145

وجعل الشيخ الأنصاري(رحمه الله) عدم دلالة هذا الحديث على المقصود، وكونه وارداً في بيان قاعدة لزوم تحصيل اليقين بالفراغ أمراً مفروغاً عنه، وتكلّم في الصحيحة الثالثة في حملها على هذا المعنى، وأنّ هذا المعنى مستفاد من بعض الروايات، ومثّل لذلك بهذه الرواية(1). بينما السيّد الاُستاذ ادّعى ظهور هذه الرواية في الاستصحاب(2).

والكلام تارةً يقع في سند الحديث، واُخرى في دلالته:

 

سند الحديث:

أمّا سند الحديث فقد عبّروا عنه بالموثّقة، وهذا التعبير نشأ ممّا في الوسائل، حيث ذكر هذا الحديث في باب الخلل في الصلاة، ونقله عن الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمّار، وهذا اشتباه منه(قدس سره)، فإنّ الصدوق في الفقيه لم يذكره ابتداءً عن إسحاق، بل قال: روي عن إسحاق بن عمّار(3)، ومثل هذا لا يدخل في ما ذكره في مشيخته من كون الروايات التي يرويها عن إسحاق يرويها بالسند الفلاني. إذن فالرواية مرسلة لا اعتبار بها سنداً(4).

 

دلالة الحديث:

وأمّا دلالة الحديث فتوجد في الحديث ثلاثة احتمالات:

الأوّل: ما فرضه الشيخ(رحمه الله) مفروغاً عنه من إرادة قاعدة اليقين، بمعنى تحصيل اليقين بالفراغ.

الثاني: قاعدة اليقين بالمعنى المصطلح عليه في الاُصول، أي: البناء على اليقين عند الشكّ في صحّته، أي: في تحقّق المتيقّن في نفس الزمان الذي كنّا نتيقّن بتحقّقه فيه.

الثالث: الاستصحاب.

أمّا الاحتمال الأوّل فهو خلاف الظاهر جدّاً؛ وذلك لنكتتين:


(1) الرسائل: ص 331 ـ 332 حسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة الله.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 64 ـ 65.

(3) الفقيه: ج 1، ح 1025.

(4) لا يبعد صحّة فهم صاحب الوسائل وأن يكون تعبير مشيخة الفقيه بقوله: (وما كان فيه عن إسحاق بن عمّار...) شاملاً بإطلاقه لذلك فيكون المقصود بما في الفقيه من قوله: (روي عن إسحاق بن عمّار) هو رواية كتاب إسحاق له.

146

1 ـ إنّه لم يفرض في الحديث كون الشكّ في ميدان الفراغ، ولم يشر إلى ذلك أيّ إشارة، مع أنّ هذا مؤونة تحتاج إلى البيان، وذكر الصدوق له في باب الخلل في الصلاة والشكّ في الركعات قد يكون بسبب كون ذلك مصداقاً من مصاديق الحديث، وليس شاهداً على أنّ الحديث كان مشتملاً على قرينة كانت تصرفه إلى مثل تلك الموارد.

2 ـ إنّه عبّر(عليه السلام) (إبنِ على اليقين) ولم يقل: حصّل اليقين، وهذا ظاهره الفراغ عن يقين ثابت يأمر ببناء عمله عليه، لا الأمر بتحصيل اليقين حتّى يحمل على لزوم تحصيل اليقين بالفراغ، والنكتة في ذلك هي: أنّ متعلّق المتعلّق المصطلح عليه في اُصول المحقّق النائيني(رحمه الله)بالموضوع يكون بحسب نظر العرف مأخوذاً مقدّر الوجود، فلو قيل: أكرم العالم كان معنى ذلك وجوب إكرام عالم فرض وجوده، وليس أمراً بإيجاد العالم ـ إن لم يكن موجوداً ـ وإكرامه. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ حيث إنّه جعل البناء متعلّقاً للأمر واليقين متعلقاً لهذا المتعلق(1)، بخلاف مالو قال: حصّل اليقين؛ فإنّه لو قال هكذا كان تحصيل اليقين بنفسه متعلّقاً للأمر.

وأمّا الاحتمال الثاني والثالث فالتحقيق: أنّه إذا دار أمر هذه العبارة بين هذين المعنيين فالثالث هو المتعيّن.

توضيحه: أن هذه الجملة ـ كما عرفت ـ تستبطن فرض يقين مفروغاً عنه يُبنى عليه العمل، وهذا اليقين المستبطن في الكلام هل هو مستبطن في جانب الشرط، أي قوله: «إذا شككت»، أو في جانب الجزاء، أيّ: قوله: «فابنِ على اليقين»؟ الظاهر عرفاً هو الأوّل دون الثاني؛ وذلك لأنّ الجزاء في نظر العرف لا يحلّل بنفسه إلى قضية شرطيّة تجعل هي جزاء للشرط الأوّل، بأن يصبح معنى الكلام في المقام هكذا: (إذا شككت فابنِ على اليقين إن كان لك يقين) وإنّما المفهوم عرفاً أنّ كل شرائط هذا الجزاء فرغ عنها في جانب الشرط، ثمّ رتّب على ذلك الجزاء. وعليه، فاليقين في المقام مستبطن في جانب الشرط، فيصبح معنى الكلام:


(1) لا يخفى أنّ مجرّد جعل الشيء متعلّقاً للمتعلّق ليس دليلاً على كونه موضوعاً بالمعنى المصطلح للمحقّق النائيني(رحمه الله)، أو قل: على كونه مقدّر الوجود، فقد يُجعل متعلّق للمتعلّق بداعي تحصيص المتعلّق، فلو قال مثلاً: أكرم العالم بالخُبز نرى أنّه يفهم عرفاً أنّ العالم موضوع، وأنّه لا يجب إيجاده إن لم يكن موجوداً، ولكن الخُبز الذي هو ـ أيضاً ـ متعلّق للمتعلق ليس إلاّ محصّصاً للإكرام، ويجب عليه طبخ الخبز وصنعه إن لم يكن مطبوخاً ومصنوعاً. ولو قال: صلِّ على إحدى الموادّ الفلانية (أي التي يصحّ السجود عليها) ولم يكن يمتلك شيئاً منها، ولكن كان بإمكانه إيجاد بعضها، وجب عليه إيجاده لكي تصحّ صلاته، ويبدو أنّ المسألة دائرة مدار المناسبات العرفيّة، أو المناسبات الشرعية والمتشرعية المؤثّرة في ظواهر الألفاظ.

147

(إذا شككت وكان لك يقين فابنِ على اليقين). وعليه نقول: إنّه إذا اُريد باليقين المفروض وجوده في المقام اليقين الذي نحتاجه في الاستصحاب وهو اليقين بالحالة السابقة، فحذف اليقين في المقام طبيعيّ؛ وذلك باعتبار الملازمة الغالبيّة بين الشكّ واليقين عادةً؛ إذ ما من شكّ إلاّ ويوجد معه يقين بحالة سابقة لا أقلّ من العدم الذي هو الأصل في الأشياء، إلاّ في الاُمور الذاتية، فيقال: إنّ المتكلّم اعتمد في مقام بيان الشيء هنا على ذكر لازمه العادي، واقتصر على غالبيّة الملازمة، ولم يصرّح بثبوت اليقين. وأمّا إذا اُريد باليقين اليقين الذي نحتاجه في قاعدة اليقين وهو اليقين بنفس ما شكّ فيه بعد ذلك، فهذا قلّ ما يتّفق للإنسان في شكوكه، فإنّ الشكّ ـ بحسب الغالب ـ ليس مسبوقاً بيقين زال بنحو الشكّ الساري، فهذا اليقين لا بدّ من ذكره، وليس ممّا يعتمد في بيانه على الملازمة الواضحة، وعليه فالمعنى الثاني يحتاج إلى مؤونة زائدة بخلاف الثالث.

فالإنصاف تماميّة هذه الرواية دلالةً، بل هي أحسن من الروايات السابقة من ناحية تصريحه(عليه السلام) بكون ذلك قاعدة عامّة، إلاّ أنّها ضعيفة سنداً كما عرفت.

هذا. ولو غضضنا النظر عمّا ذكرناه، وكانت نسبة العبارة في نفسها إلى الاستصحاب والقاعدة على حدٍّ سواء، قلنا: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب دون القاعدة تصرف العبارة إليه خصوصاً مع فقهائية الاستصحاب، أي: كونه مذكوراً ومطرحاً للبحث عند الفقهاء والاُصوليين منذ وجد الاُصول، بخلاف قاعدة اليقين التي هي فكرة مستحدثة عندهم.

وممّا يؤيد ظهور الرواية في الاستصحاب أنّ الراوي فهم بحسب اعتقاده المقصود، ولم يتردّد فيه، فانتقل إلى السؤال عن أنّ هذا أصل كلّي أو لا، ومن الواضح أنّ العبارة لو لم تكن ـ بالرغم من كلّ ما عرفت ـ ظاهرة في الاستصحاب فلا أقلّ من عدم ظهورها في قاعدة اليقين، ومن البعيد جدّاً أن ينتقل ذهن الراوي إذا كان سوّياً في تفكيره ـ بالرغم من ارتكازيّة الاستصحاب وفقهائيّته وكونه معترفاً به ولو في الجملة لثبوته في باب الطهارة الحدثية والخبثية على الأقلّ بناءً على المناقشة في التعدّي من مورد الصحيحتين الاُوليين، وغالبيّة ملازمة اليقين الاستصحابي مع الشكّ بخلاف اليقين في القاعدة ـ إلى قاعدة اليقين.

بقي هنا شيء: وهو أنّه لو فرض كون ذكر الصدوق لهذا الحديث في باب الخلل والشكّ في الركعات قرينة على أنّ الحديث كانت فيه قرينة تدلّ على وروده في باب الركعات، جاء هنا إشكال صيرورة ذلك موافقاً للتقيّة، وعند ئذ نقول: إن صحّ حمل الحديث على الاستصحاب بنحو لا يستلزم موافقة العامّة فبها ونعمت، وإلاّ حمل التطبيق على التقيّة،

148

وأخذنا بأصل الكبرى لما مضى عن المحقّق العراقي(رحمه الله) في الصحيحة الثالثة من أنّه إذا دار الأمر بين كون الكبرى تقيّة أو التطبيق تقيّة بقيت الكبرى على حجّيّتها، ولا يرد هنا ما مضى في الصحيحة الثالثة من إشكال ثبوت القرينة على مخالفة التقيّة.

