399

بقي شيء: وهو أنـّه في المركّبات الارتباطيّة التي يعتبر فيها الترتيب بين الأجزاء يكون الشكّ في جزئيّة شيء فيها مساوقاً للشكّ في الزيادة بالنسبة للجزء الذي بعده لدى ترك ذاك الجزء المشكوك، فلو شكّ في كون الشهادة الثانية مثلاً جزءاً أو لا فَتَرَكها اعتماداً على البراءة، وأتى بما يليها وهو الصلاة على محمد وآله (صلى الله عليه وآله)، فمن المحتمل أن تكون هذه زيادة؛ إذ على تقدير جزئيّة الشهادة الثانية يجب أن تكون الصلاة على محمد وآله (صلى الله عليه وآله) بمقتضى الترتيب بعد تلك الشهادة وليست الصلاة عليهم قبلها جزءاً، ومع هذا الشكّ لو أتى بالصلاة عليهم بقصد الجزئيّة لكان تشريعاً، والبراءة لا تثبت الإطلاق، فلا محيص عن أن يأتي بالصلاة عليهم رجاءً لا بقصد الجزئيّة، كما هو الحال في كل موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، فمتى ما أجرى البراءة عن الزائد يجب أن يأتي بالأقلّ رجاءً لا بعنوان كونه هو الواجب بحدّه وإلّا لزم التشريع، إلّا بناءً على كون البراءة تثبت الإطلاق، لكنّه خلاف التحقيق كما مضى.

 

شبهة التشريع في الزيادة

الجهة الثالثة: في مبطليّة الزيادة في العمل العبادي لا من ناحية شرطيّة عدم الزيادة أو جزئيّته، بل من ناحية التشريع والإضرار بقصد القربة حينما يقصد الجزئيّة وهو ليس بجزء(1).

وهذا القصد تارة يكون بمعنى التصرّف في أمر المولى، واُخرى يكون بمعنى الخطأ في حين أنـّه يريد العمل بواقع الأمر المولوي.


(1) هذه الجهة من البحث تكون من الجهات المرتبطة بنحو غير مباشر ببحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وهي ترتبط ببحث الدوران والشكّ بينهما بدمج ما دمجه فيها صاحب الكفاية من البحث عن قصد الجزئيّة لدى فرض الشكّ في الزيادة بعد فرض أنّها لو كانت زيادة لكان هذا القصد مبطلاً للتشريع وللإضرار بقصد القربة(1)، وبما أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ترك هذا المقطع فكأنّما يبدو أنّ هذه الجهة غير مربوطة بما نحن فيه.


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 244 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

400

أمـّا التصرّف في أمر المولى فهو على ثلاثة أنحاء:

النحو الأوّل: أن يغضّ النظر عن الأمر المولوي المتعلّق بالعمل من دون تلك الزيادة ويستبدله بفرض أمر مولوي متعلّق به مع تلك الزيادة، وهنا لا إشكال في البطلان من جهة التشريع، فإنّه لم يعبد ربّه ولم يمتثل أمر مولاه، وإنّما كان المحرّك له نحو عمله هو تشريعه وداعيه على الجري وفق الأمر الذي صنعه.

النحو الثاني: أن لا يغضّ النظر عن الأمر المولوي المتعلّق بالعمل من دون تلك الزيادة ولا يفرضه كالعدم، بل يفرض إلى جانب ذلك الأمر أمراً آخر ـ تشريعاً ـ متعلّقاً بمجموع العمل مع الزيادة، وعندئذ إن كان الأمر الأوّل كافياً في الداعويّة المستقلّة له نحو العمل صحّ عمله، ولا يبطله اشتماله على التشريع المحرّم؛ لعدم مضريّته بقصد القربة، وإن لم يكفِ إلّا بمقدار جزء الداعي، أو لم تكن له داعويّة أصلاً بطل عمله.

النحو الثالث: أن يمدّد نفس الأمر الموجود المنبسط على ما عدا هذا الزائد بحيث يشمل هذا الزائد، وذلك إمّا بأن يفرض أنّ مجموع الركوع الأوّل والركوع الزائد مثلاً جزء، أو بأن يفرض أنّ الجامع بين القليل والكثير جزء، فتشريعه إنّما هو في تمديد الأمر إلى هذا الزائد ولا بأس بصحّة عمله عندئذ؛ إذ قد أتى بالأجزاء الواقعيّة بقصد الأمر الواقعي، وإنّما شرّع في جزء زائد بتمديده لذلك الأمر وتكميله بحيث يشمل هذا الجزء بأحد النحوين.

هذه هي الشقوق الأساسيّة للمطلب مع أحكامها، ويمكنك التشقيق والتفريع.

وأمـّا الخطأ في القصد فقسّموه إلى قسمين:

الأوّل: ما يسمّى بالخطأ والاشتباه في التطبيق، وذلك بأن يقصد امتثال نفس الأمر الواقعي الموجود خارجاً لكنّه يعتقد اشتباهاً وخطأً أنـّه متعلّق بالمجموع من الزائد والمزيد عليه.

وهنا قالوا بصحّة العمل؛ إذ لم يكن أيّ خلل في قربته وتحركّه عن الأمر الواقعي، غاية ما هناك أنـّه طبّقه خطأً على المجموع.

