182

وجد شيئان في أحد طرفيه جعل المجموع طرفاً واحداً، فهنا يجعل مجموع الموضوع والحكم طرفاً واحداً له، فتكون هذه النسبة الحرفية مندكّة في الموضوع، وجزء تحليلياًله، وفي نفس الوقت جزء للحكم ومندكّة فيه، وهذا معناه التهافت في الرتبة ووجودها في رتبتين، وكأنّ هذا هو المقصود ممّا ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)(على ما أذكر) من لزوم تقدّم الشيء على نفسه(1).

وأمّا الثاني، فيرد عليه ما مضى آنفاً في مناقشة القول الأوّل من هذين القولين.

وأمّا الثالث، فمضافاً إلى ما مضى من الإشكالات في هذا الفرض ثبوتاً وإثباتاً يرد عليه هنا: أنّنا نتساءل: هل يفرض هذا الاستمرار استمراراً حقيقياً أو عنائياً؟ فإن فرض حقيقياً كانت غايته غاية للطهارة المذكورة في الصدر، فإنّ غاية الاستمرار الحقيقي للشيء غاية لذلك الشيء لا محالة، لأنّ الإستمرار الحقيقي للشيء عبارة عن نفس ذلك الشيء وسعته، لكن على هذا لم نستفد الاستصحاب، وإنّما استفدنا الطهارة الظاهرية فقط؛ إذ الاستمرار صار استمراراً حقيقياً للطهارة الظاهرية، أي: إنّ الطهارة الظاهرية بنفسها باقية حقيقةً. وإن فرض عنائياً قلنا: إنّه لا مجال لاستفادة الطهارة الظاهرية من الصدر على هذا التقدير؛ إذ الغاية لم تكن غاية للاستمرار الحقيقي لها حتّى تكون طهارة ظاهرية، وإنّما هي غاية للاستمرار العنائي لها، وغاية الاستمرار العنائي للشيء ليست غاية لنفس ذلك الشيء.

 

الاتّجاه الثالث:

وأمّا الاتّجاه الثالث، فتحته ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: استفادة الطهارة الواقعية، وهذا ما يستفاد من ظواهر عبارة صاحب الحدائق(رحمه الله)(2)، وتصوير ذلك يكون بأحد وجهين:

الأوّل: فرض العلم في الغاية طريقيّاً، فكأنّه قال:(كلّ شيء طاهر حتّى يكون قذراً).

ويرد عليه: أنّ هذا بلا تأويل غير صحيح، والتأويل يكون على خلاف الظاهر لا محالة، والوجه في عدم صحّته بلا تأويل هو لزوم جعل أحد الضدّين غاية للآخر، وتوقيف أحدهما على عدم الآخر كأن يقال: هذا حرام إلى أن يصبح حلالاً. وهذا غير ممكن عقلاً،


(1) عبارة الشيخ(رحمه الله) مايلي: لا يعقل كون شيء في استعمال واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأوّل المغيّى موضوعاً له. راجع الرسائل: ص 335 بحسب طبعة رحمة الله.

(2) راجع الحدائق: ج 1 من المجلّدات الجديدة، ص 136.

183

ولغو عرفاً.

الثاني: (وهو الظاهر من عبارة صاحب الحدائق(رحمه الله)) أن يقال: إنّ الشيء ما لم يعلم بنجاسته هو طاهر واقعاً، بأن يتحفّظ على موضوعيّة العلم، وهذا يقتضي فرض أخذ العلم بالنجاسة في موضوع شخص تلك النجاسة، وعندئذ إن قلنا: إنّ النجاسة أمر تكويني كشف عنه الشارع، فمن المستحيل أخذ العلم بها في موضوعها(على ما حقّق في محلّه من استحالة كون العلم بالشيء دخيلاً في نفس ذلك الشيء) إلاّ أن يؤوّل بتعدّد الرتبة، كأن يفرض أنّ معنى الحديث هو أخذ العلم بمقتضي التنفّر في موضوع التنفّر الفعلي، من قبيل كون التنفّر الفعلي من ماء وقع فيه الذباب موقوفاً على الاطّلاع على وقوع الذباب فيه، وهذا كما ترى خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من الحديث هو أخذ العلم بالنجاسة الفعليّة غاية للطهارة. وإن قلنا: إنّ النجاسة الشرعية أمر جعلي واعتباري، فإن قصد بأخذ العلم في موضوع النجاسة أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول، كان هذا محالاً أيضاً، كما حقّق في محلّه. وإن قصد به أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول كان هذا ممكناً، لكنّه خلاف ظاهر الحديث؛ إذ هو بظاهره دالّ على كون الغاية هي العلم بالنجاسة الفعلية.

الوجه الثاني: استفادة الاستصحاب وحده من الحديث، وهذا يستلزم أن يفرض أنّ قوله: «كل شيء طاهر» قد فرضت فيه طهارة الشيء مفروغاً عنها، وإنّما ذكر قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم» للحكم باستمرار تلك الطهارة، ولئن لم يكن ذلك خلاف الظاهر في قوله: «الماء كلّه طاهر» باعتبار وضوح طهارة الماء، فهو خلاف الظاهر حتماً في قوله: «كلّ شيء نظيف»؛ إذ فرض طهارة مفروغ عنها غير مذكورة في العبارة وصرف الكلام إلى النظر إلى الحكم الاستمراري يكون فيه مؤونة زائدة لا محالة، ولعلّه لهذا فرّق الشيخ الأعظم(قدس سره)بين حديث(كلّ شيء طاهر) وحديث(الماء كلّه طاهر) بامكان حمل الثاني على الاستصحاب دون الأوّل(1). هذا مضافاً إلى أن مجرد الحكم الاستمراري بالطهارة ليس استصحاباً؛ إذ لا بدَّ في الاستصحاب من لحاظ الحالة السابقة ومرجعيّتها.

الوجه الثالث: استفادة الطهارة الظاهرية وحدها، وقد اتّضح لك بكلّ ما ذكرناه تعيّن هذا الوجه.


(1) راجع الرسائل: ص 336 بحسب طبعة رحمة الله.

184

وما ذكره بعض كالسيّد الاُستاذ من أنّ حمل الحديث على الطهارة الظاهرية إنّما ينسجم مع إرجاع الغاية إلى الموضوع دون إرجاعها إلى المحمول، وإرجاعها إلى المحمول إنّما يناسب الاستصحاب لا أصالة الطهارة في غير محلِه، بل رجوع الغاية إلى المحمول ـ أيضاً ـ ينسجم مع أصالة الطهارة.

هذا تمام الكلام في أصل الاستصحاب، وقد ثبتت حجّيّته في الجملة.

بقي الكلام في التفاصيل؛ لنرى أنّ الاستصحاب هل هو حجّة مطلقاً أو فيه تفصيل؟ ونقتصر على ذكر تفاصيل ثلاثة:

الأوّل: ما اختاره السيّد الاُستاذ من التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

والثاني: ما اختاره الشيخ الأعظم(رحمه الله) من تفصيل بين ما استفيد عن طريق حكم العقل وغيره.

والثالث: ما اختاره الشيخ الأعظم وتبعه المحقّق النائيني(قدس سرهما) من التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

 

 

 

185

الاستصحاب

3

 

 

 

 

 

 

الأقوال في حجّيّة الاستصحاب

 

 

 

 

 

✽ التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

✽ التفصيل بين الحكم الشرعي الثابت بحكم العقل وبدليل شرعي.

✽ التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

187

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة:

 

أمّا التفصيل الأوّل، وهو التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية، فهو ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ، وقد تطوّرت هذه الفكرة في ذهنه من ناحيتين، فهو كان يقول أوّلاً بعدم حجّيّة استصحاب الحكم سواء كانت الشبهة حكميّة او موضوعيّة، ففي الشبهة الموضوعيّة ـ أيضاً ـ لا يجري استصحاب الحكم في نفسه بغضّ النظر عن حكومة استصحاب الموضوع عليه، وهذا ـ أي: إنكاره لاستصحاب الحكم في الشبهة الموضوعيّة ـ لم يكن له مزيد خطورة؛ لأنّ استصحاب الموضوع يغني عن استصحاب الحكم. وعلى أيّ حال فبالبحث والنقاش جرى على هذه الفكرة تعديلان:

الأوّل: هو استثناء استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية والقول بجريانه، وهذا الاستثناء كان يبني عليه أحياناً وينكره أحياناً إلى أن استقرّ عليه.

الثاني: استثناء الشبهات الحكمية الترخيصيّة وما بحكمها. فقال بجريان الاستصحاب فيها، وقال بعدم جريان الاستصحاب في خصوص الشبهات الحكمية الالزامية وما بحكمها. ويظهر بعد هذا ـ إن شاء الله ـ ما هو المقصود بقولنا:(وما بحكمها)(1).

ومنشأ ذهابه إلى هذا التفصيل هو ما ذكره المحقّق النراقي(رحمه الله) من عدم جريان استصحاب الحكم ـ ولعل المتيقّن من عبارته الشبهة الحكميّة ـ مستدلاًّ بتعارض استصحاب وجوب


(1) وهو كلّ ما يُرى أنّ في جعله مؤونة، ولا يكفي مجرّد الإمضاء في صدر الشريعة له.