ثمّ إنّه وقع في سند الحديث في لسان الأصحاب اشتباه آخر إضافة إلى تخيّل كونه موثّقة، وهو أنّه نسب إلى عمّار لا إلى إسحاق بن عمّار، مع أنّ عمّاراً ليس له خبر من هذا القبيل، وإنّما هذا الخبر لإسحاق بن عمّار وهو ابن عمّار آخر غير عمّار الذي يتخيّل كونه صاحب هذه الرواية، وكأن منشأ الاشتباه كان هو الشيخ الأعظم(قدس سره) الذي عبّر في رسائله عن هذا الحديث بموثّقة عمّار، والحديث بالنحو الموجود في الوسائل باب 8 من أبواب الخلل هكذا: وبإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: قال لي أبوالحسن الأوّل: إذا شككت فابنِ على اليقين، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم.

وقد وقع هذا الحديث في بعض نسخ الوسائل في وسط حديث عن عمّار، واُشير إلى الاشتباه في الحاشية، وذاك الحديث هو قوله: «محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال له: ياعمّار اجمع لك السهو كلّه في كلمتين ... إلخ». فوقع بعد قوله: (في كلمتين) متن حديث إسحاق بن عمّار، فلعلّ نسخة الشيخ الأعظم(قدس سره) كانت من هذا القبيل، فاوقعته في الاشتباه.

 

الرواية الخامسة:

رواية الخصال في حديث الأربعمائه عن محمّد بن مسلم وأبي بصير، عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام):«من كان على يقين فشكّ فليمضِ على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين(1)». وسندها ضعيف بالقاسم بن يحيى.

 

دلالة الرواية:

وأمّا الدلالة فقد أبرزوا لهذه الرواية ثلاثة ظهورات تختلف في كونها في صالح إرادة قاعدة اليقين، أو في صالح إرادة الاستصحاب. فلنتكلم أوّلاً في تلك الظهورات واحداً بعد واحد، ثمّ نرى أنّه هل يوجد ظهور آخر أو لا؟ وأنّه ما هو المتحصّل من مجموع الظهورات؟ فنقول:


(1) الوسائل: ج 1، باب 1 من نواقض الوضوء، ح 6، ص 247 بحسب طبعة آل البيت. وفيه: ثمّ شكّ.

149

الظهور الأوّل: ظهور الرواية في كون زمان اليقين قبل زمان الشكّ، حيث قال: «من كان على يقين فشكّ»، وهذا الظهور استخدمه الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) وغيره في صالح قاعدة اليقين، باعتبار أنّ هذه الخاصّيّة توجد في تلك القاعدة.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه تارةً تحمل العبارة على كون ولادة الشكّ بعد اليقين، أي: بعد ولادته فلا ينافي تعاصره مع اليقين بأن يستمرّ اليقين إلى زمان الشكّ، واُخرى تحمل على كون ولادة الشكّ بعد اليقين، أي: بعد انتهاء أمده وموته. فعلى الثاني لا بدّ من حمل الحديث على قاعدة اليقين لتعاصر الشكّ مع اليقين في الاستصحاب دائماً. وأمّا على الأوّل فتنسجم العبارة مع كثير من موارد الاستصحاب أيضاً؛ لأنّه كثيراً ما يكون الشكّ في باب الاستصحاب متولّداً بعد اليقين، فلا بدّ لتتميم استظهار كون الحديث في قاعدة اليقين من ضمّ أحد أمرين:

الأوّل: أن يدّعى القطع من الخارج بعدم الفرق في باب الاستصحاب بين كون ولادة الشكّ بعد اليقين أو قبله أو معه، فيقال: إنّ أخذ البعديّة في الحديث قرينة على عدم إرادته للاستصحاب، وإرادته لقاعدة اليقين.

الثاني: أن يقصد النقض على من يرى الاستصحاب حجّة مطلقاً، أي: حتّى مع تقدّم الشكّ على اليقين أو تقارنه معه، فيقال: إنّه لو دار الأمر بين إرادة الاستصحاب بهذا الوجه وقاعدة اليقين تعيّنت قاعدة اليقين.

وقد يجاب على هذا الظهور المدّعى في المقام بأمور:

الأمر الأوّل: هو إنّ هذا التعبير جار مجرى الغالب من قبيل (وربائبكم اللاتي في حجوركم) حيث إنّ اليقين في الاستصحاب غالباً مقدّم على الشكّ.

وهذا الجواب إنّما يتمّ بناءً على استفادة تأخّر الشكّ من ولادة اليقين من الرواية. وأمّا بناءً على استفادة كون الشكّ حادثاً بعد موت اليقين فلا يأتي هذا الجواب، باعتبار أنّه في موارد الاستصحاب لا بدّ من اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد.

الأمر الثاني: ما في تقرير المحقّق العراقي(قدس سره)(2) من أنّ الترتّب في المقام لعلّه لم يقصد به الترتّب الزماني، بل قصد به الترتّب الرتبي من قبيل: حرّكت يدي فتحرّك المفتاح.


(1) راجع الرسائل: ص 333 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 63 ـ 64.

150

وفيه: أنّه إن اُريد فرض الترتّب الرتبي بين اليقين والشكّ فمن الواضح أنّهما حالتان نفسيّتان في عرض واحد، ولا ترتّب بينهما، وإن اُريد حمل الفاء في قوله: (فليمض على يقينه) على الترتّب الرتبي، أي: أنّ الحكم بالمضيّ متأخّر رتبةً عن اليقين، فمن الواضح أنّ الإشكال لم يكن هنا، وإنّما الإشكال في أنّه يستفاد من قوله: (من كان على يقين فشكّ) تأخّر الشكّ عن اليقين.

الأمر الثالث: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)(1) من أنّ اليقين والشكّ بما لهما من المرآتيّة والفناء في متعلّقيهما يكتسبان صفة متعلّقيهما، وبهذا الاعتبار نسب إليهما ما لمتعلّقيهما من تقدّم وتأخرّ.

وفيه: أنّ فناء العنوان في المعنون إنّما يكون بمعنى اتّحادهما بالحمل الأوّلي وإن اختلفا بالحمل الشائع، فحينما يحكم على النار بالحرارة يحكم في الحقيقة على الصورة الذهنية بها باعتبار فنائها في النار الخارجية، بمعنى كونها بالحمل الأوّلي ناراً وإن كانت بالحمل الشائع صورة ذهنية للنار، لا ناراً خارجية. وهذا المطلب صادق في باب اليقين والعلم ونحوه بالنسبة للمصاديق، فمن يعلم بمجيء زيد مثلاً صحّ القول بالنسبة لهذا المصداق من العلم أنّ صورته العلمية بالحمل الأوّلي هي مجيء زيد وإن كانت بالحمل الثانوي صورة ذهنية، ولا يصدق ذلك بالنسبة للمفاهيم، فمفهوم اليقين أو الشكّ الموجود في كلام الإمام(عليه السلام) لا يكون فانياً في المتيقّن أو المشكوك لعدم اتّحادهما معهما بالحمل الأوّلي.

وإذا فرض أنّ مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) هو أنّ اليقين والشك في كلامه(عليه السلام) لمّا كانا مفهومين للمصداق الفاني في معنونه ومرآتين له صحّ أن ينسب إليهما عرفاً ما للمتيقّن والمشكوك، قلنا: إنّ هذا ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ فإنّ الإنسان العرفي لو تيقّن في يوم السبت بعدالة زيد في يوم الجمعة وشكّ مقارناً ليقينه في عدالته يوم السبت لا يقول: كان لي يقين فشككت، ولو قيل له:(كان لك يقين فشككت) يقول: لا، بل حصل لي الآن اليقين والشكّ(2).

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 296 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) توضيح الكلام في مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) وجوابه:

إنّ مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) قد تبقى على ظاهرها البسيط، وهو أنّ اليقين مرآة الى المتيقّن، باعتبار أنّ صاحب اليقين يرى به المتيقّن، إذن فيكتسب لون المتيقّن.

151

الأمر الرابع: أنّنا حتّى لو أخذنا بأشدّ وجهي الإشكال يكون بإمكاننا دفعه.

توضيح ذلك: انّ الإشكال الذي بعّد الرواية عن الاستصحاب كان يمكن بيانه بأحد وجهين:

1 ـ استظهار كون الشكّ بعد ولادة اليقين، وهذا لا يكون في تمام موارد الاستصحاب، ولكنّه يكون في تمام موارد قاعدة اليقين.

2 ـ استظهار كون الشكّ بعد وفاة اليقين، وهذا لا يكون في شيء من موارد الاستصحاب، ويكون في موارد قاعدة اليقين، ولعلّ كون الشكّ بعد وفاة اليقين هو الأظهر من الرواية، لا لأنّه مهما فرض في العبارة الترتيب بين شيئين كان ظاهراً في كون الثاني بعد فوت الأوّل؛ بل لأنّه مهما فرض الترتيب بين شيئين هما متضادّان بحسب النظر العرفي كاليقين والشكّ كان ظاهر ذلك كون الثاني بعد موت الأوّل.

ولكن بالإمكان دفع الإشكال في المقام حتّى على تقريبه الثاني، وذلك بأن يقال: إنّ هذا الظهور لا يعيّن كون المراد بهذا الحديث قاعدة اليقين، بل ينسجم ـ أيضاً ـ مع كون المراد به الاستصحاب مع إعمال شيء يتعارف إعماله، وهو غضّ النظر عن خصوصية الزمان في المتيقّن والمشكوك، فيحسب حساب اليقين والشكّ بالنسبة لذات المتيقّن والمشكوك، وبهذا


وهذا جوابه: أنّ صفة المرآتية إنّما توجد في واقع اليقين الذي هو في نفس صاحبه لا في مفهوم اليقين الذي جاء في كلام الإمام(عليه السلام).

