243

تستيقن أنّه نجّسه». فهذا الحديث ـ أيضاً ـ غير مشتمل على كلمة(النقض) وشبهها، فيمكن الاستدلال به على حجّيّة الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي، إلاّ أنّه يمكن المناقشة في ذلك بأنّه(عليه السلام) عبّر بقوله:«ولم تستيقن أنّه نجّسه» وبقوله:«حتّى تستيقن أنّه نجّسه» فخصوصيّة كون الشكّ في الرافع موجودة في الكلام، وليست هذه الخصوصيّة من الخصوصيّات التي يلغيها العرف ويحملها على المثاليّة.

وعلى أيّة حال، ففيما عرفت من عدم صحّة أصل الاستشكال في الشكّ في المقتضي بواسطة كلمة(النقض) غنىً وكفاية.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ الاستصحاب حجّة مطلقاً، من دون تفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، ومن دون تفصيل بين الحكم المستفاد عن طريق الدليل اللفظي والحكم المستفاد عن طريق الدليل العقلي، ومن دون تفصيل بين موارد الشكّ في الرافع وموارد الشكّ في المقتضي(1).

 


(1)

التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية:

وقع هناك حديث في التفصيل بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، بأن يقال: إنّ الاستصحاب في الأحكام التكليفية يجري، ولكنّه في الأحكام الوضعية أو بعضها لا يجري، وتعارف لدى الأصحاب أن بحثوا بهذه المناسبة أصل حقيقة الحكم الوضعي قبل أن يبحثوا: أنّ الاستصحاب يجري فيه أو لا يجري، فوقع هذا البحث في الرسائل والكفاية وبحث الشيخ النائيني، وكذلك في بحث السيّد الخوئي(رحمه الله) وإن كان السيّد الاُستاذ(رحمه الله) طوى هذا البحث في بحثه الخارج، وذكره مختصراً في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة.

حقيقة الحكم الوضعي:

الحكم التكليفي والحكم الوضعي كلاهما يشتركان في أنهما تشريع أو ما يشبه التشريع، وأقصد بما يشبه التشريع: الانتزاع من التشريع كما قد يقال بذلك في بعض الأحكام الوضعية، أو مجرّد الإرادة والكراهة المولوّيتين على ما يقول البعض في الأحكام التكليفية من أنّ روحها وحقيقتها إنّما هي الإرادة والحبّ، أو الكراهة والبغض، فبشكل عامّ ومع شيء من المسامحة ـ كي لا يشذّ عن حسابنا رأي يقول في الأحكام التكليفيّة: إنّها الإرادة والكراهة، ولا يشذّ عن حسابنا بعض الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة ـ نقول: الحكم تشريع، والتشريعات الإلهيّة هي الأحكام، والأحكام هي التشريعات، والتشريعات على قسمين: التشريعات التكليفية والتشريعات الوضعية.

244


وخير ما قيل بصدد الفرق بين التشريعات التكليفية والتشريعات الوضعية هو: أنّ التشريعات التكليفية هي التي توجّه سلوك المكلف مباشرة، والتشريعات الوضعية هي التشريعات التي لا توجّه سلوك المكلف مباشرة، بل إمّا شرّعت لتكون موضوعات لأحكام تكليفيّة أو تكون هي منتزعة من أحكام تكليفيّة، فهي تنظّم توجيهات ترد لسلوك المكلف أكثر من أن تكون موجّهة مباشرة لسلوك المكلف، في حين أنّ الأحكام التكليفيّة توجّه مباشرةً سلوك المكلف، فهي تقول: افعل، أو تقول: لا تفعل، أو تقول: يحسن أن تفعل، أو تقول: لا يحسن أن تفعل، أو تقول: أنت مخيّر مثلاً، وما إلى ذلك.

وقد اتّضح من ضمن هذا الكلام الذي ذكرناه أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين:

أحدهما: تشريعات تصبح موضوعات لأحكام تكليفية، من قبيل الزوجيّة مثلاً التي هي تشريع الهيّ من تشريعات الإسلام، وليست هي توجّه مباشرة سلوك المكلف، لكنّها تكون موضوعاً للأحكام التكليفيّة التي توجّه مباشرة سلوك المكلف من وجوب النفقة، أو وجوب الوطء أو جوازه، أو ما شابه ذلك من أحكام، وكذلك الملكيّة مثلاً التي هي تشريع الهيّ، وهي ـ أيضاً ـ موضوع للأحكام التكليفيّة التي هي الموجّهات المباشرة من قبيل جواز التصرّف من قبل المالك، أو حرمة التصرّف من قبل غير المالك، وما شابه ذلك.

والقسم الآخر: الأحكام الوضعيّة التي هي في طول الأحكام التكليفيّة بالانتزاع منها، وإن سمّيناها تشريعيّة فهي مشرّعة بالتّبع أو بالعرض والمجاز، وليست مشرّعة بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما هو الحال في مثل شرطية الشي للمكلف به، أو جزئيّته أو مانعيّته.

هذان هما القسمان المألوف ذكرهما بالنسبة للأحكام الوضعيّة.

تقسيم الشيخ الخراساني للأحكام الوضعيّة:

إلاّ أنّ الشيخ الخراساني(رحمه الله) قسّم الأحكام الوضعيّة إلى ثلاثة أقسام بدلاً عن أن يقسّمها إلى قسمين، فقال: إنّ الأحكام الوضعية تنقسم إلى أقسام ثلاثة: أوّلها ما لا تناله يد التشريع أصلاً، لا بالاستقلال كما نقوله مثلاً في الملكيّة والزوجيّة، ولا بالتبع، أو قل: بالانتزاع من أحكام اُخرى كالشرطيّة للمكلف به، بل هي اُمور حقيقية وواقعية وتكوينية لا تجعل جعلاً تشريعياً ولو بالتبع وبالعرض والمجاز، أو بالانتزاع، وإن شئت أو أحببت أن تعبّر أنه تنالها يد الجعل قل: تنالها يد جعل التكوين، لا يد جعل التشريع، وذلك بتكوين موضوعها، وذلك من قبيل السببية والشرطية والمانعية بالنسبة لأصل التكليف، من قبيل أنّ زوال الشمس شرط، أو سبب لوجوب الصلاة، أو خلّو المرأة من الحيض شرط لوجوب الصلاة، او قل: الحيض مانع عن وجوب الصلاة، أو اليقظة شرط لوجوب الصلاة، أو الحضر شرط لوجوب التمام، أو الصوم او الصحّة شرط لوجوب الصوم، وما شابه ذلك. والقسم الثاني والثالث من هذه الأقسام الثلاثة الواردة في كلام المحقق الخراساني(رحمه الله)هما المعروفان، حيث إنّ القسم الثاني هو الذي تناله يد الجعل مباشرة بلا واسطة مستقلاً، كما أنّه يمكن ـ أيضاً ـ أن تناله يد الجعل انتزاعاً كالملكية مثلاً، حيث إنّ الملكية يمكن أن تنالها يد الجعل مباشرة بأن يشرّع المولى الملكية ويمكن ان يفترض أنّ

245


المولى شرّع جواز التصرّف مثلاً، ثمّ انتزع من جواز التصرّف الملكيّة، أو كالزوجيّة حيث يمكن افتراض أنّ الشريعة شرّعت الزوجيّة، إذن نالتها يد الجعل مباشرة، ويمكن افتراض أنّ الشريعة شرّعت جواز الوطء وما شابه ذلك من الأحكام، فانتزع منها الزوجيّة، والطهارة يمكن افتراض جعلها مباشرة ويمكن افتراض جعل أحكامها التكليفيّة، ثمّ انتزاع الطهارة من تلك وما شابه ذلك. هذا هو القسم الثاني، والصحيح الأقوى الظاهر من الأدلّة هو أنّها مجعولة مباشرة وليست منتزعة فهي وإن كان يمكن عقلاً أن تكون منتزعة كما يمكن عقلاً أن تكون مجعولة بالاستقلال، لكن الظاهر من لسان الأدلّة ومن المرتكز المتشرعي وما شابه ذلك أنّها هي مجعولة جعلاً استقلالياً. والقسم الثالث هي الأحكام الوضعية الانتزاعية من قبيل الشرطية والجزئية والمانعية للمكلف به، من قبيل: أنّ الطهارة شرط، أو النجاسة مانعة عن الصلاة، وما شابه ذلك، أو السورة جزء للصلاة، فهذه الشرطية والجزئية والمانعية تنتزع من الحكم التكليفي الذي تعلّق بالصلاة عن طهارة، أو تعلّق بالصلاة مع السورة وما شابه، وما أضافه الشيخ الخراساني(رحمه الله) إلى ما هو المعروف هو القسم الأوّل، وهو القسم الذي لا يكون أصلاً مجعولاً لا جعلاً حقيقياً أو جعلاً مستقلاً، ولا جعلاً تبعيّاً.

وقبل أن أبدأ بتحقيق المطلب أشير إلى كلمة كملاحظة عابرة وهي: أنّ الشيخ الآخوند(رحمه الله)حينما أراد أن يمثّل للقسم الأوّل مثّل بالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة لأصل التكليف، وهنا للسيد الخوئي كلام حيث يقول: إنّ الفرق بين الشرطية والسببية مجرّد اصطلاح بحت، ففي واقع الأمر يوجد لدينا شيئان: الشرطية والمانعية، أمّا الشرطية والسببية فالفرق بينهما فرق اصطلاحي بحت، فقد اصطلح الفقهاء أو المحقّقون العلماء على أنّ المشروط لو كان حكماً تكليفياً سُمّي الشرط شرطاً ولو كان حكماً وضعياً سُمّي الشرط سبباً، هذا اصطلاح فقط لا أكثر، مثلاً بالنسبة لوجوب الصلاة الذي هو حكم تكليفي يسمّى زوال الشمس شرطاً لوجوب الصلاة، أو يسمّى العقل أو اليقظة شرطاً لوجوب الصلاة؛ لأنّ وجوب الصلاة أمر تكليفي. أمّا الملكية التي هي حكم وضعي فيسمّى البيع الذي هو شرط لحصولها سبباً فيقال: البيع أو الشراء سبب لحصول الملكية، أو الحيازة، هذا ما يقوله السيد الخوئي.

أمّا الشيخ الآخوند فلا أظنّه ينظر إلى هذا المعنى، وأظنّه يقصد بالسبب الموضوعات الرئيسة، وبالشرط الموضوعات الجانبية، أي: إنّ الشيء الرئيس الأصلي يفترضه سبباً سواء في الأحكام التكليفيّة أو في الأحكام الوضعيّة، أو أنّه ينظر إلى الأحكام التكليفيّة فحسب، ولا ينظر إلى الأحكام الوضعيّة، والموضوع الرئيس لتلك الأحكام يسمّيه سبباً، والاُمور الجانبية الدخيلة في الموضوع يسمّيها شرطاً.

وعلى أيّ حال فسواء كان الأمر هكذا أو هكذا لا يؤثّر ذلك في جوهر المطلب.

والآن نعود إلى تحقيق البحث في المقام ونعقد البحث في عدّة اُمور:

أوّلاً: في القسم الذي أضافه الشيخ الآخوند(رحمه الله) من الأحكام الوضعيّة التي لا تقبل الجعل المستقلّ ولا الانتزاع من الجعل أو الجعل التبعي، وهي السببيّة والشرطيّة والمانعية لأصل التكليف.

وثانياً: في القسم الأوّل من القسمين المعروفين للأحكام الوضعيّة، وهي القابلة للجعل الاستقلالي وللانتزاع او الجعل التبعي، كالزوجية والملكية والتي اشتهر القول فيها بالجعل الاستقلالي.

وثالثاً: في القسم الثاني من القسمين المعروفين للأحكام الوضعية، وهي الانتزاعية كالجزئيّة والشرطيّة

246


والمانعيّة.

ورابعاً: في بحث إشكال الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة أو خصوص الانتزاعيّة منها.

ثم نختم الحديث عن الأحكام الوضعيّة ببحث حقيقة الطهارة والنجاسة، هل هما مجعولتان شرعيّتان، أو حقيقتان واقعيتان؟

بحث القسم الأوّل من تقسيم الشيخ الخراساني:

أمّا الأمر الأول، وهو البحث عمّا أفاده الشيخ الخراساني(رحمه الله) في المقام من وجود أحكام وضعيّة بعيدة عن الجعل الأصلي والتبعي أو الانتزاعي معاً، فقد عرفت أنّه(رحمه الله) ادّعى أنّ السببيّة والشرطيّة والمانعيّة هي أحكام وضعيّة تكوينيّة، وأنّ هذه لا تقبل الجعل الاستقلالي ولا الجعل بالتبع، بل هي إن شئتم أن تسموها مجعولة قولوا: هي مجعولة جعلاً تكوينياً بتبع جعل نفس السبب، يعني نفس زوال الشمس، فالله الذي خلق زوال الشمس خلق سببيّته؛ لأنّ سببيّته صفته، أي: صفة زوال الشمس، وخالق الموصوف هو خالق الصفة بالتبع، وقد ذكر الشيخ الخراساني(رحمه الله) ـ بقدر ما هو وارد في الكفاية(1) ـ دليلين على المدّعى يبدو أنّه يريد بالدليل الأوّل أن يبطل فرض الانتزاع، وبالدليل الثاني أن يبطل كلا الشقّين، أي: فرض الانتزاع وفرض الجعل الاستقلالي:

الدليل الأوّل للشيخ الخراساني:

ففي الدليل الأوّل يقول: لا يمكن أن تكون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة بالنسبة للأحكام التكليفيّة هي منتزعة من الحكم التكليفي؛ وذلك لأنّ الحكم التكليفي متأخّر عن الشرط والسبب، فكيف تكون الشرطيّة والسببيّة منتزعة من الحكم التكليفي، فوجوب الصلاة مثلاً متأخّر رتبة عن زوال الشمس تأخر الحكم عن موضوعه؛ لأنّ زوال الشمس موضوع لوجوب الصلاة، فوجوب الصلاة متأخّر عن زوال الشمس، فكيف تكون سببيّة زوال الشمس أو شرطيّة زوال الشمس لوجوب الصلاة منتزعةً عن وجوب الصلاة؟ وكأنه(رحمه الله) يريد أن يقول: إنّنا نعلم أنّ التأخّر الرتبي لوجوب الصلاة عن زوال الشمس نتج عن أنّ زوال الشمس شرط أو سبب، ولو لم يكن زوال الشمس سبباً أو شرطاً لوجوب الصلاة لما كان وجوب الصلاة متأخّراً عن زوال الشمس، فإنّما صار متأخراً لأنّه شرط أو سبب، فكيف يمكن أن تكون الشرطيّة أو السببيّة منتزعةً عن الحكم التكليفي وهو وجوب الصلاة؟! فلو كان وجوب الصلاة ثابتاً بقطع النظر عن الشرطيّة والسببيّة عندئذ قولوا: إنّ الشرطيّة منتزعة عن الحكم التكليفي، وهو وجوب الصلاة مثلاً، لكنّه ليس من المحتمل أن يكون وجوب الصلاة ثابتاً بقطع النظر عن الشرطيّة والسببية؛ لأنّ وجوب الصلاة متأخّر رتبة عن زوال الشمس، وهذا التأخّر الرتبي لا يمكن أن يكون


(1) ج 2، ص 303 ـ 304 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني

247


إلاّ بنكتة: أنّ زوال الشمس شرط أو سبب، وكذلك في المانع كالحيض مثلاً الذي هو مانع عن وجوب الصلاة.

