511

الثانية الى ﴿قل هو اللّه أحد﴾ فتفسير كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)بهذا الوجه ثم الإيراد عليه في غير محلّه.

الاحتمال الثاني: أنّ شدّة مناسبة الحكم والموضوع في المقام أوجبت انصراف المطلق في نظر الراوي الى المقيّد، فذكر القيد؛ لكونه بصدد النقل بالمعنى دون النقل باللفظ.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يناسب المقام؛ لأنّه يأتي نفس هذا الاحتمال بشأن الراوي الآخر الذي ترك كلمة (على مؤمن) فنقول: لعلّه كان المطلق في نظره منصرفاً الى المقيّد، فاستغنى بذلك عن ذكر القيد.

الاحتمال الثالث: أنّ مناسبة الحكم والموضوع تكون بنحو لو كان الراوي هو المشرّع لشرّع القانون مع هذه الزيادة، واُنس ذهنه بذلك الى هذه الدرجة أوجب اشتبهاهه وتخيّله أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) شرّع القانون مع هذه الزيادة فذكرها.

فإن كان مقصود المحقّق النائيني (قدس سره) هو هذا، فهذا احتمال متين، وبإضافته الى المقرّبات السابقة يقرّب احتمال الزيادة بحيث يمنع عن جريان أصالة عدم الزيادة، وتقديمها على أصالة عدم النقيصة بناءً على أنّ العبرة في ذلك بالظن الشخصي(1)، وملاحظة مجموع الجهات والقرائن.

هذا تمام الكلام بلحاظ أخبار قصة سمرة.

وأمّا الكلام بلحاظ أقضية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ففي رواية عبادة بن صامت ورد قضاء مستقلّ عنه (صلى الله عليه وآله): بأنّه «لا ضرر ولا ضرار»، ولكن بحسب ما هو مذكور في طرقنا في روايتي عقبة بن خالد يكون (لا ضرر) ذيلاً لحديث الشفعة وحديث النهي عن منع فضل الماء كما مضى.

والحقّ أنّه ليس هناك فرق حاسم بين فرضه كلاماً مستقلاً وفرضه ذيلاً لأحد الحديثين، فإنّه على أي حال تستفاد منه ـ على ما يأتي تحقيقه إن شاء اللّه ـ قاعدة مشرّعة لأحكام في موارد الضرر بحسب ما يناسب تلك الموارد من حكم تكليفي، أو حكم وضعيّ مورِث للحقّ أو الملك أو غير ذلك، وهذا هو أحد الاتجاهين الأساسيّين في تفسير قاعدة (نفي الضرر)، والاتجاه الآخر هو ما ذهب إليه البعض


(1) لعلّ المقصود بالظنّ الشخصي تأثير شخص المورد في الحساب، وإلّا فالظنّ نوعيّ في المقام؛ لأنّ القرائن التي ذكرت كلّها تؤثّر في نوع من يلتفت إليها.

512

كشيخ الشريعة الاصفهاني (رحمه الله) من كون مفادها الحرمة التكليفيّة للإضرار، كحرمة الكذب وشرب الخمر ونحو ذلك.

ونحن وإن كنّا نتبنّى الاتجاه الأوّل حتّى على تقدير كونه كلاماً مستقلاً كما سيأتي شرحه ـ إن شاء اللّه ـ إلّا أنّه لا شكّ أنّ فرض كونه ذيلاً لحكم الشفعة، أو منع فضل الماء يعزّز الى درجة كبيرة ما نستفيده من الحديث؛ لأنّه تطبيق من قبل المعصوم (عليه السلام) لقاعدة (لا ضرر) على موردين من هذا القبيل؛ لبيان تشريع الحكم المناسب فيهما.

وبما أنّ شيخ الشريعة (رحمه الله) كان يتبنّى الاتجاه الآخر كان عليه نفي كون هذه القاعدة ذيلاً لذينك الحديثين، فبذل عناية فائقة لإثبات عدم كونها ذيلاً لهما، وأنّ الجمع بين حديث الشفعة وحديث لا ضرر، أو بين حديث النهي عن منع فضل الماء وحديث لا ضرر إنّما هو جمع في الرواية لا في المرويّ، أي: أنّه لم يكن المرويّان مجتمعين حين صدورهما، وإنّما الراوي جمع بين الروايتين في كلام واحد.

وقبل الشروع في بيان كلام شيخ الشريعة (رحمه الله) نذكر مطلباً: وهو أنّ كلمة (قال) التي صدّر بها حديث (لا ضرر) في روايتي عقبة بن خالد:ـ إحداهما عن الصادق (عليه السلام)قال: قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار وقال: إذا أرّفت الارف وحدّت الحدود فلا شفعة. والاُخرى عن الصادق (عليه السلام)ـ أيضاً ـ قال: قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار ـ يوجد فيها احتمالان:

الأوّل: كون كلمة (قال) للراوي، أي: أنّة قال الصادق (عليه السلام) «لا ضرر ولا ضرار» عطفاً على قوله: قال: «قضى رسول اللّه» (صلى الله عليه وآله).

والثاني: كونها للإمام (عليه السلام) أي: أنّه قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) «لا ضرر ولا ضرار».

فعلى الاحتمال الأوّل يكون هذا جمعاً في الرواية، أي: أنّه جمع بين رواية عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ورواية عن الصادق (عليه السلام)، إلّا أنّ ظاهر ذلك هو: أنّ الصادق (عليه السلام) حينما نقل قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ذكر عقيب ذلك أنّه «لا ضرر ولا ضرار»، وهذا ظاهر في أنّه(عليه السلام)بصدد تعليل قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بذلك، فينتج ذلك نتيجة الذيليّة، وفي صالح ما نقول به، لا في صالح ما يقوله شيخ الشريعة (قدس سره). إلّا أنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر، فإنّ مقتضى وحدة السياق هو: أنّ الناقل حينما شرع في نقل كلام شخص فما لم ينصب قرينة على انتهاء النقل يكون باقي الكلام جزءاً للمنقول عنه، وهنا لم

513

ينصب قرينة على انتهاء النقل، فظاهر ذلك كون كلمة (قال) للإمام (عليه السلام)، وكون مقول القول كلاماً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لا له (عليه السلام). وهذا هو الاحتمال الثاني.

وعلى هذا الاحتمال الثاني يوجد احتمالان:

الأوّل: فرض كون ذلك جمعاً في الرواية من قبل الإمام الصادق (عليه السلام)أي: أنّه جمع بين روايتين مستقلّتين عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا الاحتمال ـ أيضاً ـ في صالحنا لا في صالح شيخ الشريعة (رحمه الله)، فإنّ ظاهر هذا الجمع هو: أنّ نفي الضرر علّة لقضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فجمع الصادق (عليه السلام) بينهما في النقل.

والثاني: فرض كون ذلك جمعاً في المروي أي: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي جمع بين قضائه وذِكرِهِ لنفي الضرر، وهذا ـ أيضاً ـ ظاهر في التعليل كما هو واضح.

والظاهر من الاحتمالين هو: هذا الاحتمال لا الاحتمال الأوّل؛ لأنّ مقتضى أصالة التطابق بين عالمي الثبوت والإثبات وبين الشاهد والمشهد هو: دلالة وحدة الشاهد على وحدة المشهد، وكاشفيّة جمع الإمام (عليه السلام)عند النقل عن النبي (صلى الله عليه وآله)على الجمع من قِبَل النبي (صلى الله عليه وآله).

فتحصّل: أنّ هذه الاحتمالات كلّها تكون في صالحنا، وعلى شيخ الشريعة (قدس سره)أن يثبت خلافها، ويبيّن كون الجمع بين قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). وحديث نفي الضرر يكون من قبيل الجمع بين المتشتّتات، وقد بذل عناية فائقة في مقام إثبات ذلك بدعوى وقوع المعارضة بين رواية عبادة بن صامت ورواية عقبة في كون نفي الضرر ذيلاً أو قضاءً مستقلاًّ وتقدّم ظهور رواية عبادة على ظهور رواية عقبة. وكلامه (قدس سره) في هذا المقام في غاية التشويش، ونقل المحقّق النائيني (رحمه الله) كلامه ـ أيضاً ـ مشوّشاً مع إضافة بعض النكات عليه، ونحن ننقل ذلك مع التفريق بين كلام شيخ الشريعة، والنكات التي ذكرها المحقّق النائيني (رحمه الله)، إلّا أنّنا نذكر كلام شيخ الشريعة (قدس سره) مع تطويره وترتيبه، فقد لا يطابق مطابقة تامّة مع كلامه (رحمه الله) فنقول: إنّه قد يستفاد من كلامه (قدس سره) لإثبات مرامه مقدّمات ثلاث:

المقدّمة الاُولى: أنّ عبادة بن صامت رجل ثقة متقن في نقله.

المقدّمة الثانية: أنّ عقبة بن خالد روي عنه أقضية النبي (صلى الله عليه وآله)موزّعة على الأبواب في كتب الأخبار، لكنّ هذا التوزيع والتفرقة ليس من ناحية كون الروايات متعدّدة، بل أنّ عقبة بن خالد سمع كلّ الأقضية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في وقت واحد، ونقلها في رواية واحدة ثمّ قطّعها الأصحاب بسبب أنّ مبناهم كان على ذكر

514

كلّ خبر في المورد المناسب له.