الثاني: ما يسمّى بالخطأ بنحو التقييد، وذلك بأن لا يدري المكلّف أنـّه هل متعلّق الأمر خصوص الركوع الواحد أو مجموع الركوعين، أو يعتقد أنّ متعلّقه مجموع الركوعين، وعلى أيّ حال يأتي بالصلاة مع الركوعين، ويتحرّك عن الأمر الواقعي لو كان متعلّقاً بالركوعين، وأمـّا لو كان متعلّقاً بالركوع الواحد فهو لا يتحرّك

401

عنه.

وهنا قالوا بالبطلان؛ لأنّه تحرّك عن ذلك الأمر على تقدير غير متحقّق، فالتحرّك عن الأمر لم يتحقّق.

أقول: إنّ التحرّك في الحقيقة لا يكون حتّى في الصور الاعتياديّة عن الوجود الواقعي للأمر، وإنّما هو عن وجوده الواصل علميّاً أو احتماليّاً، وهذا هو معنى القربة. لا التحرّك عن ذات الأمر الواقعي الذي لا يعقل، وهذا الشخص قد تحرّك عن الوجود الواصل علميّاً أو احتماليّاً إليه للأمر بالمجموع، لا أنـّه تحرّك عن الأمر على تقدير ولم يتحرّك عنه على تقدير آخر.

نعم، تارة يفرض أنـّه يكون المحرّك له هو الجامع بين الأمر بالمجموع من الزائد والمزيد عليه، والأمر بخصوص المزيد عليه وهو يعتقد إنطباق الجامع على الفرد الأوّل، وهذا ما نسمّيه بالخطأ في التطبيق، واُخرى يُفرض أنّ محرّكه هو خصوص الوجود العلمي أو الاحتمالي للأمر بالمجموع، وهذا ما نسمّيه بالخطأ في التقييد ونقول: إنّ عمله أيضاً صحيح إذ هذا التحرّك تحرّك قربيّ، وإن كان ما تخيلّه من الأمر علماً أو احتمالاً لم يكن موجوداً فى الواقع ولا يشترط في صحّة العمل عدا كون تحرّك العبد نحوه تحرّكاً قربيّاً وكونه ممّا يصحّ في نفسه التقرّب به إلى المولى، وكلا الشرطين موجود هنا.

 

الشكّ في الجزئيّة عند العجز

التنبيه السابع: إذا شككنا في أنّ جزئيّة الجزء الفلاني هل هي مطلقة أو هي في غير حالة العجز فما هو مقتضى الأصل؟ هذا البحث يشبه من حيث العنوان تماماً البحث الذي مضى في التنبيه الخامس، ففي كلا البحثين يبحث عن الشكّ في كون الجزئيّة مطلقة أو مقيّدة بغير صورة العذر، إمّا بمعنى العذر النسياني كما في البحث السابق، وإمّا بمعنى العذر العجزي كما في هذا البحث. ولكنّ هنا فروقاً بين المبحثين من عدّة جهات تنشأ من الفرق التكويني بين طبيعة النسيان وطبيعة العجز، وبذكر تلك الجهات (أعني جهات الفرق) يتجلّى ما هو الموقف الصحيح في هذا البحث، فلنذكر تلك الجهات.

 

402

إمكان الالتفات إلى العجز

الجهة الاُولى: أنـّه مضى في البحث السابق إبداء شبهة أنّ الناسي لا يمكن أن يوجب عليه الباقي؛ لأنّه لو التفت إلى نسيانه خرج عن كونه ناسياً، وإلّا فلا يصله الخطاب، وقد مضى حلّ هذه الشبهة، ومضى أنّ بعضهم ربطوا بحث جريان البراءة وعدمه نفياً وإثباتاً بهذه الشبهة، فإن تمّت فلا مجال للبراءة، وإلّا فتجري البراءة، وإن كنّا نحن بيّنّا أنّ جريان البراءة وعدمه غير مرتبط بهذه الشبهة وجوداً وعدماً.

وأمـّا هنا فلا موضوع لتلك الشبهة رأساً؛ إذ لا مانع من توجّه العاجز إلى عجزه ولا يخرج بذلك عن كونه عاجزاً، فيمكن توجيه الخطاب إليه بإتيان الباقي، وهذا الفرق بين المبحثين بناءً على تسليم تلك الشبهة في نفسها هناك، وإن كان لا يثمر على مبنانا من عدم ارتباط جريان البراءة وعدمه بتلك الشبهة نفياً وإثباتاً، إلّا أنـّه يثمر على مبنى من يربط جريان البراءة وعدمه بتلك الشبهة نفياً وإثباتاً.

 

وجه الارتباط ببحث الأقلّ والأكثر

الجهة الثانية: أنـّه مضى في ذلك البحث أنّ السيّد الاُستاذ يرجع البحث إلى بحث جريان البراءة وعدمه في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، ببيان: أنـّه إن كانت الجزئيّة مطلقة فالواجب خصوص الفرد التامّ، وإن كانت مقيّدة فالواجب هو الجامع بين الفرد التامّ في حال الذكر والفرد الناقص في حال النسيان.