وهنا الشيخ المشكيني الذي علّق على الكفاية يترجم كلام صاحب الكفاية، حيث قد يبدو عطف المانع على الشرط والسبب غريباً، فكون وجوب الصلاة متأخّراً عن الزوال أمر مفهوم، أمّا كون وجوب الصلاة متأخّراً عن الحيض فهو أمر غير مفهوم؛ فإنّ الحيض ينهي ويبطل الصلاة، فكيف يكون وجوب الصلاة متأخّراً عن الحيض؟! الشيخ المشكيني يقول: هذا معناه أنّ وجوب الصلاة بما أنّه كان متأخّراً عن عدم الحيض باعتبار أنّ عدم المانع شرط فوجوب الصلاة متأخّر عن عدم الحيض، وبما أنّ عدم الحيض والحيض نقيضان، والنقيضان في رتبة واحدة،فالمتأخّر عن أحد النقيضين متأخر عن النقيض الآخر، فوجوب الصلاة إذن متأخّر عن الحيض؛ لأنّه متأخّر عن عدم الحيض، وعدم الحيض مع الحيض نقيضان، أو اعكس الأمر وقل: إنّ عدم وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض؛ لأنّ الحيض يفني وجوب الصلاة، فعدم وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض، وعدم وجوب الصلاة مع وجوب الصلاة نقيضان، والنقيضان في رتبة واحدة؛ فإذن وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض، الشيخ المشكيني يذكر شيئاً من هذا القبيل في المقام لتوجيه كلام صاحب الكفاية.

ولو كان هذا هو مقصود صاحب الكفاية يرد عليه إشكال: بأننا لا نقبل مبدأ: أنّ ما مع المتقدّم متقدّم وما مع المتأخّر متأخر، أو أنّ النقيضين في رتبة واحدة.

وإنّني اساساً لا أظنّ أنّ مقصود صاحب الكفاية هذا المعنى، وأظنّ أنّ مقصود صاحب الكفاية هو أنّ عدم وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض؛ إذن لا يمكن أن تكون مانعيّة الحيض منتزعة عن عدم الوجوب، ولا معنى لافتراض أنّ مانعيّة الحيض منتزعة عن وجوب الصلاة كما كنّا نفترض أنّ شرطيّة زوال الشمس منتزعة عن وجوب الصلاة، فقال لنا الآخوند: إنّ شرطيّة زوال الشمس لا يمكن أن تكون منتزعة عن وجوب الصلاة؛ لأنّ وجوب الصلاة متأخّر رتبة عن زوال الشمس، هنا ـ أيضاً ـ لو كنّا نتخيّل أنّ مانعيّة الحيض منتزعة عن وجوب الصلاة يأتي الآخوند ويقول لنا: لا يمكن هذا؛ لأنّ وجوب الصلاة متأخّر، ولكن لا يظنّ بأحد أن يتخيّل أنّ مانعيّة الحيض منتزعة عن وجوب الصلاة، بل المناسب إنّما هو القول بأنّ مانعيّة الحيض منتزعة عن عدم وجوب الصلاة لدى الحيض، فيقول الآخوند: إنّه لا يمكن أن تكون مانعيّة الحيض منتزعة عن عدم وجوب الصلاة لدى الحيض؛ لأنّ عدم وجوب الصلاة متأخّر رتبة عن الحيض، وهذا التأخّر الرتبي نتيجة المانعيّة، فكيف تكون المانعيّة منتزعة عن عدم وجوب الصلاة، فلا حاجة بنا أن نمرّ بتلك المباني، مباني: أنّ النقيضين في رتبة واحدة، أو ما مع المتقدّم متقدّم، أو ما مع المتأخّر متأخّر، هذا هو الوجه الأوّل من وجهي الشيخ الآخوند(رحمه الله).

الدليل الثاني للشيخ الخراساني:

أمّا الوجه الثاني من الوجهين الواردين في الكفاية وهو يريد أن يبطل به كلا الشقّين، أي: إنّ هذه الأحكام السببيّة والمانعيّة والشرطيّة بالنسبة لأصل التكليف لا هي مجعولة جعلاً مستقلاًّ، ولا هي مجعولة جعلاً تبعياً، فهو أنّه لو لم تكن هناك نكتة تكوينيّة وهي عبارة عن الملاكات الأصليّة التكوينيّة التي جعلت زوال الشمس سبباً

248


لوجوب الصلاة، أو شرطاً في وجوب الصلاة، وجعلت الحيض مانعاً عن وجوب الصلاة، لولا تلك النكات لما كان هناك وجه لجعل المولى هذه الاُمور سبباً أو شرطاً أو لجعل تكليف ينتزع منها هذه الاُمور; إذ لولا أنّ هناك نكات قهريّة تكوينيّة موجودة في عالم التكوين للسببيّة والشرطيّة والمانعيّة لكان كلّ شيء سبباً لكلّ شيء، أو كلّ شيء شرطاً لكلّ شيء، وكلّ شيء مانعاً عن كلّ شيء سنخ ما يقال في الأسباب والقضايا الخارجية والقضايا التكوينيّة، فحينما يقال مثلاً: إنّ النار محرقة وهي سبب للإحتراق، أو اقتراب شيء الى النار شرط في الإحتراق، أو كون الشي مبلّلاً بالماء مانع عن الإحتراق، يقال: إنّ هذه السببيّة والشرطيّة وما شابه ذلك إنّما هي بنكات تكوينيّة وطبيعيّة وتسانخ، وإلاّ لكان كلّ شيء سبباً لكلّ شيء، وكذلك نفس هذا البيان يريد الشيخ الآخوند أن يذكره في ما نحن فيه فيقول: لو فرضتم هذه اُموراً جعليّة سواء بالجعل المستقلّ او منتزعاً عن الجعل، فلماذا المولى جعل زوال الشمس سبباً لوجوب الصلاة؟ ولماذا لم يجعل ارتفاع الشمس بمقدار قامة سبباً لوجوب الصلاة؟ ولماذا جعل طلوع الفجر سبباً لوجوب الصوم، ولم يجعل غروب الشمس سبباً لوجوب الصوم؟ فكلّ شيء يمكن أن يجعل ـ لو كانت القضية جعلية ـ سبباً لكلّ شيء، إذن هذه حتماً تتبع خصوصيّات طبيعيّة موجودة في زوال الشمس، أو غروب الشمس، أو طلوع الفجر، أو ما شابه ذلك، فسببيّة زوال الشمس في وجوب الصلاة تكوينيّة قهريّة حقيقيّة، وليست جعليّة، فذاك الملاك هو الذي جعل زوال الشمس سبباً في جعل وجوب الصلاة، وصحيح: أنّ وجوب الصلاة جعليّ، ولا نشكّ في ذلك، لكنّ ما هو السبب، أو ما هو الشرط في جعل وجوب الصلاة وهو زوال الشمس إنّما كان سبباً أو شرطاً لذلك لأنّ فيه ملاكاً يقتضي ذلك، وهذا ليس برهاناً عامّاً يثبت حتّى في شروط المكلف به، بل هذا برهان يجري في الأسباب الموجدة، وهي أسباب وشروط التكليف التي توجب التكليف، ولا يشمل شروط المكلّف به، فإنّ الشرط هناك ليس موجداً للتكليف وإنّما التقيّد داخل في المكلّف به، وبكلمة واضحة: انّ الفرق بين شروط التكليف وشروط المكلّف به هو: أنّ شروط التكليف داخلة في سلسلة علل التكليف، فلا يمكن أن تكون الشرطيّة منتزعة من التكليف، ولا مجعولة بجعل شرعي مستقل. أمّا شروط المكلّف به فهي قيود للمكلّف به، وليست عللاً للتكليف، فلا بأس بانتزاع شرطيتها من التكليف. هذا هو الوجه الثاني وبهذا الوجه الثاني كأنّما يريد أن يبطل كلا الشقّين.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

مناقشة الدليل الأوّل للشيخ الخراساني:

أمّا الوجه الأوّل: وهو أنّه لا يمكن أن تكون شرطية زوال الشمس أو سببيّة زوال الشمس منتزعةً من الحكم التكليفي وهو وجوب الصلاة لتأخر الحكم عن الشرط، فهذا في الحقيقة يستبطن خلطاً في المقام، وإن شئنا أن نتكلّم بلغة مدرسة الشيخ النائيني مدرسة الجعل والمجعول، نقول: هذا خلط بين الجعل والمجعول، أو بين الجعل والفعليّة، فإنّ الشيء الذي يكون متأخّراً عن زوال الشمس إنّما هو فعليّة وجوب الصلاة وليس جعل وجوب الصلاة، فإنّ جعل وجوب الصلاة ليس متأخّراً عن زوال الشمس، فإنّ جعل وجوب الصلاة صار في أوّل

249


الشريعة قبل زوال الشمس، وهذا الجعل يصبح فعلياً حينما تزول الشمس، وزوالها سبب أو شرط لفعليّة وجوب الصلاة، فلا يمكن ان تكون هذه الشرطيّة منتزعة من فعليّة وجوب الصلاة، وهذا صحيح، ولا يدّعي أحد أنّ شرطيّة زوال الشمس منتزعة من فعليّة وجوب الصلاة، إنّما المدّعى أنّ شرطيّة زوال الشمس منتزعة من جعل وجوب الصلاة، أي: حينما جعل المولى وجوب الصلاة ولم يجعله على الإطلاق بل جعله مقيداً بزوال الشمس انتزعت من ذلك شرطية الزوال، سنخ ما يقال في شرط المكلف به: من أنّه حينما أوجب الصلاة مقيّدة بالوضوء انتزع من ذلك أنّ الوضوء شرط في المكلّف به، فعين ذاك الكلام يأتي في طرف التكليف أيضاً.

وإذا أردنا أن نتكلّم بلغة اُستاذنا(رحمه الله) الذي لا يقبل بلغة الجعل والفعليّة، فهنا لا نحتاج إلاّ إلى تغيير بسيط في العبارة، فنقول: هذا خلط بين الجعل وطرفيّة الموضوع للجعل، أو طرفيّة الزمان للجعل، فهذه الطرفيّة متوقّفة على زوال الشمس، أمّا أصل الجعل فليس متوقّفاً على زوال الشمس، فإنّ الجعل حصل قبل زوال الشمس، ونحن لا نريد أن ننتزع، أو لا نريد أن نفترض أنّ شرطيّة زوال الشمس منتزعة من تلك الطرفيّة، إنّما المدّعى: أنّ شرطيّة زوال الشمس منتزعة من الجعل، فجعل وجوب الصلاة المقيّد بزوال الشمس ينتزع منه أنّ زوال الشمس شرط، فهذا البيان الأوّل غير تامّ.

ونحن حتّى الآن ناقشنا هذا البيان الأوّل بعد أخذه من عبارة الكفاية وحمله على المعنى الذي شرحناه.

إلاّ أنّ الشيخ الخراساني(رحمه الله) نفسه قد ذكر هذا البيان في تعليقه على الرسائل بمنهج قد يختلف في ظاهره عمّا حملنا عليه عبارة الكفاية، وخلاصة ما ورد فيه هي: تفسير المسألة بالدور، حيث ذكر: أنّ سببيّة زوال الشمس مثلاً لو كانت منتزعة عن وجوب الصلاة عند زوال الشمس لكان ذلك دوراً؛ لأنّ وجوب الصلاة متأخّر رتبة أو ذاتاً عن زوال الشمس تأخّر المسبّب عن السبب، ولو كانت السببيّة منتزعة عن وجوب الصلاة إذن أصبح السبب متأخراً عن وجوب الصلاة تأخّر المنتزع عن المنتزع عنه، وهذا دور(1).

وهنا يأتي إشكال تلميذه الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) حيث اعترض عليه: بأنّ هذا خلط بين السبب والسببيّة، فوجوب الصلاة متأخّر عن ذات السبب، أي: عن ذات زوال الشمس، وليس السبب منتزعاً عن وجوب الصلاة، وإنّما سببيّته منتزعة عنه(2)، هذا جواب الشيخ الإصفهاني.