المقدّمة الثالثة: أنّ الاختلاف بين أقضية عبادة بن صامت وأقضية عقبة بن خالد يسير جداً، فلا اختلاف بينهما عدا هذا الاختلاف الطفيف، وهو كون نفي الضرر قضاءً مستقلاً أو كونه مذكوراً في ذيل حديث آخر، ولئن كان لحديث عقبة ظهور في الذيليّة فهو ظهور ضعيف يرفع اليد عنه بواسطة معارضته لرواية عبادة بن صامت.

والوجه في الاحتياج الى هذه المقدّمات: هو أنّه لو لم تتمّ المقدّمة الاُولى أعني وثاقة عبادة واتقانه لما كان خبره حجّة حتّى يصبح معارضاً لخبر عقبة ويقدّم عليه ويوجّه خبر عقبة على ضوئه.

ولو لم تتمّ المقدّمة الثانية لكان ظهور خبر عقبة في ذيليّة «لا ضرر» قويّاً، فإنّ الظاهر من ذكره في ذيل حديث الشفعة، أو النهي عن منع فضل الماء كونه ذيلاً له واقعاً، وإنّما الذي يضعّف هذا الظهور هو: أن يُرى أنّ الناقل كان بصدد جمع المتفرّقات، فإذا ثبت كون الأقضية التي نقلها عبادة مجموعة في رواية عقبة ـ أيضاً ـ كما هي كذلك في رواية عبادة، مع أنّها في الحقيقة أحاديث متعدّدة ومتفرّقة، يضعف بذلك ظهور حديث عقبة في الذيليّة، ولا يخفى أنّه يكفي لشيخ الشريعة (قدس سره)أن يثبت وجود ستّ أقضية أو سبع مثلاً في رواية عقبة المشتملة على حديث (لا ضرر)، وليس من اللازم ثبوت كون جميع تلك الأقضية مجتمعة في روايته.

وأمّا المقدّمة الثالثة فكأنّها لإثبات اتقان عبادة، فإنّه لو كان الاختلاف بين رواياتنا ورواية عبادة كثيراً لأخلّ ذلك الى حدّ مّا بالاعتقاد باتقان عبادة، أو لبيان أنّ الجمع بين الخبرين في غاية السهولة؛ لخفّة المعارضة بينهما بخلاف ما لو كانت بينهما معارضات شديدة عديدة مثلاً.

وأمّا تفصيل الكلام في المقدّمات الثلاث فنقول:

أمّا المقدّمة الاُولى: فيظهر من مجموع كلماته (قدس سره) الاستدلال عليها بوجهين:

الأوّل: ما نُقِل في أحواله من مدحه وتوثيقه وتعظيمه.

ويرد عليه: أنّه إن ثبتت بذلك وثاقة عبادة فلا فائدة في ذلك؛ إذ لا يثبت به اعتبار هذا الخبر لمجرّد كونه رواية عبادة؛ لأنّنا لم نسمع هذا الخبر من عبادة، وإنّما نقله إمام الحنابلة في كتابه عنه بوسائط، فالوسائط بيننا وبين عبادة غير ثقاة، بل لعلّ بعضهم غير ثقاة حتّى عند العامّة، حتّى أنّ هذا الحديث لم يذكر في صحاحهم،

515

وإنّما ذكره أحمد بن حنبل في كتابه.

الثاني: شدّة المطابقة بين رواية عبادة بطولها ورواية عقبة الموزّعة على أبواب مختلفة بحيث لم يوجد بينهما اختلاف، إلّا ذاك الاختلاف اليسير.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ المطابقة إنّما تدلّ على وثاقة الشخص إذا كانت في روايات كثيرة، لا في رواية له مشتملة على عشرين أقضية مثلاً.

وثانياً: أنّ المطابقة هنا ممنوعة فإنّك ترى أنّ حديث عقبة قد ذكر فيه للشفعة قيد، وهو قوله: «إذا ارّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة». وهذه القرينة المتّصلة غير موجودة في خبر عبادة، ثمّ إنّ الأقضية التي جمعها شيخ الشريعة عن عقبة لا تزيد على ثلث أقضية عبادة، وما جمعها من مجموع الأقضية الواردة في طرقنا ـ أعمّ من أن تكون لعقبة أو غيره ـ تبلغ النصف، وتوجد أقضية اُخرى ـ أيضاً ـ لعقبة لم ينقلها شيخ الشريعة، لكن مع ذلك توجد في أقضية عبادة ما لم يُنقل في طرقنا أصلاً، كقضائه(صلى الله عليه وآله) بأنّ الزوجة لا يجوز لها أن تتصرّف في مالها بدون إذن زوجها.

وثالثاً: أنّه لو سلّمت المطابقة فمن المحتمل أنّ هذه المطابقة ليست من ناحية اتقان عبادة ووثاقته، بل لعلّ بعض الوسائط بيننا وبين عبادة الذين لم تثبت وثاقتهم عرف هذه الأقضية لشهرتها مثلاً ولو عن طريق الصادق (عليه السلام) فجمعها ونسبها كذباً الى عبادة.

وأمّا المقدّمة الثانية: فقد استدلّ عليها ـ أيضاً ـ بوجهين:

الأوّل: وحدة الراوي عن عقبة والراوي عن ذلك الراوي في كل الأقضية المنقولة عنه، فيستبعد كونها روايات متعدّدة اتّحدت رواتها صدفة.

ويرد عليه: أنّ النجاشي قد نقل وجود كتاب لعقبة ورواه عنه بسند ينتهي الى نفس هذين الراويين الموجودين في تمام روايات أقضية عقبة، فلعلّ صاحب الكافي مثلاً ـ أيضاً ـ وصله هذا الكتاب بسند مُنته إليهما، وكانت روايات الأقضية موجودة في ذلك الكتاب، فوحدة الرواة نشأت من وحدة الكتاب الذي رواه بمجموعه اُولئك الرواة، لا من وحدة الرواية كما يشهد لذلك أنّ سائر الروايات لعقبة غير الأقضية ـ أيضاً ـ تنقل عنه بواسطة هذين الراويين.

الثاني: أنّ الأقضية المجتمعة في رواية واحدة لعبادة كيف توزّعت في أخبارنا وتفرّقت؟! فهذا إمّا أن يكون لأجل أنّها صدرت من النبي (صلى الله عليه وآله)بجميعها مرّتين: إحداهما مجتمعة وقد رواها عبادة، والاُخرى متفرّقة وقد رواها الإمام الصادق (عليه السلام)،

516

وإمّا أن يكون من ناحية تقطيع نفس الإمام الصادق (عليه السلام) أو الرواة. وإمّا أن يكون من ناحية تقطيع أصحاب الجوامع وضعاً لكل حديث في موضعه المناسب له. والأوّلان مستبعدان فيتعيّن الثالث.

والجواب: أنّ هذه الأقضية لم تكن رواية واحدة صادرة عن النبي(صلى الله عليه وآله) في مجلس واحد نقلها عبادة، وإنّما هي روايات متعدّدة جمعها عبادة في سياق واحد من باب الجمع بين المتفرّقات بجامع كونها أقضية النبي (صلى الله عليه وآله)وليس الإمام الصادق (عليه السلام)مسؤولاً عن سلوك نفس الطريقة التي اتّخذها عبادة.

وأمّا المقدّمة الثالثة: وهي دعوى شدّة المطابقة فقد ظهر بطلانها ممّا مضى.

ثمّ لو فرض تماميّة المقدّمات الثلاث فما الذي يستنتجه شيخ الشريعة (قدس سره)؟! هل يقول: إنّ رواية عقبة بعد أن ظهر أنّها كانت مشتملة على جميع تلك الأقضية مثلاً تفقد ظهورها في ذيليّة حديث (لا ضرر) فلا تعارض رواية عبادة؟ أو يقول: إنّه يضعف ظهورها في ذلك فيتقدّم ظهور رواية عبادة عليها؟

فإن ادّعى الأوّل قلنا: إنّ هذا خلاف أمانة الموزّعين للروايات، فلابدّ أن يحمل توزيعهم على أنّ الرواية قبل التوزيع كانت بنحو ومحفوفة بقرائن تدلّ على نفس ما تدلّ عليه بعد التوزيع من الذيليّة إن احتمل ذلك احتمالاً عقلائيّاً. وفيما نحن فيه لا ندّعي احتمال ذلك بل ندّعي القطع بذلك، ونقول: إنّه حتى مع فرض الجمع بين هذه الأقضية يكون ظهور الرواية في الذيليّة محفوظاً قوياً؛ إذ لو لم تكن ذيلاً ومرتبطة بحديث الشفعة فلماذا توسّط بين الحكم بالشفعة وبيان قيده في قوله: قال قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بالشفعة، وقال: «لا ضرر ولا ضرار»، وقال: «إذا ارّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة»؟! هذا أوّلاً.

وثانياً: لماذا افتتح بـ(قال) مع أنّ كلّ الأقضية افتتحت بـ(قضى)، أو بقوله: «من قضاء رسول اللّة (صلى الله عليه وآله)»؟! ومن العجيب ما ذُكِر في المقام من أنّ الافتتاح بـ(قال) دليل على كونه حديثاً مستقلاّ، وإلّا لما كان يحتاج الى كلمة (قال)، بل كان يعطف على ما قبله من دون ذكر كلمة (قال)، فإنّه من الواضح: أنّه لم يكن يمكن عطفه على ما قبله من دون كلمة (قال)، فإنّ ما قبله نقل بعنوان حكاية فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو قضاؤه، لا بعنوان حكاية قوله ولم يقل: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): الشفعة بين الشريكين ثابتة» مثلاً حتّى يعطف عليه قوله: «ولا ضرر ولا ضرار»، وإنّما قال: «قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بكذا»، فلا بدّ له من الافتتاح بمثل كلمة (قال).