وقد تعمّق بإبراز نكتة لولاها لما تمّت هذه المرآتية، وهي مؤلّفة من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ اليقين عين المتيقّن بالذات، كما أنّ الحبّ عين المحبوب بالذات، والبغض عين المبغوض بالذات.

والثانية: أنّ المتيقّن بالذات فان في المتيقّن بالعرض، باعتباره يرُى بمنظار الحمل الّاولي عينه كما هو الحال ـ أيضاً ـ في المحبوب بالذات والمحبوب بالعرض، أو المبغوض بالذات والمبغوض بالعرض.

وبالإمكان أن تفرض نفس هذه النكتة سبباً لاكتساب اليقين لون المتيقّن.

فإن فرض كذلك كان الجواب: أنّ المقدّمة الاُولى إنّما تصدق في واقع اليقين الذي هو في نفس صاحبه، لا في مفهوم اليقين الذي جاء في كلام الإمام(عليه السلام).

وقد يفرض أنّ مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) هو: أنّ مفهوم اليقين فان في واقعه فناءَ العنوان في المعنون، وواقع اليقين مرآة للمتيقّن أو أنّه عين المتيقّن بالذات الفاني في المتيقّن بالعرض، إذن فمفهوم اليقين يكتسب بهذه الواسطة لون المتيقّن.

وهذا جوابه: أنّنا نرى أنّ الإنسان العرفي لو تيقّن اليوم بعدالة زيد في يوم سابق، وشكّ مقارناً ليقينه أو قبل يقينه في عدالته في هذا اليوم لا يقول: كان لي يقين فشككت.

وهذا الجواب يبطل رأساً كلّ هذه التقريبات الثلاثة.

152

النظر يقال عرفاً: إنّه قد مات اليقين؛ ولذا نرى أنّ شخصاً علم بعدالة زيد ثمّ احتمل زوالها يقول ـ بلا أن يُحَسّ بأيّ مؤونة ـ: كنتُ على يقين من عدالة زيد والآن قد زال يقيني. وإلغاء خصوصيّة الزمان وتجريد المتيقّن والمشكوك عنه هو أحد الوجوه التي يصحّح بها صدق النقض في روايات الاستصحاب، حيث يقال: كيف فرض العمل بالشكّ نقضاً لليقين مع أنّ اليقين بحسب الواقع تعلّق بشيء وهو الحدوث، والشكّ تعلّق بشيء آخر وهو البقاء؟ فيجاب على ذلك بوجوه، منها: أنّه قد غضّ النظر عن الزمان وخصوصية الحدوث والبقاء، ولوحظ اليقين والشكّ متعلّقين بذات الطبيعة.

نعم، بناءً على هذا الذي ذكرناه يبقى إشكال: أنّ هذا لا ينطبق على تمام موارد الاستصحاب، ويختصّ بما إذا كان الشكّ بعد اليقين لا قبله، أو معاصراً له، بل هذا الإشكال يجري في كلّ روايات الاستصحاب لو فسّرنا إسناد النقض بهذا التفسير، أي: بتفسير غضّ النظر عن زمان المتيقّن والمشكوك، فإنّه عندئذ يقال ـ لدى كون الشك معاصراً لليقين او متقدماً عليه ـ: إنّه لو لم يجرّد المتعلّق عن الزمان لم يصدق النقض، فلا تشمله الروايات، ولو جرّد عنه لم يكن اليقين بهذا النظر التجريدي موجوداً في وقت من الأوقات أصلاً؛ إذ مع الشكّ لا يقين بهذا النظر حسب الفرض، وقبله لم يكن متيقّناً بشيء، وعندئذ لا بدّ من دفع هذا الإشكال بمسألة التعميم بالارتكاز العرفي.

إن قلت: كيف يعمّم بالارتكاز العرفي مع أنّ احتمال دخل صدق النقض في جريان الاستصحاب موجود، ولا يصدق النقض إذا كان الشكّ قبل اليقين أو معه؛ لما بُيّن من أنّه مع التجريد لا يوجد يقين، وبدون التجريد لا يوجد نقض.

قلت: إنّ ما ذكر من أنّه لا بدّ من التجريد حتّى يصدق النقض إنّما هو بيان لنكتة مربوطة بعالم العبارة والتعبير، فيقال: إنّ التعبير بالنقض لا يستلطف عرفاً مثلاً إلاّ إذا فرض التجريد عن الزمان، حتّى يُرى تعلّق الشكّ بعين ما تعلّق به اليقين، وذلك لا يفيد إلاّ إذا كان الشكّ بعد اليقين. وأمّا حاقّ المطلب وواقعه الذي باعتباره يدّعى ارتكاز التعميم، فلا فرق فيه في نظر العرف بين فرض الشكّ بعد اليقين أو وجوده من قبل أو معاصراً معه.

الظهور الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1) والسيّد الاُستاذ(2) من أنّ قوله: «فليمضِ


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 372. وفوائد الاُصول: ج 4، ص 365 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 66.

153

على يقينه» ظاهر في كون اليقين معاصراً لزمان وجوب المضيّ، وثابتاً فيه، وهذا لا يكون إلاّ في الاستصحاب، فهذا الظهور في صالح الاستصحاب.

ومن العجيب ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1) والسيّد الاُستاذ(2) في مقام تقريب هذا الظهور من أنّ العناوين الاشتقاقية وقع الخلاف في صدقها عند انقضاء المبدأ وعدمه، فيقال: إنّ الصحيح عدم صدقها إلاّ بنحو من المسامحة والمجاز. وأمّا المصدر فمن الواضح بشاعة استعماله مع الانقضاء، فكيف يمكن فرض إطلاق اليقين في قوله:«فليمضِ على يقينه» مع فرض انقضاء المبدأ كما هو الحال في قاعدة اليقين؟!

أقول: إنّ من يحمل هذه الرواية على قاعدة اليقين لا يقصد بذلك أنّه استعمل اليقين في حالة كانت متّصفة باليقينيّة وقد زالت عنها هذه الصفة، ولا توجد عندنا حالة من هذا القبيل أصلاً، ولا ينظر من يحمل الرواية على القاعدة إلى ذلك أبداً، وإنّما مقصوده هو أنّ اليقين اُطلق على تلك الحالة السابقة التي انتهت وزالت، واُوجب المضيّ على تلك الحالة التي اسمها اليقين.

نعم، يمكن تقريب هذا الظهور بدعوى: أنّ الكلام المشتمل على حكم وموضوع كقوله: (أكرم العالم) ظاهر في تعاصر زمان العمل بالحكم مع الموضوع، فقوله:«فليمضِ على يقينه» ظاهر في تعاصر زمان المضيّ مع اليقين.

ويرد عليه: أنّه إن قصد لزوم تعاصر زمان الحكم مع زمان اتّصاف ذات الموضوع بعنوانه بنحو مفاد كان الناقصة، فهذا مسلّم، وهو ثابت في المقام، فإنّ تلك الحالة السابقة متّصفة حتّى الآن بكونها يقيناً بنحو مفاد كان الناقصة. وإن قصد لزوم تعاصر زمان الحكم لزمان وجود الموضوع بنحو مفاد كان التامّة، فهذا الظهور غيرمقبول. نعم، قد لا يتعقّل تحقّق متعلّق الحكم إلاّ مع وجود الموضوع كما في (إكرام العالم)، فلا بدّ من التعاصر لا محالة. وأمّا حينما لا يكون هكذا كما في المقام الذي يتصوّر المضيّ على اليقين حتّى بعد موت اليقين، فليس من اللازم ثبوت هذا التعاصر.

الظهور الثالث: ظهور الرواية في وحدة متعلق اليقين والشكّ. والوحدة من تمام الجهات حتّى جهة الزمان إنّما تكون في قاعدة اليقين دون الاستصحاب، فيجعل هذا في صالح قاعدة اليقين.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 372.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 66.

154

ويرد عليه: أنّ هذه الوحدة لو كانت مستفادة من التصريح، كأن يقول: (من تيقّن وشكّ في شيء واحد) مثلاً، فلعلّه أمكن استظهار الوحدة من جميع الجهات حتّى من جهة الزمان، ولكن ليس الأمر هكذا، وإنّما فهمت الوحدة في المقام بقرينة حذف المتعلّق، وتلك القرينة نسبتها إلى الوحدة من جميع الجهات والوحدة من غير جهة الزمان على حدٍّ سواء.

ومن هنا قد يعكس المطلب ويقال: إنّ قيد وحدة الزمان ننفيه بالإطلاق، ويكون ذلك في صالح الاستصحاب.

لا يقال: لا بدّ من قيد وحدة الزمان أو تعدده، وهما متباينان، فلا معنى للإطلاق(1).

فإنّه يقال: يمكن فرض عدم لحاظ شيء من القيدين، وذلك بعدم لحاظ الزمان رأساً على ما مضى من أنّه في باب اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء قد يُلغي العرف خصوصيّة الزمان، ويلحظ تعلّق اليقين والشكّ بذات الطبيعة فقط.

ويرد عليه: أنّ الإطلاق إنّما يجري في مورد تحدّد مقدار المدلول في عالم الإثبات في المرتبة السابقة على الإطلاق، فينفى بالإطلاق مقدار آخر من قيد يحتمل تحقّقه في عالم الثبوت، وذلك بأصالة تطابق عالم الثبوت وعالم الإثبات. وأمّا في المقام فمقدار المدلول في عالم الإثبات في المرتبة السابقة على الإطلاق غير معلوم؛ لما مضى من أنّ نسبة قرينة الحذف إلى الوحدة من جميع الجهات والوحدة من غير جهة الزمان على حدٍّ سواء.

ومن هنا قد يقال بالإجمال، كما اختاره المحقّق العراقي(قدس سره)(2)؛ لأنّه لا يدرى هل قصدت الوحدة من جميع الجهات حتى الزمان، أو من سائر الجهات غير الزمان، فتردّد الحديث بين قاعدة اليقين والاستصحاب.