ولكن مع ذلك أنا أقول: يمكن توجيه كلام الشيخ الآخوند أو تأويله بأن يقال: لعلّ ظاهر العبارة في التعليقة غير مقصود مثلاً ولو حملاً لكلام الآخوند على الصحّة، باعتبار استبعاد غفلة الآخوند عن هكذا إشكال، وذلك بأن يوجّه كلامه(رحمه الله) بحمله على ما ذكرناه من أن يكون المقصود: أنّ وجوب الصلاة متأخّر عن زوال الشمس تأخّر المسبب عن السبب، وصحيح أنّ وجوب الصلاة متأخّر عن ذات زوال الشمس، لكن لمّا كانت نكتة التأخّر هي السببيّة إذن يجب أن تكون سببيّته محفوظة في المرتبة السابقة على هذا الوجوب؛ كي يمكن أن يترتّب على زوال الشمس وجوب الصلاة. أمّا لو كانت السببيّة متأخّرة عن الوجوب فلا يمكن أن يتفرّع وجوب الصلاة عن


(1) راجع تعليق الآخوند على الرسائل: ص 195 بحسب طبعة بصيرتي

(2) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 105 بحسب طبعة آل البيت

250


زوال الشمس. وبكلمة اُخرى: أنّ المعلول كما يكون متأخّراً رتبة عن ذات العلّة كذلك يكون متأخّراً عن نكتة العلّيّة، فحتّى التعبير بالدور الوارد في عبارة الشيخ الخراساني في تعليقه على الرسائل يمكن توجيهه بهذا التفسير، فوجوب الصلاة المتأخّر عن زوال الشمس لسببيّته متأخّر عن سببيّته، فإذا كانت السببيّة منتزعة عن الوجوب لزم الدور، ولا يرد على ذلك ما ذكره الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) من إشكال الخلط بين السبب والسببيّة، ولكن يرد عليه ما مضى من إشكال الخلط بين الجعل والمجعول، أو الجعل والطرفيّة للجعل.

هذا. وللمحقق الإصفهاني(رحمه الله) ملاحظة اُخرى على كلام الشيخ الخراساني لا بأس بالإشارة إليها هنا بالمناسبة وإن كانت هذه الملاحظة لا تعود إلى برهان الشيخ الخراساني على نفي الجعل التبعي، وإنما تعود إلى أصل التعبير بالجعل التبعي حيث يقول: إنّ هذا خلط بين مصطلح الجعل التبعي ومصطلح الجعل الانتزاعي، فلدينا الحكم أو الجعل الانتزاعي أو العرضي أو المجازي، وكذلك لدينا الجعل التبعي. يقول الشيخ الآخوند: إنّ بعض أقسام الحكم الوضعي مجعول بالجعل التبعي مثل الجزئية والشرطية والمانعية بالنسبة للمكلّف به، لا بالنسبة للتكليف، والتعبير الأدّق أن يقال عنها بأنّها مجعولة بالجعل العرضي أو المجازي أو الانتزاعي، وليس بالجعل التبعي؛ ذلك لأنّ التبعي يعني الجعل الحقيقي، غاية ما هناك أنّه يكون بتبع جعل آخر، مثاله جعل وجوب المقدّمة في رأي من يقول: إنّ وجوب ذي المقدّمة يستدعي وجوب المقدّمة، أي: إنّ المولى إذا أوجب ذا المقدّمة أوجب المقدّمة حتماً؛ لأنّ المكلّف غير قادر على الإتيان بذي المقدّمة من دون الإتيان بالمقدّمة، فوجوب المقدّمة ينال جعلاً حقيقياً، إلاّ أنّ هذا الوجوب وجوب تبعي أو هذا الجعل جعل تبعي، أي: إنّه كان بتبع جعل وجوب ذي المقدّمة وليس وجوباً أصلياً، فالجعل التبعي لا يختلف عن الجعل الأصلي في أنّه جعل حقيقي تحقّق باختيار المولى وفعل من أفعال المولى، غاية ما هناك أنّه حقّقه بالتبع، أي: لم يكن مقصوداً بالأصالة، إنّما المقصود بالأصالة هو ذو المقدمة وإيجابه، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فالقول: بأنّ شرطيّة الطهارة للصلاة أو جزئيّة السورة للصلاة مجعولة جعلاً تبعيّاً كما قال الآخوند(رحمه الله)لا يخلو من المسامحة؛ لأنّ الجعل الشرعي لم يَنَل جزئية السورة، ولا شرطية الطهارة، إنّما الشريعة غاية ما فعلت أنّها أوجبت الصلاة مع سورة، أو أوجبت الصلاة بقيد الطهارة، وتنتزع من ذلك شرطية الطهارة أو جزئية السورة، فهذا انتزاع، أو قل: هذا جعل مجازي أو عرضي، أمّا الجعل التبعي فلا.

هذا تعليق يذكره الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) في المقام، وهذا الكلام صحيح إلاّ أنّه ـ كما ترى ـ مجرّد تعليق لفظي.

وعلى أيّة حال، فلنعد الآن إلى مناقشة الوجه الثاني من الوجهين الواردين في كلام الشيخ الخراساني في المقام، فنقول:

مناقشة الدليل الثاني للشيخ الخراساني:

وأمّا الوجه الثاني، فكان يقصد به إبطال مطلق الجعل الاستقلالي والتبعي أو الانتزاعي، وكانت خلاصته؛ أنّ الشرطية والسببية والمانعية والجزئية لموضوع التكليف ترجع جميعاً في مرحلة التكليف إلى عالم العلّيّة بما لها من تحليلات وأجزاء، والعلّيّة عبارة عن خاصيّة تكوينية قهريّة ذاتيّة موجودة في الأشياء كما قال الفلاسفة بذلك، ولو

251


لا ذلك لكان كلّ شيء علّة لكلّ شيء، والفروع الكثيرة التي رتّبوها من أنّ العلّة الواحدة لا يترتّب عليها معلولان، ومن شرط السنخيّة، ومن أنّ علّتين لا تشتركان في معلول واحد كلّها نتجت من هذه النقطة، وهي نقطة: أنّ هناك خاصية تكوينية في العلة بها صارت العلةُ علةً، ولولاها لكان كلّ شيء علّة لكلّ شيء، ونحن نعلم أنّ الإنشاء والجعل لا يخلق أبداً تلك الخاصية. نعم، الخلق والإيجاد ممكن مثل(يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم) حيث يجعل تكويناً النار برداً، أو يجعل الماء ناراً، ففي الإنشاء والجعل لو قال مائة مرّة: يا نار كوني برداً لا يؤثر ذلِك شيئاً، فالإنشاء لا يخلق الخواص التكوينية، وبما أنّ شرط التكليف وسبب التكليف، والمانع، والقيد، والجزء كلّها ترجع إلى تحليلات عالم العلّيّة إذن كلّها قضايا تكوينيّة، فمهما قال المولى: جعلت زوال الشمس سبباً لوجوب الصلاة فلا أثر له، فإن كان زوال الشمس سبباً فهو سبب، وإن لم يكن زوال الشمس سبباً فليس سبباً، فزوال الشمس إن كانت له خاصيّة تكوينيّة فخاصيّته التكوينيّة هي أنّه يحرّك المولى، ويقدح في نفسه إرادة الايجاب ويصبح زوال الشمس علّة لنفس هذا الإيجاب، وإن لم تكن لزوال الشمس هذه الخاصيّة، فمجرد الجعل، أو الإنشاء، أو التشريع لا يؤثر شيئاً، وكذلك لا يعقل الانتزاع من الجعل، أو الجعل التبعي، وإنّما يكون هذا شيئاً ذاتياً، هذه خلاصة الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ الآخوند، وهو أعمّ وأوسع من الوجه الأوّل، أي: يثبت مدّعاه بكلا شقّيه.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ باطل، سواء آمنّا بمرحلة وسط بين عالم المبادئ وعالم الإبراز وهي مرحلة الجعل، أو لا، فإنّ هناك مسلكين ـ كما تعلمون ـ: مسلك يقول: لدينا مرحلة متوسّطة بين عالم المبادئ وعالم الإبراز، وتلك المرحلة عبارة عن مرحلة الجعل، وهو المسلك المعروف القائل بأنّ لدينا أوّلاً: عالم المبادئ، وهو له مرحلتان: الاولى: مرحلة المصالح والمفاسد(الملاك). الثانية: مرحلة الإرادة والكراهة والحبّ والبغض، وهذه منبثقة عن الملاك، أي: المصلحة والمفسدة، ثمّ توجد مرحلة الجعل، وهي مرحلة الحكم، حيث يجعل المولى الأحكام طبق حبّه وبغضه، وبعد مرحلة الجعل تأتي مرحلة الإبراز، حيث يبرز المولى حكمه بقوله مثلاً: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، وفي مقابل هذا التصور يوجد تصور آخر، وهو أن ننكر مرحلة الجعل التي هي المرحلة الوسط بين المبادئ وبين الإبراز، ونقول: لدينا مرحلة المبادئ وهي المصالح والمفاسد، ولدينا مرحلة الحكم، وهي نفس الإرادة والكراهة، أو الحبّ والبغض، ولدينا مرحلة الإبراز مثل قوله: صوموا، وزكّوا، وصلّوا.

الآن لو أخذنا المسلك الأوّل، وهو المسلك المعروف والمألوف، وهو أنّه لدينا مبدءآن وشيئآن من مقدّمات الحكم: أحدهما: المصلحة والمفسدة، وثانيهما: الحبّ والبغض، أو الإرادة والكراهة، المنبثقتان من المصلحة والمفسدة، ثمّ الجعل، ثمّ الإبراز، فنتكلّم على هذا المنهج ونقول باصطلاح الجعل والمجعول،أو الجعل والفعليّة، وهو اصطلاح مدرسة الشيخ النائيني: إنّ زوال الشمس له ـ كما قال الشيخ الآخوند ـ حيثيّة تكوينيّة حقيقيّة واقعيّة وغير مجعولة، ولولاها لما أصبح زوال الشمس موضوعاً لوجوب الصلاة أو سبباً أو شرطاً فيه، هذا صحيح، وهذا راجع إلى مرحلة الإرادة والكراهة، أي: إنّ المصلحة الكامنة في وجوب الصلاة لدى زوال الشمس هي التي قدحت لدى المولى حبّ الصلاة لدى زوال الشمس بنحو القضية الشرطية، وهذا خلق في نفس المولى حبّ الجعل، فجعل وجوب الصلاة لدى زوال الشمس، فزوال الشمس فيه اقتضاء تكويني لهذا الجعل ولو بالواسطة،

252


أي: إنّ الزوال فيه مصلحة تقتضي أن نصلّي، وهذا يخلق إرادة في نفس المولى للقضيّة الشرطيّة، وهذه الإرادة تخلق لديه دافعاً للجعل فيجعل، وبعد تماميّة الجعل ينتزع من هذا الجعل المشروط حينما قال: إذا زالت الشمس فصلِّ كون زوال الشمس علّة أو سبباً أو شرطاً لوجوب الصلاة، وهنا لا يقصد بذلك أنّ زوال الشمس سبب لهذا الجعل حتّى يقال: إنّ السببيّة كانت قبل الجعل؛ إذ لولا أنّ زوال الشمس كان سبباً لهذا الجعل لما جعل المولى؛ لأنّ المولى عاقل لا يتحرّك إلاّ وفق العقل، وإنّما يقصد بذلك أنّ هذا سبب لفعليّة الجعل بعد ذلك الجعل، ولو لا هذا الجعل فمهما زالت الشمس لم يكن يصبح الجعل فعلياً بشأنه؛ لأنّه لا يوجد جعل حتّى يصبح فعلياً بشأنه، إنّما الآن يصبح الجعل فعلياً بشأنه بسبب الزوال؛ لأنّ الجعل تحقّق، والجعل كان مشروطاً ومقيّداً ومضيّقاً بزوال الشمس، فبمجرّد أن تزول الشمس يصبح الجعل فعلياً بشأنه، فصار زوال الشمس سبباً، هذا ما يقصده من يقول: إن زوال الشمس سبب لفعليّة التكليف، أو سبب للمجعول، وإنّ هذه السببية منتزعة من الجعل، ولا عيب في ذلك، ولا يصبح كلّ شيء سبباً لكلّ شيء، ولا كلّ شيء علّة لكلّ شيء، ولا يلزم من ذلك كون الإنشاء والجعل التشريعي خالقاً للآثار التكوينية، هذا على لغة الشيخ النائيني، وعلى لغة مدرسته.

وأمّا على لغة اُستاذنا فأيضاً لا نحتاج إلاّ إلى تغيير العبارة، فنقول: إنّ زوال الشمس يكون سبباً لصيرورة الموضوع طرفاً للجعل، وهذه الطرفيّة لعالم الجعل شيء تكويني، وكذلك زوال الشمس شيء تكويني يؤثّر في عالم الطرفيّة للجعل باعتبار أنّ زوال الشمس قد اُخذ في عالم الجعل، فصار وجوده محقّقاً لطرفية الموضوع للجعل؛ لأنّ الطرفية هي طرفيّة للجعل، ومن الطبيعي أن ما اُخذ في الجعل يحقّق هذه الطرفيّة.

هذا إذا آمنّا بالفكرة المعروفة القائلة بمرحلة الجعل التي تكون بين المبادئ والإبراز.

أمّا إذا أنكرنا مرحلة الجعل، وقلنا: إنّ لدينا مبادئ المصلحة أو المفسدة، ثمّ لدينا الحبّ والبغض، أو الإرادة والكراهة، ثمّ لدينا عالم الإبراز، وبعد ذلك لدينا الامتثال، والحبّ والبغض المبرزان يجب امتثالهما بلا حاجة إلى عالم الجعل، إن قلنا هكذا فمن الطبيعي أنّ السببيّة والشرطيّة ليست مجعولة لا مستقلة ولا منتزعة من جعل؛ إذ لا جعل في المقام أصلاً، لكنّ هذا رجوع إلى إنكار الجعل حتّى في الأحكام التكليفيّة، وليس هذا بياناً لقسم جديد للأحكام الوضعية.