517

وثالثاً: لماذا كرّر هؤلاء المقطّعون ذكر نفي الضرر، فذكروه مرّة في ذيل حديث الشفعة، واُخرى في ذيل حديث منع فضل الماء، ولم يكتفوا بذكره مرّة واحدة.

ثمّ إنّ صاحب الكافي الذي قطّع هذا الحديث، وجعل كلّ قطعة منه في بابه المناسب له لماذا لم يصنع ذلك بجملة (لا ضرر ولا ضرار) فلم يذكرها مستقلّة في بابها، بل ذكرها في ذيل حديث الشفعة ومنع فضل الماء؟! قد يقال مثلاً: إنّ نفي الضرر لم يكن له باب مستقلّ، فذكره المقطّعون ذيلاً ولم يذكروه مستقلاّ في بابه، ولكن صاحب الكافي قد أفرد باباً مستقلاّ في كتابه بعنوان باب الضرر، وجمع فيه روايات ذكر فيها الضرر فلماذا لم يذكر هذه الجملة مستقلّة في ذلك الباب؟!

وإن ادّعي الثاني قلنا: إنّه ليس لحديث عبادة ظهور يخالف ظاهر حديث عقبة حتّى يقدّم عليه، فإنّه:

أوّلاً: يحتمل صدور الحكم بالشفعة مثلاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) مرّتين: مرّة بدون الذيل، ومرّة اُخرى مع الذيل، فنقل عبادة إحديها ونقل الإمام الصادق (عليه السلام)الاُخرى، والنبي (صلى الله عليه وآله)كان هو الحاكم المطلق في وقته بين اتباعه، فأيَّ استبعاد في أن تتعدّد له القضايا في الشفعة فيحكم بالشفعة مرّات عديدة.

وثانياً: لو فرضنا وحدة صدور الحكم بالشفعة عن النبي(صلى الله عليه وآله)فمن المحتمل أنّه كان مذيّلاً بنفي الضرر واسقط عبادة الذيل، وليس هذا خيانة منه، فإنّ إسقاط هذا الذيل لا يغيّر معنى الحكم بالشفعة، ولعلّه شجّعه على هذا الإسقاط ذِكرُهُ للقضاء بنفي الضرر مستقلاً.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (قدس سره) ذهب الى ما ذهب إليه شيخ الشريعة (رحمه الله) من إنكار الذيليّة، واستشهد إضافة الى النكات التي ذكرها شيخ الشريعة بنكات اُخرى(1):

إحداها: أنّه لو كانت هذه الجملة ذيلاً للزم عدم نقل عقبة لهذا القضاء وخلوّ روايته عنه، مع أنّه من المشتهر المعروف الواضح صدوره عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ المشهور إنّما هو أصل الحكم بالضرر لا كونه قضاءً مستقلاّ، وأصل الحكم موجود في حديث عقبة. وليس من المناسب كونه قضاءً مستقلاً، فإنّه كبرى كليّة تنشأ منها الأقضية في الأحكام المعيّنة في القضايا التي تتّفق خارجاً، فيقضي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فيها بشيء، فالمناسب أن يكون ذيلاً لقضاء لا قضاءً


(1) راجع قاعدة لا ضرر للشيخ النجفي، ص 195.

518

مستقلاّ.

وثانياً: أنّنا نفترض صدور هذا القضاء مستقلاّ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ولكن لم يكن على عقبة أن يذكر كلّ أقضية النبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يثبت أنّه نقل كلّ ما عرفه من أقضيته، وقد ترك عقبة مقداراً كثيراً من تلك الأقضية الموجودة في رواية عبادة بن صامت، فليكن هذا من الأقضية المتروكة، ولعلّه شجّعه على تركه ذكره لنفي الضرر في ذيل القضاء بالشفعة والنهي عن منع فضل الماء.

وثانيتها: أنّ جملة (لا ضرار) غير مرتبطة بالشفعة(1)، فإنّ (الضرار) بمعنى الإصرار على الضرر، وبيع الشريك إن كان فيه ضرر وطبّقت عليه قاعدة (لا ضرر) فليس فيه الإصرار على الضرر حتماً.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّه يكفي لمقبوليّة ذكر جملة (لا ضرار) مناسبتها التامّة لجملة (لا ضرر) المفروض مناسبتها لمورد الشفعة والمنطبقة عليها.

وثانياً: ربّما كانت قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) يومئذ مشهورة مرتكزة بنحو يشار إليها بجملة (لا ضرر ولا ضرار) حينما كان يراد تطبيقها على مورد، ولا يضرّ كون المورد مورداً لشطر منها فقط، فإنّ مجموع جملة (لا ضرر ولا ضرار) أصبحت كرمز يشار به الى تلك القاعدة المقصود تطبيقها، نظير ما يقال في زماننا عند إرادة تطبيق قانون حكومي: «إنّه لا بدّ من أن يفعل كذا تطبيقاً للقانون المرقم برقم كذا» مع أنّ ذاك القانون قد يكون مشتملاً على بنود متعدّدة، يكون واحد منها منطبقاً على المقام دون الباقي.

وثالثتها: أنّ حكم الشفعة(2) غير مربوط بقاعدة (نفي الضرر)، فإنّه لولا وجود النصّ الخاصّ على الشفعة لما كان يحكم في الفقه بالشفعة على أساس قاعدة (لا ضرر)، فكيف يحتمل بالنبي (صلى الله عليه وآله) أن يطبّق القاعدة على مورد لا تنطبق عليه؟!

ويرد عليه: أوّلاً: ما سنحقّقه ـ إن شاء اللّه ـ من أنّ تطبيق النبي (صلى الله عليه وآله)للقاعدة على مورد الشفعة تطبيق صحيح بالرغم من أنّه لولا تطبيقه هو لما كنّا نستفيد حكم


(1) وعطف على حديث الشفعة في كتاب الشيخ موسى النجفي حديث منع فضل الماء.

(2) عطف ـ أيضاً ـ في كتاب الشيخ موسى النجفي حكم عدم المنع لفضل الماء بحكم الشفعة.

519

الشفعة من قاعدة (لا ضرر).

وثانياً: أنّه لو لم تنطبق قاعدة (لا ضرر) بالمعنى المعروف على المورد فلا بدّ من توجيه جملة (لا ضرر)، وتغيير معناها بنحو يقبل الانطباق على المورد، لا أن نفرض الاشتباه في سوق الكلام، بنحو تظهر منه الذيليّة بعد فرض تسليم الذيليّة بغض النظر عن هذه النكتة.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّه بناءً على تماميّة سند حديث عقبة نلتزم بأنّ نفي الضرر فيه كان ذيلاً للقضاءين، فإن كان لذلك مكسب فسوف يتحقّق ذلك المكسب.

إلّا أنّنا لا نقرّ باعتبار سند الحديث، وإن كان مع ذلك لا يخلو من تأييد لنا.

وأمّا الكلام بلحاظ المراسيل الناقلة لحديث نفي الضرر ابتداءً ونسبتها الى الطائفتين الاُوليين فقد يتراءى التهافت بين متونها، ككون بعضها مشتملاً على كلمة (في الإسلام)، وبعضها غير مشتمل عليها، أو التهافت بينها وبين الطائفتين الاُوليين، ككون (لا ضرر) مذكوراً فيها مستقلاّ، وفي جملة من غيرها ذيلاً وتطبيقاً على بعض الصغريات، ولئن كان شيء من هذه تهافتاً فإنّما يكون تهافتاً على تقدير وحدة الخبر، ولم تثبت الوحدة كما هو واضح.

 

520

 

 

 

مفردات الحديث

 

المقام الثالث: في البحث عن مفردات الحديث. وفيه مفردتان: (ضرر)، و(ضرار):

أمّا كلمة (الضرر) فقد اختلفت كلمات أهل اللغة في معناها، فذكر بعضهم أنّ معنى الضرر هو: النقص في المال، أو النفس، أو الطرف، أو العرض، وآخر أنّ معنى الضرر هو: الشدّة، والحرج، والضيق.

والصحيح الملائم للجمع بين كلا التفسيرين هو: أنّ الضرر عنوان ينتزع من النقص عند صيرورته منشأً للشدّة والضيق النفسي، فالنقص وحده لا يصدق عليه الضرر، كما إذا فرض أنّه ضاع من شخص متموّل دينار لم يكن يوجب أيّ ضيق في حاله، كما أنّ مجرّد الضيق النفسي بغض النظر عن أيّ نقص لا يصدق عليه الضرر، فكلّ واحد من التفسيرين قد تناول جانباً من جانبي الضرر.

ولا يشترط حصول الضيق النفسي بالفعل، بل يكفي كونه مقتضياً لحصول الضيق النفسي، ولو لم يحصل بعدُ، كمن احترق بيته مثلاً وهو لا يعلم بعد بذلك.

هذا. والضرر يكون في مقابل النفع، فالنفع ـ أيضاً ـ يصدق إذا تحقّق أمران: الزيادة، وحصول الانبساط النفسي ولو شأناً.