188

الجلوس في الساعة الثانية مثلاً إذا وجب في الساعة الاُولى باستصحاب العدم الأزلي لوجوب الجلوس في الساعة الثانية، فطوّر السيّد الاُستاذ هذا الكلام وعمّقه بنحو لا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّه إذا فرض الزمان مفرِّداً للجلوس، وعدّ جلوس الساعة الاُولى موضوعاً، وجلوس الساعة الثانية موضوعاً آخر، جرى استصحاب العدم الأزلي لوجوب الثاني، ولا موضوع لاستصحاب وجوبه؛ لأنّ الشكّ في الحدوث لا في البقاء، وإن كان الزمان ظرفاً فقط وغير معدِّد للموضوع، فوجوب الجلوس في الساعة الثانية بقاءٌ لوجوب الجلوس في الساعة الاُولى، واستصحاب عدم البقاء لا معنى له، بل يجري بعد العلم بحصّته الحدوثية الاستصحاب الحاكم بثبوت حصّته البقائية(1).

وذكر السيّد الاُستاذ(2) في فرض الشكّ في الحكم إذا كان بنحو الشبهة الحكمية بمعنى الشكّ في سعة وضيق دائرة المجعول، من قبيل ما لو شكّ في أنّ اليوم الواجب صومه في شهر رمضان هل هو إلى الغروب أو الى زوال الحمرة: أنّ استصحاب بقاء المجعول معارض باستصحاب العدم الأزلي للجعل؛ لأنّ الجعل يختلف قلّةً وكثرةً بطول المجعول وقصره، فالشكّ في طول المجعول يساوق الشكّ في كثرة الجعل، فاستصحاب بقاء المجعول يعارض استصحاب عدم الجعل، وليس هذا استصحاباً لعدم البقاء الذي أُثبت بالاستصحاب الأوّل حتّى يقال: إنّه لا معنى لجريان استصحاب عدم البقاء، وإنّما هنا مركزان للاستصحاب: أحدهما: المجعول، ويجري فيه استصحاب البقاء بعد البناء على ظرفيّة الزمان. والثاني: الجعل، ويجري فيه استصحاب العدم، فيتعارضان.

ولعلّ مقصود المحقّق النراقي(رحمه الله) هو ما ذكره السيّد الاُستاذ.

وقد تعرّض السيّد الاُستاذ للإشكالات التي اعترض بها على هذا التقريب ولو بصيغته النراقية ودفعها وفق صيغته التي التزم بها:

الإشكال الأوّل: ما مضى عن الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّه مع مفرّديّة الزمان لا معنى لاستصحاب الحكم، ومع ظرفيّته لا معنى لاستصحاب عدم البقاء: وهذا ـ كما ترى ـ وإن كان يرد على الصيغة النراقية، لكن على صيغة السيّد الاُستاذ جوابه واضح كما عرفت، فهو يختار ظرفيّة الزمان ويستصحب عدم جعل الزائد، لا عدم بقاء المجعول.


(1) راجع الرسائل: ص 377 بحسب طبعة رحمة الله.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 47 ـ 48.

189

الإشكال الثاني: عدم اتّصال زمان المشكوك وهو الساعة الثانية التي شكّ في وجوب الجلوس فيها بزمان اليقين بعدم الوجوب وهو ما قبل الساعة الاُولى؛ وذلك للفصل بالساعة الاُولى التي علم بالوجوب فيها.

وهذا ـ كما ترى ـ هو نفس الإشكال السابق بعد اختيار ظرفيّة الزمان، وجوابه على صيغة السيّد الاُستاذ واضح؛ فإنّه لا يحسب حساب الشكّ في المجعول، وإنّما يحسب حساب الشكّ في الجعل، فزمان المشكوك ممتدّ إلى أوائل الشريعة، وزمان المتيقّن هو أوائل الشريعة مثلاً التي نقطع فيها بأنّه لم يكن هذا الحكم مجعولاً، فإنّ جعول الأحكام ليست أزلية.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي التفت إلى إمكان توجيه كلام النراقي(قدس سره)باستصحاب عدم الجعل، ومحصّل الإشكال: أنّ استصحاب عدم الجعل لا يترتّب عليه أثر عقلي ولا شرعي: أمّا الأثر العقلي وهو التنجيز والتعذير فإنّما يرتبط بالمجعول لا بالجعل، فلو فرض محالاً تحقّق المجعول بدون الجعل حكم العقل بوجوب امتثاله، ولو فرض الجعل فقط ولم يصل إلى مرتبة الفعلية لم يحكم العقل بوجوب امتثاله. وأمّا الأثر الشرعي فأيضاً غير موجود، فإنّ ترتّب المجعول على الجعل عند تحقّق الموضوع إنّما هو من اللوازم العقلية، وليس أثراً شرعيّاً(1).

وكانت لسيّدنا الاُستاذ صياغات مختلفة في مقام ذكر الجواب على هذا الإشكال، لكنّ الصيغة المدرسيّة التي أعطاها في البحث على المستوى العامّ هي: أنّ العقل يحكم بذلك الأثر العقلي وهو التنجيز مهما ثبت شيئان وجداناً أو تعبداً، أو أحدهما وجداناً والآخر تعبداً: الأوّل: هو الجعل، والثاني: هو الموضوع، فمهما علم بجعل وجوب مثلاً على موضوع مع العلم بتحقّق ذلك الموضوع، حكم العقل لا محالة بوجوب الامتثال؛ لحصول الجعل مع موضوعه، وبنفي أحد هذين الشيئين ينتفي التنجيز لا محالة، فكما يُنفى التنجيز باستصحاب عدم الموضوع عند الشكّ فيه كذلك يُنفى التنجيز باستصحاب عدم الجعل عند الشكّ فيه(2).

الإشكال الرابع: ما أوردناه عليه، وهو: أنّ استصحاب عدم جعل الوجوب مثلاً معارَض باستصحاب آخر من سنخه وهو استصحاب عدم جعل الإباحة، ونحن نقطع بأنّ هذا إمّا مباح أو واجب، والسيّد الاُستاذ ملتزم بأنّ الإباحة حكم وجوديّ وليس مجرّد عدم الحكم.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 183 و ص 447 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات: ج 2، ص 396 و 406.

(2) راجع مصباح الاصول: الجزء الثالث، ص 46.

190

وأجاب على ذلك بأجوبة ثلاثة:

الأوّل: أنّه لو عورض استصحاب عدم جعل الوجوب باستصحاب عدم جعل الإباحة، لم يغيّر ذلك شيئاً من الموقف، وغاية ما في المقام: هي أنّ استصحاب عدم جعل الوجوب ابتلي بمعارضين: أحدهما: استصحاب عدم جعل الإباحة، والثاني: استصحاب بقاء المجعول، فتساقط الكلّ بالمعارضة.

الثاني: أنّ استصحاب عدم جعل الوجوب واستصحاب عدم جعل الإباحة لا يتعارضان؛ لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة من جريانهما، فإنّنا لم نعلم بحكم إلزامي، وإنّما علمنا بحكم مردّد بين كونه إلزامياً أو ترخيصيّاً، وهذا لا أثر له.

الثالث: أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة غير جار؛ لانتقاضه باليقين بجعلها، فإنّه في أوّل الشريعة لم يوجب شيء غير الاعتراف بالتوحيد، فكان في أوّل الشريعة كلّ الأفعال مباحاً، وكل شيء طاهراً، فلا يمكن استصحاب عدم جعل الإباحة أو الطهارة(1).

وهناك جواب رابع، وهو: أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة لا أثر له، فإنّ الأثر إنّما يترتّب على الوجوب وجوداً وعدماً.

وهذا الجواب ـ أيضاً ـ كان يريده لكنّه أخيراً وقع الاتّفاق بيننا وبينه على بطلانه، وسوف يتبيّن حاله ـ إن شاء الله ـ فيما يأتي(2).

ثمّ إنّنا قبل أن نشرع في تحقيق ما هو الصحيح في المقام نذكر نكات ثلاث حول شرح مقصود السيّد الاُستاذ.

النكتة الاولى: أنّ السيّد الاُستاذ لا يقصد باستصحاب عدم الجعل استصحاب عدم اللحاظ الزائد الذي لا يمكن توهّمه في المطلق، إلاّ بناءً على مبناه من كون تقابل الإطلاق والتقييد هوتقابل التضاد، وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله) من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وبناءً على مبنانا من كونه تقابل التناقض، فلا معنى لاستصحاب عدم المؤونة الزائدة اللحاظية؛ إذ لا توجد مؤونة زائدة لحاظية في الإطلاق، وإنّما القيد هو الذي يحتاج إلى مؤونة زائدة لحاظيّة، ولو كان هذا هو المقصود لورد عليه إشكال واضح، وهو: أنّ نسبة


(1) راجع نفس المصدر: ص 42 ـ 44.

(2) كأنّه إشارة إلى ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة يجوّز الإفتاء بعدم جعل الإباحة واقعاً بناءً على ما ذهب إليه السيّد الخوئي(رحمه الله) من أنّ الاستصحاب يصحّح الإفتاء بثبوت الحكم الثابت به واقعاً؛ لكونه علماً بذلك الحكم تعبّدا.

191

لحاظ المولى إلى الجعل كنسبة حياته مثلاً إليه يكون شرطاً تكوينياً في الجعل، ولا أثر لاستصحاب عدمه، وإنّما يقصد استصحاب عدم نفس الجعل.