وعلى أيّ حال، نقول: إنّ هذه الشرطيّة منتزعة، وهي شرطيّة للفعليّة على مصطلح الشيخ النائيني ومدرسته، فحينما نقول: إنّ زوال الشمس شرط لوجوب الصلاة نقصد الوجوب بمعنى فعليّة الإرادة، وليس فعليّة الجعل، وهذه الشرطيّة منتزعة من كونه قيداً في عالم الإرادة التي تعلّقت بنحو القضية الحقيقية الشرطية بالصلاة على تقدير زوال الشمس، وتلك القضية الشرطية ليست مجعولة بل موجودة في عالم الإرادة. وعلى لغة اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نقول: إنّ زوال الشمس شرط للطرفيّة لتلك الإرادة، وهذه الشرطية ـ أيضاً ـ منتزعة من تلك الإرادة المقيّدة بالزوال.

هذا تمام ما أردنا ذكره كمناقشة لكلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) في المقام.

مناقشة السيد الخوئي واُستاذه لاستدلال الشيخ الخراساني:

هذا. وقد ورد في كلمات السيّد الخوئي وقبله في كلمات اُستاذه الشيخ النائيني(رحمه الله) أيضاً الردّ على كلام المحقّق

253


الخراساني بأنّ في كلامه خلطاً بين الجعل والمجعول(1).

ونقطة الضعف في كلام العَلَمين: السيّد الخوئي واُستاذه الشيخ النائيني هي الخلط بين برهاني المحقّق الخراساني(رحمه الله) وعدم التمييز بينهما، لكي يردّ كلّ منهما على حدة بالشكل المناسب له كما مضى منّا.

وعلى أيّة حال، فقد ورد في الكلمات المنقولة عن الشيخ النائيني تعبير آخر إضافة إلى التعبير بالخلط بين الجعل والمجعول، وهذا التعبير لم يكن بعنوان اشكال جديد بل كان بعنوان تعبير آخر عن نفس المطلب، وهذا التعبير لم يرد في عبائر السيّد الخوئي بقدر ما ورد في تقرير بحث الشيخ النائيني، وهذا التعبير الإضافي الوارد في كلام الشيخ النائيني ـ حسب ما يذكره المقرّر وهو الشيخ الكاظمي(رحمه الله)ـ هو أنّ الشيخ الآخوند خلط بين موضوعات الأحكام، وعلل التشريع، فالدلوك موضوع للحكم، والمصلحة هي مصلحة إيجاد الصلاة لدى الدلوك، ومصالح التشريع هي أسباب تكوينية للتشريع كما يقوله الآخوند، وتلك المصالح هي التي دعت المولى إلى التشريع، أو قل: علم المولى بتلك المصالح هو السبب، أو قل: المصالح علّة غائيّة، أو العلم بها علّة فاعليّة، وهذه علّة سببيّة تكوينية، وليست منتزعة من تشريع لا مستقلاً، ولا انتزاعاً، ولا تبعاً ولكن بعد أن شرّع ذلك أصبح الدلوك موضوعاً للحكم، ويقصد بالحكم المجعول، وصار الدلوك سبباً، وهذه السببيّة منتزعة، ولا أظنّ أنّ الشيخ النائيني يقصد بهذا الكلام مطلباً إضافياً، وإنّما يقصد تعبيراً آخر عن نفس ذلك المطلب، ويقصد بالحكم المجعول، أو فعليّة الحكم، ويقصد بالتشريع الجعل، والدلوك يسمّيه بموضوع المجعول، والمصلحة يسمّيها بملاك التشريع، وعلّة التشريع، ويقول: إنّ الشيخ الآخوند خلط بين علل التشريع وموضوعات الأحكام، وعلل التشريع هي علل تكوينيّة وأسباب تكوينيّة، وليست السببيّة هناك انتزاعيّة، وموضوع الحكم سبب، وسببيّته انتزاعية. هذه خلاصة كلام الشيخ النائيني. ولعل هذا التعبير من الشيخ النائيني ـ أعني: التعبير بالخلط بين موضوعات الأحكام وعلل التشريع ـ هو الذي أثار الشيخ العراقي(رحمه الله)، فالشيخ العراقي يقول: كيف يدّعي الشيخ النائيني أنّ الشيخ الآخوند خلط بين علل التشريع وموضوعات الأحكام. هذه جسارة من الشيخ النائيني(هذه الكلمة، أعني: كلمة«الجسارة» موجودة في تعليقة الشيخ العراقي على تقرير الشيخ الكاظمي(2) عجباً هل الشيخ الآخوند تكلّم في المصلحة والمفسدة؟! بل إنّ صريح كلامه أنّه يتكلّم في الدلوك، وهذا يعني أنّه متوجّه إلى الموضوع مباشرة، فأين الخلط بين الموضوع والعلّة، ولم يتكلّم عن المصلحة أو العلم بالمصلحة؟!

يقول: الشيخ العراقي(رحمه الله): إنّ تفسير كلام الشيخ الآخوند مايلي: الشيخ الآخوند يريد أن يقول: إنّ الدلوكليس علّة للحكم، بل هو مقيّد للحكم، وفرق بين العلّة والسبب وبين المقيِّد، فالسبب يولّد المسبّب، أو العلّة تولّد المعلول، أمّا المقيّد فليس يولّد الحكم أو يخلق الحكم، فالدلوك قيد للحكم، أي: إنّ المولى جعل الحكم مقيّداً بالدلوك، فالمولى قد يجعل وجوب الصلاة على الإطلاق، وقد يجعل وجوب الصلاة عند الدلوك، ويقول: إذا زالت


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 81 بحسب طبعة مطبعة النجف. وفوائد الاصول: ج 4، ص 395 ـ 397 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات: ج 2، ص 385.

(2) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 396 تعليق الشيخ العراقي تحت الخط، بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم

254


الشمس فصلِّ، فكون وجوب الصلاة مقيّداً بالزوال شيء، وكون الزوال سبباً يخلق وجوب الصلاة شيء آخر، يقول الشيخ العراقي: إنّ السببيّة التكوينيّة دائماً وفي كلّ الموارد غير قابلة للجعل أبداً؛ ذلك لأنّ الجعل أمر اعتباري بحت، ولا يمكن أن يؤثّر أثر التكوين، والسببيّة بمعناها الحقيقي أمر تكويني، فمن خصائص عالم التكوين مثلاً أنّ النار لها سببيّة الإحراق، ولا يمكن أن تنتزع ذلك من الجعل، نعم، هناك سببيّة عنائيّة اعتباريّة مجازيّة وهذه السببيّة تنتزع من الجعل، فحينما يقول المولى: إذا زالت الشمس فصلِّ، أو يقول: أقم الصلاة لدلوك الشمس قيّد وجوب الصلاة بالدلوك، وهذا التقيّد والتحصّص غير السببية، لكن هذا يعبّر عنه مجازاً واعتباراً وعناية بأنّ الدلوك سبب للوجوب، وهذه سببية اعتبارية مجازية أو عنائية في مقابل السببية الحقيقية، والآخوند لم ينكر السببية الاعتبارية، وإنّما أنكر السببيّة الحقيقيّة، وصرّح في كلامه: بأنّ السببيّة العنائية لا بأس بها، أمّا ما هو منشأ هذه السببيّة العنائية، هل هو الحكم التكليفي وهو قوله: صلِّ لدى زوال الشمس، أو منشؤها جعل السببيّة رأساً، بأن قال المولى: جعلت زوال الشمس سبباً لوجوب الصلاة، أيّ الأمرين هو الصحيح؟ يقول المحقق العراقي: هما سيّان، وإنّما الفرق هو فرق في التعبير، وكلاهما ممكن، فلا فرق بين أن يقول المولى: صلِّ إذا زالت الشمس، أو يقول: جعلت زوال الشمس سبباً لوجوب الصلاة، فروح المطلب واحدة، ولكنّ الصياغة الظاهريّة تختلف، ففي ظاهر الصياغة كلّما نفترض هناك جعلين: جعلاً أصلياً وجعلاً تبعياً فتعيين الأصلي من التبعي يكون بيد تعبير المولى، فلو قال: أقم الصلاة لدلوك الشمس، صار الجعل الأصلي جعلاً لوجوب الصلاة، والسببيّة جعلت بالتبع، ولو عكس وقال جعلت الدلوك سبباً للصلاة إذن تعلّق الجعل بالسببية مباشرة، ووجوب الصلاة جعل بالتبع، وهذا الشيء صياغي، وواقع المطلب أنّ هناك جعلاً واحداً يمكن أن يتعلّق بهذا أو بذاك، هذه خلاصة ما يقوله الشيخ العراقي، ويقول: إنّ الآخوند لم يقصد إلاّ هذا، فهو أنكر السببيّة الحقيقية واعترف بالسببيّة المجازيّة العنائيّة المنتزعة من جعل نفس السببيّة، أو من جعل الوجوب، فكلا الجعلين ممكن وكلاهما واحد(1).

إلاّ أنّ هذا الكلام على طوله فيه الغفلة عن النكتة الأصلية التي يقولها الشيخ النائيني، فإذا تكلّمنا بلغة الجعل والمجعول، قلنا: إنّ هناك سببية حقيقية غفل عنها الشيخ العراقي(رحمه الله)، فهو التفت إلى أمرين وغفل عن أمر ثالث، التفت إلى السببيّة للجعل التي هي سببية حقيقية، والتفت إلى ما يسمّيه بالسببية العنائيّة المجازيّة، فسبب الجعل الحقيقي عبارة عن المصالح والمفاسد، وهذه سببية حقيقية وليست منتزعة من الجعل، والسببية المجازيّة عبارة عنالتحصيص، فبما أنّه حصّص الوجوب للصلاة بدلوك الشمس نسمّي هذا الدلوك سبب مجازاً، ولكنّ هناك شيء آخر بعد التسليم بوجود جعل ومجعول وهو فعلية الوجوب، وهذا الشيء الآخر ليس عبارة عن سببيّة عنائيّة او مجازيّة، بل هو عبارة عن سببيّة حقيقيّة، فالمولى حينما قال: أَقم الصلاة لدلوك الشمس، أو قال: إذا زالت الشمس فصلِّ لم تكن الشمس قد زالت عندئذ، ولم تجب علينا الصلاة بعد، وحينما زالت الشمس أصبح الوجوب فعلياً، ولنفترض أنّ هذه الفعلية شيء جديد غير ذاك الوجوب، فهنا من الذي جعل الوجوب فعلياً؟ ومن الذي خلق وسبّب هذه الفعلية؟ أليس دلوك الشمس هو السبب؟! طبعاً سبب هذه الفعلية هو الدلوك لا المصلحة، وإنّما


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 93 ـ 96


255


المصلحة سبّبت الجعل، وكلامنا إنّما هو في هذه السببية لنرى هل هي مجعولة أو هي منتزعة من ذاك الحكم التكليفي مثلاً؟ وهنا عبّر الشيخ النائيني بتعبير أنّها منتزعة بحيث إنّه لولا ذاك الجعل لما كان دلوك الشمس سبباً لفعلية وجوب الصلاة، وطبعاً هذا المطلب بحاجة إلى شيء من التعميق، وسنذكره ـ إن شاء الله ـ، ولكنّ المقصود الآن هو أنّ من الواضح أنّ كلام الشيخ العراقي بعيد عن روح كلام الشيخ النائيني، فالشيخ النائيني يلتفت إلى مرحلة الفعلية بالمعنى الذي هو يقصد بالفعلية، أمّا الشيخ العراقي فلم يلتفت إلى ذلك. هذا المقدار واضح.

لكن مع ذلك لو يؤخذ كلام الشيخ النائيني على بساطته لا يُنهي السؤال، ولا بدّ من تعميق له؛ وذلك لأنّه لو أردنا أن نتكلّم عن هذه السببية التي هي محطُّ نظر الشيخ النائيني ـ وهي سببيّة دلوك الشمس لفعلية وجوب الصلاة ـ ونقول: إنّ هذه السببيّة مثلاً منتزعة من الجعل ينطرح السؤال هنا مرّة اُخرى وهو: أنّ(هذه سببية حقيقيّة وليست سببية عنائيّة او مجازيّة، ونحن نعلم أنّ السببيّة الحقيقيّة لا يمكن أن تنتزع من جعل، بل هي بحاجة إلى نكات تكوينيّة) ومن هنا لا بدّ أن نحلّ بشكل عامّ هذا الإشكال، وهو: أنّ هذه السببيات كيف نتصورها؟ ومامعنى أن تكون هذه انتزاعية تنتزع من الجعول ونحن نعلم أنّ الجعل أمر اعتباري، والأمر الاعتباري لا يؤثّر أثر التكوين؟ فهذه السببية كيف تولّدت؟ هذه النقطة لا بدّ من حلّها ولا بدّ من الالتفات إليها، وأيضاً لا يكفي لحلّها مسألة أن ننتقل من مصطلحات الشيخ النائيني إلى مصطلحات اُستاذنا، من قضية أنّ دلوك الشمس يجعلنا طرفاً للجعل، فأيضاً يقال: إنّ دلوك الشمس سبب لصيرورتنا طرفاً للجعل، وهذه سببية حقيقية وواقعيّة، وليست سببية مجازيّة أو عنائيّة، فهذه السببيّة كيف جعلت؟ وكيف خلقت بالجعل؟ وكيف انتزعت من الجعل؟ هل هي جعلت مباشرة؟ وكيف يمكن أن تخلق بالجعل الاعتباري والجعل من عالم الاعتبار بينما السببية من عالم التكوين؟ أو أنّها انتزعت من الجعل وهذا أصعب؟ فكيف يكون الشيء التكويني ينتزع من شيء مرتبط بعالم الاعتبار؟ هذا الإشكال لا زال باقياً، وهذا حلّه هو أنّ الجعول هي اعتبارات، وهي قضايا تكوينية، أي: إنّ الجعل بما هو جعل شيء تكويني صدر من المولى، وهذه تخلق مصداقاً للأسباب، ولا تخلق السببيّة، ففرق بين خلق مصداق الأسباب وبين خلق السببيّة، فالسببيّة لا تخلق بالجعل، ولكنّ الجعل يخلق المصداق، وهذا شبيه بما يقال في الجعول التكوينية أيضاً، كما يقول الفلاسفة: إنّ النار هي سبب للإحراق، وحتّى الخلق التكويني للنار ليس خلقاً للسببية، وإنّما هو خلق لمصداق السبب، أمّا السببيّة فهي ثابتة قبل خلق النار، وكذلك دلوك الشمس في المقام سبب بشكل كبروي قبل خلق الوجوب لفعليّة كلّ وجوب مقيّد بدلوك الشمس، هذه ككبرى ثابتة قبل الجعل، وجعل هذا الحكم خلق، والجعل بالنسبة لنفس ما يجعل تكوين، ويكون محقّقاً لمصداق هذه الكبرى، وعندئذ نقول: هذه السببيّة منتزعة من هذا الجعل.