ورفع الإجمال يكون بإبراز ظهور رابع في المقام، وهو ظهور كلمة اليقين والشك في اتّحادهما زماناً مع متعلّقهما، فمن قال مثلا: (أنا على يقين من عدالة زيد) يفهم منه أنّه على يقين من عدالته في الزمان الحاضر، ومن قال: (كنت في يوم الجمعة على يقين من عدالة زيد) لا يُسأل عن أنّه هل كنت على يقين من عدالته في نفس ذلك اليوم أو من عدالته في يوم آخر، وبما أنّ الحديث يظهر منه تقدّم اليقين على الشكّ فيظهر منه ـ لا محالة ـ تقدّم المتيقّن على المشكوك، وهذا لا يكون إلاّ في الاستصحاب.


(1) قد يقال: إنّ بالإمكان إلغاء كلا القيدين وفرض الرواية دالّة على الاستصحاب والقاعدة معاً.

(2) راجع المقالات: ج 2، ص 353 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي. ولكنّه اختار في نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 65 ظهور الرواية في الاستصحاب.

155

يبقى إشكال: أنّ هذا لا يشمل فرض كون الشكّ معاصراً لليقين أو قبله. ويجاب عنه بما مضى من مسألة الارتكاز المعمِّم في المقام.

 

الرواية السادسة:

مكاتبة عليّ بن محمد القاساني، قال:«كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب(عليه السلام): اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وافطر للرؤية»(1).

وقد عدّها الشيخ الأعظم(قدس سره) أظهر من الروايات السابقة(2) في الاستصحاب. ولعلّه لأجل عدم تطرّق احتمال عهديّة اللام كما كان يتطرّق في جملة من الروايات السابقة. فتدلّ الرواية بشكل عامّ على أنّ اليقين لا يرفع اليد عن أثره بالشكّ، وهو الاستصحاب.

وقد نوقش في الاستدلال بهذه الرواية بإبداء احتمالين مخالفين لفرض إرادة الاستصحاب.

الاحتمال الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)(3) من دعوى أنّ المراد باليقين هو اليقين بشهر رمضان، وبالشكّ هو الشكّ فيه، وقد اُريد باليقين والشك المتيقّن والمشكوك في المقام. والمعنى: أنّ اليوم المشكوك كونه من شهر رمضان لا تدخله في شهر رمضان، ولا تجعله إلى صفّ الأيّام المتيقّن كونها من شهر رمضان، فمفادها مفاد روايات باب صوم يوم الشكّ الدالّة على اعتبار اليقين بدخول شهر رمضان في نيّة صومه. ولو حمل اليقين والشكّ في المقام على المعنى الاستصحابي للزم أن يكون الدخول في الرواية بمعنى النقض، وهذا بحاجة إلى عناية.

أقول: إنّه وإن وجدت روايات مفادها ذلك، لكن حمل هذه الرواية على ذلك بالتقريب الذي عرفت خلاف الظاهر. والدخول ـ على أيّ حال ـ لم يستعمل في معناه الأصلي حتّى لو أخذنا بتفسير المحقّق النائيني(رحمه الله)؛ فإنّ دخول يوم الشكّ في شهر رمضان ليس من قبيل دخول شخص في الغرفة، فلا بدّ من معنىً مسامحي، وليس ما يذكره المحقق النائيني(رحمه الله)أولى


(1) الوسائل: ج 10، باب 3 من أحكام شهر رمضان، ح 13، ص 255 ـ 256 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الرسائل: ص 334 بحسب طبعة رحمة الله.

(3) أجود التقريرات: ج 2، ص 373. وراجع ـ أيضاً ـ الفوائد: ج 4، ص336 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

156

من حمل الدخول على معنى النقض والإفساد، ويكون التقريب الذي ذكره(رحمه الله)خلاف الظاهر من وجوه:

أوّلاً: أنّ حمل اليقين والشكّ على اليقين والشكّ بشهر رمضان من دون أيّ ذكر سابق في كلام الإمام(عليه السلام)، ولا في كلام السائل لليقين بشهر رمضان خلاف الظاهر جدّاً، بل مقتضى طبيعة الكلام كون المقصود جنس اليقين والشكّ.

وثانياً: ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّ حمل اليقين والشكّ على المتيقّن والمشكوك خلاف الظاهر؛ فإنّ مقتضى طبيعة الكلام أن يراد باليقين نفس اليقين، وبالشك نفس الشكّ(1).

وثالثاً: ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّه بناءً على هذا لا يمكن أخذ قوله: «وافطر للرؤية» تفريعاً على قوله: «اليقين لا يدخل الشك»؛ إذ الذي يتفرّع عليه هو أن لا يصام يوم الشكّ في آخر شهر رمضان بنيّة شهر رمضان، للزوم إدخال المشكوك في شهر رمضان المتيقّن، مع أنّ ظاهر الحديث كونه تفريعاً عليه(2).

الاحتمال الثاني: ما ذكره المحققّ الخراساني(رحمه الله) من أنّ ملاحظة روايات الباب(3) تشرف الفقيه على القطع بإرادة معنىً آخر، بيانه: أنّ اليقين بدخول شهر رمضان موضوع لوجوب الصوم، واليقين بدخول العيد موضوع لوجوب الإفطار كما ورد من قوله: «إيّاك والشكّ والظنّ» وقوله: «ليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية» وما إلى ذلك، فيقصد في المقام أنّه لا تدخل الشكّ في اليقين، أي: لا تلحقه به في الحكم، فإنّ الحكم بوجوب الصوم أو الإفطار يترتّب على اليقين بالهلال لا الشكّ(4).

وهذا لا يرد عليه الإشكال الثاني الذي مضى على الاحتمال الأوّل؛ لأنّه لم يحمل اليقين والشكّ على المتيقّن والمشكوك، ولا الثالث؛ لأنّه يقول: إنّ موضوع وجوب الصوم هو اليقين بهلال شهر رمضان، وهذا ثابت إلى اليوم الأخير، وموضوع وجوب الإفطار هو اليقين بهلال العيد، فلا يرد عليه عدم تمامية تفريع قوله: «وافطر للرؤية» بل التفريع على هذا المعنى يكون أنسب منه على الاستصحاب؛ إذ على الاستصحاب ليس وجوب الصوم عند الرؤية هو نتيجة الاستصحاب مباشرة، وإنّما نتيجته عدم وجوب الصوم قبل ذلك، ولازمه


(1) نقل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هذا الإشكال من اُستاذه مباشرة، وهو غير موجود في ما وصلنا من تقرير بحثه.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 67 ـ 68.

(3) راجع الوسائل: ج 10، باب 3 من أحكام شهر رمضان، بحسب طبعة آل البيت.

(4) راجع الكفاية: ج 2، ص 298 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

157

تحدّد الصوم بالرؤية، وكذا ليس الإفطار عند الرؤية هو ما يحكم به الاستصحاب مباشرة، وإنّما يحكم الاستصحاب بحرمة الإفطار قبل الرؤية، وهذا بخلاف ما لو أخذنا بتفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله)، فإنّ وجوب الصوم أو الإفطار متفرّع ابتداءً ـ عندئذ ـ على اليقين.

إلاّ أنّ تفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله) خلاف الظاهر من وجوه، عمدتها وجهان:

الأوّل: هو الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها في مقام التعليق على كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) حيث إنّه حمل(قدس سره) اليقين والشكّ على خصوص اليقين والشكّ بشهر رمضان وشوال لا جنس اليقين والشك، وهو خلاف الظاهر.

الثاني: أنّ حمل الدخول على المغايرة في الحكم ليس عرفياً، كأن يقول: الماء لا يدخله التراب، أي لا يلحقه حكم الماء في التطهير مثلاً، وهذا بخلاف حمله على النقض والإفساد؛ إذ باعتبار تضادّ اليقين والشكّ عرفاً يقال: إنّ إدخال الشكّ في اليقين إفساد له، ونقض وإخلال بتركيبه مثلاً، فيحكم تعبّداً بعدم دخول الشكّ في اليقين، أي: عدم إفساده له. وأمّا ما ذكره من إشراف الروايات للفقيه على القطع بما ذكره فغير صحيح، ولا توجد رواية واحدة تدلّ على موضوعية اليقين في المقام. وقوله: «إيّاك والظنّ والشكّ» ونحو ذلك لا يدلّ على موضوعيّة اليقين، بل يكون في مقام بيان أنّ قصد امتثال صوم شهر رمضان يجب أن يكون بنحو اليقين، فلا يصحّ الصوم بقصد صوم شهر رمضان مع الشكّ في دخول شهر رمضان.

ثمّ إنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ذكر في المقام: أنّه لا يمكن حمل الحديث على الاستصحاب؛ لكونه مثبتاً؛ لأنّ وجوب الصوم ليس مترتّباً على ثبوت شهر رمضان بنحو مفاد كان التامّة حتى ينفى باستصحاب عدمه، ولا وجوب الإفطار مترتّب على ثبوت عيد الفطر بنحو مفاد كان التامّة حتّى ينفى باستصحاب عدمه، وإنما هما مترتّبان على كون الزمان الفعلي متّصفاً بكونه شهر رمضان، أو بكونه عيداً بنحو مفاد كان الناقصة، وسلب مفاد كان الناقصة باستصحاب عدم كان التامّة تمسّك بالاستصحاب المثبت، فحمله على ما ذكره المحقّق الخراساني(1).

أقول: أوّلاً: أنّ الاستصحاب المثبت إنّما لا يكون حجّة لقصور دليل حجّيّة الاستصحاب لا لديل على عدم حجّيّته، فلو تمّ هذا الحديث، وكان الاستصحاب فيه مثبتاً التزمنا بحجّيّة الاستصحاب المثبت.

وثانياً: أنّه سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الاستصحاب في الاُمور التدريجية بيان


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 136. ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 65 ـ 66.

158

إمكان نفي مفاد كان الناقصة عند سبق انتفاء مفاد كان التامّة إمّا باستصحاب عدم محمولي أو باستصحاب عدم نعتي على ما سوف نوضّحه إن شاء الله.