النكتة الثانية: أنّه يمكن الاستشكال في كلام السيّد الاُستاذ بأنّه قد لا يوجد مجال لاستصحاب عدم الجعل الزائد؛ إذ لا معنى لافتراض قلّة وكثرة في عالم الجعل إلاّ بنحوين:

الأوّل: أن تفرض في المقام جعول متعدّدة مستقلة، ويقطع ببعضها ويشكّ في بعض آخر، فيُجرى استصحاب عدم الجعل الزائد. وهذا خلاف الفرض، ولو فرضت جعول متعدّدة إذن لأصبحت المجعولات ـ أيضاً ـ متعددة، فإنّ تعدّد الجعل يستتبع ـ لا محالة ـ تعدّد المجعول، وعندئذ لا معنى لاستصحاب بقاء المجعول.

والثاني: أن يفرض في المقام جعل واحد تعلّق بالحصص بشكل تفصيلي، كأن يكون مثلاً على صيغة(اجلس في الساعة الاُولى وفي الساعة الثانية وفي الساعة الثالثة إلخ) فهذا الجعل الواحد يدور أمره بين الزائد والناقص على حدّ دوران أمر التصور المتعلّق بأشياء بعناوينها التفصيلية بين الزائد والناقص، فيجري استصحاب عدم المقدار الزائد، حيث إنّ الجعل الزائد والجعل الناقص وإن كانا بحدودهما متباينين، لكن ذات الجعلين بغضّ النظر عن الحدّين يدخلان في الأقلّ والأكثر، فيستصحب عدم المقدار الزائد، وهذا من قبيل أنّ الأقلّ والأكثر الارتباطيّين يكونان بحدودهما متباينين، وبذاتهما أقلّ وأكثر.

إلاّ أنّ الجعل إذا كان بصيغة الإطلاق لم يرد فيه هذا الكلام، لأنّ الإطلاق لا يُري الحصص تفصيلياً، وإنّما هو رفض للقيود، إذن فليس الأمر في ذات الجعلين دائراً بين الأقلّ والأكثر، وإنّما الأمر دائر بين المتباينين، فما معنى استصحاب عدم الجعل الزائد؟! وكذلك إذا كان الجعل بصيغة العموم، فإنّ العموم لا ينظر إلى الحصص بعناوينها التفصيلية، وإنّما ينظر إليها بعنوان إجمالي، فأيضاً ليس الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر. وقد تبيّن بذلك: أنّه لا موضوع لاستصحاب عدم الجعل الزائد، ولا استصحاب عدم اللحاظ الزائد(بغضّ النظر عمّا مضى في النكتة الاُولى من الإشكال على استصحاب عدم اللحاظ).

وهذا الإشكال ينشأ من الصيغة المدرسية التي أعطاها السيّد الاُستاذ في بحثه في تقريب مرامه من أنّ طول المجعول وقصره يساوق كثرة الجعل وقلّته، فيستصحب عدم الجعل الزائد.

ولكن حاقّ مقصوده ـ ولو بالارتكاز الذي يصل إليه لو نوقش ـ هو: أنّ الجلوس في الساعة الاُولى مثلاً قد ثبت له الجعل يقيناً، والجلوس في الساعة الثانية لا ندري هل ثبت له

192

الجعل، أي: جعل الوجوب ولو من باب تعلق الجعل بما ينطبق على هذه الحصّة أيضاً، أو لا؟

وبكلمة اُخرى: أنّنا لو احتملنا الجعل للساعة الثانية بنحو الجعل الناظر إلى الساعات بعناوينها التفصيلية، استصحبنا عدم الجعل الزائد، ولو احتملنا شمول الجعل للساعة الثانية بسبب تعلّقه بعنوان غير مقيّد بالساعة الاُولى، استصحبنا عدم جعل من هذا القبيل، ولا يعارضه استصحاب عدم الجعل على المقيّد بالساعة الاُولى؛ إذ لا أثر لهذا الاستصحاب؛ لأنّه إن اُريد به نفي وجوب الجلوس في الساعة الاولى فوجوب الجلوس فيها مقطوع به. وإن اُريد به إثبات تعلّق الجعل بالمطلق فهذا تعويل على الأصل المثبت.

النكتة الثالثة: أورد بعض على فرضيّة تعارض استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل أنّه لا تعارض بين الاستصحابين، فإنّ استصحاب المجعول يثبت إطلاق المجعول للساعة الثانية، واستصحاب عدم الجعل ينفي جعلاً ثابتاً على الساعة الثانية، وهذان ليسا متنافيين(1).

أقول: إنّ استصحاب المجعول لا يثبت إطلاق المجعول للساعة الثانية، وإنّما يثبت إجمالاً بقاء المجعول، وهو وإن كان مستلزماً عقلاً لكون الحكم هو الحكم المطلق حتّى يعقل بقاؤه، لكنّه لا يثبت بهذا إطلاقه إلاّ بناءً على الأصل المثبت، وليس استصحاب عدم الجعل نافياً للجعل الثابت على الساعة الثانية بالخصوص، بل ـ كما عرفت ـ ينفي احتمال جعل مطلق شامل للساعة الثانية.

بقي الكلام في تحقيق أصل المطلب فنقول: إنّ منطقة الفراغ في كلام السيّد الاُستاذ هي تحقيق حال أصل استصحاب المجعول، حيث قد فرغ عن صحّة هذا الاستصحاب في نفسه ولم يبحث عنه شيئاً، وبنى على إبطاله بالمعارضة مع استصحاب عدم الجعل، كما لم يبحث عنه أحد قبله ـ أيضاً ـ فيمن أعلم عدا المحقّق العراقي(رحمه الله) الذي استعرض إشكالاً في المقام، ولكن هنا إشكالاً آخر لم أَرَ من تعرّض له، فنحن نتعرّض له، ونتكلّم في حُلولِه، فنرى أنّه


(1) لم أرَ أحداً اعترض بهذا الاعتراض على التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل. نعم، السيّد الإمام(رحمه الله) اعترض على الصيغة النراقية بأنّ موضوع الاستصحابين إن كان واحداً فلا يوجد استصحابان حتّى يتعارضا، فالموضوع إمّا هو ذات الجلوس فيجري استصحاب وجوبه فحسب، أو جلوس الساعة الثانية بقيد الساعة الثانية فيجري استصحاب عدمه فحسب، وإن كان متعدّداً بأنْ استصحبنا وجوب ذات الجلوس وعدم وجوب جلوس الساعة الثانية بقيد الساعة الثانية، فهما ليسا متعارضين. راجع الرسائل للسيد الإمام الخميني(رحمه الله)ص 163 ـ 164.

193

بذلك ينحلّ إشكال التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

والإشكال الذي ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) في المقام هو: أنّ وحدة الموضوع المشروطة في باب الاستصحاب ليست هي الوحدة في الماهية، وإلاّ لصحّ الاستصحاب في ما لو علم بوجود زيد ثم شُكّ في وجود عمرو لوحدة الماهية، وإنّما هي الوحدة في الوجود الخارجي. وعلى هذا يشكل استصحاب الحكم؛ لأنّ الحكم ليس له وجود خارجي حتّى تثبت الوحدة في الوجود الخارجي، وإنّما الحكم أمر قائم في ذهن المولى. ثمّ أجاب(رحمه الله) عن هذا الإشكال بجواب(1)، ونحن سوف نتكلّم في تحقيق الحال في ذلك ـ إن شاء الله ـ في مبحث اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب(2)، أي: لزوم وحدة موضوع القضيّة المشكوكة مع موضوع القضية المتيقّنة، فنتكلّم في أنّ هذه الوحدة هل هي وحدة في الماهية، أو وحدة في الوجود، أو أيّ شيء هي؟ والآن نريد توضيح الإشكال الذي ينتهي البحث عنه إلى حلّ إشكال التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل. وهذا الإشكال لم يتعرّض له أحد ـ فيما أعلم ـ وأُلفِتُ النظر إلى عدم تعرّض أحد له، وعدم خطوره على بال أحد منهم لأجل دخل هذا ـ أي: عدم خطوره على بالهم وعدم ذكرهم له ـ في حلّه.

وهذا الإشكال هو: أنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا كان الشكّ شكّاً في البقاء، فلو لم يكن الشكّ شكّاً في حصّة متأخّرة حتّى يكون بقاءً للحصّة الحدوثية، بل كان شكّاً في شيء معاصر للحصّة الحدوثية، فهذا ليس شكّاً في البقاء، ولا يجري فيه الاستصحاب. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ وجوب الجلوس في الساعة الثانية ـ على تقدير ثبوته ـ معاصر لوجوب الجلوس في الساعة الاُولى، وقد وُجدا في آن واحد، فليس أحدهما يشكّل الحصّة الحدوثية والآخر الحصّة البقائية، فإنهما إنّما وُجدا بالجعل، وجعلهما إنّما صار في آن واحد، وسنعمّق هذا الإشكال عند إبطال الجواب الأوّل من أجوبته. وهذا الإشكال يمكن الجواب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما يخطر عموماً على البال عند إلقاء هذا الإشكال، وهو: أنّ المجعول ليس معاصراً للجعل، توضيحه: أنّ القضايا الإخبارية على نهج القضايا الحقيقية توجد محمولاتها لموضوعاتها بنحوين من الوجود، فحينما يقال مثلاً: (النار حارّة) فحتّى لو لم تكن


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 9 ـ 10. وراجع ـ أيضاً ـ المقالات: ج 2، ص 335 ـ 336 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي.