هذه خلاصة ما أردت توضيحه كتعميق لكلام الشيخ النائيني(رحمه الله).

وعلى أيّة حال، فلا شكّ أنّ هناك منطقة وسطيّة بين مرحلة الجعل ومرحلة التنجيز، فحينما قال مثلاً:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) تمّ الجعل، وحينما قال:(إذا زالت الشمس فصلِّ) تمّ الجعل رغم أنّه الآن أي: قبل زوال الشمس، أو قبل الاستطاعة لم تنشغل عهدتنا بشيء، هذه مرحلة الجعل، ومرحلة التنجيز طبعاً تأتي بعد العلم، فلو علمت بوجوب الصلاة والحجّ، وعلمت بحصول الزوال وعلمت بالاستطاعة يتنجز الوجوب،

256


وهناك توجد مرحلة بين المرحلتين هذه المرحلة على إجمالها وعلى غموضها لا إشكال فيها؛ لأنّه حينما تتم الاستطاعة وحتّى لو كنت أنا غير عالم بذلك يصبح قوله:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) مرتبطاً بي بوجه من الوجوه، وقوله:(إذا زالت الشمس فصلِّ) سواء علمت بالزوال أو لا يصبح بعد الزوال كأنّه ارتبط بنا وتوجّه إلينا، فهذه منطقة بين منطقة الجعل ومنطقة التنجيز، أمّا ما هي حقيقية هذه المنطقة أو هذه المرحلة؟ ففيه بحث بينهم ونحن الآن لا نريد أن ندخل في هذا البحث، ولكنّنا نقول إجمالاً: إنّ مدرسة الشيخ النائيني(رحمه الله) تقول: إنّ هذه المنطقة عبارة عن منطقة الفعليّة أو منطقة المجعول، وذلك قياساً للأحكام الشرعية بالقضايا التكوينية، فكما أنّه عندما نقول: النار حارّة يكون هذا صادقاً قبل وجود النار، ولكن حينما توجد النار تتحقق الحرارة والإحراق بالفعل، وتحصل الفعلية لهذا الإحراق، وقبل وجود النار ليس الإحراق فعلياً رغم صدق قولنا: إنّ النار محرقة، كذلك قوله:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) أثبت وجوب الحجّ على المستطيع قبل وجوده، من سنخ إثبات الحرارة والإحراق للنار قبل وجود النار، ولكن بعد ما وجدت الاستطاعة يصبح هذا الوجوب فعلياً، كما أنّه بعد ما وجدت النار يصبح الإحراق فعلياً، هذا فهم وتصوّر هذه المدرسة.

وبالمقابل هناك من يرى أنّه لا يمكن قياس باب التشريع بباب التكوين، ولا يوجد شيء اسمه فعلية الحكم، وهذا ما يراه اُستاذنا(رحمه الله)، ويراه ـ أيضاً ـ الشيخ العراقي(رحمه الله)، وهذا هو الصحيح، ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار وجود منطقة بين المنطقتين، أو مرحلة بين المرحلتين، وعندئذ تفسّر هذه المرحلة بتفاسير اُخرى، فيقال بتعبير اُستاذنا(رحمه الله): الطرفيّة لهذا الجعل، أي: إنّني قبل الاستطاعة لم أكن طرفاً لهذا الجعل، والآن أصبحت طرفاً لهذا الجعل، أو إنّنا قبل الزوال لم نكن طرفاً لهذا الخطاب والآن أصبحنا طرفاً لهذا الخطاب، والزمان لم يكن طرفاً لهذا الخطاب والآن بعد زوال الشمس أصبح الزمان طرفاً له، أو يقال بتعبير آخر: إنّ الحكم كان فعلياً منذ البدء خلافاً لما يقوله الشيخ النائيني، لكنّه الآن أصبح فاعلاً ومحرّكاً بعد أن لم يكن محرّكاً، فقبل أن أستطيع ليس قوله:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع) محرّكاً لي، أمّا الآن أصبح محرّكاً لي بالتحريك التشريعي، أو قل الآن أصبح قابلاً للتحريك ولو بمعنى: أنّه لو علمت لتحرّكت، أي: أصبح فيه اقتضاء التحريك، وفعليّة التحريك تتوقّف على العلم، ونحن الآن لا نريد أن ندخل في تحقيق حقيقة الأمر، وإنّما نقول إجمالاً: إنّه لا شكّ في وجود شيء ومرحلة ومنطقة من هذا القبيل، عندئذ كلامنا مع المحقّق الخراساني(رحمه الله)وكذلك مع الشيخ العراقي(رحمه الله) فيما نحن فيه هو: أنّ هذين العَلَمين كأنّهما ركّزا حديثهما على ما قبل هذه المرحلة، وهي مرحلة الجعل، فالشيخ العراقي كلامه واضح حيث شرح ذلك بكل تفصيل في تقرير بحثه، وهو موجود بشكل مجمل في المقالات(1)، وكذلك موجود بشكل مختصر في تعليقه على فوائد الاُصول، فهو(رحمه الله) يرى ـ وكأنّما ينظر إلى مرحلة الجعل فقط ـ أنّه لا معنى للسببيّة أصلاً، ولا معنى لأن نقول: إنّ الاستطاعة سبب لوجوب الحجّ، أو نقول: إنّ زوال الشمس سبب لوجوب الصلاة، وإنّما السببيّة موجودة في المصلحة والملاك، فالملاك سبب والمصلحة سبب، بمعنى: أنّه محرّك للمولى نحو إيجاب الحكم، فإن شئت فقل: إنّ المصلحة أو الملاك علّة غائية للإيجاب، وإن شئت فقل: إن العلم بالملاك علّة فاعليّة محرّكة للمولى، فالعلية تكون


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 371 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي

257


في المصلحة، فذات زوال الشمس ليس هو العلة، أو ذات الاستطاعة ليست هي العلّة، إنّما العلّة هي المصلحة الكامنة، وتلك علّيّة تكوينيّة بحت، ولا علاقة لها بالجعل، وليس هناك جعل مرتبط بها مباشرة كي تنتزع من ذاك الجعل المباشر، ولا تنتزع العلية من شيء آخر، أمّا نفس الاستطاعة أو نفس الزوال فإن هو إلاّ محصّصاً ومقيّداً، وفرق كبير بين المحصّص والمقيد وبين السبب والعلّة، ومعنى كون ذلك محصّصاً أنّ المولى لم ينشئ ولم يجعل وجوب الحجّ على الإطلاق، بل جعل وجوب الحجّ وجوباً ضيّقاً، وهو الوجوب المرتبط بالاستطاعة، هذا بناءً على أنّ الهيئة يمكن أن تحصّص. وإن قلنا: إنّ الهيئة لا يمكن أن تحصّص فإذن القيد يرجع إلى المادّة، ويكون الواجب هو الحجّ المقيّد بالاستطاعة. والخلاصة: أنّ في مرحلة الجعل لا سببيّة للموضوع، إنّما السببية للملاك، وسببيّة الملاك تكوينيّة بحت، ولا علاقة لها بالجعل أصلاً.

هذا ما يقوله الشيخ العراقي(رحمه الله)، ويفسر كلام اُستاذه الشيخ الخراساني بهذا التفسير، في حين أنّ القائلين بأنّ الاستطاعة سبب، أو أنّ زوال الشمس سبب، والباحثين عن أنّ هذه السببيّة هل لها حصّة من الجعل أو أنّها منتزعة من جعل مّا لم يكونوا يقصدون هذه المرحلة، وهي مرحلة الجعل ومن الواضح أنّ في مرحلة الجعل ليس الموضوع إلاّ محصّصاً، بل ينظرون إلى تلك المنطقة أو إلى تلك المرحلة التي قلنا على سبيل الإجمال: إنّنا لا نشكّ فيها وان كان وقع بحث في فهم حقيقة تلك المرحلة، وهي ما سمّاه الشيخ النائيني بمرحلة الفعليّة، وقد يسمّيه آخر بمرحلة الفاعليّة، وآخر بمرحلة الطرفيّة، فيقال: إنّ زوال الشمس سبب لتحقّق تلك المرحلة، وما لم تزل الشمس لم تتحقّق تلك المرحلة، أو ما لم تتحقّق الاستطاعة لم تتحقّق تلك المرحلة. أمّا ما هي طبيعة هذه السببيّة، وما لون هذه السببيّة؟ فالجواب: أنّ هذه السببيّة تتلوّن بلون تلك المرحلة وتلك المنطقة، وقد تختلف هويّتها إلى حدٍّ مّا باختلاف ما نؤمن به في تلك المنطقة، فمن يؤمن في تلك المنطقة بحدوث أمر تكويني يسمّيه بالفعليّة، ويقول: إنّ المولى جَعَلَ الجعل ثمّ ترك الأمر، ثمّ هذا الجعل يصبح فعليّاً تكويناً. إذن، هذه السببيّة سببيّة تكوينيّة. ولو قلنا: إنّ هذه المرحلة ليست من مراحل التأثيرات التكوينيّة، وإنّما هي من مراحل الاُمور الإضافيّة، وكون هذا المكلف طرفاً لذاك الجعل من سنخ ما لو دخلنا هذه الغرفة و أصبح السقف فوقنا، فتحقق هذه الفوقية التي هي شيء اضافي ليس معناه أنّ دخولنا في هذه الغرفة أثّرَ أثراً تكوينيّاً فينا، أو في السقف، وإنّما أثّرَ أثراً إضافياً، وأصبح هذا الدخول سبباً لهذا الأمر الإضافي، فهذا الذي أثّر بالمعنى الذي يتصوّر في الإضافيات في خلق الاُمور الإضافية بنفس المعنى يتصوّر أيضاً في ما نحن فيه، فدلوك الشمس أو الاستطاعة صار سبباً في صيرورتنا طرفاً لذاك الجعل بأيّ معنىً نتصوّر السببيّة في أمثال هذه الإضافات، والتي هي تختلف عن السببيّة التكوينية من قبيل سببيّة النار للإحراق، ولو لا ذاك الجعل لم تكن هذه السببيّة. أمّا السؤال عن أنّه كيف استطاع هذا الجعل أن يخلق هذه السببيّة، أَوَليست هذه السببيّات اُموراً وأشياء من لوح الواقع ثابتة بقطع النظر عن الجعول، فكيف أصبحت الجعول تؤثّر هكذا تأثير؟! فجوابه ما أشرنا إليه من أنّ هذه الجعول عادةً تخلق المصداق لسببيّات ثابتة في لوح الواقع، أي: دلوك الشمس هو سبب بهذا المعنى من السببيّة سواءً جعل وجوب الصلاة أو لا، فدلوك الشمس سبب لطرفيّتنا لوجوب الصلاة عند الدلوك، أو لفعليّة هذا الوجوب إن كان هناك وجوب مرتبط بالدلوك، فهذه الكبرى بنحو القضية الشرطيّة والحقيقيّة ثابتة، والجعل خَلَق مصداق هذه الكبرى، والجعل في عالمه أمر تكويني وإن كان بلحاظ ما

258


جعل أمراً تشريعيّاً، وتكون السببيّة منتزعة بهذا المعنى من الانتزاع، بمعنى: أنّه لولا هذا الجعل لما كان مصداق السببيّة هنا موجوداً ومتحقّقاً.

وعلى أيّة حال فقد تحصّل من بحثنا: أنّ التقسيم الثلاثي للأحكام الوضعيّة الوارد في كلام الشيخ الآخوند غير صحيح، وأنّ الأحكام الوضعيّة تنقسم إلى قسمين فحسب: القسم الأوّل: ما هي مجعولة من قبل الشريعة، ومثالها الواضح الملكيّة والزوجيّة، وهناك أمثلة اُخرى مورد للنقاش. والقسم الثاني: الأحكام الانتزاعية(وهذا التعبير أدّق من التبعيّة) المنتزعة من الأحكام الشرعية، من قبيل الجزئية والشرطية والمانعية.

القسم الأوّل من التقسيم المشهور للأحكام الوضعيّة:

وأمّا الأمر الثاني: وهو البحث عن القسم الأوّل من القسمين المعروفين للأحكام الوضعية، وهي ما لها جعل مستقلّ كالملكيّة والزوجيّة، وقد جعلت بدورها موضوعاً لأحكام شرعيّة، فهذا القسم من الأحكام حينما نقول عنها: إنّها مجعولة لا نقصد بذلك أنّها لا يمكن أن تكون منتزعة، بل يمكن أن تكون منتزعة بأن نفترض أنّ الشريعة جعلت إباحة التصرّف وإباحة الأكل وصحّة البيع وحرمة تصرّف الغير وغير ذلك، ثمّ انتزِع من هذه الأحكام الملكيّة. وكذلك الزوجيّة حيث نفترض أنّ الشريعة قد جعلت أحكاماً معيّنة من قبيل جواز الوطء ووجوب القسمة ووجوب النفقة، ثمّ انتزع منها مثلاً عنوان الزوجيّة، فهذا أمر ممكن، لكنّنا نقول: إنّ المستفاد من الأدلّة خلاف ذلك؛ وذلك أوّلاً: للارتكازات العقلائية التي نحكّمها دائماً في فهم الظواهر، فإنّ الملكيّة والزوجيّة ونحوهما حسب الارتكازات العقلائية تعتبر أحكاماً أصيلة، أي: إنّ العقلاء في تشريعاتهم العقلائية يعتبرونها أشياء مجعولة بالجعل العقلائي، كذلك تنصرف إليها الأدلّة الشرعية، ومن ناحية اُخرى نضيف إلى ذلك الارتكاز المتشرّعي وفهم المتشرّعة بشكل عام، باستثناء تدقيق المدقّقين والمحقّقين الذين تطبّعت ذهنيتهم على التدقيق في المطالب، وهذا الفهم المتشرّعي العام لو لم يكن دليلاً يمكن أن يكون مؤيّداً وإن كنّا لا نستطيع أن نتعامل مع هذا معاملتنا مع الارتكاز المتشرّعي البحت؛ لأنّه من المحتمل أن يكون جذره وأساسه نفس الارتكاز العقلائي، فقيمته تقترب من قيمة الارتكاز العقلائي، على فرق في النتائج والقيم بين الارتكاز العقلائي والارتكاز المتشرّعي، حتّى المتّكي على الارتكاز العقلائي بحثناه في محله.