وقلنا هناك: إنّ هذا البحث خارج عن مبحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين حكماً في بعض الموارد، كما أنـّه خارج موضوعاً ـ أيضاً ـ في البعض الآخر، فإذا ارتفع النسيان في أثناء الوقت فهنا وإن كان يعلم إجمالاً بوجوب التامّ، أو الجامع بينه وبين الناقص في حال النسيان، لكنّ هذا العلم الإجمالي إنّما حصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء، فجريان البراءة هنا غير مربوط بجريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، فهذا خارج عن ذاك المبحث حكماً.وإذا استمرّ النسيان في تمام الوقت فالعلم الإجمالي إنّما هو علم إجمالي بين المتباينين؛ إذ يعلم إجمالاً بوجوب الناقص في الوقت أو التامّ في خارج الوقت، فهذا خارج عن بحث الأقلّ والأكثر موضوعاً، ومع كون الأمر دائراً بين المتباينين تجري البراءة؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما حصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء.

403

وأمـّا فيما نحن فيه، ففي فرض ارتفاع العجز في الأثناء يكون جريان البراءة وعدمه مرتبطاً بجريان البراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وعدمه؛ لأنّ العلم الإجمالي حاصل من أوّل الأمر؛ إذ هو من أوّل الأمر ملتفت إلى عجزه، وفي فرض استمرار العجز في تمام الوقت يكون العلم الإجمالي منجّزاً؛ لأنّه علم إجمالي دائر بين المتباينين ثابت من أوّل الأمر، لالتفاته إلى عجزه.

نعم، إذا لم يكن لذلك الواجب قضاء فلا يتشكّل علم إجمالي، بل يشكّ بدواً في وجوب الباقي وتجري البراءة.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان منجّزاً على مبانينا، لكنّه يمكن الاستشكال في منجّزيّته على بعض المباني كما على مباني المحقّق النائيني (قدس سره)الذي يقول: إنّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة يكون بمعارضة الاُصول، ومعارضتها تكون باستلزامها للترخيص في المخالفة القطعيّة بحيث يمكن للعبد الوقوع في المخالفة القطعيّة منه مرخصاً فيها، ولذا يقول (قدس سره): بعدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من باب عدم إمكان الجمع بين الإطراف، وعلى هذا فنقول: إنّه فيما نحن فيه لا تلزم مخالفة قطعيّة مرخّصاً فيها بما هي مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه إن أتى بالصلاة الناقصة في الوقت لم تلزم مخالفة قطعيّة، وإن ترك الصلاة في الوقت رأساً حصل له العلم التفصيلي بوجوب القضاء.

 

استصحاب وجوب الباقي

الجهة الثالثة: ما يظهر في فرض ثالث غير الفرضين الماضيين ـ من استمرار العجز إلى أثناء الوقت أو إلى آخر الوقت ـ وهو ما إذا كان العجز من أثناء الوقت فقد ذكرت فى المقام مسألة الاستصحاب، أي: استصحاب وجوب الباقي، ووقع البحث عنه، ولا أقصد أنّ التمسّك بالاستصحاب هنا صحيح، وإنّما المقصود أنّ شبهة الاستصحاب جاؤوا بها هنا، ولكن لا يوجد لهم أيّ ذكر عن الاستصحاب في مبحث النسيان(1) والصحيح هو ما صنعوه، فإنّ الاستصحاب على تقدير تماميّته في المقام


(1) المحقّق العراقي (رحمه الله) قد تعرّض في مقالاته ج 2، ص 102 للاستصحاب في فرض النسيان.

404

لا مجال له في مبحث النسيان.

فهنا نتكلّم في مقامين: الأوّل في أنـّه على تقدير تماميّة الاستصحاب هنا، هل يتمّ هناك، أو يوجد هناك فرق بين المقامين في ذلك؟ والثاني في أنـّه هل يتمّ الاستصحاب فيما نحن فيه أو لا؟

أمـّا المقام الأوّل: فالصحيح أنـّه لو تمّ الاستصحاب هنا فإنّه لا يتمّ في باب النسيان؛ إذ في حال النسيان لا يُوجد شكّ لاحق، فإنّ الناسي يرى نفسه ذاكراً وملتفتاً لا ناسياً، وبعد أن صلّى ناقصاً ثمّ تذكّر لا مجال لأن يُثبت وجوب ما أتى به من الباقي في حال النسيان بالاستصحاب؛ لأنّ الحكم الظاهري على ما مضى منّا إنّما هو لحفظ الملاكات الواقعيّة عند التزاحم، والاستصحاب هنا ليس له أيّة حافظيّة لملاك الباقي لو كان، بل انحفظ بنفسه في المرتبة السابقة على الحكم الظاهري، فأي مجال للحكم الظاهري؟!

ولا يقال: إنّه بناءً على إجزاء الأحكام الظاهريّة سوف تترتّب ثمرة على هذا الاستصحاب: وهي الإجزاء وعدم لزوم القضاء، فلا يكون الاستصحاب لغواً.

فإنّه يقال: إنّه لم يكن إشكالنا عبارة عن اللغويّة وعدم الثمرة حتّى يجاب بأنّ ثمرته الإجزاء بناءً على القول به، وإنّما إشكالنا عبارة عن أنّ حقيقة الحكم الظاهري هي الأحكام الحافظة لملاكات الأحكام الواقعيّة عند التزاحم في باب الشكّ، وهذا ما لا يتصوّر في المقام، والإجزاء إنّما هو فرع تحقّق الحكم الظاهري في نفسه وتماميّته، وهنا لا يتمّ الحكم الظاهري؛ لأنّ الملاك الواقعي انحفظ في المرتبة السابقة على الحكم الظاهري لا بالحكم الظاهري.