(2) أظنّ أنّه(رحمه الله) لم يتعرّض في بحث اشتراط بقاء الموضوع إلى الشبهة التي طرحها الشيخ العراقي(رحمه الله).

194

النار موجودة في الخارج قد وجدت النار بوجود تقديري في عالم عقد القضية، ووجد المحمول وهي الحرارة بوجود تقديري ـ أيضاً ـ للموضوع، وحينما يوجد الموضوع وجوداً فعلياً في الخارج يوجد المحمول ـ أيضاً ـ وجوداً فعلياً، فصار لمحموله لونان من الوجود: الأوّل: وجود تقديري على الموضوع المقدّر الوجود، والثاني: وجود فعلي على الموضوع الفعلي الوجود. هذا حال القضايا الإخبارية، ومثلها تماماً القضايا الجعلية التي جعلت بنحو القضايا الحقيقية، فيحنما يقال: (الماء المتغيّر نجس) يوجد للماء المتغيّر وجود تقديري في عالم الجعل، وللنجاسة ـ أيضاً ـ وجود تقديري ثابت لذلك الموضوع المقدّر الوجود، وحينما يوجد الماء المتغيّر في الخارج بالفعل يوجد المحمول وهو النجاسة وجوداً فعلياً ثابتاً لذلك الموضوع. إذن فصار للحكم وجودان: وجود تقديري ثابت للموضوع المقدر الوجود، وهذا ما نسمّيه بالجعل، ووجود فعلي يتحقّق عند فعلية الموضوع، وهذا ما نسمّيه بالمجعول. والمجعول إنّما يوجد عند وجود الجعل والموضوع معاً، لا بمجرّد وجود الجعل، ومن الواضح أنّ وجوب الجلوس في الساعة الثانية إنّما يصبح فعلياً بعد فعلية وجوبه في الساعة الاُولى، وليس في عرض الحصّة الحدوثية كما ذكر في الإشكال، ويكون للمجعول ـ لا محالة ـ حدوث وبقاء.

ويرد عليه ما أوضحناه في محلّه من عدم تحقّق وجود ثان للحكم عند وجود الموضوع. ونقول هنا بنحو الإجمال: إنّ قياس باب القضايا الجعليّة بالقضايا الإخباريّة غير صحيح، فإنّ الحكم الذي وجد بالجعل والاعتبار لا يوجد وجوداً ثانياً عند تحقّق الموضوع خارجاً؛ إذ لو وجد وجوداً ثانياً عند وجود الموضوع فهل هو وجود تكويني أو وجود جعلي واعتباري؟ فإن قيل بالوجود التكويني فهو واضح البطلان، فإنّ الحكم ليس له وجود تكويني خارجي. وإن قيل بالوجود الاعتباري والجعلي فهذا أوضح بطلاناً، فإنّ المولى لا ينقدح في نفسه عند وجود الموضوع أيّ اعتبار جديد، وقد يكون نائماً، أو غافلاً عند وجود الموضوع، أو غير مطّلع على وجوده، وعدم تغيّر حال المولى النفساني بمجرّد وجود الموضوع خارجاً ثابت بالوجدان، كما هو ثابت ـ أيضاً ـ بالحكم العقلي الحاكم باستحالة تأثير الشيء الخارجي بما هو خارجي في عالم النفس، وعليه فالحكم إنّما يوجد عند الجعل، وليس له وجود ثان وراء ذاك الوجود التقديري يتحقق عند تحقق الموضوع، فرجع الإشكال؛ إذ يقال تعميقاً للإشكال: هل يقصد باستصحاب بقاء الحكم استصحاب ذاك الوجود التقديري للحكم المسمّى بالوجود الجعلي؛ أو يقصد استصحاب الوجود الفعلي

195

الذي يتحقّق عند وجود الموضوع؟ فإن قصد الأوّل قلنا: إنّ وجوب الجلوس في الساعة الاُولى ووجوبه في الساعة الثانية على تقدير ثبوته قد وُجدا بجعل واحد في آن واحد، وكذا النجاسة قبل زوال التغيّر وبعده. وإن قصد الثاني قلنا: إنّ الحكم لا يوجد بوجود جديد عند وجود الموضوع.

هذا. وهنا شيء آخر وهو: أنّه لو بنينا على إجراء الاستصحاب بهذا البيان لزم منه أن لا يصحّ للفقية الحكم بنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مثلاً إلاّ عند ما يوجد ماء متغيّر خارجاً ويزول تغيّره ويطّلع الفقيه على ذلك، فعندئذ يصحّ له الحكم بالنجاسة، فقبل أن يتّفق ذلك أو يطّلع الفقيه عليه ليس له إلاّ أن يفتي بأنّه لو اتّفق ذلك لترتّب عليه حكم النجاسة، لا أن يحكم هو بالنجاسة من قبيل حكمه بنجاسة شيء تثبت نجاسته بالاطلاق مثلاً، وهذا خلاف الارتكاز الفقهي.

بل يصعب على الفقيه الافتاء بالنجاسة ولو بهذا الوجه بناءً على أحد المسلكين في باب الاستصحاب في الشبهات الحكمية، توضيح ذلك: أنّ في إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسلكين:

أحدهما: أنّ الاستصحاب إنّما يجري في حقّ الفقيه لا في حقّ العامي، وإنّما يفتي الفقيه العامي بالحكم الذي استفاده من الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب علم تعبّداً، ويجوز للشخص أن يفتي بما علم به، ويجوز لمقلّديه تقليده على تفصيل مضى في مبحث القطع.

وثانيهما: أنّ الاستصحاب يجري في حقّ العامي، والفقيه ينبّهه إلى الحكم الثابت في حقّه بالاستصحاب الجاري له. فبناءً على المسلك الأوّل تتولّد هنا مشكلة، وهي: أنّ الفقيه هل يفتي اعتماداً على الاستصحاب الثابت في حقّ العامي، أو يفتي اعتماداً على الاستصحاب الثابت في حقّه هو؟ أمّا الأوّل فهو خلاف ما هو المفروض في هذا المسلك، وأمّا الثاني فهو لا يتمّ إلاّ إذا اطّلع الفقيه على وجود الموضوع خارجاً حتّى يتمّ له متيقّن ومشكوك. فلا بدّ للعامي أن يأخذ الفقيه في كلّ مرّة إلى بيته مثلاً ليرى الماء المتغيّر ويتمّ في حقّه الاستصحاب، فيستصحب ويفتي، ثمّ يخرج من البيت.

نعم، بناءً على المسلك الثاني لا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه على هذا المسلك لا يلحظ الفقيه حال نفسه عند الإفتاء حتّى يحتاج إلى أن يحرز هو بنفسه الموضوع، وإنّما يلحظ حال العامي.

196

نعم، بناءً على هذا إنّما يفتي الفقيه العامي بالطهارات الجزئية(1) بعدد ما يتّفق له خارجاً من أفراد الموضوع، ولا يفتيه بطهارة كلّيّة من قبيل إفتائه بها عندما ثبتت طهارة شيء بالإطلاق مثلاً، وهذا وإن لم يولّد مشكلة في الإفتاء لكنّه خلاف ظاهر الصيغ المرسومة للإفتاء في أمثال هذا المورد، فيؤيّد ذلك ما ادّعيناه من مخالفة ذلك للارتكاز.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه أمران:

الأوّل: أنّ هذا الوجه الأوّل في نفسه غير معقول.

والثاني: أنّه يلزم منه خلاف الارتكاز الفقهي، بل الإشكال في الإفتاء على أحد المسلكين، ولا بدّ من لحاظ كلّ وجه من الوجوه الآتية بالقياس إلى هذين الأمرين.

الوجه الثاني: هو الجواب الذي ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) عن إشكاله الذي مضى ذكره، وهو أنّ الحكم وإن كان أمراً ذهنياً لكن توجد له علاقه مع ما في الخارج يجري الاستصحاب بلحاظها. وبيان ذلك موقوف على الالتفات إلى مقدّمة حاصلها: أنّ العوارض ـ على حدّ تقسيم الفلاسفة ـ تنقسم إلى أقسام ثلاثة:

1 ـ ما يكون العروض فيه خارجياً (أي: إنّ العارض خارجي، أي: موجود في الخارج) والاتّصاف ـ أيضاً ـ خارجيّاً، كما في البياض والسواد، فإنّهما أمران خارجيّان، أي: موجودان في الخارج لا في الذهن، واتّصاف الجسم بهما ـ أيضاً ـ خارجيّ، فإنّ الجسم في الخارج يصبح أسود أو أبيض لا في الذهن.

2 ـ ما يكون العروض فيه ذهنياً (أي: إنّ العارض ذهنيٌ) والاتّصاف ـ أيضاً ـ ذهنيّاً، من قبيل المعقولات الثانية في المنطق، كنوعيّة الإنسان، فليست النوعيّة شيئاً موجوداً في الخارج، وإنّما هي موجودةٌ في الذهن، وليس الإنسان في الخارج متّصفاً بالنوعيّة، فزيد وعمرو وبكر مثلاً ليسوا أنواعاً، وإنّما يتّصف الإنسان في الذهن بالنوعيّة، أي: إنّ مفهوم الإنسان الذي هو أمر ذهني يقال عنه: إنّه نوع.