إضافة إلى ذلك أنّنا حينما نراجع لسان الأدلّة ـ كما قال السيّد الخوئي(رحمه الله) في تقريره، ونِعم ما قال ـ نراه يناسب هذا المعنى، أعني: كون الملكيّة والزوجيّة وما شابه اُموراً أصيلة رُتّبت عليها آثار، مثلاً حينما يقول:«لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه» نرى أنّ كون هذا مال امرئ مسلم فرض شيئاً ثابتاً مسبقاً، وموضوعاً للحكم، ورتّب عليه أنّه لا يحلّ ماله، لا أنّ كونه ماله منتزع من عدم جواز تصرّف الغير فيه، وكذلك قوله:«الناس مسلّطون على أموالهم» ـ لو تمّ سنده أو ثبت انجباره ـ أخذ عنوان إضافة المال إلى الناس المقصود بها الملك موضوعاً للحكم بالسلطنة، وكذلك قوله:« نساؤكم حرث لكم» فرض الإضافة بين النساء والضمير المضاف إليه شيئاً مفروغاً عنه، ثمّ رتّب بعد ذلك الحكم، وهو كونهنّ حرث لكم، وما شاكل ذلك من الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة. هذا ـ

259


أيضاً ـ وجه صحيح(1).

وهناك وجه آخر يذكره السيّد الخوئي(رحمه الله) في كتابه، وهو لا يصلح أن يكون دليلاً لكنّه يصلح أن يكون مؤيّداً. وهو ما نرى من أنّ النسبة بين هذه الأحكام الوضعية والآثار الشرعية عموماً وخصوصاً من وجه، فقد تكون الملكيّة موجودة وجواز التصرّف غير موجود، وقد يكون جواز التصرّف موجوداً والملكية غير موجودة، فكيف نفترض أنّ الملكية مثلاً منتزعة من جواز التصرّف! ولو كانت كذلك لا يمكن أن تنفك من جواز التصرّف، بينما نحن نرى أنّ الملكيّة موجودة مثلاً وجواز التصرّف غير موجود، كما في المحجور عليهم الذين لا يجوز لهم التصرّف فيما يملكون رغم الملكيّة، وقد يكون جواز التصرف موجوداً والملكيّة غير موجودة كما في الولي الذي يتصرّف في مال من ولّي عليه، بينما هو ليس مالكاً لمال من ولّي عليه، وكذلك في الزوجية قد يحرم الوطء، أو قد يسقط وجوب النفقة، أو ما شابه ذلك، بينما الزوجيّة موجودة، فلو كانت الزوجية منتزعة من هذه الآثار فكيف تكون الزوجيّة موجودة رغم عدم هذه الآثار أحياناً!(2) وهذا المطلب وإن كان ذكره السيّد الخوئي بعنوان الدليل لكنّه لا يصلح أن يكون دليلاً؛ إذ قد يقول قائل كما قيل: فلتكن الملكيّة منتزعة مثلاً من جواز التصرّف في الحالات الاعتياديّة، ولو لا الطوارئ يجوز التصرّف،فينتزع من هذا الجواز الملكيّة رغم الحجر الحالي مثلاً، إذن فهذا ليس دليلاً. نعم، لا شكّ أنّه مؤيد، فإنّ هذه التفكيكات التي ترى توحي إلى الذهن أنّ الملكيّة شيء مستقل، وأنّ الملكيّة هي موضوع للآثار، وهذا الموضوع قد يقترن بموانع ترفع الآثار ولا نستطيع أن ننكر كون هذه الأمثلة والمصاديق هي مؤيّدة لفكرة أنّ الملكيّة هي الموضوع وليست هذه الآثار هي التي ينتزع عنها الملكيّة.

بل قد يقال: إنّ ارتكازية هذه المصاديق أو بعضها تجعل العرف يفهم من أدلّة الملكيّة المعنى الذي يكون موضوعاً للأحكام، لا منتزعاً من الأحكام، فيصبح ذلك دليلاً على المدّعى كما أراده السيّد الخوئي.

بقي الكلام في شيء واحد وهو أنّ الحديث الذي تحدّثنا به حتّى الآن وإن كان كافياً لاستظهار أنّ مثل الملكيّة والزوجيّة ليست منتزعة عن الأحكام التكليفيّة، بل هي موضوع للأحكام التكليفيّة، وإذا ضممنا ذلك إلى ما هو واضح في عصرنا هذا من عدم كون الملكيّة والزوجيّة اُموراً تكوينية، انحصر الأمر في كونهما من المجعولات الشرعية، إلاّ أنّنا مع هذا نرى أنّ الشيخ الأنصاري(رحمه الله)لم يخطر بباله احتمال كونهما من المجعولات الشرعيّة، بل رأى أنّ الأمر في مثل الملكيّة والزوجيّة والطهارة والنجاسة ونحوها لا يخلو من أحد فرضين: إمّا إنّها اُمور تكوينيّة كشف عنها الشارع، وإمّا إنّها اُمور انتزعت من الآثار الشرعيّة، فالملكيّة تنتزع من جواز التصرّف ومن حرمة تصرّف الغير، والزوجيّة تنتزع من الأحكام المألوفة الثابتة للزوج والزوجة في الرسائل العمليّة، كذلك الطهارة تنتزع من جواز الشرب والأكل والصلاة معه، والنجاسة تنتزع من عدم جواز ذلك، ولم يحتمل الشيخ أن تكون هي مجعولة.

ولم يذكر في الرسائل وجهاً لعدم احتماله، والسبب في عدم احتمال الشيخ لذلك ـ على ما أظنّ قويّاً ـ هو: أنّنا إن


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 82

(2) نفس المصدر ص 83

260


قلنا: إنّ هذه الاُمور هي موضوعات لأحكام، فالملكيّة موضوع لجواز التصرّف، ولحرمة تصرّف الغير، ولحرمة الغصب، والزوجيّة موضوع لجواز الوطء، والطهارة موضوع لجواز الصلاة، والنجاسة موضوع لبطلان الصلاة... يجب أن تكون هذه ـ إذن ـ اُموراً تكوينيّة كشف عنها الشارع، لا جعليّة جعلها الشارع؛ ذلك لأنّ جعلها لغو بحت، فلماذا يجعل النجاسة ثمّ يجعلها مبطلة للصلاة؟! وتوضيح ذلك: أنّ خصوصيّات تكوينيّة في هذا النجس أوجبت بطلان الصلاة، وبكلمة اُخرى: أنّ هذا الثوب الملاقي للبول بما فيه من خصوصيّات تكوينيّة إن كانت هناك نكتة واقعيّة ينبغي أن تكون مبطلة للصلاة تصبح هي موضوعاً لإبطال الصلاة، ولا حاجة لجعل النجاسة، وإن لم تكن في ملاقاة الصلاة نكتة تكوينيّة خارجيّة موجبة لبطلان الصلاة، وإنّما النجاسة لو جعلت لها أوجبت البطلان، فلماذا تجعل لها النجاسة حتّى تبطل الصلاة؟! هذا لغو محض، وكذلك الحال في الملكيّة والزوجيّة، لا معنى لفرض أنّ هذه الاُمور مجعولة من قبل الشريعة، فإنّ جعلها لغو وزيادة، فالشريعة تريد هذه الآثار، أي: إنّها تريد أن يختصّ كلّ أحد بمال يتصرّف فيه، ويختصّ بامرأة تقوم أحكام معينة بينه وبين تلك المرأة، فإن كانت الملكيّة والزوجيّة أمرين تكوينيّين ثابتين، فمن المعقول أن تكون تلك الملكيّة والزوجيّة وهما أمران تكوينيان ثابتان هما المقياسان لهذه الآثار والأحكام؛ لوجود مصالح تكوينيّة قهريّة ثابتة تستدعي هذه الأحكام. أمّا إن لم يكونا أمرين تكوينيّين ثابتين فجعلهما لغو بحت، وبإمكان الشريعة أن تأمر بهذه الأحكام من دون أن تجعل ملكية أو زوجية. نعم، الملكية أو الزوجية ينتزعهما العقلاء من هذه الآثار، فيسمّون المال الذي يجوز لي التصرّف فيه ويحرم لغيري التصرّف فيه ملكاً لي، وينتزعون عن هذه الأحكام عنوان الملكيّة، وكذلك الامرأة التي تختصّ بي بأحكام يسمّونها زوجة لي، وينتزعون من هذه الأحكام عنوان الزوجية. هذا هو الوجه الذي في اكبر الظن دعا الشيخ الأنصاري إلى أنّه لم يخطر بباله أصلاً احتمال أن تكون هذه مجعولات، فقد طرح احتمالين فحسب، وقال: إن قلنا: إنّها موضوعات للأحكام الشرعيّة إذن هي اُمور تكوينية، وإن قلنا: إنّها ليست موضوعاً لأحكام شرعيّة إذن هي منتزعة من الأحكام الشرعية.

ونظير هذا الكلام صدر من البعض كالشيخ العراقي(رحمه الله) في الأحكام التكليفيّة، فالشيخ الأنصاري أنكر مجعولية هذه الأحكام الوضعيّة، ولكن الشيخ العراقي أنكر مجعوليّة الأحكام التكليفية أصلاً، فيقول الشيخ العراقي(رحمه الله): اشتهر أنّ الأحكام التكليفية مجعولة بجعل شرعي، ووقع البحث والخلاف في الأحكام الوضعية هل هي مجعولة أو لا، في حين أنّ هذا الذي اشتهر غير صحيح،ولدينا في مورد الأحكام التكليفية عدّة اُمور: أوّلاً المبادئ: (المصلحة والمفسدة)، ففي الصلاة مصلحة، وفي الصوم مصلحة، وفي شرب الخمر مفسدة، ومن الواضح أنّ هذه الاُمور تكوينية خارجية، وليست مجعولة، ولم يتعلّق بها جعل، ثمّ المولى يعلم بهذه المصلحة باعتباره عالماً بخفايا الاُمور، وعالماً بكلّ شيء، وهو يعلم بهذه الملاكات والمصالح والمفاسد، وإلى هنا لا توجد إلاّ اُمور تكوينية لا علاقة لها بالجعل. وهذا العلم يخلق في نفس المولى الحبّ والبغض، أو الإرادة والكراهة، وهذه الإرادة والكراهة كيف نفساني للمولى، وهي ـ أيضاً ـ أمر تكويني، وهي ليست جعلية، وهذه الإرادة والكراهة لو كنّا عبيداً لله تبارك وتعالى فالعقل يحكم ـ حينما نعرف عن طريق إبراز المولى لهذه الإرادة والكراهة أنّ المولى يريد ويكره، أو يحبّ ويبغض ـ بضرورة تحقيق ما يريده المولى، وبضرورة التجنّب عمّا يكره، وهذا هو وجوب الامتثال، وهو

261


حكم العقل، فبعد الإرادة والكراهة يكون على المولى أن يبرزها، ولو لم يبرز لم نعلم بذلك، ونقع تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالمولى يبرز حتّى يقطع هذه القاعدة، وهذا الإبراز فعل للمولى، ومن مقولة الفعل، وليس جعلاً، فأين الجعل! وأيّ حاجة إلى الجعل! وأيّ قيمة للفرض والاعتبار؟! وإنّما تلك الإرادة والكراهة هي روح الحكم، وهي التي يجب علينا أن نمتثلهما حينما تبرز أو نطلح عليهما، والمولى أبرزهما بالإنشاءآت، وهذه الإنشاءآت ليست جعلاً واعتباراً، وإنّما هي إبرازات تبرز ما في نفس المولى(1).

فهذان مسلكان متقاربان أحدهما ينكر الجعل والاعتبار في باب الأحكام الوضعية للغويّة ذلك، وعدم ترتّب أيّ أثر عليه، والثاني ينكر الجعل والاعتبار في باب الأحكام التكليفية للغويّة ذلك أيضاً، وعدم ترتّب أيّ أثر عليه.

والذي يستخلص من كلمات اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الحلقة الثالثة الإجابة عليهما بما يلي من الجوابين المتقاربين:

أمّا مسلك إنكار الجعل والاعتبار في باب الأحكام التكليفية لعدم ترتّب أيّ ثمرة عليه، فجوابه: أنّ عناصر الحكم الثبوتية في الحقيقة ثلاثة: مبادئ الحكم المتمثّلة في المصالح والمفاسد، ثمّ الحبّ والبغض، أو الإرادة والكراهة المنبثقتين من المبادئ الاُولى، أعني: المصالح والمفاسد، ثمّ تحديد مركز حقّ الطاعة بصبّ الشيء في العهدة حيث قد يتّفق أنّ المولى لا يريد أن يكون مصبّ الملاك هو المنصّب في العهدة، بل يريد أن يكون مقدّمة مّا لذاك المصب أو ملازمٌ من ملازماته هو المنصّب في العهدة؛ لكونه أوضح فهماً للمكلف، أو لأيّ نكتة اُخرى، وكما أنّ للمولى حقّ الطاعة في ما يريده كذلك له حقّ تحديد مركز حقّ الطاعة، أو تحديد ما يريد أن يصبّه في العهدة، ويكون الجعل والاعتبار صياغة عرفية غالبية مستخدمة للكشف عن هذا المصبّ لحقّ الطاعة، أو عن الصبّ في العهدة(2).