وثالثاً: أنّه إن تكلّمنا في جانب استصحاب عدم شهر رمضان قلنا: إنّ أصل دخل مفاد كان الناقصة في باب الصوم وإن كان صحيحاً لكن كون ذلك دخيلاً في الوجوب أوّل الكلام، وإنّما هو دخيل في الواجب كما هو الظاهر من قوله تعالى:(من شهد منكم الشهر فليصمه) فجعل شرط وجوب الصوم هو مجرّد شهود الشهر وحضوره، وقيّد متعلّق الوجوب بضمير راجع إلى الشهر، أي أنّ الواجب أصبح هو صوم الشهر، فأخذ مفاد كان الناقصة في الواجب لا في الوجوب.

وإن تكلّمنا في جانب استصحاب عدم هلال شوّال فإن فرضنا أنّ المقصود به هو نفي وجوب الإفطار كما هو المستفاد من كلام المحقّق العراقي(رحمه الله)، قلنا ـ أيضاً ـ بنفس ما مضى، أي أنّ مفاد كان الناقصة لم يؤخذ في الوجوب، وإنّما اُخذ في الواجب، ونفس قوله في هذا الحديث: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» ظاهر في أنّ مجرّد رؤية الهلال أي حضور الشهر أو العيد هو موضوع الحكم لا مفاد كان الناقصة.

وإن فرضنا أنّ المقصود به هو إثبات وجوب الصوم في اليوم الثلاثين من شهر رمضان لدى الشكّ، فهنا يأتي إشكال المحقّق العراقي(رحمه الله) لولا جوابنا الأوّل والثاني(1)؛ لأنّ الواجب هو صوم اليوم الموصوف بكونه شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء شهر رمضان بنحو مفاد كان التامّة، فلا تثبت القدرة على امتثال الوجوب الثابت بالاستصحاب إلاّ على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع.

هذا كلّه هو الكلام في هذا الحديث دلالةً، وقد ظهر أنّه تامّ الدلالة.

وأمّا سنداً فهو ضعيف بعليّ بن محمد القاساني.

 

طائفتان من الروايات:

بقيت في المقام طائفتان من الروايات:

الطائفة الاُولى: روايات خاصّة في موارد خاصّة أحسنها صحيحة عبدالله بن سنان،


(1) كان يرى(رحمه الله) أنّ الجواب الثاني إنّما يأتي هنا بناءً على ما هو الصحيح من إمكان إثبات مفاد ليس الناقصة باستصحاب العدم النعتي. وأمّا لو فرضنا أنّ ذلك إنّما يثبت باستصحاب العدم الأزلي فمن الواضح أنّ هذا لا يمكن إسراؤه إلى مفاد كان الناقصة كما في المقام.

159

قال: «سأل أبي أبا عبدالله(عليه السلام) وأنا حاضر: إنّي اُعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام): صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه»(1).

فهذا الحديث قد علّل الحكم بوجود الحالة السابقة مع الشكّ اللاحق، فهو يدلّ على الاستصحاب.

وعيبه ما قد يقال بعدم دلالته على الاستصحاب في غير ما يكون من سنخ مورده، فهو يختصّ بدائرة باب الطهارة، ولا يدلّ على كون العلّة مطلق الحالة السابقة والشكّ اللاحق حتّى تثبت بذلك قاعدة كلّيّة.

إلاّ أنّ بالإمكان التعدّي عن هذه الدائرة بارتكازيّة الاستصحاب على الإطلاق، فيقال: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب بدون اختصاصه بباب الطهارة تجعل العرف ينسبق إلى ذهنه من هذا الحديث التعليل بمطلق الحالة السابقة والشكّ اللاحق.

وقد يقال بابتلاء هذا الحديث بالتعارض مع حديث آخر عن عبدالله بن سنان، قال: «سأل أبي أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجرّي ويشرب الخمر، فيردّه، أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: لا يصلّي فيه حتّى يغسله»(2)، وعن خيران الخادم عن أبي عبدالله(عليه السلام) مثله(3).

والحلّ: أنّ النهي حينما يعارض نصّ الترخيص يحمل على الكراهة.

وفي هذا الحديث مكسبان غير موجودين في الأحاديث السابقة، يفيدان فيما يأتي، ولا بأس بالإشارة إليهما هنا:

1 ـ إنّه لم يؤخذ فيه اليقين السابق، وإنّما ذكر نفس الحالة السابقة، فما يذكر مثلاً من الإيراد في موارد استصحاب مؤدّى الأمارة من أنّ الأمارة لم تفد اليقين ـ لو تمّ بالقياس للروايات التي اُخذ فيها اليقين ـ ليس له مورد بلحاظ هذه الصحيحة(4).


(1) الوسائل: ج 2، باب 74 من النجاسات، ح 1، ص 521 بحسب طبعة آل البيت.

(2) نفس المصدر: ح 2.

(3) نفس المصدر: ح 2.

(4) وكذلك لو شكّك بلحاظ صحيحتي زرارة في إجراء الاستصحاب لدى تقدّم الشكّ أو تقارنه لليقين ولم يقبل بالتعدّي إلى ذلك بارتكاز عدم الفرق، لم يرد هذا الإشكال بلحاظ هذه الصحيحة.

160

2 ـ إنّه لم تذكر فيه كلمة النقض، فنستريح من الإشكالات الناجمة عن كلمة النقض ككثير من تقريبات عدم حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي الناشئة من ذكر كلمة النقض، فبغضّ النظر عن حلّها في نفسها نقول: إنّه تكفينا هذه الصحيحة غير المشتملة على كلمة النقض.

نعم، لو قلنا: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب لا تشمل صورة الشكّ في المقتضي ـ كما قال به الحاج أقا رضا الهمداني(رحمه الله) ـ لم يمكن التعدّي من مورد صحيحة عبدالله بن سنان إلى فرض الشكّ في المقتضي، لكنّنا لا نقول بذلك، فنتعدّى ببركة الارتكاز حتّى إلى مورد الشكّ في المقتضي.

وقد تقول: إنّ هذا الارتكاز إن أفادنا في التعدّي فهو يفيدنا ـ أيضاً ـ في الروايات المشتملة على كلمة النقض؛ لأنّ تلك الروايات وإن اختصّت بحسب مدلولها الأوّلي ـ بسبب كلمة النقض حسب الفرض ـ بموارد عدم الشكّ في المقتضي، لكن الارتكاز يوسّع من دائرة الحكم، وتثبت حجّيّة الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي وإن لم يفدنا في التعدّي، إذن لا نستطيع أن نتعدّى حتّى من مورد صحيحة عبدالله بن سنان، فإنها وردت في مورد الطهارة، ولم يكن الشكّ فيها ناشئاً في موردها من الشكّ في المقتضي، فنحن نتعدّى من موردها إلى خصوص الموارد التي لا يكون الشكّ فيها شكّاً في المقتضي. أمّا المورد الذي يكون الشكّ فيه شكاً في المقتضى فلا معنىً للتعدي إليه؛ لأنّنا نحتمل الفرق؛ لأنّ المفروض أنّ الارتكاز العقلائي خاصّ بغير هذا المورد، فليس تعميم الحكم إلى موارد الشكّ في المقتضي مكسباً نكتسبه من هذه الصحيحة.

ولكنّنا كنّا نقصد بالمكسب الذي يكتسب من هذه الصحيحة أنّه لو توهّم أحد ـ رغم الإيمان بعدم اختصاص الارتكاز العقلائي بموارد عدم الشك في المقتضي ـ أنّ كلمة النقض بما أنّها لا تصدق مثلاً إلاّ في موارد عدم الشكّ في المقتضي تكون قرينة على اختصاص مفاد الرواية بغير الشكّ في المقتضي ومانعة عن فهم الإطلاق ببركة الارتكاز، فهذه القرينة المتوهّمة غير موجودة في صحيحة عبدالله بن سنان.

الطائفة الثانية: أخبار أصالة الحلّ والطهارة:

أمّا خبر أصالة الطهارة وهو ما يسمى بموثّقة عمّار، فقد تكلّمنا عن سنده في الفقه،

161

وأثبتنا عدم اعتباره(1)، فلا نعيده هنا.

 


(1) بحث اُستاذنا(رحمه الله) سند هذا الحديث في الفقه أكثر من مرّة، واختار في بعض تلك المرّات عدم تماميّة السند، ولكنّه لم يطبع في كتاب البحوث هذا البحث إلاّ مرّة واحدة، وهي في المجلّد الثاني ص 189 ـ 193، ومال فيها إلى تصحيح السند بعنوان (اللّهم إلاّ أن يقال).

وأصل الإشكال في سند هذا الحديث يكون في أحمد بن يحيى، حيث روى الشيخ في التهذيب: ج 1، الحديث 832 بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمّار، عن أبي عبدالله(عليه السلام). وإن لم ينحلّ إشكال السند في هذا الحديث سقطت هذه الرواية الوحيدة في الدلالة على قاعدة الطهارة، ولم يبقَ مصدر في الفقه لقاعدة الطهارة عدا دعوى تصيّدها من موارد مختلفة، وكذلك يسقط بذلك دليل وجوب غسل الإناء المتنجّس بالماء القليل ثلاث مرّات، فإن مدرك ذلك هي فقرة من فقرات هذا الحديث.

واُستاذنا الشهيد(رحمه الله) صحّح أحمد بن يحيى في المقام بدعوى أنّه لا يوجد في الرجال في هذه الطبقة شخص بهذا الاسم عدا أحمد بن يحيى بن حكيم الأودي، وهو ثقة.

ثمّ استشكل في ذلك بأنّ صاحب جامع أحاديث الشيعة(ج 2، الحديث 1594) ذكر: أنّ في بعض نسخ التهذيب ورد محمد بن يحيى بدلاً عن أحمد بن يحيى، وهو في هذه الطبقة غير ثابت التوثيق.

ثمّ أجاب عن ذلك بعنوان(اللّهم إلاّ أن يقال) بما حاصله الاعتماد على نسخة التهذيب الواصلة إلى الشيخ الحرّ؛ لأنّ له سنداً تامّاً إلى التهذيب، وتلك النسخة ـ حسب نقل الشيخ الحرّ ـ ورد فيها أحمد بن يحيى لا محمد بن يحيى.