وأمـّا المقام الثاني: فالإشكال المتبادر إلى الذهن في اوّل النظر في هذا الاستصحاب هو أنّ الوجوب المتيقّن سابقاً للباقي هو الوجوب الضمني، والمشكوك لاحقاً هو الوجوب الاستقلالي له، فكيف يستصحب الوجوب السابق مع القطع بارتفاعه؟ وفي مقام دفع هذا الإشكال تذكر عدّة تقريبات للاستصحاب في المقام:

التقريب الأوّل: أن يحوّل مركز الاستصحاب من الفرد إلى الجامع فيُستصحب جامع الوجوب الضمني والاستقلالي للباقي.

ويرد عليه: أوّلا: أنّ هذا من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، وهو استصحاب الجامع بين الفرد المقطوع الارتفاع والفرد المشكوك الحدوث، وهو غير

405

صحيح على ما سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ بيانه في بحث الاستصحاب.

وثانياً: أنّ الجامع بين الوجوب الضمني للباقي والوجوب الاستقلالي له جامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل التنجّز، فإنّ الوجوب الضمني للباقي ـ مع فرض عدم القدرة على الجزء الآخر الذي لابدّ من ضمّه إلى هذا الباقي حتّى يفيد ـ لا يقبل التنجّز، ومثل هذا الجامع لو علم بالعلم الوجداني لا يترتّب على هذا العلم أثر التنجيز فكيف بالاستصحاب! هذا إذا اُريد من استصحاب الجامع إثبات الجامع فقط، وأمـّا إذا اُريد بذلك إثبات خصوص الوجوب الاستقلالي، كان ذلك تعويلاً على الأصل المثبت.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي (قدس سره) مضافاً إلى الإيراد الأوّل على هذا التقريب أورد إيراداً آخر: وهو أنّ استصحاب بقاء الوجوب محكوم لاستصحاب جزئيّة ذلك الجزء؛ لأنّ الشكّ في بقائه مسبّب عن الشكّ في كون جزئيّة ذلك الجزء مطلقة، فإن كانت جزئيّته مطلقة فالوجوب قد ارتفع، وإلّا فالوجوب باق (1).

ويرد عليه: أنـّه إن كان المراد باستصحاب الجزئيّة استصحاب جزئيّته بمعنى دخله في عالم الملاك فهذا سبب عقلي لسقوط الوجوب لا سبب تشريعي له حتّى يُستصحب ويُجعل استصحابه حاكماً على استصحاب الوجوب، وإن كان المراد استصحاب جزئيّته بمعنى كونه واجباً بالوجوب الضمني، فهذا مقطوع العدم، فإنّه مع عدم القدرة عليه غير واجب جزماً، وإن كان المراد استصحاب جزئيّته للواجب بمعنى الملازمة بين وجوب الصلاة وكون هذا الجزء واجباً ضمنيّاً في الصلاة فثبوت الملازمة بين طبيعة وجوب الصلاة والوجوب الضمني لهذا الجزء مشكوك من أوّل الأمر، نعم الثابت هو الملازمة بين وجوب الصلاة في خصوص حال القدرة على هذا الجزء والوجوب الضمني لهذا الجزء، وهذه الملازمة مقطوعة البقاء.

هذا، مضافاً إلى أنّ الملازمة في عرض عدم وجوب الباقي وهما معلولان لشيء ثالث وهو كون الملاك قائماً بالمجموع من هذا الجزء وبقيّة الأجزاء، وليست هنا سببيّة ومسببيّة حتّى السببيّة والمسبّبية التكوينيّة، وإن كان المراد استصحاب جزئيّة هذا الجزء لمسمّى الصلاة كما هو الذي يظهر من تقرير بحثه (قدس سره)(2) ففيه: أنـّه


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 450.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 451.

406

من الواضح أنّ هذا ليس حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً لحكم شرعي، وإنّما الواجب علينا هو واقع الصلاة لا مسمّى الصلاة بما هو مسمّى الصلاة.

التقريب الثانيّ: هو التفصيل بين الجزء الذي يعدّ ركناً ومقوّماً للصلاة والجزء الذي يعدّ وجوده وعدمه من حالات الصلاة لا مقوّماً لها بحيث يتبدّل بانتفائه الموضوع.

وذلك بتقريب أنـّه قد حقّق في بحث الاستصحاب التفصيل بين انتفاء ما يعدّ جهة تعليليّة وما يعدّ جهة تقييديّة، فمع انتفاء الجهة التقييديّة لا مجال للاستصحاب؛ لعدم الشكّ اللاحق والجزم بالارتفاع، ومع انتفاء الجهة التعليليّة يجري الاستصحاب؛ لوجود اليقين السابق والشكّ اللاحق، فنطبّق هذه القاعدة على ما نحن فيه، ونقول في موارد العجز عن الأجزاء التي تعدّ جهة تعليليّة باستصحاب وجوب الباقي؛ لأنّه عرفاً عين الموضوع السابق قد علم سابقاً بوجوبه وشكّ لاحقاً في وجوبه فيستصحب وجوبه.