3 ـ ما يكون العروض فيه ذهنياً والاتصاف خارجيّاً، من قبيل المعقولات الثانية في الفلسفة، كالإمكان بالنسبة للإنسان مثلاً، فالإمكان ليس شيئاً خارجيّاً، بدليل ثبوته قبل وجود الشيء الممكن، فلو كان خارجيّاً لزم محذور وجود العارض قبل وجود ما يتقوّم به، كما أنّه يلزم بعض المحاذير الاُخرى أيضاً، ولكن اتّصاف الممكن بالإمكان خارجي، فإنّ


(1) فيما إذا أراد أن يفتيه بالمستصحب، كما هو المألوف في الشبهات الحكمية، لا بالاستصحاب.

197

الإنسان في الخارج ممكن.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ الحكم الشرعي كالنجاسة مثلاً يكون عروضه ذهنياً، أي: إنّ العارض وهو الحكم أمر ذهني، لكنّ اتّصاف الشيء به خارجيّ. أمّا الأوّل فهو واضح، فإنّ الأحكام الشرعية ليست اُموراً تكوينيّة خارجيّة، وإنّما هي اُمور اعتباريّة يعتبرها الحاكم. وأمّا الثاني فلما هو واضح ـ أيضاً ـ من أنّ الخمر مثلاً في الخارج نجس، لا أنّ الوجود الذهني الذي هو جزء للحاكم يصبح نجساً.

وبهذا أجاب المحقّق العراقي(رحمه الله) عمّا ذكره هو من الإشكال الذي مضى ذكره، وذلك بأن يقال: إنّنا نستصحب الاتّصاف الذي هو أمر خارجي، ويكفي هذا اللون من ألوان الوجود الخارجي فيما جعلناه شرطاً في الاستصحاب من ثبوت الوحدة في الوجود الخارجي.

وبالإمكان أن يجعل هذا جواباً على الإشكال الذي نحن ذكرناه، وذلك بأن يقال: إنّ العارض وإن لم يكن فيه حدوث وبقاء، لكن الاتّصاف يكون ـ لا محالة ـ تابعاً للمتّصف الذي هو أمر خارجي ومشروطاً به، وحيث إنّ المتّصف وهو الجلوس في الساعتين أو الماء المتغيّر في الحالتين مثلاً له حدوث وبقاء فالاتّصاف بالحكم يكون ـ لا محالة ـ له حدوث وبقاء، فيجري استصحاب البقاء بلحاظه.

لكن التحقيق: أنّ هذا الكلام بهذه الصياغة التي يريدها المحقّق العراقي(رحمه الله) غير صحيح؛ لعدم تعقّل ما مضى في التقسيم الثلاثي للعوارض من كون بعض العوارض ذهنياً عروضاً، وخارجياً اتّصافاً، فإنّ اتّصاف الشيء بشيء يكون بمعنى الهوهويّة والاتّحاد، واتّحاد شيء مع شيء إنّما يعقل في ظرف وجود ذلك الشيء لا في ظرف آخر، فلو كان العارض ظرفه هو الذهن فلا معنى لاتّحاده مع المعروض الخارجي في الخارج، وقد تورّط الفلاسفة في هذا المحذور وفي محاذير اُخرى من ناحية حصرهم لعوالم واقعية الشيء في عالَمين: عالَم الوجود الخارجي، وعالَم الذهن، فحيث رَأَوا أنّ إمكان الانسان ليس شيئاً موجوداً في الخارج، بدليل تقدّمه على وجود الإنسان، وفي نفس الوقت ليس اتّصاف الانسان بالإمكان مجرد أمر ذهني يطرأ على مفهوم الإنسان الموجود في الذهن، فاضطرّوا إلى أن يقولوا: إنّ الإمكان ذهني عرضاً، خارجي اتّصافاً.

والصحيح: أنّ عالَم الواقع أوسع من عالَم الذهن والخارج، فقد يكون شيء واقعياً قبل عالم الوجود، بلا حاجة إلى لَبس ثوب الوجود كالإمكان، فيكون عروضه ـ أي: وجوده ـ مع اتّصاف المعروض به كلاهما ثابتاً في لوح الواقع قبل عالم الوجود، من قبيل الإمكان، وقد

198

يكون شيء لا يصبح واقعياً إلاّ إذا لبس ثوب الوجود، فإذا كان ما لبسه من الثوب هو ثوب الوجود الذهني كان العروض والاتّصاف كلاهما ذهنياً، وهذا ما مثّلوا له بالنوعية (وإن كان هذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، وإنّما الصحيح: أنّ نوعيّة الإنسان كإمكانه من موجودات عالم لوح الواقع) وإذا كان هو ثوب الوجود الخارجي كان العروض والاتّصاف كلاهما في الخارج، من قبيل السواد والبياض مثلاً، فلم يقع اختلاف بين ظرف العروض وظرف الاتصاف في مورد من الموارد أبداً.

نعم، يمكننا أن نتنزّل عن هذه الصياغة الفلسفية الموجودة في ما يقوله المحقّق العراقي(رحمه الله)، ونذكر العلاقة بين الحكم الذي هو أمر ذهني والشيء الخارجي ببيان آخر خال عن هذه التعسّفات، وذلك بأن نقول: إنّ الحكم وإن كان أمراً ذهنياً قائماً في نفس الحاكم لكنّه يختلف عن النوعية ـ لو فرضنا أنّها أمر ذهني ـ وذلك لأنّ النوعية إنّما تحمل على مفهوم الإنسان لا بما هو مرآة لمصاديقه، وأمّا النجاسة مثلاً فإنّما تحمل على الماء بما هو مرآة لمصاديقه لا بما هو صورة ذهنية قائمة في نفس الحاكم؛ ولذا لا يقال: إنّ تلك الصورة تنجّست، وإنّما يقال: إنّ الماء تنجس. وهذا وإن لم يكن جسراً بين ذهن الحاكم وما في الخارج يَعْبُر عنه الحكم من ذهن الحاكم ليطرأ حقيقةً على ما في الخارج، ولكنه يوجب أن تحمل هذه الصفة النفسانية بالعرض والمجاز على ما في الخارج، فلهذا الحكم معروض بالذات وهو الصورة الذهنية، ومعروض بالعرض وهو ما في الخارج، من قبيل المحبوب بالذات والمحبوب بالعرض، والمعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ونحو ذلك، فالعلم والحبّ إنّما يطرآن حقيقةً على الصورة النفسية، فهي المعلومة او المحبوبة بالذات، لكنّها إنّما صارت كذلك بما هي مرآة إلى ما في الخارج، فما في الخارج هو المعلوم أو المحبوب بالعرض.

ولكن هذا البيان لا يحلّ إشكالنا؛ وذلك لأنّ فرض عروض الحكم الذي هو حالة ذهنية في نفس المولى على ما في الخارج لم يكن أمراً حقيقياً يقال فيه: إنّه تابع لوجود ذلك الشيء الخارجي، فيتصور له الحدوث والبقاء بتبع ذلك الشي، وإنّما هو أمر مسامحي قائم على أساس الخلط بين الصورة وذي الصورة، والخلط بين المعروض بالذات والمعروض بالعرض، وهذا الخلط موجود من أوّل الأمر، وقبل تحقّق ذلك الشيء الخارجي، فلا يكون ـ أيضاً ـ في المقام حدوث وبقاء، وإنّما كلتا الحصّتين وُجدتا دفعة واحدة، وبكلمة اُخرى: أنّ العروض المسامحي هو عين العروض الحقيقي، فرض مسامحةً عروضاً على ما في الخارج، والمفروض أنّ العروض الحقيقي ليس فيه حدوث وبقاء، فهذا البيان الصحيح لا يكون دافعاً

199

للإشكال، وذلك البيان الفلسفي الدافع للإشكال ليس صحيحاً.

على أنّه لو فرض صحيحاً كان ـ أيضاً ـ كالوجه السابق في أنّه يلزم منه عدم إمكان الاستصحاب إلاّ عند وجود الموضوع خارجاً مبتلياً بما مضى من مخالفة الارتكاز، ومن الوقوع في الإشكال في الإفتاء على أحد المبنيين بالتفصيل الذي مضى في مقام التعليق على الوجه الأوّل.

الوجه الثالث: وجهٌ لا يكون قائماً على أساس ثنائية بين الجعل والمجعول كما في الوجه الأوّل، بل نعترف بأنّه ليس للحكم وجود ثان عند تحقّق الموضوع، ولا على أساس ثنائية بين ظرف العروض وظرف الاتّصاف كما في الوجه الثاني، بل نعترف بأنّ الظرفين واحد، وأنّه يتحقّق من أوّل الأمر قبل تحقّق الموضوع خارجاً، ولا على أساس ثنائية بين العُرُوض بالذات والعروض بالعرض التي هي ثنائية صحيحة لكنها لم تفدنا في الوجه الثاني بعد التنزّل عن الصياغة الفلسفية، وإنّما نلتفت إلى ذلك العارض الذي هو اعتبار نفساني، وننظر إليه بنظرتين مختلفتين يختلف أحكامه على إحدى النظرتين عنها على الاُخرى.