أقول: إنّ أصل تصحيحه(رحمه الله) لأحمد بن يحيى بحصره في أحمد بن يحيى بن حكيم الأودي غير صحيح حتّى على تقدير ثبوت هذا الحصر بمقدار ما وصلنا من الأسماء في كتب الرجال؛ وذلك لأنّه رغم ما قيل من أنّ له كتاب دلائل النبيّ يرويه عنه جعفر بن محمد بن مالك الفزاري لم ترد ـ حسب الظاهر ـ في الكتب الأربعة ولا رواية واحدة عنه، فلم يثبت كونه رجلاً معروفاً بحيث ينصرف الاسم في هذه الطبقة إليه، فنبقى نحتمل أنّ أحمد بن يحيى في سند هذا الحديث إنسان مجهول لم يرد في كتب الرجال.

والصحيح: توثيق سند الحديث بجمع القرائن على زيادة هذه الكلمة في هذا المقام، وأنّ محمد بن أحمد بن يحيى روى رأساً هذا الحديث عن أحمد بن الحسن، وتلك القرائن ما يلي:

1 ـ عدم وجود هذا الوسيط بين محمد بن أحمد بن يحيى وأحمد بن الحسن في قطعات من هذا الحديث في سائر الموارد غير المورد الذي نقلناه عن التهذيب. راجع الاستبصار: ج 1، ح 64، والكافي: ج 3، ب 6 من كتاب الطهارة، ح 5، ص 9 ـ 10، والتهذيب: ج 1، ح 642 و 660 و 665.

وهذه القرينة يمكن تضعيفها بإبداء احتمال أن تكون تلك القطعات التي وردت من دون هذا الوسيط مأخوذة من مصدر آخر غير المصدر الذي أخذ منه الشيخ الحديث 832 من المجلّد الأوّل من التهذيب. ونستشهد لهذا الاحتمال لا بما أورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث، بل بأنّ الشيخ(رحمه الله)بدأ السند في الحديث 832 من الجزء الأوّل بمحمد بن أحمد بن يحيى ممّا يدلّ على أنّه أخذه من كتاب محمد بن أحمد بن يحيى، في حين أنّه لم يبدأ نقل تلك القطعات بهذا الاسم، فلعلّه أخذه من مأخذ آخر، مضافاً إلى أنّنا نرى أنّ الشيخ(رحمه الله) روى الحديث بطوله في المجلّد الأوّل، ح 832، ولم يقتصر على المقطع الذي كان مورد كلامه ممّا يشهد على أنّه كان هناك بصدد استيعاب مقاطع

162

وأمّا خبر أصالة الحلّ فأحد متونه ـ على ما أذكر من بحث البراءة ـ معتبر سنداً، وهنا لا نتكلّم ـ أيضاً ـ عن سنده، وإنّما نتكلّم عن الدلالة فنقول:

 


هذا الحديث، في حين أنّنا نرى أنّه روى في التهذيب في مكان آخر مقطعاً من هذا الحديث غير موجود في ذاك النصّ المفصّل، وصرّح بأنّ هذا المقطع مأخوذ من حديث طويل. راجع التهذيب: ج 1، ح 712.

ولكن ـ على أيّ حال ـ لا يكون هذا التضعيف مسقطاً لهذه القرينة نهائياً، بل تبقى له قرينية ناقصة بلا إشكال.

2 ـ عدم معهوديّة وجود وسيط بين محمد بن أحمد بن يحيى وأحمد بن الحسن بن عليّ في جميع رواياته إطلاقاً ـ كما يبدو ـ عدا هذا المورد، وعدم معهوديّة كون شخص باسم أحمد بن يحيى شيخاً لمحمد بن أحمد بن يحيى في غير هذا المورد. نعم، وجد في مشايخه من يكون باسم محمد بن يحيى وهو محمد بن يحيى المعاذي.

3 ـ اختلاف نسخ التهذيب في المورد الذي وقع فيه هذا الوسيط، فهو ليس موجوداً في كلّ نسخ التهذيب، والدليل على ذلك أنّ الشيخ الحرّ ذكر قطعة من الحديث نقلاً عن التهذيب في الباب 53 من أبواب النجاسات، ح 1، وذكر فيه الوسيط وهو أحمد بن يحيى، وورد في طبعة آل البيت ج 3، ص 497 في الهامش نقلاً عن خطّ المصنّف أنّه كَتَب بين قوسين على كلمة أحمد بن يحيى(عن نسخة).

4 ـ إنّ الشيخ الحرّ(رحمه الله) في غير القطعة التي نقلناها عن الباب 53 من النجاسات، الحديث الأوّل إنّما نقل عن النسخة الخالية عن اسم هذا الوسيط، ولم ينقل إطلاقاً عن النسخة الاُخرى إلاّ في مورد واحد، وهو ما عرفت مشيراً إلى أنّ هذه نسخة من النسخ. راجع الوسائل: ج 1، ب 4 من الأسئآر، ح 4، و ب 10 من الأسئآر، ح 1، و ج 2، ب 8 من النجاسات، ح 6، و ب 9 من النجاسات، ح 15، و ب 36 من النجاسات، ح 2، و ب 37 من النجاسات، ح 4، و ب 82 من النجاسات، ح 2.

5 ـ نقل السيّد الخوئي(رحمه الله) في الجزء الثاني من معجم الرجال في ترجمة أحمد بن يحيى ص 1008 بحسب الطبعة الثالثة: أنّ صاحب الوافي ذكر هذا الحديث نقلاً عن التهذيب في موارد متعدّدة وفي جميع ذلك روى محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بلا واسطة.

6 ـ إنّنا لم نَرَ في غير هذا المورد شخصاً باسم أحمد بن يحيى، ولا باسم محمد بن يحيى يروي عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال.

نعم، ذكر السيّد الخوئي(رحمه الله) في تفصيل طبقات الرواة الملحق بمعجم الرجال: ج 2، ص 431: (وروى عنه ـ يعني عن أحمد بن الحسن ـ محمد بن يحيى، التهذيب: ج 9، ح 350) وهذا الكلام من السيّد الخوئي خطأ طريف؛ وذلك لأنّ هذا الحديث الذي أشار إليه نقلاً عن التهذيب قد ورد في التهذيب بعد حديث روى سنده بهذا الشكل: (محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عليّ بن النعمان...) ومحمد بن يحيى الموجود في هذا السند لا شكّ في أنّه هو محمد بن يحيى العطّار؛ فإنّه هو الذي ينقل الشيخ في التهذيب عن كتابه، وهو الذي يروي عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، وهذا الحديث رقمه في التهذيب: ج 9 عبارة عن 349، ثم يذكر الحديث رقم 350، ويبدأ بذكر سنده بهذا الشكل: (عنه عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد...) فتخيّل السيّد الخوئي(رحمه الله) أنّ الضمير في (عنه) يرجع إلى محمد بن يحيى، في حين أنّه يرجع إلى محمد بن الحسين؛ لما عرفت من أنّ محمد بن يحيى الوارد في سند الحديث السابق هو العطّار الذي هو شيخ الكليني، ولا يحتمل روايته عن أحمد بن الحسن بلا واسطة، وهو دائماً يروي عن أحمد بن الحسن بواسطة واحدة.

163

إنّ في هاتين الروايتين اتّجاهات ثلاثة:

الاتّجاه الأوّل: أنّه يستفاد منهما اُمور ثلاثة: الحكم الواقعي من الطهارة والحلّيّة، وأصالة الطهارة أو الحلّ، والاستصحاب.

وهذا ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل(1).

الاتّجاه الثاني: أنّه يستفاد منهما أمران على اختلاف في تعيين الأمرين، فاختار المحقق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية أنّه يستفاد الحكم الواقعي مع الاستصحاب(2). ونسب الشيخ الأعظم(قدس سره) إلى صاحب الفصول(3) القول باستفادة الأصل مع الاستصحاب.

الاتّجاه الثالث: أنّه يستفاد منهما أمر واحد على اختلاف في هذا الأمر، فقد يقال: إنّه هو الاستصحاب. وهذا ما مال إليه الشيخ الأعظم(قدس سره)(4) في حديث: (الماء كلّه طاهر) لا في حديث: (كلّ شيء نظيف أو حلال)، وقد يقال: إنّه هو أصالة الطهارة والحلّ، وهو المشهور، وفي خصوص حديث الطهارة قول ينسب إلى صاحب الحدائق(رحمه الله) وهو الحمل على الطهارة الواقعيّة.

 

الاتّجاه الأوّل:

أمّا الاتّجاه الأوّل، فقد ذهب إليه ـ كما عرفت ـ المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الفرائد، فذكر: أنّه يستفاد من صدر الحديث وهو قوله: «كلّ شيء نظيف أو كلّ شيء حلال» الطهارة الواقعيّة والحلّيّة الواقعيّة مع أصالة الطهارة والحلّيّة، ومن ذيله وهو قوله: «حتى تعلم ...» الاستصحاب، فيقع الكلام في مقامين:

أحدهما: في استفادة الحكم الواقعي مع الأصل من الصدر.

والثاني: في استفادة الاستصحاب من الذيل.

أمّا المقام الأوّل، فقد استدلّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) على استفادة الحكم الواقعي مع الأصل


(1) راجع التعليقة: ص 185 ـ 188، بحسب طبعة مكتبة بصيرتي.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 298 ـ 301 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(3) نسب ذلك إلى بعض معاصريه. راجع الرسائل: ص 335، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله، فطبّق ذلك المعاصر على صاحب الفصول ولو بقرينة ورود هذا الرأي في الفصول، وقد استظهر الشيخ الإصفهاني من كلام صاحب الفصول القول بدلالة الحديث على الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب. راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 92 بحسب طبعة آل البيت.

(4) راجع نفس المصدر: ص 336.

164

من صدر الحديث بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ لقوله: «كلّ شيء نظيف أو طاهر» عموماً أفرادياً تستفاد منه أحكام واقعيّة للأفراد، وإطلاقاً أحوالياً تستفاد منه أحكام واقعيّة للأحوال، كحالة كون الشيء حارّاً أو بارداً وغير ذلك، فيدلّ على طهارة الشيء أو حلّيّته في كلّ هذه الأحوال. وهذا الإطلاق الأحوالي يشمل حالة الشكّ أيضاً، فيثبت الحكم في حال الشكّ، وهذا ـ لا محالة ـ يكون حكماً ظاهرياً.