وتوضيح بطلان هذا التقريب يكون بشرح فكرة التفصيل بين الجهة التعليليّة والتقييديّة، وهذا موكول إلى بحث الاستصحاب، إلّا أنّنا نقول هنا إجمالاً: إنّ الجهة المنتفية التي يراد أن يُرى أنّها تعليليّة أو تقييديّة تارة يُفرض القطع بكونها دخيلة في شخص الحكم المعلوم حدوثاً وبقاءً، غاية الأمر أنـّه يحتمل بعد انتفائها ثبوت حكم آخر مماثل للحكم الأوّل، وفي هذا القسم لا مجال للاستصحاب ولو فرضت الحيثيّة تعليليّة لا تقييديّة فإنّها سواء كانت تقييديّة أو تعليليّة نحن نعلم بانتفاء الحكم عند انتفائها ولو لأجل انتفاء علّته، وإنّما نحتمل حكماً آخر غير الحكم الأوّل، فهنا لا مجال للاستصحاب؛ لعدم الشكّ اللاحق في بقاء الحكم السابق والقطع بارتفاعه.

واُخرى يفرض الشكّ في كونها دخيلة في الحكم المعلوم وعدمه، أو الجزم بدخلها حدوثاً والشكّ في دخلها بقاءً، وعندئذ يتحقّق الشكّ اللاحق في بقاء الحكم السابق سواء كانت الجهة تعليليّة أو تقييديّة؛ إذ على تقدير دخلها بقاءً يكون الحكم منتفياً، وعلى تقدير عدم دخلها بقاءً أو عدم دخلها لا حدوثاً ولا بقاءً يكون شخص ذلك الحكم باقياً، إلّا أنـّه لا نقول ـ عندئذ ـ بجريان الاستصحاب مطلقاً، بل نفصّل بين فرض كون الجهة تعليليّة وكونها تقييديّة؛ لأنّه إذا كانت الجهة تقييديّة فلا يُمكننا أن نشير إلى شخص الباقي ونقول: إنّ هذا كان ذا حكم كذائي والآن كما كان؛ لأنّ هذا يعدّ غير الشيء السابق الذي كان ذا حكم كذائي، فمثلاً إذا جاز تقليد المجتهد ثمّ زال اجتهاده فلا يصحّ أن يقال: إنّ هذا الشخص بما هو هذا الشخص كان يجوز تقليده فالآن كما كان؛ لأنّ الاجتهاد يعدّ حيثيّة تقييديّة لجواز التقليد، فيقال: إنّه فيما سبق

407

كان يقلَّد المجتهد بما هو مجتهد وهذا ليس مجتهداً. وهذا بخلاف ما إذا كانت الجهة تعليليّة بمناسبات الحكم والموضوع في نظر العرف كالتغيّر في الماء المتغيّر مثلا فيشار إلى الموضوع المعيّن ويقال: إنّ هذا كان نجساً والآن كما كان بحسب الاستصحاب. وتوضيح ما ذكرناه وتفصيله موكول إلى بحث الاستصحاب.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الأوّل، فإنّ المفروض أنّ الحكم المتيقّن إنّما هو وجوب تمام الأجزاء، فهو ينتفي حتماً بتعذّر بعض الأجزاء، ويكون ذلك الجزء دخيلاً في الحكم حدوثاً وبقاءً ولو فرض كون الجهة تعليليّة، وأمـّا الحكم بوجوب الباقي فهو حكم آخر، ولا مجال لإثباته بالاستصحاب، فدعوى دخول ما نحن فيه في قاعدة التفصيل في الاستصحاب بين موارد الحيثيّة التقييديّة وموارد الحيثيّة التعليليّة؛ توهّم باطل، وقد نشأ ذلك من الاشتباه الصادر منهم في مبحث الاستصحاب عند التفصيل بين موارد الحيثيّة التقييديّة وموارد الحيثيّة التعليليّة حيث تخيّلوا أنّ كون الحيثيّة تعليليّة يساوق تحقّق الشكّ اللاحق وعدم الجزم بزوال الحكم السابق، وهذا يوجب التفصيل، مع أنـّه ليس كذلك، بل هما شيئان مختلفان لايرتبط أحدهما بالآخر، فقد تكون الحيثيّة تعليليّة ومع ذلك لا يوجد شكّ لاحق، بل يقطع بانتفاء الحكم السابق، فلا مجرى للاستصحاب، وقد يكون الشكّ اللاحق ثابتاً لكنّ الحيثيّة تقييديّة فلا يجري الاستصحاب أيضاً، على ما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء اللّه.

التقريب الثالث: هو أنّ وجوب الباقي بعد تعذّر أحد الأجزاء هو عين وجوبه قبل التعذّر إلّا أنـّه يختلف عنه في الحدّ؛ لأنّ الوجوب كان قبل التعذّر منبسطاً على الجزء الزائد، والآن انكمش عنه ووقف على سائر الأجزاء، ونحن نستصحب ذات المحدود بقطع النظر عن الحدود من قبيل استصحاب ذات الحمرة بعد القطع بزوال شدّتها.

أقول: إن اُريد تصوير حركة الانبساط والانقباض في عالم الحبّ وما فوقه، فهو محتمل البقاء حتّى بلحاظ الجزء المتعذّر، وإن اُريد تصويرها في عالم التكليف والاعتبار فهو غير معقول؛ فإنّ التكليف والاعتبار ليست له حركة الانبساط والانقباض، وإنّما هو أمر ساكن وثابت على النحو الذي اُنشِىء واعتُبِر، والتكليف بالباقي مباين للتكليف بالمجموع.