ثمّ إنّ الضرر ينقسم الى مطلق ومقيّد وذلك من ناحيتين:

الناحية الاُولى: من حيث الموضوع أي: نفس الضرر، فالضرر قد يكون مطلقاً، واُخرى مقيّداً، من قبيل الماء المطلق والمضاف، فمثال الضرر المطلق احتراق دار شخص مثلاً، ومثال الضرر المقيّد عدم الربح في التجارة، فإنّ هذا ضرر على زيد مثلاً، لكنّه ليس ضرراً عليه بما هو، كما هو الحال في الضرر المطلق، بل يكون ضرراً عليه بما هو ذو غرض نفعيّ تجاري، فهذا ضرر مقيّد، وحديث (لا ضرر) لا يشمل الضرر المقيّد، وإنّما يشمل الضرر المطلق من قبيل أنّ دليل التطهير بالماء مثلاً لا يشمل الماء المضاف كماء الرمان، وإنّما يشمل الماء المطلق.

نعم، قد يتّفق في الضرر المقيّد أنّ جهة صدق الضرر شائعة متعارفة ملتصقة

521

بالإنسان الى حدّ يتراءى بحسب النظر العرفي كأنّه ضرر مطلق. ولا مؤونة في إطلاق كلمة (الضرر) عليه بلا قيد، فيشمله حديث (لا ضرر)، وذلك كما في تخلّف الأغراض المعامليّة من الشروط الضمنيّة والصريحة حيث يحكم فيها بالخيار بقاعدة لا ضرر، فإنّ جهة صدق الضرر وهي الغرض المعاملي كأنّها لا تعتبر قيداً في نظر العرف؛ لشدّة التصاقها بالإنسان، فكأنّ الضرر مضاف ابتداءً الى الشخص بما هو شخص.

الناحية الثانية: من حيث الناظر والحاكم بصدق الضرر، فقد يكون الضرر مطلقاً كما في قطع اليد مثلاً، واُخرى يكون مقيّداً أي: بلحاظ بعض الأنظار والقوانين دون بعض، كأن تحكم الدولة مثلاً بعدم مالكيّة الشخص لما أحياه من الأرضين، فإنّ هذا ضرر في نظر النظام الرأسمالي أو الإسلامي، لا في نظر النظام الشيوعي مثلاً، وحديث (لا ضرر) يشمل الضرر المطلق . وأمّا الضرر المقيّد المختلف باختلاف الأنظار، فإن استفدنا كونه ضرراً بنظر الشارع من نفس حديث (لا ضرر) - على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه ـ(1) أو من أيّ دليل آخر، شمله حديث (لا ضرر).

وإن لم يكن ضرراً بنظر الشارع الذي حكم بقاعدة لا ضرر فالضرر في كلامه غير شامل لذلك.

ثمّ إنّهم ذكروا: أنّ الضرر هو النقص في المال، أو النفس، أو العرض، ونحن نستبدل كملة العرض بكملة الكرامة حتّى تكون أشمل.

وقد يستشكل في عطف العرض على المال والنفس لما يُرى من عدم صدق الضرر على العرض إذا نظر الأجنبي الى واحد من حريم الشخص مثلاً، مع أنّه لم يحفظ حقّ عرضه.


(1) الذي سوف يأتي في آخر المقام الخامس وهو في فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرر) هو أنّ لا ضرر يشمل زائداً على الأضرار الحقيقية الأضرار الارتكازيّة في عرف زمان الشارع، وذلك إمّا بإطلاق لفظي بلحاظ أنّ الشارع هو فرد من أفراد العرف ويخاطب العرف، أو بإطلاق مقامي، بأن يحمل الضرر في لسان الشارع على معنى ما هو ضرر في نظر الشارع، ويقال: إنّ الإطلاق المقامي دلّ على اعتماد الشارع في تعيين ما هو الضرر عنده زائداً على الأضرار الحقيقية على الارتكاز والنظر العرفي السائد وقتئذ في المجتمع الذي كان يعيش به الشارع، فالشارع قد اعتمد الارتكاز العرفي قرينة على مراده، إذن فما اختاره (رحمه الله) هنا هو أحد الوجهين اللذين ذكرهما في ما يأتي.

522

ولكنّ التحقيق: أنّ هذا خلط بين إيجاد النقص في العرض والكرامة، وعدم مراعاة حقّ العرض والكرامة، والضرر هو الأوّل دون الثاني، وهذا المثال من الثاني دون الأوّل، وهذا نظير إيراد الضرر على الأموال المملوكة للإنسان، فإنّ معنى الإضرار بها هو نقصها لا عدم مراعاة حرمتها، فمن طالع في كتاب شخص مثلاً بدون إذنه من دون إيراد أيّ نقص عليه لم يضرّ بماله، لكنّه لم يحفظ حقّ ماله من عدم جواز التصرّف فيه بدون إذنه، وهكذا الحال فيما نحن فيه، فإنّ هذا الناظر الى حريمه لم يُنقِص شيئاً من عرضه وكرامته حتّى يكون إضراراً بالعرض، غاية الأمر أنّه لم يحفظ حقّ العرض والكرامة، ونظير ذلك أنّه من شتم شخصاً من دون أن يسبّب ذلك نقصاً في كرامته فهذا لم يراع حقّ كرامة هذا الشخص، لكنّه لم يورد أيّ ضرر على كرامته، وقد يكون السابّ إنّما أضرّ بكرامة نفسه لا بكرامة من سبّه. نعم لو تكلّم عليه عند الناس بما أوجب انحطاطه في أعين الناس والنقص في كرامته كان ذلك ضرراً على كرامته.

ثمّ إنّه قد تستبدل كلمة النقص بفعل ما يحقّق مكروهاً للشخص فيشمل موارد اُخرى للضرر قد لا تكون مشمولة للنقص، وذلك من قبيل ما إذا فرضنا أنّ شخصاً يمنع عن اشتراك زيد في أيّ شركة من الشركات، وذلك عن طريق التقائه بأصحاب تلك الشركات وصرفهم عن قبول زيد في شركاتهم، فيبقى زيد بلا شغل فهو لم ينقص شيئاً من زيد، لكنّه مع ذلك قد أضرّه حتماً، ومثل ذلك: ما إذا منع السلطان أهل بلد من الخروج من ذلك البلد ظلماً وعدواناً من دون أن ينقص منهم أيّ شيء من أموالهم وكرامتهم وغير ذلك، فهذا ضرر بلا إشكال مع أنّه ليس نقصاً.

والتحقيق: أنّ هذا النحو من الإضرار ـ أيضاً ـ يمكن إدخاله في النقص، فإنّه إيراد للنقص على حقّ العمل وحقّ الحرية ونحو ذلك من العناوين، وهذا النحو من الأضرار داخل في قاعدة (لا ضرر) فإنّه مضافاً الى أنّ العرف يرى كلمة (الضرر) شاملة لهذه الأضرار يكون مورد الرواية من هذا القبيل، فإنّ عدم إعلام سمرة حينما يريد المرور ليس إيراداً للنقص على عرض الأنصاري وكرامته كما ظهر ممّا مضى، لكنّه إيراد للنقص على حقّ حرّية الأنصاري وأهله وراحتهم واستقرارهم.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر: أنّ الضرر والنفع متقابلان تقابل العدم والملكة(1).


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 266 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

523

وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره): بأنّ الضرر عبارة عن النقص أي: انتفاء ما كان للشيء من الكمال، فهو عدم لهذا المقدار من الكمال، والنفع عبارة عن تحقّق زيادة على هذا المقدار من الكمال الثابت، فالضرر ليس عدماً لهذه ا لزيادة حتّى يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وتقابل العدم والملكة إنّما يكون فيما إذا كان العدم عدماً لتلك الملكة لا لشيء آخر، كما أنّهما ليسا متضادّين ـ أيضاً ـ؛ لأنّ المتضادّين هما: الأمران الوجوديان اللذان بينهما كمال المنافرة، والضرر ليس أمراً وجودياً، بل هو أمر عدمي، فإنّه عبارة عن عدم الكمال(1).

أقول: أمّا ما ذكره (قدس سره): من أنّ الضرر والنفع ليسا متضادّين لعدم كون الضرر أمراً وجودياً، فيرد عليه: أنّ الضرر ليس عبارة عن ذات النقص بمعنى عدم الكمال، بل هو عنوان وجودي ينتزع من إضافة النقص الى الإنسان، كما أنّ النفع عنوان وجودي ينتزع من إضافة الزيادة الى الإنسان.

وأمّا ما أورده على المحقّق الخراساني (رحمه الله): من أنّ الضرر ليس عدماً للنفع حتّى يكون بينهما تقابل العدم والملكة، فلك أن تقول كتوجيه لكلام المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنّ من المحتمل كون مقصود المحقّق الخراساني من قوله: «إنّ الضرر والنفع بينهما تقابل العدم والملكة» أنّه توجد فيهما نكتة تقابل العدم والملكة وهي: عدم صدق ذلك الأمر العدمي، إلّا مع قابليّة المورد للأمر الوجودي كما في العمى والبصر، فإنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الضرر إنّما يصدق في مورد قابليّة صدق النفع، فمال الشخص إذا نقص صدق الضرر حيث إنّه إذا زاد صدق النفع. وأمّا إذا نقص شيء من المباحات الأصليّة في الصحراء فلا يصدق أنّه تضرّر زيد كما أنّه إذا زاد شيء عليها لم يصدق أنّه انتفع زيد.