الوجه الثاني: ما قصد به الاستغناء عن الإطلاق الأحوالي، والاكتفاء بالعموم الأفرادي، فذكر: أنّ عمومه الأفرادي شامل لفرد ملازم للشكّ في نجاسته دائماً كالكبريت مثلاً، وهذا طهارته ظاهرية حتماً بلا حاجة إلى إطلاق أحوالي يشمل حال الشكّ؛ لأنّ هذا مشكوك في كلّ حال، ونتعدّى إلى حالة الشكّ في شيء لا يكون ملازماً للشكّ بعدم الفصل.

أقول: أمّا الوجه الثاني فواضح البطلان؛ فإنّ الكبريت مثلاً إنّما صار فرداً للعامّ بما هو كبريت بغضّ النظر عن كونه مشكوك الطهارة، ومجرّد الملازمة للشكّ لا يجعل الحكم ظاهرياً، وإنّما الحكم الظاهري ما اُخذ في موضوعه الشكّ، وهذا لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، وإنّما هو أمارة على الطهارة موضوعها نفس الشيء، ورافعةٌ للشكّ.

وأمّا الوجه الأوّل فقد أورد المتأخرون عنه عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما ذكره جملة من المحقّقين كالمحقّق النائيني(1) والمحقّق العراقي(2) والمحقّق الإصفهاني(3)(قدس سرهم) من أنّ الإطلاق هو رفض القيود لاجمعها، فشمول الإطلاق الأحوالي لحالة الشكّ ليس معناه أخذ الشكّ موضوعاً حتّى يكون حكماً ظاهرياً، وإنّما معناه: أنّه لم يؤخذ في الموضوع عدم الشكّ، وأنّ الطهارة هنا طهارة ثابتة بغضّ النظر عن الشكّ وعدمه، وهذه الطهارة لا تكون إلاّ طهارة واقعية.

أقول: إنّ هذا الإشكال وارد على كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) بالمقدار المبيّن في عبارته(قدس سره)، ولكن يمكن أن يقرّب مدّعى المحقّق الخراساني(رحمه الله) بتقريب آخر لكي لا يرد عليه هذا الإشكال.

بيانه: أنّه تارةً نتكلّم في الشكّ بنحو الشبهة الموضوعية، كالشكّ في خمرية مائع بعد العلم


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 374.

(2) لم أجد ذلك في كلمات المحقّق العراقي(رحمه الله).

(3) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 94 بحسب طبعة آل البيت.

165

بنجاسة الخمر، واُخرى نتكلّم في الشكّ بنحو الشبهة الحكمية كالشكّ في نجاسة الكبريت مثلاً.

أمّا الشكّ بنحو الشبهة الموضوعية، فحيث إنّ المفروض فيه ورود مخصّص على العامّ القائل بأنّ (كلّ شيء نظيف) وهو دليل نجاسة الخمر، فموضوع الطهارة ليس خصوص العنوان المأخوذ في العامّ، بل هو مركّب من عنوان العامّ وعنوان آخر؛ لكي لا ينطبق على ما خرج بالتخصيص، ولا بدّ من الاقتصار في القيد الذي يزاد على عنوان العامّ على قيد يُخرج من العامّ أقلّ مقدار ممكن في مقام رفع التنافي بين العام والخاصّ، ففي المقام لا يقيّد موضوع العامّ بعدم كونه خمراً مثلاً؛ لأنّه يمكن تقييده بشيء آخر أقلّ تخصيصاً، ويرتفع به التعارض، وذلك بأن يقيّد بعدم كونه خمراً معلوم الخمرية، فيبقى تحته الخمر المشكوك، ويحمل الحكم في المشكوك على الحكم الظاهري جمعاً بين دليل الطهارة ودليل نجاسة الخمر، ويرتفع التعارض بين العامّ والخاصّ إيماناً منّا بعدم التعارض بين الحكم الواقعي والظاهري.

وأمّا الشكّ بنحو الشبهة الحكمية فندّعي أنّ عنوان العامّ لم يقيّد بما مضى من عدم كونه خمراً معلوم الخمرية فحسب، بل نضيف شيئاً آخر إلى ذلك بأن نقول: إنّه قيّد بعدم كونه خمراً معلوم الخمرية ومع العلم بنجاسة الخمر؛ وذلك لأنّ هذا العنوان أقلّ تخصيصاً للعام؛ لأنّه يبقى تحت العام ما هو مشكوك النجاسة، فيحكم بطهارة مشكوك النجاسة طهارة ظاهرية، وترتفع المنافاة بين العام والخاصّ الدالّ على النجاسة الواقعية.

وإن شئت فبدلاً عن أن تقول: إنّ موضوع الحكم بالطهارة قيّد بأن لا يكون خمراً معلوم الخمرية ومع العلم بنجاسة الخمر، اذكر العلم بالنتيجة، بأن تقول: إنّ موضوع الحكم بالطهارة قيّد بأن لا يكون خمراً معلوم النجاسة، وإنّما نحن اخترنا الطريقة الاُولى لتوضيح الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية في المقام، وإلاّ فالأولى هو التعبير الثاني حتّى يخرج ـ أيضاً ـ من العموم الخمر الواقعي الذي لم يلتفت المكلف إلى احتمال كونه خمراً، بل جزم مثلاً بعدم كونه خمراً، لكنّه علم بالنجاسة من ناحية اُخرى بأن تخيّل كونه بولاً مثلاً، أو تخيّل كون المائع الفلاني نجساً.

والفرق بين تقريبنا وتقريب المحقّق الخراساني(رحمه الله) هو أنّ المحقّق الخراساني أراد أن يستفيد أخذ القيد الزائد على عنوان العام من الإطلاق، فاصطدم بإشكال: أنّ الإطلاق إنّما يقتضي رفض القيود لا أخذ القيود، ونحن نستفيد القيد من المخصّص.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا التقريب ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ وذلك لأنّ العام حيث إنّه لم

166

يؤخذ في لسانه عنوان الشكّ يكون ظاهراً في كون الحكم الذي يبيّنه واقعياً، وليس ظهوره في الواقعية في طول إطلاقه لفرض العلم، حتّى يكون المخصّص الذي يقوى على هذا الإطلاق ويقدّم عليه مقدّماً على ذاك الظهور أيضاً؛ لكونه متولّداً من الإطلاق، فلا يكون أحسن حالاً من الإطلاق، وإنّما هو في عرض إطلاقه لفرض العلم، أي: أنّ عدم أخذ قيد الشكّ في موضوعه في لسان العام يولّد في عرض واحد ظهورين:

أحدهما: ظهور إطلاقي في شموله لفرض العلم.

وثانيهما: الظهور في الواقعية، وعليه فلا يكفي لرفع المنافاة بين العامّ والخاصّ إخراج خصوص النجس المعلوم النجاسة؛ إذ يبقى ـ عندئذ ـ المشكوك داخلاً في العام، وقد دلّ العام على كونه طاهراً بالطهارة الواقعية، والخاصّ على كونه نجساً واقعاً، وهما متنافيان، فلا بدّ من إخراج الخمر عن تحت العام بقول مطلق، أي: بلا تقييد بالعلم، وهذا ما يصنعه المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الفقه في سائر الموارد، وكذا سائر الفقهاء، فحينما يرد عام يدّل على وجوب إكرام العالم مثلاً، ويرد مخصّص يخرج الفسّاق لا يقول أحد: إنّنا نستفيد من هذا وجوب الإكرام ظاهراً لعالم مشكوك الفسق.

الإيراد الثاني: ما نقله المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) من كتاب الدرر للحاج الشيخ عبدالكريم اليزدي(قدس سره)(1) من أنّ جعل الطهارة الظهارية في قوله: «كلّ شيء طاهر» لغو؛ إذ لو كان كلّ شيء من الأشياء طاهراً بالطهارة الواقعية، ولم يبقَ مورد للشكّ في الطهارة والنجاسة، فأيّ فائدة لجعل الطهارة الظاهرية؟!

أقول: إنّ هذا الإيراد غير وارد، لا على التقريب الذي نحن ذكرناه، ولا على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله).

أمّا على التقريب الذي نحن ذكرناه فقد استفدنا الطهارة الظاهرية في المرتبة المتأخّرة عن التخصيص، وفي طوله، ومن المعلوم أنّه في هذه المرتبة قد قسّمت الأشياء إلى قسمين: طاهر


(1) ورد في نهاية الدراية: ج 5، ص 96 بحسب طبعة آل البيت، ذكر هذا الإشكال بلحاظ الشبهة الحكمية، ولم يذكر صاحب الإشكال، ولكن عبارة الدرر تنسجم مع فرض عدم التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية، حيث قال: (هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت إلى المكلّف يرتفع شكّه من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الأشياء بعناوينها الأوّليّة، فلا يبقى له شكّ حتّى يحتاج إلى العمل بالحكم الوارد على الشكّ. اللّهم إلاّ أن تحمل القضيّة على الإخبار والحكاية عن الواقع). راجع الدرر: ص 531 ـ 532 بحسب الطبعة الخامسة. وكأنّ السبب في تخصيص الإشكال في عبارة نهاية الدراية بالشبهة الحكمية وضوح أن دليل طهارة كلّ شيء بعد علمنا بخروج بعض الامور عنه ولو تخصيصاً لا يمكن أن يرفع الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة.

167

ونجس، فقد يتّفق الشكّ(1) ولا يكون جعل الطهارة الظاهرية لغواً.

وأمّا على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من استفادة الطهارة الظاهرية من إطلاق (كلّ شيء طاهر) ابتداءً، فأيضاً لا يرد عليه هذا الإشكال؛ وذلك:

أمّا أوّلاً؛ فلأنّه ليس جعل الطهارة الواقعية منافياً للطهارة الظاهرية حتى تلغو الطهارة الظاهرية عند جعل الطهارة الواقعية، وإنّما الذي ينافيها هو وصول ذلك الجعل، وهذا العام إنّما دلّ على الجعل، والجعل لا يستلزم الوصول، فقد لا يصل بسبب ابتلاء هذا العام بالمعارض مثلاً، فتصل ـ عندئذ ـ الطهارة الظاهرية، ولا يلزم اللغوية.