نعم، يمكن استصحاب وجود مبادىء الحكم من الحبّ وما فوقه في الباقي لولا ما سيجيء من إشكال الدوران بين قبوله للتنجّز وعدم قبوله له.

هذا، وقد تحصّل إلى هنا عدم تماميّة شيء ممّا ذكروه من الأجوبة عن

408

الإشكال الرئيسي الماضي الذي ذكره الأصحاب في المقام، وهو أنّ المشكوك اللاحق غير المتيقّن السابق؛ لأنّ المتيقّن السابق هو الوجوب الضمني للباقي، والمشكوك اللاحق هو الوجوب الاستقلالي له.

إلّا أنّ هذا الإشكال مبنيّ على تصوّر خاطىء في المقام: وهو تخيّل أنّ الباقي لو كان واجباً عليه عند العجز عن الجزء الزائد فإنّما يجب عليه ذلك بخطاب مستقلّ، وهذا التصوّر غير صحيح، فإنّه مضى في مبحث النسيان إمكان تصوير الخطاب من أوّل الأمر بنحو يُوجب الإتيان بالأقلّ عند النسيان، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فمن الممكن تصميم الخطاب من أوّل الأمر بنحو يوجب الإتيان بالتامّ عند القدرة والإتيان بالناقص عند العجز؛ وذلك بأن يوجب المولى من أوّل الأمر الجامع بين التامّ عند القدرة والناقص عند العجز، فلو كان الخطاب في الواقع هكذا فالباقي بعد العجز واجب بنفس الوجوب السابق، إذن فقد شككنا في بقاء وجوب الباقي الثابت عليه فيما سبق وعدمه، فإنّه إن كان ذلك الوجوب وجوباً للتامّ فهو غير باق، وإن كان وجوباً للجامع بين وجوب التامّ في حال القدرة ووجوب الناقص في حال العجز فهو باق، فاستحصاب وجوب الباقي لا يرد عليه الإشكال الذي ذكره الأصحاب.

نعم، يرد عليه: أنّ الوجوب السابق على أحد التقديرين غير قابل للتنجيز حين العجز، وهو تقدير كونه وجوباً للتامّ، فاستصحاب الوجوب السابق استصحاب للجامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل التنجّز، فإن اُريد بذلك إثبات هذا الجامع فقط فهذا الجامع لا يتنجّز بالعلم الوجداني فضلاً عن الاستصحاب، وإن اُريد بذلك إثبات التقدير الآخر فهو تعويل على الأصل المثبت.

وبمثل هذا نجيب عن التقريب الذي أشرنا إليه للاستصحاب من استصحاب بقاء مبادىء الحكم في الباقي، فإنّه على تقدير كونها منبسطة على الجزء غير المقدور كما كانت كذلك قبل العجز لا تقبل التنجّز، وعلى تقدير انكماشها ووقوفها على الباقي تقبل التنجّز، فإن اُريد إثبات التقدير الثاني كان الأصل مثبتاً، وإلّا لم يترتّب على هذا الاستصحاب تنجيز.

 

وجوب الباقي بقاعدة الميسور

الجهة الرابعة: أنّة قد يثبت في المقام وجوب الباقي بعد العجز عن الزائد بدليل اجتهادي وهو ما يسمّى بقاعدة الميسور.

409

 

 

 

قاعدة الميسور

 

والدليل عليها من الأخبار روايات ثلاث:

أحدها: الرواية العاميّة: عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1).

وثانيها: الرواية العلويّة: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(2).

وثالثها: الرواية العلويّة الاُخرى: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(3).

وهذه الروايات لا يمكن الاعتماد على شيء منها من حيث السند؛ فإنّ الروايتين الأخيرتين مرسلتان مذكورتان في غوالي اللئالي لم يُرَ لهما عين ولا أثر في كتب الأخبار المتقدّمة، فلا يحتمل فضلاً عن أن يُطمأن باعتماد السابقين الذين هم أشدّ بصيرة منّا بخصوصيّات الخبر من حيث الصدق والكذب على هذين الخبرين، فلا ينجبر سندهما بذلك بناءً على قبول كبرى الانجبار بعمل السابقين، وأمـّا الرواية الاُولى فهي عاميّة مرويّة عن أبي هريرة ليس لها عين ولا أثر في كتب أخبار الخاصّة، ولهذا ليس هنا مزيد حاجة إلى التكلّم تفصيلاً في دلالة هذه الأخبار والإشكالات التي اُوردت عليها، إلّا أنّنا نتكلّم عن خصوص حديث «الميسور لا يسقط بالمعسور»؛ لأنّ البحث فيه أكثر فنيّة، وبالتكلّم فيه يظهر حال جملة من الإشكالات التي تتطرّق إلى الحديثين الآخرين ثمّ نتكلّم ـ أيضاً ـ عن حديث «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(4).

 


(1) سنن البيهقي: ج 4، باب وجوب الحج مرّة واحدة، ح 1، ص 326، وصحيح مسلم: ج 4، باب فرض الحج مرّة في العمر، ح 1، ص 102.

(2) غوالي اللئالي: ج 4، ح 207، ص 58.

(3) نفس المصدر: ح 205.