هذا. ولكن لا يخفى أنّ ذات النكتة الموجودة في باب تقابل العدم والملكة غير موجودة هنا، وإنّما الموجود هنا ما يشابهها، فإن كان مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله)وجود نكتة تقابل العدم والملكة بالمسامحة صحّ كلامه، وإلّا فلا.

توضيح ذلك: أنّه في باب العدم والملكة تكون قابليّة الأمر الوجودي مأخوذة في موضوع الأمر العدمي كما في العمى والبصر، فالعمى عبارة عن انتفاء البصر عمّا يكون من شأنه البصر. وأمّا ما نحن فيه فليس الأمر كذلك؛ إذ ليست قابليّة النفع


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 317.

524

مأخوذة في موضوع الضرر، وإنّما لا يصدق الضرر إلّا مع قابليّة النفع من باب أنّ النفع والضرر مشروطان بنكتة مشتركة بينهما، مهما حصلت تمّت القابليّة للنفع والضرر معاً، ومهما لم تحصل لم تتمّ القابليّة لشيء من النفع والضرر، وتلك النكتة: هي عبارة عن إضافة ذلك الشيء الذي يزيد وينقص الى الإنسان، فمع وجود تلك الإضافة تكون زيادته نفعاً ونقصه ضرراً، ومع عدمها لا تكون زيادته نفعاً ولا نقصه ضرراً، فنرى انّ الضرر لا يصدق إلّا مع قابليّة المورد للنفع. هذا تمام الكلام في كلمة (الضرر).

وأمّا كلمة (الضرار) فمن حيث الصيغة يحتمل فيها ثلاثة احتمالات: أن يكون مصدر باب المفاعلة المزيد فيه المأخوذ من الثلاثي المجرّد وهو ضرّ، وأن يكون مصدراً للثلاثي المجرّد، أعني ضرّ، من قبيل كتب كتاباً وحسب حساباً، وأن يكون مصدراً من باب المفاعلة غير المزيد فيه أي: غير المأخوذ من المجرّد من قبيل سافر، فإنّه غير مأخوذ من سفر، فإنّ سَفَرَ يكون بمعنى كشف الستار لا بمعنى السفر.

وإذا أخذنا بالاحتمال الأوّل وهو كونه مصدراً لباب (فاعَلَ) المزيد فيه فالمشهور هو: أنّ الأصل في باب المفاعلة أن يكون بين اثنين.

وقد أشكل على ذلك المحقّق الاصفهاني(قدس سره)(1)، وأثبت أنّه ليس باب المفاعلة بين اثنين وكلامه ينقسم الى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الاستقراء والإتيان بأربعة عشر مثالاً(2) لباب المفاعلة من القرآن وغيره، وشيء منها ليس بين الاثنين من قبيل خادع ونافق، فيكون هذا دليلاً على عدم كون الأصل في باب المفاعلة هو: أن يكون بين الاثنين.

القسم الثاني: ذِكْرُ برهان عقليٍّ على عدم كون باب المفاعلة بين الاثنين. وهو(قدس سره) فهم من كلام المشهور القائلين بأنّ باب المفاعلة يفيد معنى ما بين الاثنين: أنّ


(1) راجع نهاية الدراية: ج 3، ص 317 - 318.

(2) الأمثلة التي ذكرها الشيخ الاصفهاني ما يلي: 1- يخادعون اللّه والذين آمنوا، 2 ـ ومن يهاجر في سبيل اللّه، 3ـ يراؤون، 4ـ وناديناه، 5ـ ونافقوا، 6ـ وشاقّوا، 7ـ ومسجد ضراراً ولا تمسكوهنّ ضراراً، 8ـ ولا تؤاخذني. ومن الاستعمالات غير القرآنيّة 9ـ عاجله بالعقوبة، 10ـ وبارزه بالحرب، 11ـ وباشر الحرب، 12ـ وساعده التوفيق، 13ـ وخالع المرأة، 14ـ وواراه في الأرض، فجميع ذلك ـ على ما يقوله (رحمه الله) ـ بين ما لاتصحّ فيه إرادة الانتساب الى الاثنين وما لا يراد منه ذلك.

525

باب المفاعلة كضارب يدلّ على نسبتين: إحداهما نسبة ضرب زيد الى عمرو مثلاً، والاُخرى نسبة ضرب عمرو الى زيد. وكذلك باب التفاعُل، إلّا أنّ الفرق بين البابين هو: أنّ النسبتين في باب التفاعُل في عرض واحد، لذا يرفع فيه كلا المعمولين، وفي باب المفاعلة طوليتان وتكون إحدى النسبتين جانبيّة؛ ولذا يرفع أحد المعمولين وينصب الآخر.

وذكر هنا المحقّق الاصفهاني (قدس سره): أنّه إمّا أن يقال بأنّ باب المفاعلة يدلّ على إحدى النسبتين فقط أي: أنّ ضارب يفيد معنى ضرب من هذه الناحية، أو يقال: بأنّه يدلّ على النسبتين. وكذلك باب التفاعل، إلّا أنّ الدلالة على النسبتين تكون بمعنى الدلالة على ما ينتزع من النسبتين وهي نسبة ثالثة، أو يقال: بأنّه يدلّ على نفس النسبتين مع طوليّة بينهما في باب المفاعلة. ولا طوليّة بينهما في التفاعل.

أمّا الأوّل: وهو دلالة المفاعلة على إحدى النسبتين فقط فهو المختار لنا في مقابل المشهور.

وأمّا الثاني: فيرد عليه: أنّه لا يبقى فرق بناءً عليه بين باب المفاعلة وباب التفاعل، مع أنّه لا إشكال في وجود الفرق بينهما.

وأمّا الثالث: فيرد عليه: أوّلاً: أنّ دلالة الهيئة على النسبتين غير صحيحة على حدّ عدم صحّة دلالة اللفظ على معنيين.

وثانياً: أنّنا لا نتعقّل طوليّة بين النسبتين، فاللفظ دلّ على مجرّد الضربين ونسبتهما الى فاعلهما. ومن الواضح: أنّهما نسبتان في عرض واحد، هذا إذا اُريدت دلالة الهيئة على النسبتين بالمطابقة مع فرض طوليّة بينهما ثبوتاً. وأمّا إذا اُريدت الطوليّة بين النسبتين إثباتاً بأن تدلّ الهيئة على إحدى النسبتين بالمطابقة، وعلى الاُخرى بالالتزام من دون لزوم استعمال الهيئة في معنيين؛ لأنّه لم تستعمل الهيئة إلّا في إحدى النسبتين التي دلّت عليها بالمطابقة. فيرد عليه: أنّ هذا فرع وجود ملازمة بين النسبتين، مع أنّه لا توجد أيّة ملازمة بينهما.

القسم الثالث: ذكر ما هو المختار له (قدس سره): وهو أنّ باب المفاعلة يدلّ على التعدية، فإن كان الفعل لازماً يصبح متعدّياً بذهابه الى باب (فاعَلَ) ويكون معناه حين إدخال هيئة (فاعَلَ) عليه: هو عين معناه حين إلحاق حرف الجرّ به، فمعنى (جالست زيداً) هو عين معنى (جلست إلى زيد).

وإن كان الفعل متعدّياً فلا يتغيّر معنى الفعل، وإنّما يكون باب المفاعلة مؤكِّداً

526

لتعديته، بمعنى: أنّ الفعل قبل إدخال هيئة فاعل عليه كان متعدّياً بذاته من دون أن يكون تعدّيه ملحوظاً بالاستقلال، وبعد إدخال هيئة فاعل عليه يكون تعدّيه متقصّداً وملحوظاً بالاستقلال، وهذا يفيد نوع توكيد للتعدّي. هذا ما أفاده المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في المقام، وعلينا البحث في كلّ هذه الأقسام الثلاثة من كلامه.

ولنبدأ بالقسم الثالث فنقول: أمّا ما ذكره: من عدم تغيّر معنى الفعل المتعدّي بإدخال هيئة (فاعَلَ) عليه فغير صحيح، والصحيح: هو تغيّر المعنى، كما يكون ذلك واضحاً في الأفعال التي يتغيّر مفعولها بعد تغيّر معناها بإدخال هيئة (فاعَلَ) عليها كطرحت الثوب وطارحت زيداً الثوب، فمفعوله كان هو الثوب فأصبح زيداً(1)، وكأنّ الخلط نشأ من ملاحظة الأفعال التي لا يتغيّر مفعولها بعد تغيّر معناها بإدخال هيئة (فاعَلَ) عليها، كضربت زيداً وضاربت زيداً، فتخيّل أنّ المعنى لم يتغيّر.

وأمّا ما ذكره من أنّ الفرق بين باب المفاعلة والمجرّد المتعدّي: هو كون التعدّي ملحوظاً مستقلاً، فلو كان المراد منه أنّ المفاعلة موضوعة لمفهوم التعدّي فلا معنى له، فإنّ مفهوم التعدّي معنى اسمي ليس له أيّ دخل بالمقام، ولا يستفاد من ضاربَ مثلاً مادة وهيئة كما هو واضح.

ولو كان المراد: أنّ المفاعلة تدلّ على منشأ انتزاع التعدّي، فمنشأ انتزاع التعدّي هو نفس معنى الفعل الذي دلّ عليه المجرّد، فلم يبق فرق بين المفاعلة والمجرّد.