وأمّا ثانياً؛ فلأنّه لو سلّمنا كون جعل الطهارة الواقعية منافياً للطهارة الظاهرية، قلنا: هل المقصود كون هذه المنافاة مانعاً ثبوتياً عن حمل الحديث على المعنى الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)، أو المقصود كونها مانعاً إثباتياً عنه؟

فإن قصد الأوّل فجوابه: أنّ الله تعالى يعلم أنّ دلالة الحديث على الطهارة الواقعية في جميع الموارد غير مقصودة، وأنّه في جملة من الموارد كالخمر الواقعي المشكوك الخمرية لم يجعل الطهارة الواقعية، فلا مانع من جعل الطهارة الظاهرية.

وإن قصد الثاني بأن يقال: إنّه وإن كانت الطهارة الواقعية غير مقصودة واقعاً في بعض الموارد، لكن حيث إنّها تنافي الطهارة الظاهرية، فالدليل الذي يدلّ على الاُولى لا يدلّ على الثانية، وإلاّ لزمت دلالته على أمرين متنافيين، فجوابه: أنّ الارتكاز المتشرّعي الذي هو كالقرينة المتّصلة دلّ على عدم إرادة العموم الكامل في الطهارة الواقعية، بل قوله في ذيل الحديث: «حتّى تعلم أنّه قذر» أيضاً قرينة على ذلك، فيرتفع التنافي الإثباتي أيضاً(2).

 


(1) إن كانت الشبهة حكمية لم يرد هذا الإشكال؛ لأنّ إطلاق قوله: «كلّ شيء طاهر» يرفع الشكّ، وإنّما يرد هذا الإشكال بلحاظ الشبهة الموضوعية. أمّا في الشبهة الحكمية فالأولى في مقام الجواب على هذا الإشكال الاقتصار على الوجهين الأتيين، أو الوجه الأوّل منهما.

(2) ما أفاده اُستاذنا(رحمه الله) في المقام صحيح، ولكن عبارة الدرر واضحة في أنّه لا يقصد دعوى التنافي بين الطهارة الواقعية والظاهرية، وجعل هذا التنافي مانعاً ثبوتياً أو إثباتياً في المقام، وإنّما يكون كلامه ناظراً إلى منافاة وصول الحكم الواقعي للحكم الظاهري، ودعوى: أنّ دليل الحكمين بعد أن كان واحداً وهو رواية: (كلّ شيء نظيف)، فهذا الدليل إن لم يصل لم تصل الطهارة الظاهرية، وإن وصل وصلت الطهارة الواقعية، فلا يبقى مورد للطهارة الظاهرية. فالمهمّ إذن بلحاظ مقصود الشيخ الحائري هو الجواب الأوّل. وأقترح تطوير بيانه بالشكل التالي:

لو فرضنا أنّ وحدة الدليل على الطهارتين أوجبت التلازم بين وصولهما نفياً وإثباتاً؛ لأنّ هذا الدليل الواحد إمّا

168

الإيراد الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي، فكيف يمكن الجمع بينهما(1)؟!

وهذا الجواب أو روحه يمكن أن يقرّب بتقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: ما هو الظاهر المستفاد من عبارة التقرير(2)، وهو أنّ الحكم الظاهري متأخّر رتبة عن الحكم الواقعي؛ لكونه في طول الشكّ الذي هو في طول الحكم الواقعي، فلو اتّحدا في الجعل لزم كون المتقدّم متأخّراً أو المتأخّر متقدّماً، وهو محال.

وذكر السيّد الاُستاذ: أنّ هذا إنّما يتمّ بناءً على كون الإنشاءات موجدات للمعنى، وأمّا بناءً على كونها مبرزات عن اعتبارات نفسيّة، فيمكن فرض تحقّق اعتبارين نفسيّين طوليّين، ثمّ الكشف عنهما بمبرز واحد(3).

أقول: إنّ هذا التفصيل لا محصّل له؛ فإنّنا إن جعلنا قوله: «كلّ شيء نظيف» إخباراً عن الطهارة، ارتفع هذا الإشكال بلا فرق بين أن يفرض الإنشاء إيجاداً للمعنى أو إبرازاً للاعتبار النفساني. وإن جعلناه إنشاءً كما هو مفروض الكلام عندهم، فكما يقال بناءً على كون


يصل أو لا يصل، فهذا إنّما يوجب التلازم في الوصول بين الجعلين دون المجعولين؛ لأنّ فعلية المجعول تابعة لفعلية الموضوع، وقد اختلف موضوع أحد الجعلين عن الآخر حسب الفرض؛ إذ اُخذ في موضوع الطهارة الظاهرية الشكّ في الطهارة الواقعية، وعلمنا بنجاسة الأعيان النجسة جعلنا قد نشكّ في الطهارة نتيجة شكّنا في الموضوع، وبهذا يصلنا موضوع الطهارة الظاهرية في حين أنّه لم يصلنا موضوع الطهارة الواقعية؛ لأنّنا عرفنا بسبب اطّلاعنا على نجاسة النجاسات أنّه ليس ما ورد في هذا الحديث وهو عنوان (شيء) تمام الموضوع للطهارة الواقعية، بل لموضوعها قيد آخر شككنا في وجوده، وبهذا انفصل أحد المجعولين عن الآخر في الوصول، على أنّنا ننكر التلازم بين الجعلين ـ أيضاً ـ في الوصول، فبالإمكان وصول الطهارة الظاهرية وعدم وصول الطهارة الواقعية بنحو الشبهة الحكمية؛ لأنّ النصّ على الطهارتين وإن كان واحداً وهو رواية: (كلّ شيء نظيف)، ولكن من الممكن أن يبتلي النصّ بلحاظ الطهارة الواقعية بمعارض لم يكن أقوى منه بالأخصيّة، كما لو كان المعارض الخاصّ مبتلىً بمعارض مساو له، وقلنا في مثل ذلك بتساقط الخاصّين مع العام، فعندئذ تكون الطهارة الواقعية غير واصلة لنا، ويحصل لنا الشكّ فيها، وبهذا يتمّ عندنا موضوع الطهارة الظاهرية.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 374 ـ 375، والفوائد: ج 4، ص 367 ـ 368 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) عبارة أجود التقريرات مشتملة على إشكالين: أحدهما يمكن تطبيقه على التقريب الثالث، وهو الوارد في ص 374، والثاني هو التقريب الأوّل، وهو الوارد في ص 375. وعبارة الفوائد متأرجحة، فصدرها ظاهر في التقريب الثاني، وذيلها ظاهر في التقريب الأوّل، فراجع.

(3) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 71.

169

الإنشاء إيجاداً للمعنى: إنّ هذا إيجاد واحد، فكيف ينحلّ إلى إيجادين طوليّين؟! كذلك يقال بناءً على كون الإنشاء إبرازاً للاعتبار: إنّ هذا إبراز لاعتبار واحد؛ لأنّ إبرازه لاعتبارين يكون على حدّ استعمال اللفظ في معنيين، فيقال هنا أيضاً: كيف ينحلّ الاعتبار الواحد إلى اعتبارين طوليّين؟!

والتحقيق: أنّ الإشكال بهذا التقريب الأوّل غير وارد على كلام المحقّق الخراساني سواء اُريد الإشكال بلحاظ مرحلة الجعل أو اُريد الاشكال بلحاظ مرحلة المجعول.

فإن اُريد الأوّل أجبنا عنه:

أوّلاً: بأنّ جعل الحكم الظاهري ليس في طول واقع جعل الحكم الواقعي حتّى يستحيل اتّحادهما خارجاً وجمعهما في جعل واحد، وإنّما هو في طول عنوان الحكم الواقعي. وتوضيح ذلك: أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن عنوان الشكّ تأخر كلّ جعل في نفس المولى عن عنوان موضوعه في نفسه، لا عن واقع الموضوع خارجاً؛ إذ الجعل لا يتوقّف على الوجود الخارجي للموضوع، وعنوان الشكّ يكون باعتباره في المقام مضافاً إلى الحكم الواقعي متأخّراً عن عنوان الحكم الواقعي، فصار الحكم الظاهري متأخّراً عن عنوان الحكم الواقعي، لا عن واقعه، فلا بأس باتّحادهما جعلاً.

وثانياً: بأنّنا لو سلّمنا كون الجعل الظاهري في طول الجعل الواقعي، فهذا لا ينافي اتّحادهما خارجاً، كما أنّ الكلّ في طول الجزء مع أنّهما متّحدان خارجاً، وتعدّد الرتبة إنّما يستحيل اجتماعه مع الوحدة الخارجية إن كان تعدّداً بملاك التأثير، فالمؤثّر والأثر يستحيل اتّحادهما خارجاً، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

وإن اُريد الثاني أجبنا عنه:

أوّلاً: بأنّ فعلية المجعول الظاهري ليست في طول واقع المجعول الواقعي، بل في طول عنوانه؛ لأنّه وإن كان متأخّراً عن وجود الشكّ خارجاً تأخُّرَ فعلية كلّ حكم عن وجود موضوعه خارجاً، لكنّ الشكّ ليس متأخّراً عن المجعول الواقعي خارجاً، بل قد يشكّ في الحكم الواقعي مع أنّه في الواقع لا يوجد ذلك الحكم، وإنّما هو متأخّر عن عنوانه.

وثانياً: بما عرفته من الجواب الثاني عن الإشكال في مرحلة الجعل من أنّ تعدّد الرتبة في المقام لا ينافي الاتّحاد الخارجي.

وثالثاً: بأنّ الذي يلزم في المقام من شمول الحديث للحكم الواقعي والظاهري معاً إنّما هو وحدة الجعل خارجاً، لا وحدة المجعول خارجاً، ووحدة المجعول وتعدّده خارجاً إنّما يتبع