توضيح ذلك: أنّنا لو تصوّرنا ونحن في يوم الاثنين مثلاً نزول المطر في يوم الجمعة الآتية، ثمّ بعد ذلك أردنا أن ننظر إلى متصوَّرنا، فتارةً ننظر إليه بنظر الحمل الشائع، واُخرى ننظر إليه بنظر الحمل الأوّلي، فإن نظرنا إليه بنظر الحمل الشائع قلنا: إنّه صورة ذهنية قامت بنفس المتصوّر في يوم الاثنين. وإن نظرنا إليه بنظر الحمل الأوّلي قلنا: إنّه نزولٌ للمطر لا في يوم الاثنين، بل في يوم ياتي بعد عدّة أيّام، وهو يوم الجمعة، فاختلفت الأحكام المحمولات بالحمل الأوّلي عنها بالحمل الشائع، وبعد الالتفات إلى ذلك نقول: إنّه لو نظرنا إلى ما اعتبره رسول الله(صلى الله عليه وآله) كالنجاسة للماء المتغيّر مثلاً بالحمل الشائع قلنا عن هذا المعتبر: إنّه اعتبار نفساني وجزء من نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقائم به، وهو شريف طاهر نقيّ وليس له حدوث وبقاء، وإنّما اعتبر نجاسةَ الماء المتغيّر في كلّ أزمنة نجاسته دفعةً واحدة. ولو نظرنا إليه بالحمل الأوّلي قلنا: إنّه قذارةٌ ونجاسةٌ قائمة بالماء القذِر المتغيّر، حادثة عند حدوث التغيّر، ولَعلّها باقية عند زوال التغيّر، فبهذه النظرة صار له حدوث وبقاء، وبكلمة أُخرى: قد ينظر إلى واقع هذا المعتبَر وحقيقته فيُرى أنّه حالة نفسية ليس لها حدوث وبقاء بلحاظ حدوث الماء المتغيّر وبقائه، وقد ينظر إلى عنوانه ويُتخيَّل مسامحةً أنّه هو واقعه فيقال: هذه نجاسةٌ للماء المتغيّر مع أنّه في الواقع ليس نجاسةً للماء المتغيّر، وإنّما هو عنوان نجاسة الماء المتغيّر، فيُرى بهذا النظر المسامحي أنّ لهذه النجاسة حدوثاً وبقاءً تبعاً لما يرى بالنظر المسامحي لعنوان الماء

200

المتغيّر من أنّه ماءٌ متغيّرٌ له حدوث وبقاء، ومقتضى عدم المسامحة وإن كان هو حمل دليل الاستصحاب على النظر الأوّل، ولكنّ العرف هنا يتسامح ويقول: (هذه نجاسة للماء المتغيّر لها حدوث وبقاء، ويشملها دليل الاستصحاب) كما يشهد لهذه المسامحة العرفية ما نراه من أنّه لم يخطر على بال أحد منهم من أيّام العضدي والحاجبي إلى زماننا هذا الإستشكال في استصحاب الحكم بعدم تصوّر الحدوث والبقاء، وحتّى من أنكره كالسيّد الاُستاذ والنراقي(رحمهما الله) قد اعترف بهذا الاستصحاب في نفسه، وإنّما أنكره بدعوى التعارض مع استصحاب آخر.

والاستصحاب بهذا التقريب لا يرد عليه إشكال عدم تصوّر الحدوث والبقاء كما عرفت، ولا هو يبتلي بما مضى من مخالفة الارتكاز أو وقوع الإشكال في الفتوى على بعض المباني؛ لأنّ الاستصحاب يجري حين التفات الفقيه إلى حكم الماء المتغيّر بلا حاجة إلى انتظار زمان العلم بتحقّق الموضوع؛ لأنّ الحدوث والبقاء العنواني المسامحي ثابت من الآن(1)، وهذا هو الجواب المختار لنا في المقام.

 


(1) قلت له(رحمه الله): إنّ الوجه الذي اخترتموه في تصحيح استصحاب الحكم يرد عليه إشكال المخالفة للارتكاز؛ وذلك لأنّ الاستصحاب على هذا الوجه لا يجري إلاّ عند تحقّق الموضوع خارجاً، فإنّنا إن نظرنا إلى الحكم بالحمل الشائع لم نَرَ له حدوثاً وبقاءً حتّى يستصحبه، وإن نظرنا إليه بالحمل الأوّلى نرى أنّه شيء يتحقّق عند تحقّق الموضوع، فلا معنىً لأن يستصحبه الفقيه مثلاً قبل تحقّق الموضوع.

فأجاب(رحمه الله): بأنّ المقصود هو دعوى: أنّ العرف يكتفي بالحدوث والبقاء العنوانيين، ولا ينتظر لتحقّق الحدوث والبقاء الحقيقيين، وأنّه لو كان يريد الحدوث والبقاء الحقيقيين لم يجر استصحاب الحكم؛ لأنّه ليس له حدوث وبقاء حقيقيّان، وإنّما يتولّد كلّه في آن واحد، فينحصر الاستصحاب في استصحاب عدم الجعل ـ على حدّ تعبير السيّد الاُستاذ ـ، ولو كان يريد الحدوث والبقاء العنوانيّين فهذا ثابت من أوّل الأمر، فيجري استصحاب الحكم من أوّل الأمر، ولا معنىً للانتظار إلى زمان تحقّق الموضوع، فإنّ الانتظار إلى ذلك الزمان معناه التفتيش عن حدوث وبقاء حقيقيين، ولا يرى العرف أنّه حينما وجد الحكم في نفس النبي(صلى الله عليه وآله) مثلاً لم يوجد شيء له حدوث وبقاء حقيقي إلى أن يتحقّق الموضوع في الخارج، فعندئذ يوجد الحدوث والبقاء الحقيقيان، بل يرى العرف الاكتفاء بما للحكم حين وجوده في نفس المشرّع من حدوث وبقاء عنوانيين وكأنهما في نظره حقيقيان.

ثمّ إنّه يخطر ببالي: أنّي ذكرت له(رضوان الله عليه): أنّكم وإن كنتم لا تقولون بوجود مجعول في مقابل الجعل، أو تحقّق فعلية للحكم لدى فعلية الموضوع، لكنّكم تقولون بدلاً عن ذلك بتحقّق طرفيّة الشيء لما وجد من الحكم حين الجعل لدى اكتمال الشرائط الموجودة في الجعل فيه، فالماء قبل التغيّر مثلاً لم يكن طرفاً للحكم بنجاسة الماء المتغيّر، أو قل: لجعل النجاسة، وحينما تغيّر أصبح طرفاً لهذا الحكم أو الجعل، وبعد أن زال التغيّر نشكّ في أنّه هل سقط عن الطرفيّة لذلك أو لا؟ فنستصحب طرفيّته له، وليكن هذا الاستصحاب بديلاً لما قاله السيّد الخوئي من

201

إشكال تعارض استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل:

وهنا ننتقل إلى البحث عن إشكال المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل الذي ذكره السيد الاُستاذ فنقول: إنّ منطقة الفراغ في كلامه وهي تحقيق كيفيّة جريان استصحاب المجعول لو مُلِئَت بهذا الوجه الثالث فمن الواضح أنّه لا موضوع للتعارض بين استصحاب عدم الجعل واستصحاب بقاء المجعول؛ إذ لو فرض أنّ العرف لا يتسامح في نظره إلى ما اعتبره الشارع من نجاسة الماء المتغيّر مثلاً فيحكم عليه بالحمل الشائع، إذن لا يجري إلاّ استصحاب العدم بلحاظ الحمل الشائع، لا استصحاب البقاء بلحاظ الحمل الأوّلي، وبلُغَة السيّد الاُستاذ: يجري استصحاب عدم الجعل لا استصحاب بقاء المجعول. ولو فرض


استصحاب المجعول، وهذا غير الوجه الذي اخترتموه.

أما ما أبطل(رضوان الله عليه) به هذا الوجه كوجه مستقل غير الوجه المختار له فهو ما يلي:

هل يقصد بالطرفيّة للجعل الطرفيّة له في نظرة الحمل الأوّلي إليه، حيث إنّ عنوان الماء المتغيّر مثلاً يرى في هذه النظرة عين المصداق، أو يقصد بها الطرفيّة في نظر الحكم بالحمل الشائع على هذا المصداق بمثل قولنا: هذا الماء المتغيّر نجس؟

إن قصد الأوّل فقد اُعملت عناية الحمل الاوّلي، أي: اُعملت عناية الجواب المختار لنا، وعندئذ نقول: إن كان المقصود بالطرفيّة الطرفيّة بالمعنى الاسمي فليس لها أثر حتى يستصحب. وإن كان المقصود الطرفية بالمعنى الحرفي، أي: استصحاب النسبة الثابتة في نظرة الحمل الأوّلي، فهو في الحقيقة استصحاب للحكم الملحوظ بالحمل الأوّلي، إذن فقد رجعنا إلى الجواب المختار.