هذا. والذي يستفاد من ذيل عبارته (قدس سره) هو شيء آخر غير ما استفدناه من أوّل العبارة، وهو أنّ الفرق بين المجرّد وباب المفاعلة: هو أنّ باب المفاعلة موضوع لإفادة ما يفيده المجرّد مع التعدّي بمعنى: تقصّد الفاعل حين إصدار الفعل بلوغ الفعل الى المفعول، فمثلاً خدعه يكون في ذاته متعدّياً، ويكون بمعنى: أنّه ألبس عليه الأمر، ولكن لا يستفاد منه كونه تلبيساً متقصّداً، وأمّا خادعه فمعناه هو التلبيس مع التقصّد والعمد.

ويرد على هذا: منع مساعدة العرف عليه خصوصاً في بعض الموارد كقابلته، فإنّه يصحّ أن يقال: قابلته صدفة وكصادفته، فإنّ المادّة فيه لا تنسجم مع ما ذكره من المعنى.


(1) لا يخفى أنّ هذا ملحق بقسم تبدّل الفِعل اللازم الى المتعدّي، فإنّ الفعل كان متعدّياً الى مفعول واحد وبإدخاله في هيئة المفاعلة عُدّي الى اثنين.

527

وأمّا ما ذكره: من أنّ فائدة باب المفاعلة الذي يكون مجرّده لازماً هي ما يفيده حرف الجرّ، فهذا في الحقيقة خلط بين قسمين من التعدّي:

الأوّل: التعدّي بمعناه الحقيقي وهو كون الفعل صدورياً لا حلولياً من قبيل ضَرَبَ، ومعنى التعدّي: هو أنّ معنى الفعل يكون سنخ معنىً ينتهي من الفاعل الى المفعول به، ويتقّوم بالفاعل والمفعول به معاً، فالنسبة التي تدلّ عليها هيئة الفعل بنفسها تتطلّب في أحد طرفيها مصبّين وحدّين: أحدهما الفاعل، والثاني المفعول به، فهي نسبة تكون من أحد الطرفين ذات رأس واحد وهو مادّة الفعل، ومن الطرف الآخر ذات رأسين: وهما الفاعل والمفعول به، ومن هنا ظهر أنّ المفعول به طرف للنسبة التامّة كالفاعل.

والثاني: التعدّي الحاصل بحرف الجرّ، وهذا في الحقيقة ليس تعدّياً بمعنى تغيير معنى الفعل الحلولي بنحو يصبح صدوريّاً بحيث تكون النسبة في أحد طرفيها ذات رأسين، بل يبقى الفعل على حلوليّته، وإنّما حرف الجرّ شأنه تحصيص المادّة وتقييدها بالمجرور، فيصبح المجرور طرفاً للنسبة الناقصة، ثمّ تنسب هيئة الفعل هذا المعنى المحصّص المقيّد الى الفاعل، والتّعدية الناشئة من تغيير صيغة الفعل كتحويله الى باب الإفعال أو المفاعلة تكون من القسم الأوّل، ففرق كبير بين (جالست زيداً) و (جلست الى زيد). فجالست يعطي معنىً يتقوّم بمعمولين، أي: يحتاج بنفسه الى فاعل ومفعول به ويكون صدوريّاً، وأمّا (جلست الى زيد)، فجلست يفيد معنىً حلوليّاً، وقد قيّد بكونه الى جنب زيد، ونسب هذا الجلوس المقيّد الى الفاعل.

ومن هنا تظهر عدّة اُمور:

منها: عدم صحّة ما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره): من أنّ فائدة باب المفاعلة في الأفعال هي فائدة حرف الجرّ .

ومنها: أنّ ما ذكره النحاة: من أنّ الفعل اللازم يتعدّى بحرف الجرّ غير صحيح، إلّا إذا اُريد من ذلك التعدّي بمعنى أعمّ يشمل هذا النحو من التعدّي وهو تحصيص المادّة وتقييدها بشيء، وهو مباين هويّةً لتعدّي الفعل الذي يكون بنفسه متعدّياً، وإن كان يعطي نتيجته ويفيد فائدته، فجلست الى زيد يفيد فائدة جالسته، فإن كان

528

مقصودهم هو هذا فلا مشاحّة في الاصطلاح(1).

ومنها: أنّ ما يقال: من أنّ معنى (ذهب به) هو معنى (أذهبه) في غير محلّه، فإنّ تقيّد الذهاب بقيد (به) لا يغيّره عن معناه الأصلي، وإنّما يقيّده بأمر زائد، فيكون معناه: أنّه ذهب ذهاباً أصحب الآخر معه فيه، بحيث كأنّه كان تحت تسلّطه وتبعيّته، وهذا هو المعنى الذي قُصد بنحو المجاز و التشبيه البليغ اللطيف من قوله تعالى: ﴿ذهب اللّه بنورهمأي: كأنّه تعالى أخذ نورهم وذهب به إلى الخارج، ثمّ رجع من دون رجوع النور.

ومنها: بطلان ما استشهد به السيّد الاُستاذ على مختاره، توضيح ذلك: أنّ


(1) لا يخفى أنّه في لغة النحاة وإن كان ربّما يسمّى كلّ تعلّق للجار والمجرور بالفعل تعدّياً للفعل الى ذاك المجرور بواسطة حرف الجرّ، ولكنّ المصطلح الخاصّ لحرف التعدية ليس هذا، ولذا يجعلون التعدية أحد معاني الباء مثلاً، ولا يفرضون أنّ الباء دائماً هو للتعدّي0 وقد جاء في المغني في حرف الباء ذكر عدّة معاني لها ثانيها التعدية، وجعل المايز بين هذا القسم وسائر أقسام الباء أنّ هذا القسم يصيّر الفاعل مفعولاً، ففرق مثلاً بين الباء في (ذهبت بزيد)، وهي للتعدية وبين الباء في (مررت بزيد) والفارق: هو أنّ زيداً في (مررت بزيد) ليس مارّاً أي: ليس فاعلاً اُبدل الى مفعول، بل هو ممرور به، ولكنّه في (ذهبت بزيد) ذاهب أي: هو فاعل قد أصبح مفعولاً في المقام.

ولكنّ المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) في المقام لم يقصد بالتعدية التعدية بمعناها الخاصّ، بل قصد التعدية بمعناها العامّ الثابت في جميع موارد حروف الجرّ، ولذا مثّل له بـ(كتب إليه، وجلس إليه) فورود إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عليه من الخلط بين معنيين للتعدّي واضح.

بل لا يبعد أن يقال: إنّه حتّى المعنى الخاصّ للتعدّي بالباء الذي عبّر عنه صاحب المغني بأنّه يصيّر الفاعل مفعولاً يختلف عن تعدّي باب المفاعلة أو الإفعال أو التفعيل، فالتعدية بهذه الهيئات تعني تغييراً جوهريّاً في معنى الفعل مؤدّياً الى تبدّل النسبة الحلوليّة الى النسبة الصدوريّة، في حين أنّ التعدية في (ذهب بزيد) ليست هكذا، ويكون المجرور في ذلك طرفاً للنسبة الناقصة لا التامّة، وقد التفت المبرّد والسهيلي الى الفرق بين (ذهب بزيد) و (اذهب زيداً) والفرق الذي ذكراه هو مظهر من مظاهر هذا الفرق الجوهري الذي أشرنا إليه، فقد ذكرا: أنّ بين التعديتين فرقاً، وإنّك إذا قلت: (ذهبت بزيد) كنت مصاحباً له في الذهاب بخلاف ما إذا قلت: (اذهبت زيداً)، فإنّه ليس من الضروري من مفاد (اذهبت) أنّك قد ذهبت معه. وأورد صاحب المغني عليهما بالنقض بقوله تعالى ﴿ذهب اللّه بنورهم﴾ إذ لا يعقل افتراض أنّ اللّه تعالى قد ذهب مع نورهم، وكأنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان بصدد الجواب عن مثل هذا الإشكال، فذكر ما في المتن من أنّ المقصود بالآية: معنى بلاغي وتشبيه بديع.

529

السيّد الاُستاذ ذهب الى أنّ التعدّي واللزوم في الأفعال ليس أمراً داخلاً في صميم المعنى، وإنّما هو لمجرّد الاستعمال الاعتباطي يؤخذ من العرب تعبّداً، واستشهد على ذلك بأنّه قد يرى الفعل الواحد الموضوع لمعنى واحد يستعمل تارة متعدّياً، واُخرى لازماً من قبيل أضرّه وأضرّ به(1).

أقول: الواقع أنّ معنى أضرّ معنى صدوري يتعدّى بنفسه الى المفعول به، لكنّ حذف المفعول به جائز فقد يحذف، وفي مثال أضرّ حُذف المفعول به، وقيّدت المادّة بما يكون التقييد به مُغنياً عن المفعول به المحذوف، فصار أضرّ به.