وأمّا مسلك إنكار الجعل والاعتبار في باب الأحكام الوضعيّة لأجل اللغويّة وعدم ترتّب أثر عمليّ عليه فجوابه ما يلي:

إنّ الأحكام الوضعية التي تعود إلى الجعل والاعتبار الاستقلالي ذات جذور عقلائية، والغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفية وتسهيل صياغتها التشريعية، فلا تكون لغواً، فصحيح أنّه كان بالإمكان جعل أحكام الزوجيّة أو الملك من دون جعل الزوجية أو الملك، ولكن ممّا يوجب تسهيل الصياغة التشريعية لتلك الأحكام هو جعل شيء مركزي اسمه الملك أو الزوجية، وربط كلّ تلك الأحكام المتفرّقة بها، فيقال مثلاً: المملوك يحرم غصبه والمملوك يجوز لصاحبه التصرّف فيه، أو يحرم للغير التصرّف فيه وما إلى ذلك، أو يقال: الزوج له كذا


(1)راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع ص 88 ـ 89 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. والمقالات: ج 2، ص 369 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي

(2) راجع الحلقة الثالثة لدروس في علم الاُصول: ج 1، ص 22 بحسب الطبعة الاولى المنشورة من قبل دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري

262


وعليه كذا، والزوجة لها كذا وعليها كذا، فهذا تسهيل لتنظيم الاُمور وتقنينها اعتاده العقلاء(1).

القسم الثاني من التقسيم المشهور للأحكام الوضعيّة:

وأمّا الأمر الثالث: وهو البحث عن القسم الثاني من القسمين المعروفين للأحكام الوضعيّة، وهي الانتزاعية، فمقصودنا من البحث عن ذلك البحث عن المثال المعروف لذلك، وهو الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، فحينما يقال: السورة جزء من الصلاة، يقال: إنّ الجزئية منتزعة من الأمر بالصلاة مع سورة، أو حينما يقال: الطهارة شرط في الصلاة، يقال: إنّ الشرطيّة أمر منتزع من الأمر بالصلاة المقترنة بالطهارة، وحينما يقال: إنّ الحركة الماحية للصورة مانعة أو قاطعة لصورة الصلاة. فهذه المانعية منتزعة من الأمر بالصلاة الفاقدة لهذا المانع. هذا ما يقال عادة.

تفصيل المحقّق العراقي بين(الجزئيّة) و (الشرطيّة والمانعيّة):

والشيء الطريف ما رأيته في كلام الشيخ العراقي(رحمه الله) من تفصيل بين الجزئيّة من ناحية وبين الشرطيّة والمانعيّة من ناحية اُخرى، فيفترض في الجزئيّة أنّها منتزعة من الحكم التكليفي، كالأمر بالصلاة مع السورة مثلاً، لكن الشرطيّة أو المانعيّة ليستا منتزعتين من الأمر، بل هما ثابتتان قبل الأمر، وإنّما أمر المولى بالصلاة المقترنة بالطهارة؛ لأنّ الطهارة كانت شرطاً، ولهذا أمر المولى بالصلاة مع الطهارة، ولو لم تكن شرطاً لما كان يأمر بذلك أو نهى المولى عن المانع، كالتحرك الماحي للصورة؛ لأنّه كان مانعاً، وإلاّ لم يكن ينهى، فيفرّق بين الجزئيّة وبين الشرطيّة والمانعيّة(2).

والذي يبدو لي من ظواهر عبائره المقتضبة في المقالات والمشروحة في التقريرات هو أنّه يريد أن يقول في مقام بيان الفرق بين الجزئيّة من ناحية وبين الشرطيّة والمانعيّة من ناحية اُخرى: إنّ الشرطيّة والمانعيّة مرجعهما إلى التقييد، فكون الطهارة شرطاً يعني: أنّ الصلاة مقيّدة بالطهارة، وكون الاستدبار مثلاً مانعاً والحدث مانعاً، أو كلام الآدمي مانعاً يعني: أنّ الصلاة مقيّدة بعدم هذه الاُمور، والتقييد مرجعه إلى التحصيص، والتحصيص يثبت قبل الأمر؛ ذلك لأنّ التحصيص راجع إلى عالم المفاهيم وعالم الذهن، والمفهوم في عالم الذهن قابل للتحصيص، يحصّص فيقال: الصلاة مفهوم مطلق لو جعلناها اسماً للأعمّ يشمل حتّى الصلاة بلا طهارة، فلو قلنا: الصلاة مع طهارة صارت حصّة معيّنة، وهذا التحصيص يتمّ قبل الأمر، وبعد ذلك يأتي الأمر على هذه الحصّة، وإنّما نحصّص لأجل المصلحة، أي: لأنّ المصلحة في الصلاة المحصّصة بالطهارة، أو الصلاة المحصّصة بعدم كلام الآدمي ونحو ذلك، وعلى أيّ حال فالتحصيص يكون قبل الأمر، وليس التحصيص بالأمر؛ لأنّ الأمر يتعلّق بالمحَصّص، وعليه فالوضوء شرط قبل الأمر، وهو طرف للإضافة وطرف للصلاة المقيّدة بالوضوء، وكون الوضوء شرطاً يعني: كونه


(1) راجع المصدر السابق: ص 19 بحسب الطبعة الماضية

(2) راجع نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 90 ـ 93 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، والمقالات: ج2، 370 ـ 374 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي بقم

263


طرفاً لهذه الإضافة، إضافة الصلاة إلى الوضوء، وكون كلام الآدمي مانعاً يعني: أنّه طرف لهذه الإضافة، وهذه الطرفيّة كانت قبل الأمر. إذن الشرطيّة والمانعيّة ثابتة قبل الأمر، وليست منتزعة من الأمر. نعم، بالإمكان أن يضاف إلى المأمور به فيقال هذا شرط المأمور به، أي: إنّ انتسابه إلى المأمور به يكون في طول الأمر، وهذا من قبيل نسبة المكان إلى الصلاة المأمور بها، حيث نقول: إنّ المكان(المسجد) هو مكان الصلاة المأمور بها، وهذا في طول الأمر فلو لم تكن الصلاة المأمور بها لم يكن المسجد مكاناً للصلاة المأمور بها، لكن ياترى هل إنّ مكانيّة المسجد للصلاة انتزعت من الأمر؟! طبعاً لا، فإنّ المكان الذي يصلّى فيه يكون مكاناً للصلاة، أو الزمان الذي يصلّى فيه يكون زماناً للصلاة سواء تعلّق به الأمر أو لا. نعم، بعد أن يتعلّق به الأمر يصبح ذاك الزمان زمان الصلاة المأمور بها، فبهذا المعنى يرتبط بالواجب بما هو واجب، فإن كنتم تقولون بهذا المعنى: أنّ الوضوء شرط للواجب بما هو واجب فهو صحيح، فإنّ الوضوء إنّما صار شرطاً للواجب بسبب كونه واجباً؛ لأنّ الصلاة أصبحت واجبة، ولو لم تكن الصلاة واجبة إذن الوضوء لا يكون شرطاً للواجب، ولكن هذا لا يعني أنّ أصل الشرطيّة للصلاة منتزعة من الأمر، هذا بالنسبة للشرط والمانع، فأصل الشرطيّة والمانعيّة غير منتزعة من الأمر، وإنّما هي منتزعة من نفس ذاك التقيّد الموجود، أو من الملاك أو المصلحة الموجودة في الصلاة المقيّدة بالوضوء قبل الأمر، وهذا بخلاف الجزئيّة فإنّها ليس مرجعها إلى التقييد والتحصيص، كما هي في الشرطيّة والمانعيّة، فإنّ الجزئيّة لو أرجعناها إلى التقييد والتحصيص لما بقي فرق بين الجزئيّة والشرطيّة، وصار الجزء شرطاً، في حين أنّ الجزئيّة غير الشرطيّة، فالجزئيّة ليس مرجعها إلى التقييد والتحصيص الذي يكون أمراً ذهنياً بحتاً، والذي يكون ثابتاً قبل الأمر، وإنّما الجزئيّة مرجعها إلى التوحيد لا إلى التقييد، أي: إنّ هناك توحيداً بين الإجزاء، فإنّ الأجزاء يوحّد بينها فيصبح العمل مركّباً، فيصبح هذا جزءً، والتوحيد بين أجزاء الصلاة لا يمكن إلاّ بنفس الأمر؛ فإنّه لولا الأمر فالأجزاء هي أجزاء متبعثرة متناثرة، فالفاتحة شيء، والركوع شيء، والسجود شيء، ولا تتوحّد إلاّ بوحدة الأمر، أو وحدة الإرادة، أو وحدة الحبّ، فهذا الحبّ أو هذه الإرادة التي جاءت وشملت الكلّ جعل الكلّ شيئاً واحداً.

والخلاصة: أنّ هناك فرقاً كبيراً بين التحصيص والتوحيد، فتحصيص الفاتحة بالسورة ينتج الفاتحة المقترنة بالسورة، فالتقيّد جزء والقيد خارج، وتلك الحصّة من الفاتحة التوأم مع السورة هي التي تؤمر بها، أمّا ذات السورة فهي خارجة، هذا معنى التحصيص، وهذا التحصيص شُغل الذهن لا يحتاج إلى الأمر، ولا يحتاج أن يتوحّد الحمد مع السورة، أمّا التوحيد بينهما فلا يمكن أن يكون توحيداً حقيقياً، إنّما التوحيد يكون بواسطة الأمر، فبما أنّ المجموع أصبح مأموراً به، ولم يكن الحمد وحده مأموراً به، ولا السورة وحدها مأموراً بها، صارت السورة جزءً، فحينما نقول: إنّ السورة جزء يعني ذلك: أنّها جزء للمأمور به، وليس لذلك معنىً آخر. فإذن الجزئيّة منتزعة من الأمر؛ إذ لولا الأمر لا معنى لكون السورة جزءً، هذه خلاصة ما ورد عن كلام الشيخ العراقي(رحمه الله).

ولكنّ هذا الفرق بين الجزئيّة والشرطيّة غير واضح لدينا بالمقدار الذي بيّنه(رحمه الله)، ونحن لو أردنا أن نفحص عالم الذهن وعالم التصوّر، وقبل عالم الأمر نستطيع أن نتصوّر بالنسبة لعالم الذهن ولما في الذهن جزءً، ونستطيع أن نتصوّر شرطاً، فالشرط هو ذاك المحصّص كما قال، يعني: نتصوّر في ذهننا الحمد: المقترن بالسورة، فتلك الحصّة التوأم تكون السورة مثلاً شرطاً لها بحيث لولا السورة لما تحقّقت تلك الحصّة. هذا في عالم الذهن وقبل الأمر،

264


ونستطيع أن نفترض السورة جزءً وذلك كما لو تصوّرنا أو تصوّر المولى في ذهنه الحمد والسورة معاً بحيث صبّ تصوّره على مجموع الأجزاء العشرة قبل أن يأمر بها، فيكون كلّ منها جزءً لما تصوّر، لكن متى تكون السورة شرطاً للمأمور به؟ أو متى تكون السورة جزءً من المأمور به؟ كلاهما يكونان حينما يأمر المولى، فحينما يأمر المولى بالفاتحة محصّصة بالاقتران بالسورة تكون السورة شرطاً للمأمور به، ومتى ما يأمر المولى بالمجموع، أي: بمجموع الحمد والسورة، تكون السورة جزءً للمأمور به، فعلى أيّ حال، هذا الفارق لا نفهمه فارقاً واضحاً بين الجزئيّة وبين الشرطيّة والمانعيّة.

إشكال الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة:

وأمّا الأمر الرابع، وهو البحث عن التفصيل في الاستصحاب بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة، فقد قيل: إنّ صاحب هذا التفصيل هو الفاضل التوني(رحمه الله)، فقد فصّل بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة، وقال: إنّ الأحكام التكليفيّة يجري فيها الاستصحاب، ولكن الأحكام الوضعيّة(أو قل: الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة) لا يجري فيها الاستصحاب؛ لأنّ الأحكام الوضعيّة عقليّة انتزاعيّة انتزعها العقل، فلا معنى لاستصحابها(قد ورد في تقرير بحث الشيخ العراقي نسبة هذا التفصيل إلى الفاضل التوني(1)، إلاّ أنّ الموجود في كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري؛ هو عكس ذلك، أي: إنّ الفاضل التوني ينكر الاستصحاب في الحكم التكليفي، ويقبله في الحكم الوضعي.)(2).

وأجاب عن ذلك الشيخ العراقي(رحمه الله) فقال: نحن لا نحتاج في الاستصحاب إلى أكثر من أن يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، والأحكام الوضعيّة حتّى إذا كانت انتزاعيّة فأمر وضعها ورفعها بيد الشارع ولو بواسطة منشأ انتزاعها، فحتّى لو فرضت اُموراً انتزاعيّة، أو ليس منشأ انتزاعها بيد الشارع وهو الذي يخلق ويجعل منشأ الانتزاع أو يرفعه؟! فالمنتزع ـ أيضاً ـ يكون بيد الشارع تبعاً، فلماذا لا يجري الاستصحاب؟! هذا كلام الشيخ العراقي(رحمه الله)(3).