وإن قصد الثاني وهو الطرفيّة للحكم في مثل قولنا:(هذا الماء نجس) قلنا: إن اُريد بذلك كون هذا الفرد طرفاً للحكم مباشرة لا بواسطة المفهوم العام للموضوع، فهذا خلف فرض وجود الجعل قبل وجود الموضوع، أو خلف فرض عدم وجود ثان للحكم اسمه المجعول يتعلّق بالمصداق الخارجي. وإن اُريد بذلك استصحاب كون هذا الفرد مصداقاً لما هو طرف الحكم وهو المفهوم الذي جعل موضوعاً. قلنا: إنّ المقصود بذلك: إمّا هو مصداقيّته لواقع الموضوع، أو مصداقيّته لعنوان الموضوع. فعلى الأوّل يكون ذلك من قبيل الفرد المردّد، فإنّ واقع الموضوع مردّد بين ما نقطع بعدم مصداقيّة هذا الفرد له وما نقطع بمصداقيّته له، فواقع الموضوع: إمّا هو المآء المتغيّر الثابت تغيّره بالفعل وهذا ما نقطع بعدم كون هذا الفرد مصداقاً له، أو هو الماء المتغيّر حتّى بعد زوال التغيّر ما لم يتّصل بالمعتصم، وهذا ما نقطع بكون هذا الفرد مصداقاً له، وعلى الثاني نقول: لا أثر لمصداقيّته لعنوان الموضوع كما هو واضح.

ولذا قالوا: لا يجري استصحاب الموضوع في الشبهات الحكمية لا واقعه ولا عنوانه.

على أنّ طرفيّة الماء الخارجي للحكم في نظر الحكم بالحمل الشائع عليه بقولنا:(هذا الماء نجس) والتي يمكن أن يتصور لها قطع بالحدوث وشكّ في البقاء إنّما تتحقّق بعد وجود الموضوع خارجاً، فلا بدّ للفقيه أن ينتظر زمان العلم بتحقّق الموضوع لكي يجري الاستصحاب، فيأتي هنا إشكال مخالفة الارتكاز والابتلاء بمشكلة ضرورة الاطّلاع على الموضوع لدى الإفتاء على بعض المباني.

202

أنّ العرف يتسامح في المقام إذن لا يجري إلاّ استصحاب البقاء بلحاظ الحمل الأوّلي دون استصحاب العدم بلحاظ الحمل الشائع، وبلُغَة السيّد الاُستاذ: يجري استصحاب بقاء المجعول لا استصحاب عدم الجعل.

ولو مُلِئت بالوجه الأوّل أو الثاني بأن قيل بجريان استصحاب المجعول بأحد التقريبين الأوّلين، أي: إنّه فرض مجعول في مقابل الجعل، أو عالم اتّصاف في مقابل عالم العروض قلنا:

أوّلاً: إنّ الوجهين الأوّلين غير صحيحين كما مضى بيانه.

وثانياً: إنّه لو سلّمنا صحتهما وقلنا بالتفكيك بين الجعل والمجعول، أو ظرف العروض وظرف الاتّصاف، قلنا: هل الثاني وهو المجعول أو الاتّصاف مترتّب على الأوّل وهو الجعل أو العروض ترتّباً شرعيّاً، أو إنّه لا يكون بينهما ترتّب شرعيّ كما هو الصحيح؟ فإن قال السيّد الاُستاذ بالأوّل قلنا: إذن لو جرى الاستصحابان كان استصحاب عدم الجعل مثلاً حاكماً على استصحاب بقاء المجعول، ولا معنىً للتعارض بينهما. وإن قال بالثاني قلنا: هل التنجيز العقلي مترتّب على الجعل مثلاً، أو على المجعول، أو على كلّ منهما، أو على مجموعهما المركّب؟

فإن قيل بالأوّل كما هو ظاهر كلامه فلا معنىً لاستصحاب بقاء المجعول؛ إذ لا أثر له، ولا يثبت بالملازمة بقاء الجعل؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاستصحاب.

وإن قيل بالثاني كما ذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله) فلا معنىً لاستصحاب عدم الجعل؛ إذ لا أثر له، ولا يثبت عدم المجعول لما فرضنا من عدم ترتّب شرعي بينهما، ولا يمكن التعويل على مثبتات الاُصول.

وإن قيل بالثالث فالاستصحابان يجريان بلا معارضة بينهما، فإنّ استصحاب عدم الجعل إنّما ينفي التنجيز من ناحية الجعل ويؤمّن بهذا المقدار، وهذا لا ينافي التنجيز من ناحية المجعول.

وإن قيل بالرابع كان العمل على طبق استصحاب عدم الجعل؛ لأنّ التنجيز إنّما يترتّب على المجموع المركّب من الجعل والمجعول، والمركب ينتفي بانتفاء أحد جزئيه.

وثالثاً: أنّ الوجهين الأوّلين وما يجري مجراهما مقتضاها ـ على ما عرفت ـ هو إجراء الاستصحاب عند تحقّق الموضوع خارجاً لا قبله، وعليه يمكن أن يسجّل على السيّد الاُستاذ ولو على مبانيه أحد الإشكالات التي أجاب عنها في البحث، وهو ما مضى من الإشكال بأنّ استصحاب عدم جعل وجوب الجلوس مثلاً، أو استصحاب عدم جعل

203

الحرمة في الساعة الثانية ـ لو فرض الحكم هو الحرمة ـ معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة، فيبقى استصحاب المجعول سليماً عن المعارض. وقد أجاب عن هذا الإشكال بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل: أنّه يتساقط الكلّ بالتعارض.

وهذا الجواب غير صحيح بناءً على ما هو مبناه في باب الاُصول المتعارضة من أنّه إذا تعارض أصلان في زمان وتساقطا ثمّ تولّد أصل آخر في زمان متأخّر معارض لأحد الأصلين السابقين، يبقى هذا الأصل بلا ابتلاء بالمعارضة؛ لسقوط معارضه سابقاً بمعارض آخر، إلاّ إذا علمنا منذ الزمان الأوّل بأنّه سوف يتولّد هذا الأصل الثالث، ففي هذا الفرض يتساقط الكلّ. ومن هنا بنى في باب ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة على أنه لو لم يعلم من أوّل الأمر بأنّه سوف يلاقيه، ثمّ حصل الملاقاة جرى الأصل فيه بلا معارض. وعلى هذا المبنى نقول في المقام بأنّ أصالتي عدم الجعل قد تعارضتا عند الفقيه قبل حصول الموضوع خارجاً، فلو فرضنا أنّ الفقيه لم يكن يعلم بأنّه سوف يبتلي بالماء المتغيّر خارجاً مثلاً، ثمّ ابتلى به، كانت أصالة بقاء النجاسة غير مبتلاة بالمعارض؛ لما مضى من أنّه إنّما يتولّد الأصل في المجعول بناءً على الوجهين الأوّلين عند تحقّق الموضوع لا منذ البدء.

الجواب الثاني: أنّ أصالة عدم جعل الحرمة وأصالة عدم جعل الإباحة ليستا متعارضتين؛ لأنّ التعارض بين الاُصول إنّما يكون في موردين:

الأوّل: أن يتناقضا في التنجيز والتعذير، كما لو أُجري في مورد توارد الحالتين استصحاب الحرمة واستصحاب عدم الحرمة معاً. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّ استصحاب عدم جعل الحرمة وان كان يعذّر، ولكن استصحاب عدم جعل الإباحة لا ينجّز إلاّ بإثباته للحرمة بالملازمة، ولوازم الاُصول غير حجّة، والتنجيز إنّما يترتّب على جعل الحرمة لا على مجرّد عدم جعل الإباحة.

والثاني: أن يكون العلم الإجمالي علماً بالتكليف على كلّ تقدير، فتترتّب على إجراء الاُصول، المخالفة القطعية. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّه علم إجمالاً بالحرمة أو الإباحة؛ للعلم بعدم نقصان الشريعة، ولم يعلم إجمالاً بحكم الزامي يلزم من إجراء الاُصول مخالفته القطعية.

وهذا الجواب ـ أيضاً ـ غير صحيح بناءً على مبناه من أنّ الاستصحاب كالأمارات قد جعل فيه العلم والطريقة، ويقوم مقام العلم الموضوعي، ويصحِّحُ ذلك الافتاء بالواقع،

204

فالفقيه حينما يثبت حكماً بالاستصحاب أو الأمارة يجوز له أن يفتي بثبوت ذلك الحكم واقعاً؛ لأنّه عالم تعبّداً بذلك، وبهذا صَحَّح استنباط الفقيه لمسائل غير داخلة في محلّ ابتلائه، كمسائل الحيض والاستحاضة حيث يقول: إنّها تدخل في محل ابتلائه بلحاظ الافتاء. وبناءً على هذا المبنى نقول في المقام: إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة مع استصحاب عدم جعل الإباحة يترتّب عليهما جواز الإفتاء بعدم جعل الحرمة وعدم جعل الإباحة واقعاً، وهذه مخالفة عملية قطعية، إذن يتعارض الأصلان ويتساقطان.

ويمكن الإجابة على هذا الإشكال بوجهين:

الوجه الأوّل: ما لا اتذكّر أنّه هل ذكره السيّد الاُستاذ جواباً على ما أوردته عليه من هذا الإشكال أو لا، وهو: أن تطبّق في المقام قاعدة ميرزائية بأن يقال: إنّ الأصلين يوجد لهما أثر مشترك، وهو جواز الإفتاء ويوجد لأحدهما فقط أثر زائد، وهو التعذير في مقام العمل. وفي مثل المقام يجري الأصل بلحاظ ذلك الأثر الزائد، وإنّما يتساقطان بلحاظ الأثر المشترك، فعندئذ نقول: إنّ هذا الأصل بلحاظ الأثر الزائد يقع طرفاً للتعارض مع استصحاب المجعول.

