّى في هذا الفرض الذي فرضه المحقّق العراقي؛ لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب قد انقطع بعد الصلاة بحصول العلم بتوارد الحالتين، والاستصحاب إنّما يؤمّن ما دام موجوداً، وبعد زواله يزول معه التأمين، فلا يؤمّنه من عدم الإعادة(1).

ثمّ إنّنا بهذه المناسبة نتكلّم في صور العلم بالطهارة أو الحدث مع الشكّ الفعليّ أو التقديريّ، لكي نرى حال الصلاة في هذه الفروض في ضوء تطبيق ما عندنا من اُمور أربعة، اثنان منها مؤمِّنان، وهما استصحاب الطهارة وقاعدة الفراغ، واثنان منها منجِّزان، وهما استصحاب النجاسة وأصالة الاشتغال، ونلحظ في جانب الاستصحاب الشرط الذي يذكرونه من كون الشكّ فعلياً لا تقديرياً، لنرى أنّه هل تختلف النتيجة لدى الاعتراف بهذا الشرط وعدمه أو لا؟ كما نلحظ ـ أيضاً ـ في جانب قاعدة الفراغ ما يُذكر من شروط ثلاثة:

(1) كون الشكّ حادثاً بعد انتهاء الصلاة، لا حادثاً قبل ذلك.


(1) قد تقول: إنْ صحّ ما مضى من الملازمة بين الحصّة الحدوثية للاستصحاب والحصّة البقائية؛ لكون اختصاص الاستصحاب بحالة الغفلة موجباً للغويّته عقلاً أو عقلائياً، قلنا هنا أيضاً: إنّ الحصّة الحدوثية للاستصحاب تثبت الأمن بعد زوال الغفلة؛ إذ لولا ذلك للغت الحصّة الحدوثية.

وقد يقال: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الاستصحاب غير جار في ذاته في مورد توارد الحالتين. أمّا لو قلنا بأنّه جار في ذاته في مورد توارد الحالتين، ولكنّه ساقط بتعارض الاستصحابين، فهذا الكلام لا يتمّ ؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث يعارض استصحاب بقاء الطهارة حتّى بحصّته الحدوثية بعد فرض الملازمة بين حصّته الحدوثية والبقائية، فتسقط الحصّتان بمعارضته إيّاهما، ولا يبقى تأمين بعد زوال الغفلة.

ولكنّ الواقع، أنّ هذا الإشكال غير وارد في ذاته سواءً قلنا: إنّ مورد تعارض الحالتين مورد لتعارض الاستصحابين، أو قلنا: إنّه ليس مورداً للاستصحاب أصلاً؛ وذلك لأنّنا إنّما استفدنا في ما مضى من الملازمة بين الحصّة الحدوثية والبقائية من باب أنّ دليل الاستصحاب كان شاملاً في ذاته للاستصحاب المطلوب بكلتا حصّتيه: الحدوثية والبقائية من دون لغوية، ولم نكن نقصد إثبات الإطلاق بقانون صون كلام الحكيم عن اللغوية، فقلنا عندئذ: لو كانت القاعدة معارضة للحصّة البقائية للاستصحاب إذن هي معارضة للحصّة الحدوثية أيضاً، واستفدنا هذه المعارضة ممّا قلناه من الملازمة بين الحصّتين. أمّا في المقام فالمدّعى: أنّ دليل الاستصحاب لا يشمل في ذاته ـ وبقطع النظر عن معارض منفصل ـ الحصّة البقائية التي علم المكلّف في زمانها بتوارد الحالتين: إمّا لأجل تعارض الاستصحابين وتساقطهما، وإمّا بدعوى: أنّ مورد توارد الحالتين ليس مشمولاً في ذاته لدليل الاستصحاب، فإذا بطل الاستصحاب بحصّته البقائية كان الاستصحاب بحصّته الحدوثية لغواً. وهذا يعني بطلان الإطلاق لدليل الاستصحاب حتّى بلحاظ الحصّة الحدوثية. وهذا ـ كما ترى ـ ليس بحثاً عن سقوط الإطلاق بمعارض منفصل، بل هو بحث عن عدم انعقاد الإطلاق من أوّل الأمر، وقد مضى: أنه ليس بالإمكان إثبات الإطلاق وإثبات ما يتوقّف عليه عدم لغويته بلزوم اللغوية لولاه، فكم فرق بين الموردين.