(4) كأنّ البحث عن هذا الحديث كان نتيجة أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أحسّ بأنّ بعض

410

أمـّا حديث الميسور لا يسقط بالمعسور فقد اعترض على دلالته بعدّة إشكالات كل واحد منها يبتني على بعض التفاسير في هذا الحديث، فلنذكر أوّلاً التفاسير التي قد تحتمل في هذا الحديث وهي ثلاثة:

التفسير الأوّل: أن يفرض قوله: «لا يسقط بالمعسور» نهياً بلسان النفي من قبيل قوله تعالى﴿لا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحَج﴾(1). على بعض تفاسير الآية ومن قبيل الأمر بلسان الإخبار كما يقال: (يسجد سجدتي السهو) بمعنى: اسجد سجدتي السهو.

التفسير الثاني: أن يفرض هذا الكلام نفياً تشريعيّاً بأن يقصد بنفس ذلك جعل الحكم والتكليف من قبيل قوله: «لا ربا بين الوالد وولده»(2). المقصود به تشريع حليّة الربا لا الإخبار بعدم وجوده تكويناً.

التفسير الثالث: أن يحمل على النفي الحقيقي الإخباري كقولنا: الإنسان لا يمشي على يديه وقوله تعالى ﴿ما جَعَلَ عليكُم في الدينِ من حَرَج﴾(3).

وأمـّا الإشكالات فهي اُمور:

منها: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من تعارض ظهور هيئة (لا يسقط) في وجوب الإتيان بالباقي مع ظهور (الميسور) في الإطلاق وشموله للمستحبّات، فإنّ الميسور من المستحبّ لا يجب الإيتان به عند تعذّر بعض أجزائه(4).

وهذا الإشكال مبتن على التفسير الأوّل من التفاسير الثلاثة، وهو حمل النفي على النهي، إذ لو قلنا: إنّه جعلٌ لبقاء الحكم الثابت قبل العجز عن بعض الأجزاء، أو إخبار عن ذلك كما هو الحال في التفسير الثاني والثالث لم يكن موضوع لهذا الإشكال كما هو واضح.

 


الحضّار يحبّ أن يبحث عن هذا الحديث أيضاً، وإلّا فهو كان مصمّماً على الاقتصار على بحث الميسور.

(1) سورة 2، البقرة، الآية 197.

(2) راجع الوسائل: ج 18 بحسب طبعة آل البيت، ب 7 من الربا، ح 1، ص 135، و ح3، ص 136.

(3) سورة 22، الحجّ، الآية 78.

(4) راجع الكفاية: ج 2، ص 252 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

411

والصحيح: أنّ التفسير الأوّل خلاف الظاهر؛ إذ:

أوّلاً: أنّ حرف السلب في قوله: «لا يسقط» بحسب ظهوره الأوّليّ يكون نفياً حينما لا قرينة على إرادة النهي.

ثانياً: لا يصحّ حمل الرواية على النهي، لا لمجرّد عدم القرينة على ذلك كما ذكرناه في الوجه الأوّل، بل لخصوصيّة في سياق الحديث، وهي أنّ حرف السلب لم يدخل على ما هو فعل المكلّف حتّى يقبل حمله على النهي، وإنّما دخل على ما هو من أفعال المولى، وهو سقوط الميسور، والتعبير (بالسقوط) يكون باعتبار وجوده واستقراره في العهدة كما يقال: كان عليه دين فاسقطه.

إن قيل: يمكن أن يراد السقوط من حيث العمل الخارجي بمعنى ترتيب آثار السقوط فيتصوّر النهي، وذلك كما في: «لا تنقض اليقين بالشكّ» حيث يحمل على ترتيب آثار النقض، وإلّا فأصل اليقين منقوض ومقطوع جزماً.

قلت: أوّلاً: إنّ هذا إنّما يصار إليه حيث لا يمكن حمل اللفط على معناه الحقيقي، فيُحمل على إرادة آثار ذلك المعنى كما في حديث: (لا تنقض)، وهذا بخلاف مثل ما نحن فيه الذي يمكن حمله على معناه الحقيقي.

وثانياً: أنّ النقض من الأفعال التي يمكن إضافتها إلى المكلّف في نفسها بغضّ النظر عن خروجه عن قدرة المكلّف، والسقوط ليس هكذا، وإنّما الذي يقابل النقض في هذه الجهة هو الإسقاط، وأمـّا السقوط فهو مقابل الانتقاض؛ ولذا اُسند في الحديث إلى الميسور لا إلى المكلّف.

نعم، لو قُرىء الحديث هكذا: (الميسور لا يُسقَط) بصيغة المجهول، صحّ من هذه الناحية قياسه بالنقض في حديث: (لا تنقض).

ثمّ لو سلّم حمل الحديث على النهي قلنا: إنّ هذا الحديث إنّما يدلّ على المنع عن إسقاط الميسور من المستحبّ من جهة تعذّر بعض الأجزاء، وأمـّا إسقاطه من جهة كونه من المستحبّات لا من الواجبات، فلا يدلّ على المنع عنه، فلا معارضة بين الهيئة والإطلاق.

ثمّ لو سلّم التعارض بين ظهور النهي في اللزوم والإطلاق، قلنا: إنّ الأوّل يقدّم على الثاني على ما قرّر في محلّه، فلو ورد مثلاً: (لا تكرم الفاسق) وورد الدليل على جواز إكرام زيد الفاسق، يجعل الثاني مخصّصاً للأوّل لا قرينة على حمل النهي على الكراهة، بأن يقال بجواز إكرام كل فاسق لكن مع الكراهة.