ثمّ إنّه يرد على المحقّق الاصفهاني (قدس سره) القائل: بأنّ المفاعلة في الأفعال اللازمة تفيد نفس النسبة المستفادة من حرف الجرّ المتعدّى به الفعل (لو بني على أنّ صيغة المفاعلة وضعت وضعاً واحداً نوعيّاً للتعدية، لا أوضاعاً متعدّدة، وبني على أنّ وضع الهيئات نوعي كما هو المشهور، لا شخصي): أنّ أمثلة المفاعلة تختلف فيما تعطيها من النسب الحرفيّة، فمثلاً (كاشفه) يعطي معنى كشف له، و (جالسه) يعطي معنى جلس إليه، و (سايره) يعطي معنى سار معه، فنتساءل: أنّ المفاعلة وضعت لأيّ نسبة من نسب الحروف، وأيّ تقييد من التقييدات؟

فإن قيل: إنّه يكون موضوعاً لجامع التعدية، فإن اُريد بذلك عنوان التعدية فهو مفهوم اسمي ليس هو المستفاد من هيئة (فاعَلَ). وإن اُريد بذلك واقع النِسَب الخاصّة المتعدّية فهي نسب متباينة.

وإن قيل: إنّ هيئة (فاعَلَ) موضوعة لنسبة واحدة تنسجم مصداقاً مع هذه المعاني، أي: تختلف مصاديقها بحسب اختلاف الموارد، فقد تتّحد تلك النسبة في المصداق مع نسبة (إلى)، وقد تتّحد في المصداق مع نسبة (اللام) وهكذا، فعندئذ نتساءل: ما هي تلك النسبة؟ فإنّ هذا الشيء يحتاج الى تحليل وبيان، ولم يحلّل ولم يبيّن.

وأمّا القسم الثاني من كلامه، فالذي يستفاد من كلام المشهور في تفسير معنى المفاعلة ليس هو ما ذكره من دلالة الفعل في ذلك الباب على نسبتين طوليّتين، وإنّما الذي يستفاد من كلامهم هو أنّ هذا الباب وضع لنسبة المادّة الى الفاعل مضمّناً


(1) الموجود في الدراسات والمصباح في بحث (لا ضرر) يختلف عمّا هو المنقول هنا وينافيه، راجع الدراسات: ج 3، ص 323، والمصباح: ج 2، ص 522.

530

معنى المشارِكيّة (بالكسر) على نحو التقييد، فإذا قال: (ضارب زيد عمراً) دلّ ذلك على ضرب زيد لعمرو المقيّد بكونه مشاركاً لعمرو، وكأنّما قال: شارك زيد عمراً في الضرب، فباب المفاعلة يكون بين الاثنين بنحو يكون أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً به؛ لما عرفت من أنّه يدلّ على نسبة المادّة الى الفاعل مع إشراب معنى المشارِكيّة، فلا تلزم دلالة هيئة واحدة على معنيين، ولا عدم الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل، ولا عدم إعطاء المفاعلة معنى يكون بين اثنين.

هذا. ولكنّه لا يمكن المساعدة على هذا الذي يستفاد من كلامهم؛ لاختلاف معنى باب المفاعلة عن معنى (شارك زيد عمراً)، فإنّه في مثل هذا يكون الأصل بحسب المتصوّر الذهني هو المنصوب، والتابع هو المرفوع، مع انّ المستفاد من باب المفاعلة هو العكس، نعم، لو فرض تضمين معنى المشارَكيّة (بالفتح) لا المشارِكيّة (بالكسر) ارتفع هذا الإشكال.

وأمّا القسم الأول من كلامه (قدس سره) فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما أتى به من الأمثلة وهي أربعة عشر مثالاً، بل جميع ما يكون من قبيل تلك الأمثلة ـ إن وجد غيرها ـ لا يكون بمقدار ينافي ما يدّعى: من أنّ الأصل في باب المفاعلة هو أن يكون بين الاثنين.

وثانياً: أنّ جملة ممّا ذكره من الأمثلة إمّا تكون ممّا لا مجرّد له، أو ممّا يكون له مجرّد بغير معناه كبارز، وساعد، ونادى، ونافق، ووارى، وباشر، وبعضها وإن كان له مجرّد بمعناه، لكنّه موضوع لمعنى لا يناسب أن يكون بين أثنين، كخالَعَ وكآخذ مثلاً بمعنى المعاقبة، فبما أنّها من العالي الى السافل فوقوعها بين الاثنين بعيد عن الاعتبار، ومراد المشهور من وضع المفاعلة لما بين الاثنين: هو المفاعلة المأخوذة من المجرّد الذي يلائم معناه لفرض وقوعه بين الاثنين.

هذا كلّه لو فرضنا أنّ المراد بالأصل في المقام هو الغلبة. وأمّا لو قلنا: إنّ المراد بذلك هو أنّ باب المفاعلة بلحاظ سائر معانيه إنّما كان لشبهها بما بين الاثنين، فالمحور لمعاني باب المفاعلة الذي تكون بقيّة المعاني بلحاظه هو هذا المعنى، فسافر مثلاً لوحظت فيه مشابهته لما بين الاثنين من حيث إنّ ما يقع بين الاثنين كأنّه له نحو امتداد، والسفر ـ أيضاً ـ له نحو امتداد لطوله، فلو فرضنا أنّ المراد هو ذلك، كما هو الأقرب الى الاعتبار لا يأتي عليه الإشكال الذي أورده مهما كثرت أمثلة سائر المعاني غير معنى ما بين الاثنين ما دامت ملحوظة فيها جهة الشبه بذاك المعنى.

531

فإن قلت: لماذا لا يفرض أنّ هيئة المفاعلة موضوعة للجامع بين مطلق انحاء التجاوز والامتداد والطولانيّة في باب المفاعلة حتّى تشمل جميع موارد المشابهة والذي يكون لما بين الاثنين؟

قلت: إنّ فرض الأمر كذلك غير ممكن؛ لإنّه إمّا أن تكون الهيئة موضوعة لعنوان الجامع، أو لمنشأ الانتزاع، والأول مفهوم اسمي وليست الهيئة موضوعاً له، وليس الثاني إلّا نسباً متباينة لا جامع بينها.

ثمّ إنّ هنا وجهاً في تصوير معنى باب المفاعلة أحسن من القول بكون شأن هذا الباب تضمين معنى الشركة، حتّى لو فرض أنّ المعنى المضمَّن هو المشارَكيّة لا المشارِكيّة، وهذا الوجه: هوأن يقال: إنّ صيغة (فاعَل) كضارب مثلاً مشتملة على اُمور ثلاثة:

1 ـ مادّة الضرب مثلاً، وهذه تدلّ على معناها الأصلي وهو الضرب.

2 ـ الشيء الزائد على ذلك بدخوله في باب المفاعلة كألف (فاعَلَ) وهذا يدلّ على تحصيص المعنى المستفاد من تلك المادّة، وفرض الضربين عملية واحدة تبتدىء بحسب عالَم المتصوّر الذهني من زيد مثلاً وتنتهي الى عمرو.

3 ـ هيئة المجرّد المحفوظة لا بحدّها في صيغة (فاعَلَ) المندكّة في تلك الصيغة، وهذه الهيئة تنسب المعنى المستفاد من مجموع المادّة الأصليّة مع تلك الزيادة الى الفاعل. وبهذا التفسير نتحفّظ على دلالة باب (فاعَلَ) على معنى بين الاثنين من دون الوقوع في محذور وحدة الدال وتعدّد المدلول مع التحفّظ على الفرق بين باب التفاعل وباب المفاعلة.

وهذا التصوير أحسن من التصوير السابق، أعني: تضمين معنى الشركة ولو بمعنى المشارَكيّة (بالفتح) لا المشارِكيّة (بالكسر)؛ وذلك لأنّه لا ريب في استشمام معنى المفعوليّة للمنصوب في هذا الباب، أي: كونه مفعولاً لذلك الفعل الذي فرض صدوره في المقام، لا لمجرّد الشركة، وهذا الاستشمام لا يبقى له تفسير في الأفعال التي يتغيّر مفعولها بإدخال صيغة المفاعلة عليها، كما في (طرحت الثوب) و (طارحت زيداً الثوب)، بناءً على التصوير السابق، وأمّا تفسيره بناءً على التصوير الذي ذكرناه ففي غاية الوضوح؛ إذ قد فرضت عملية المطارحة عملية تبتدىء بحسب عالَم المتصوّر الذهني من الفاعل وتنتهي الى زيد.

ثمّ إنّه إذا فرض أنّ الضرار مصدر لباب المفاعلة المزيدة كما فرضناه حتّى

532

الآن، ففيه من حيث المعنى احتمالات:

1 ـ كونه بمعنى ما بين الاثنين.

2 ـ كونه بمعنى يشبه ما بين الاثنين مراعاة لحقّ أصالة المعنى الأوّل في باب المفاعلة، وذلك عبارة عن فرض تأكّد وشدّة في الضرر وذلك يشبه المعنى الأصلي للمفاعلة؛ لكونه ـ أيضاً ـ مشتملاً على نوع من الدوام، والشدّة، والتعمّق في الضرر.

3 ـ كونه ـ أيضاً ـ بمعنى يشبه المعنى الأصلي للمفاعلة وهو تعمّد الضرر وتقصّده، فإنّ هذا ـ أيضاً ـ يعطي معنى تعمّق في الضرر، وعناية خاصّة به، كما هو الحال في المعنى الأصلي للمفاعلة.

وإذا فرض أنّ الضرار مصدر لباب المفاعلة غير المأخوذة من الثلاثي فعندئذ يكون تفسيره بما يشبه معنى ما بين الاثنين، لا بنفس المعنى الذي يكون بين الاثنين أقرب إلى الذهن.

وإذا فرض أنّ الضرار مصدر للثلاثي المجرّد ففيه احتمالات:

1 ـ أن يكون بمعنى الضرر.