وهذا المقدار من الكلام غير كاف؛ لأنّه صحيح أنّ الاُمور الانتزاعيّة أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، لكنّنا لا يكفينا في الاستصحاب مجرّد أن يكون أمر رفع ووضع الشيء بيد الشارع، بل نحتاج إلى شيء آخر، وهو الأثر العملي؛ لأنّ الاستصحاب أصل عملي ورد للتنجيز والتعذير، وورد لإثبات الآثار العمليّة، فيجب أن نرى: هل هناك أثر عملي لاستصحاب الجزئيّة والشرطيّة مثلاً أو لا أثر عملي لذلك؟

السيد الخوئي(رحمه الله) يقول على ما ينقل عنه: إنّ الاستصحاب جار(وهو يناقش في أصل الاستصحاب في الشبهات الحكميّة) ويقول بعد فرض تسليم الاستصحاب في الشبهات الحكميّة: إنّ الاستصحاب جار بلا فرق بين


(1) نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع ص 87 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم

(2) راجع الرسائل: ص 328 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق رحمة الله

(3) راجع نهاية الأفكار نفس الجزء ونفس الصفحة

265


الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة؛ وذلك لأنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين: إمّا هي أحكام مجعولة مستقلّة، إذن هي عائدة إلى الشارع. وإمّا أن تكون منتزعة فأيضاً هي وباعتبارها منتزعة تعود إلى الشارع، فتستصحب. نعم، هناك استصحاب حاكم على هذا الاستصحاب، فهو لا يجري لا لأنّ هناك خللاً في هذا الاستصحاب، وإنّما لوجود الحاكم فمثلاً، إذا شككنا في سقوط السورة عن الجزئيّة يمكن أن نستصحب جزئيّة السورة، لكن استصحاب وجوب الصلاة مع سورة حاكم على استصحاب جزئيّة السورة؛ لأنّ ذاك استصحاب لمنشأ انتزاعي يحكم على استصحاب الأمر المنتزع. هذا ما يقوله السيّد الخوئي(رحمه الله)(1).

وهذا الكلام ـ أيضاً ـ بهذا المقدار شبيه بكلام الشيخ العراقي، وهذا الكلام لا يقنع، فنحن يجب أن نرى: أنّه هل حقّاً لدينا استصحابان: استصحاب لوجوب الصلاة مع السورة، واستصحاب لجزئيّة السورة، بحيث نقول: بما أنّ ذاك حاكم على هذا، فمن باب الحكومة لا يجري الثاني، ولو ابتلى ذلك بمعارض فسقط جرى الثاني، أو لا يوجد في المقام إلاّ استصحاب واحد، ولا يوجد استصحابان أصلاً؛ لعدم وجود أثر عملي لاستصحاب الجزئيّة لو لم نرجعه إلى استصحاب وجوب الصلاة مع سورة؟ والصحيح هو الثاني، فبعد أن فرض أنّ جزئيّة السورة مثلاً لم تكن موضوعاً لوجوب الاتيان بها، وإنّما كانت أمراً منتزعاً من وجوب الصلاة مع سورة، ووجوب الصلاة مع سورة هو الذي يرتبط رأساً بالوجوب العقلي للامتثال بالإتيان بمتعلّقه وهو الصلاة مع سورة، فأيّ أثر عمليّ يترتّب على هذا العنوان الانتزاعي، وهو الجزئيّة أو على استصحابه؟! وعليه، فلا معنى أصلاً لاستصحاب الجزئيّة إلاّ بإرجاعه إلى استصحاب وجوب الصلاة مع سورة، وإذا عجز عن الجزء وكان الهدف من استصحاب الجزئيّة إثبات سقوط الواجب عنه فلامعنىً ـ أيضاً ـ لاستصحاب الجزئيّة إلاّ بإرجاعه إلى استصحاب عدم وجوب الفاقد لذلك الجزء، ولا بأس بأن نسمّي ذلك باسم استصحاب جزئيّة السورة، لكن ليس هناك استصحابان أحدهما حاكم على الآخر، وإن كان هذا غير ذاك فلا أثر عملي له أصلاً، فلا قيمة لاستصحاب الجزئيّة بهذا الشكل.

تبقى كلمة مختصرة حول الشرطيّة والسببيّة والمانعيّة للوجوب، فمثلاً زوال الشمس كان سبباً للصلاة والآن شككنا: هل إنّ زوال الشمس لا زال سبباً لوجوب الصلاة أو لا، فأردنا أن نستصحب السببيّة، وهذا الاستصحاب ـ أيضاً ـ يجب أن يرجع إلى استصحاب وجوب الصلاة إذا زالت الشمس، إلاّ أنّ هذا في غير الموارد التي ترجع إلى استصحاب عدم النسخ يكون من سنخ الاستصحاب التعليقي؛ إذ معنى ذلك: أنّه في ما مضى إذا كانت الشمس تزول كانت الصلاة تجب، والآن ـ أيضاً ـ كذلك وبناءً على قبول هذا النمط من الاستصحاب التعليقي يتمّ هذا الاستصحاب، وهذا راجع إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه من بحث الاستصحاب التعليقي.

وقبل أن نُنهي الحديث عن استصحاب الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة لا بأس بالإشارة إلى أنّ ما انتهينا إليه من عدم جريان الاستصحاب في تلك الأحكام قد يؤدّي إلى ثمرة عمليّة في بعض الأحكام الوضعيّة المردّد أمرها بين كونها مجعولة جعلاً استقلاليّاً أو منتزعة من الأحكام التكليفيّة، فمثلاً في باب الملكيّة لو قلنا بأنّها مجعولة جعلاً مستقلاًّ وأنّها جعلت موضوعاً للأحكام التكليفيّة، فلدى الشكّ في بقاء الملكيّة يكون جريان الاستصحاب في


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 88 ـ 89 بحسب طبعة مطبعة النجف

266


غاية الوضوح، أمّا لو قلنا بأنّ الملكيّة عنوان منتزع من جواز التصرّف ونحوه من الأحكام التكليفيّة، وليست موضوعاً لحكم من تلك الأحكام، فهنا نقول: لا معنى لاستصحاب الملكيّة؛ لأنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما له أثر، وهذا الأمر الانتزاعي لا أثر له شرعي، ولا أثر شرعي لاستصحابه، فلا يجري استصحابه، وإنّما يجب أن ننتقل إلى استصحاب الحكم، وعندئذ قد يختلّ الاستصحاب، فلو أنّ جواز التصرّف كان مختلاًّ؛ وذلك لسفه، أو صغر، أو جنون، أو نحو ذلك من أسباب الحجر، وبعد ذلك ارتفع السبب، وفي نفس الوقت شككنا في بقاء الملكيّة، فلو كانت الملكيّة هي الموضوع للحكم فما أسهل أن يجري استصحاب الملكيّة، وإذا استصحبنا الملكيّة يترتّب عليها جواز التصرّف؛ لأنّ الحاجب قد ارتفع والملكيّة مستصحبة، فيجوز التصرّف. أمّا لو فرضنا أنّ الملكيّة أمر انتزاعي بحت منتزع من الأحكام، فهنا استصحاب الملكيّة لا معنى له، واستصحاب جواز التصرّف لا معنى له؛ لأنّ جواز التصرّف كان مسبوقاً بالعدم، فهنا يشكل الاستصحاب من هذه الناحية، إلاّ أن نفحص عن استصحاب موضوعيّ آخر ينتهي إلى نفس النتيجة العمليّة، وهذا قد يحصل وقد لا يحصل.

حقيقة الطهارة والنجاسة:

وأمّا الأمر الخامس: وهو البحث عن حقيقة الطهارة والنجاسة، هل هما حكمان جعليّان جعلتهما الشريعة أو أنّهما أمران حقيقيّان تكوينيّان واقعيّان كشفت عنهما الشريعة؟ فلعلّ المشهور بين المحققين المتأخّرين هو: أنّ النجاسة والطهارة حكمان جعليان جعلتهما الشريعة، ولكن نسب إلى الشيخ الأنصاري(رحمه الله) أنّ الطهارة والنجاسة أمران تكوينيّان واقعيّان، فالنجاسة نوع قذارة واقعيّة حقيقيّة، والطهارة نوع نظافة معنويّة واقعيّة حقيقيّة، وليستا جعليّتين، والشريعة كشفت عنهما وأخبرتنا عنهما.

استدلال السيّد الخوئي على مجعوليّة الطهارة والنجاسة:

إختار السيّد الخوئي(رحمه الله) ما هو المشهور من كونهما أمرين مجعولين، ووردت في ما نسب إليه في تقرير بحثه عدّة وجوه لذلك(1)، وهي ما يلي:

الوجه الأوّل: ظاهر نصوص الشريعة أنّها بصدد التشريع وليست بصدد الإخبار عن الواقع.

وهذا الكلام فيه احتمالان: أحد الإحتمالين ما لعلّه الأظهر، وهو: أنْ يكون مقصوده بذلك: أنّ الأصل في كلام المشرّع أنّه قد صدر منه بما أنّه مشرّع وليس بما هو مخبر، فحينما يقول: جعل الله الماء طهوراً، أو حينما يقول: الماء طاهر، والبول قذر أو نجس، أو الكلب رجس نجس، أو نحو ذلك فالظاهر من هذه الكلمات أنّها صدرت منه بما أنّه مشرّع، أي: إنّها ظاهرة في الجعل والتشريع، وحملها على الإخبار باعتباره مطّلعاً على أسرار العالَم وخصائص الأشياء فيخبرنا أنّ الكلب فيه قذارة والماء فيه طهارة ونظافة خلاف الظاهر، بل ظاهر كلام المشرّع أنّه كلام صدر منه بما هو مشرّع.


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3 ص 84 ـ 85 بحسب طبعة مطبعة النجف

267


الوجه الثاني: أنّه توجد لدينا بعض المصاديق للطهارة والنجاسة بحيث لا يحتمل أن نفسّرها على أساس تفسير قضيّة تكوينيّة وواقعيّة، ولا بدّ أن نفسّرها على أساس تفسير قضيّة جعليّة واعتباريّة، مثاله: ولد الكافر إن لم نقل: إنّ نجاسة الكافر ليست إلاّ قضيّة اعتباريّة لا قضيّة تكوينيّة خارجيّة، فولد الكافر ملحق بأبيه، ولنفرض أنّنا أخذنا هذا الولد وأتينا به إلى بلادنا وأبعدناه عن أبيه، لكنّه ما دام صغيراً لم يبلغ الحلم هو بحكم الشريعة ملحق بأبيه ويحكم عليه بالكفر، فهو نجس، ثمّ صادف أنّ أباه هناك في بلاده أسلم لسبب من الأسباب حيث رأى أدلّة الإسلام واعتقد بها، فأسلم، وبمجرّد أن أسلم أصبح هذا الولد طاهراً، فهل نحتمل أنّ هناك خصوصيّات تكوينيّة في هذا الولد، وقذارة واقعيّة فيه باعتباره كافراً مسيحيّاً، وبمجرّد أن أسلم أبوه تبدّلت تلك الخصوصيّات التكوينيّة، وأصبح نظيفاً؟! هذا لا نحتمله، فهذه الطهارة والنجاسة هي حتماً طهارة ونجاسة جعليّة.

الوجه الثالث: أنّه ماذا تقولون في الطهارة الظاهريّة والنجاسة الظاهريّة؟! فمن الواضح أنّ الطهارة الظاهريّة والنجاسة الظاهريّة جعليتان، ولا يمكن أن تكونا تكوينيّتين، فإنّ الحكم الظاهري حتماً جعلي يجعله الشارع، ولا يمكن أن يكون شيئاً حقيقياً واقعياً وخارجياً.

مناقشة استدلال السيّد الخوئي:

ونحن نبدأ في مناقشتنا مع السيّد الخوئي(رحمه الله) بهذا الوجه الثالث، وهذا الوجه الثالث إن كان هذا الظاهر الموجود في التقرير مقصوداً، فهو واضح البطلان، فلا أحد يقول: إنّ الحكم الظاهري هو شيء حقيقي وواقعي وتكويني، وحتّى الشيخ الأنصاري ـ إن صحّ ما نسب إليه من أنّ الطهارة والنجاسة أمران تكوينيان ـ هو حتماً يعترف أنّ إثباتهما الظاهري إثبات جعلي، ومعنى كون الحكم ظاهرياً هو: أنّ المولى فرض واعتبر ظاهراً تحقّق ذاك الشيء، فاستصحاب بقاء الحياة مثلاً يعني: اعتبار الحياة وجعلها ظاهراً، ولكن الحياة ليست شيئاً اعتبارياً جعلياً، بل هي شيء تكويني نحكم ببقائه ظاهراً، وهذا الحكم اعتباري جعلي، إنّما الكلام في المستصحب وهو الحياة، هل هو تكويني أو اعتباري، ونقول: لا شكّ في كونه تكوينياً، كذلك في ما نحن فيه حينما نبحث أنّ الطهارة والنجاسة هل هما أمران واقعيان أو أمران مجعولان، نتكلّم في أصل الطهارة والنجاسة، ولا نتكلّم في إثباتهما الظاهري، فإثباتهما الظاهري حتماً إثبات جعلي اعتباري، ككلّ حكم ظاهري ولو كان متعلّقاً بأوضح الاُمور تكوينيّةً.

وأمّا الوجه الثاني، وهو النقض بالكافر أو بولده، فهذا قد يثبت أنّه إذن بعض النجاسات تكون نجاستها اعتباريّة، لكن هذا لا يثبت على الإطلاق أنّ النجاسة والطهارة أمران اعتباريان جعليان، وإن شئت فقل: لعلّ الطهارة والنجاسة بالأصل أمران حقيقيّان واقعيّان وثابتان في أكثر موارد الطهارة والنجاسة، ولكن في بعض الموارد اتّفق أنّ هذا الشيء الواقعي فرضه المولى فرضاً واعتبره اعتباراً، أو نزّل ذاك الشيء الآخر منزلة هذا تنزيلاً لحكمة مّا، فالكافر مثلاً فرضه المولى بمنزلة الكلب في النجاسة لحكمة إبعاد المسلمين عن الكفّار، وعدم اكتسابهم من قذاراتهم المعنوية، فلا يمكن أن يكون بعض موارد النقض دليلاً شاملاً يدلّ على أنّ الطهارة والنجاسة بشكل عامّ أمران جعليّان.

وأمّا الوجه الأوّل، وهو: أنّ الكلمات التي تصدر من المشرّع يجب أن تحمل على أنّها صدرت من المشرّع بما