وفيه ما حقّقناه في محله من بطلان هذه القاعدة الميرزائية؛ لانحلال ما يسمّى بالأثر الواحد في الحقيقة إلى أثرين متباينين، فجواز الافتاء بعدم الإباحة أثر، وجواز الإفتاء بعدم الحرمة أثر آخر، فيقع التعارض بين دلالة الأصل على جواز الإفتاء بالأوّل، أي: إسناده إلى الله ودلالة الأصل على التعذير، كما يقع التعارض بين دلالة الأصل على جواز الإفتاء بالأوّل ودلالته على جواز الإفتاء بالثاني، ويسقط الكلّ وتصل النوبة بعد تحقّق الموضوع خارجاً إلى استصحاب بقاء المجعول.

الوجه الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ جواباً على ما أوردته عليه من هذا الإشكال، وهو كأنّه جواب نقضي، وهو أنّ العلم الإجمالي بمخالفة الإفتاء للواقع من دون أداء إلى المخالفة العملية لا أثر له أصلاً، وأنّ حرمة الإسناد ليست أثراً موجباً لتساقط الأدلّة والاُصول، وإلاّ لمُنِع كلّ فقيه عن الإفتاء في تمام الفقه رأساً؛ لأنّ الفقيه بعد أن ينتهي من استنباطاته في الفقه يرى إجمالاً الخطأ في بعضها، لا بمعنى الخطأ في الاستنباط، بل هو يعلم بصحّة استنباطاته بمعنى أنّه طبّق القواعد والأدلّة في تمام الموارد بشكل صحيح، بل بمعنى أنّه يعلم أو يطمئنّ إجمالاً بأنّ نتيجة القواعد والأدلّة في بعض الموارد تكون مخالفة للواقع.

أقول: تارةً يفرض أنّ الفقيه بعد استنباطه للمسائل يحصل له الاطمئنان بمخالفة بعض فتاواه للواقع، واُخرى يفرض أنّه يحصل له العلم الوجداني بذلك:

205

فإن ادّعي الاطمئنان بذلك قلنا:

أوّلاً: إنّ فرض تأثير هذا الاطمئنان الإجمالي وتنجيزه بلحاظ حرمة الافتاء، أي: الإسناد لا يولّد محذوراً مهمّاً يستكشف منه مثلاً بالإنّ ثبوت نكتة في عدم تأثير حرمة الإسناد في تنجيز العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه وإن كان يلزم من تنجيز هذا الاطمئنان عدم جواز افتاء الفقيه بالحكم الواقعي، فيبطل به ما يقوله السيّد الاُستاذ من جواز إفتاء الفقيه بالواقع لحصول العلم التعبّدي به، لكن هذا ليس محذوراً مهمّاً وموجباً لسدّ باب الإفتاء؛ إذ غاية الأمر أنّ الفقيه يقتصر على الإفتاء بالحكم الظاهري.

إن قلت: إنّ الاطمئنان الإجمالي متعلّق بالجامع بين حرمة بعض إفتاءآته بالواقع في الإلزاميات وبطلان الترخيص في بعض الترخيصات، فإلى جنب سقوط جواز الإفتاء بالواقع تسقط الترخيصات، وهذا محذور مهمّ.

قلنا: بعد تساقط القواعد في الطرفين بهذا الاطمئنان الإجمالي يحصل علم تفصيلي بحرمة الإفتاء بالواقع في الإلزاميات؛ لأنّه يدخل في الإسناد بغير علم الذي هو ـ أيضاً ـ حرام كما يعترف به السيّد الاُستاذ، فينحلّ العلم الإجمالي، فيرجع في الترخيصات إلى البراءة العقلية التي يؤمن بها السيّد الاُستاذ(1).

نعم، قد يتّفق في مورد مّا عدم إمكان إجراء البراءة العقلية، لكن هذا ليس محذوراً مهمّاً يستكشف منه مثلاً ثبوت نكتة في عدم تأثير حرمة الإسناد في تنجيز العلم الإجمالي.

وثانياً: إنّ هذا الاطمئنان الإجمالي ليس تأثيره فقط بلحاظ حرمة الإسناد بحيث لو أنكرنا تأثير حرمة الإسناد لسقط هذا الاطمئنان عن الأثر، حتّى يستكشف من فرض وضوح عدم الاعتناء بهذا الاطمئنان عدم تأثير لحرمة الإسناد، بل يوجد لهذا الاطمئنان أثر آخر بغضّ النظر عن حرمة الإسناد لا يلتزم به السيّد الاُستاذ، فلا بدّ من استكشافه لخلل آخر في هذا الاطمئنان، بيان هذا الأثر هو: أنّه تارة تفرض دعوى الاطمئنان في


(1) قلت له(رحمه الله): إنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ؛ ذلك لأنّ العلم التفصيلي لم يتعلّق بأحد طرفي العلم الإجمالي، بل تعلّق بحكم آخر، فإنّنا كنّا نعلم إجمالاً بوجود إلزام في الترخيصيات أو حرمة إفتاء بالواقع في الإلزاميات من باب حرمة الإفتاء والإسناد الذي يكون كذباً في الواقع، في حين أنّ العلم التفصيلي قد تعلّق بحرمة الإفتاء لا بهذا العنوان، بل بعنوان كونه إفتاءً وإسناداً لا يعلم بصدقه.

فأجاب(رحمه الله) بأنّ هذا الكلام الذي ذكرتَه مبنيّ على فرض حرمتين للإسناد، بحيث لو أسند شيئاً إلى الشارع وهو لا يعلم بصدقه وكان في الواقع كذباً، كان عليه عقابان، وهذا ممّا لا يلتزمون به، فلا بدّ من فرض صياغة لبيان الحرام بنحو تتّحد الحرمتان عند الإجتماع، فينحل عندئذ العلم الإجمالي.

206

خصوص الترخيصيات، واُخرى في خصوص الإلزاميات، وثالثة في الجامع بين الترخيصيات والإلزاميات. فإن فُرِض الأوّل فهذا اطمئنان إجمالي بحكم الزامي في موارد ثبوت الترخيص، وهذا ـ كما ترى ـ أثره عملي وليس أثره مجرّد حرمة الإفتاء. وإن فرض الثاني، أي: الاطمئنان في الإلزاميات، فهذا اطمئنان بكذب إحدى الأمارات الإلزامية؛ لأنّ الإلزام في الشبهات الحكمية: إمّا يثبت بالأمارة، أو بالاستصحاب، والمفروض لدى السيّد الاُستاذ أنّه لا يقول بالاستصحاب في الشبهات الحكمية، إذن فالإلزاميات كلّها ثبتت بالأمارة، فالاطمئنان بكذب إحداها يوجب تعارضها وتساقطها؛ لأنّها بدلالاتها الالتزامية يقع التكاذب بينها. وإن فرض الثالث، أي: الاطمئنان بوجود ما يخالف الواقع في مجموع الإلزاميات والترخيصيات، إذن فبما أنّ الإلزاميات كلّها ثبتت بالأمارات تُثبت بالدلالة الالتزامية أنّ مخالفة الواقع وقعت في الترخيصيات، ويصبح حال هذا الفرض حال الفرض الأوّل.

وقد أوردتُ هذا الإشكال على السيّد الاُستاذ ولم أكن وقتئذ مقسِّماً للبحث إلى فرض دعوى الاطمئنان تارة ودعوى العلم الوجداني اُخرى، فتراجع الأستاذ عن القول بثبوت العلم أو الاطمئنان الإجمالي بكذب بعض الفتاوى، وقال: إنّ هذا شيء يتراءى في بادئ الأمر ويزول بالتأمّل.

وثالثاً: إنّ هذا الاطمئنان لا حجّيّة له، وهذا هو الخلل الذي كان الأولى للسيّد الاُستاذ أن يستكشفه بدلاً عن استكشاف عدم تأثير لحرمة الإسناد. والوجه في عدم حجّيّته هو أنّ مدرك حجّيّة الاطمئنان هو السيرة العقلائية، ولا يوجد مثل هذه السيرة في اطمئنان إجمالي ذي أطراف غير محصورة، والاطمئنان في المقام من هذا القبيل، فإنّه إنّما نشأ هذا الاطمئنان من تجمّع احتمالات الخلاف من أطراف كثيرة جداً.

وإن ادّعي العلم الوجداني بمخالفة إحدى الفتاوى للواقع مع الاعتراف بعدم حجّيّة الاطمئنان في مثل المقام، لم يرد إشكالنا الثاني من الإشكالات التي أوردناها على فرض دعوى الاطمئنان؛ إذ يمكن دعوى العلم بوجود المخالفة للواقع في مجموع الإلزاميات والترخيصيات مع إنكار حجّيّة الدلالة الالتزامية لأدلّة الإلزاميات المثبتة لوقوع الخلل في الترخيصيات؛ لأنّ هذه الدلالة الالتزامية ـ أيضاً ـ إنّما ثبتت حجّيّتها بالسيرة العقلائية كالاطمئنان، وثبوت السيرة العقلائية في مثل المقام الذي تكون أطراف الشبهة فيه غير محصورة ممنوع.