2 و 3 ـ أن يكون مأخوذاً فيه نوع من العناية بالضرر إمّا بمعنى الشدّة والتأكّد، أو بمعنى التعمّد والتقصّد، ولذا غيّرت صيغة المصدر من الوزن الأوّل وهو الضرر الى وزن فعال أي ضرار.

وعليه فقد أصبحت المعاني المحتملة في الضرار أربعة:

1 ـ كونه بمعنى الضرر، وهذا في نفسه بعيد حتّى إذا فرض مصدراً للثلاثي المجرّد، فإنّ العرف يفهم من تغيير المصدر من صيغة الضرر إلى صيغة ثانية له على وزن ضرار إرادة نوع عناية بالضرر وتعمّق فيه بمعنى التأكّد أو التقصّد، وعلاوة على ذلك لا يناسب هذا المعنى حديث (لا ضرر ولا ضرار)؛ لأنّه يلزم من ذلك: أن يكون تكراراً وعطفاً للمرادف على المرادف بهذه الصيغة، أي: صيغة تكرار (لا) النافية، من قبيل أن يقال: ما رأيت إنساناً ولا بشراً، وركاكة ذلك بحسب النظر العرفي واضحة.

2 ـ كونه بمعنى ما بين الاثنين، وهذا المعنى معلوم العدم في بعض الروايات، وهي الرواية التي طبّقت عنوان المضارّ على سمرة مع أنّه لم يكن الضرر من الطرفين، إلّا أن يفرض أنّه إنّما استعمل هنا فعل ما بين الاثنين بلحاظ أنّه من أحد الطرفين كان الضرر ثابتاً واقعاً، وهو جانب سمرة، ومن الطرف الآخر وهو الأنصاري كان الضرر ثابتاً على قول سمرة الذي يرى نفسه محقّاً، وفيه من البعد ما لا يخفى، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله)

533

يطبّق عنوان المضارّ حسب نظره هو، لا ملفّقاً من نظره ونظر سمرة.

وعلى أيّ حال فهذه الرواية ضعيفة السند على أنّه يبقى الكلام بلحاظ باقي الروايات.

والصحيح في دفع هذا الاحتمال: هو أن يقال: إنّ هذا ـ أيضاً ـ يلزم منه التكرار بتلك الصيغة، فإنّ كلا الضررين فيما يكون بين الاثنين منفيّ بقوله: (لا ضرر) كما لا يخفى، وهذا التكرار بهذا النحو فيه ما لا يخفى من ركاكة التعبير.

3 ـ كونه بمعنى الضرر الشديد المؤكّد، وهذا ـ أيضاً ـ يلزم منه التكرار بذاك النحو، فإنّ الضرر الشديد منفيّ بقوله: (لا ضرر).

4 ـ كونه بمعنى تقصّد الضرر، وهذا هو المتعيّن في المقام، ولسنا نقصد بذلك إثبات كون الضرار في المقام بهذا المعنى بما عرفته من السبر والتقسيم بعد الشكّ في كون هذا أحد المعاني العرفيّة للضرار وعدمه حتّى يقال: إنّ هذا إثبات للمعنى اللغوي بالاستحسانات، بل نحن لا نشكّ في كون هذا معنى عرفياً لكلمة (الضرار) فنعيّنه في المقام بالاستظهار العرفي باعتبار لزوم التكرار الركيك على الاحتمالات السابقة، وعدم لزومه على هذا الاحتمال.

وبيان عدم لزوم التكرار على هذا الاحتمال: هو أنّ حديث (لا ضرر) ـ على ما سوف يأتي إن شاء اللّه ـ ينفي الحكم الضرري، ويبقى ـ عندئذ ـ حكم ليس ضرريّاً بنفسه، لكنّه يُتَقَصّد ويُتعمّد به الضرر مثاله: أنّ الحكم بكون الناس مسلّطين على أموالهم بنفسه ليس ضرريّاً، لكنّه قد يستغلّه أحد الشريكين فيُعمِل هذا الحقّ الذي ليس بنفسه ضرريّاً بنحو يوجب الضرر على الشريك الآخر، وذلك من قبيل أن لا يأذن لشريكه أن ينتفع بهذه العين بوجه من الوجوه من بيعها وتقسيم ثمنها، أو إجارتها وتقسيم اُجرتها، أو الانتفاع بها بأي نحو من الأنحاء(1)، فمثل هذا منفي


(1) لا يخفى أنّ هذا المثال يناسب ـ أيضاً ـ أن يكون مثالاً لضرريّة الحكم؛ لأنّ حصّة من السلطنة وهي السلطنة على هذا النحو من منع الشريك عن التصرّف أصبحت ضرريّة. ولكنّ الظاهر أنّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ليس هو هذا المعنى، بل مقصوده: أنّه لو لم يكفِ في مقام منع هذا الشريك عن هذا التصرّف نفي هذه الحصّة من السلطنة بأن كان عاصياً متعمّداً لالتزام هذا النحو من التصرّف متذرّعاً بالشركة، ولم يمكن ردعه خارجاً عن ذلك، إلّا بقطع الشركة، وتقسيم المال رغماً عليه، فهنا تصل النوبة الى التمسّك بـ( لا ضرار)؛ لإثبات جواز إجباره على التقسيم، وقطع الشركة رغم أنّ أصل الشركة ليس ضرريّاً في المقام.

534

بقوله: (لا ضرار)، ولا يلزم من ذلك تكرار.

والخلاصة: أنّ الضرار على ما يفهم عرفاً معناه هو الضرر مع أخذ شيء من التأكّد والتعمّق فيه، وهذا التأكّد والتعمّق قد يكون بلحاظ الجانب الخارجي للضرر، وهو عبارة عن شدّة الضرر، أو طوله ونحو ذلك، وقد يكون بلحاظ الجانب النفسي من الضرر، وهو عبارة عن تعمّده، وتصيّده، والتفنّن فيه، ونحو ذلك من التعابير. والمتعيّن في المقام هو الثاني؛ لما عرفت من أنّ الأوّل يلزم منه التكرار الركيك في المقام.

ويؤيّد ذلك نفي الفقهاء بالقاعدة جملة من الأحكام التي ليست ضرريّة في نفسها حتّى تكفي في نفيها كلمة (لا ضرر)، وإنّما تستغلّ للإضرار ويتعمّد بها الضرر، وذلك من قبيل نفي كون الطلاق بيد الزوج حينما يستغلّ الزوج ذلك في الإضرار، ونفي سلطنة الشريك حينما يستغلّها في ذلك.

وقد يقال في المقام: إنّ الضرار له معنى مباين لمعنى الضرر، فإنّ الضرر عبارة عن النقص، والضرار ليس نقصاً، وإنّما هو شدّة وضيق من دون نقص، ويستشهد لذلك باستعمال الضرار في كلّ مورد استعمل فيه من الآيات القرآنية في الضيق والشدّة من دون نقص، كقوله تعالى: ﴿والذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين(1)، وقوله تعالى: ﴿ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا(2).

أقول: بل إنّ الضرار في أمثال هذه الموارد ـ أيضاً ـ يوجب النقص، كما مضى منّا في مثال منع شخص من الخروج من البلد، أو الاشتراك في الشركات، فإنّه نقص في حقّ استقرار الشخص وراحته وحريّته وسكون باله ونحو ذلك ممّا يعدّ حقّاً عقلائيّاً أو قانونيّاً، على أنّ الضرر ـ أيضاً ـ استعمل في بعض الآيات فيما نظنّ أنّه لم يلحظ فيه نقص من غير ناحية الضيق والشدّة، كما في قوله تعالى: ﴿ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنّهم لن يضرّوا اللّه شيئاً يريد اللّه أن لا يجعل لهم حظّاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم * إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّوا اللّه شيئاً ولهم عذاب أليم(3).


(1) س 9 التوبة، الآية 107.

(2) س 2 البقرة، الآية 231.

(3) س 3 آل عمران، الآية 176 ـ 177.

535

فإنّ الظاهر أنّ الذي كان يتصوّر من الضرر في حقّه تعالى هو تأثّره وتأذّيه من قبيل تأثّر المؤمن حينما يرى المعاصي، لا نقصان ماله مثلاً، وقوله تعالى: ﴿لن يضرّوكم إلّا أذى(1) وقد فسّر الأذى بالمشاغبة.

نعم، تعيّن حمل هذه الآيات على إرادة الضرر لا الضرار مبنيّ على دعوى: أنّ الضرار مصدر للمفاعلة لا للثلاثي، وقد استعمل الضرار في بعض الآيات فى مورد النقص، كما في قوله تعالى: ﴿مِن بَعْد وصيّة يوصى بها أو دين غيرَ مضارّ(2) بناءً على أنّ (الضرار) مصدر لفاعَلَ دون الضرر ـ وعلى العكس من ذلك مصدر فَعَلَ ـ وقد فسّرت الكلمة هنا بأن يدّعي دَيْناً على نفسه لشخص كذباً فيضّر بذلك الورثة لورود النقص على مالهم.

وعلى أيّ حال، فالمتفاهم عرفاً من الضرار هو ما ذكرناه من الضرر مع لحاظ شيء من التأكّد والعناية في الجانب الخارجي منه، أو في الجانب النفسي منه، والمتعيّن في المقام هو الثاني كما مضى.

 


(1) س 3 آل عمران، الآية 111.

(2) س 4 النساء، الآية 12.