412

نعم، لو قلنا: إنّ تقييد كلمة (الميسور) بخصوص الواجبات يوجب تخصيص الأكثر وهو غير جائز، لم يكن وجه لهذا الإشكال، ولكنّ هذا مجرّد فرض وتقدير، فإنّ إخراج أفراد كثيرة بعنوان واحد تدخل تحته جميعاً غير ضائر فيما لو كان الباقي أفراداً عرفيّة، خصوصاً مع فرض كون الأفراد الباقية مع قلّتها أكثر جلاءً وبروزاً في نظر العرف لما هي عليها من الوجوب واللزوم المؤدّي إلى الاهتمام له على نحو أشدّ وأقوى.

ومنها: ما أورده السيّد الاُستاذ على ما في الدراسات(1) وبعد ما تبنّى التفسير الثاني(2) في الرواية وهو حملُها على النفي وإرادة التشريع.

وحاصله: أنّ هذا الحديث إن حُمل على باب الكلّي والفرد فدلَّ على وجوب إكرام باقي العلماء إذا وجب إكرام كلِّ عالم وتعذّر إكرام بعضهم، كان الحديث إرشاديّاً، فإنّ عدم سقوط بعض الأفراد بتعذّر بعض آخر أمر ثابت تكويناً يدركه العقل؛ إذ المفروض كونها واجبات استقلاليّة.

وإن حُمل على باب الكل والجزء فدلّ على ما هو المقصود في المقام من أنـّه لو تعذّر بعض أجزاء المركّب الارتباطي وجب الإتيان بالباقي كان هذا حكماً مولويّاً؛ لأنّ وجوب الباقي وجوب جديد مستقلّ لابدّ له من حكم مولوي جديد، ولا جامع بين الحكم الإرشادي والحكم المولوي، فلا يمكن حمل الحديث على كلا الأمرين، فيتردّد بينهما ويصبح مجملاً، ولا يمكن رفع إجماله بإجراء قانون أصالة المولويّة عند دوران الأمر بين المولويّة والإرشاديّة، فإنّ هذا الأصل إنّما يجري فيما لو اُحرز الموضوع ثمّ دار الأمر بين كونه مولويّاً أو إرشاديّاً، كما لو قال: (لا تأكل الرّمان) ودار الأمر بين كونه مولويّاً أو إرشاداً إلى وجود المفسدة فيه، فيحمل على المولويّة، وأمـّا لو دار الأمر مثلاً بين أن يكون مقصود المولى الأمر بالصلاة فيكون مولويّاً، أو الإخبار بشيء فيكون إرشاديّاً، فلا أصل يقتضي المولويّة، وما نحن فيه من هذا القبيل.

أقول: إنّ التفصيل الذي ذكره في أصالة المولويّة صحيح ولم يذكر نكتته،


(1) ج 3، ص 303 - 304، راجع ـ أيضاً ـ المصباح: ج 2، ص 482.

(2) لم يتبنَّ السيّد الخوئي(رحمه الله) في الدراسات تفسيراً معيّناً للحديث، وتبنّى في المصباح: ج 2، ص 484 تفسيره بالإخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحبّ، أو عدم سقوط وجوبه، أو استحبابه.

413

ونحن نذكرها هنا فنقول: إنّ نكتة الفرق بين الموردين هي: أنّ الكلام في الصورة الثانية يكون محفوفاً بما يصلح للقرينيّة على خلاف الأصل؛ لأنّه مردّد بين معنيين يكون أحدهما قرينة على عدم المولويّة، وقد تقرّر في موضعه أنّ الأصل لا يجري في مثل ذلك.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ بنى هذا التقريب على التفسير الثاني للرواية(1) مع أنـّه جار حتّى على الوجه الأوّل في تفسيرها، وهو حمل الرواية على النهي. نعم، لا يجري على الوجه الثالث، وهو حملها على الإخبار الصرف، فإنّه يكون ـ عندئذ ـ إرشاداً وإخباراً على كل تقدير مع قطع النظر عمّا سنبيّنه ـ إن شاء الله ـ من أنّ الإخباريّة لا تنافي المولويّة.

وعلى أيّة حال فهذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير وارد، فإنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ الكلام يكون مولويّاً حتّى إذا حمل على باب الكلّي والفرد، غاية الأمر أنـّه بناءً على حمله على الكلّي والفرد يكون الحكم المولوي بإتيان الميسور بعد سقوط المعسور مبيّناً بنفس الخطاب الأوّل أيضاً، ويكون الخطاب تكراراً وتأكيداً، وليس معنى هذا أنـّه أصبح إرشاديّاً لا مولويّاً، وإنّما الفرق بين الخطاب الإرشادي والخطاب المولوي هو أنّ الخطاب المولوي يبيّن حكماً يصدر عن المولى بما هو مولى، سواء كان ذلك بياناً مكرراً وتأكيداً، أو بياناً ابتدائياً وتأسيساً، والخطاب الإرشادي يبيّن حكماً لا يصدر عن المولى بما هو مولى وليس من شؤون مولويّته، كما لو بيّن مضارّ الجبن مثلاً، أو أمر باطاعته تعالى ونهى عن معصيته، فإنّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصية له تعالى إنّما هو من مدركات العقل العملي، وليس أمراً يصدر عن المولى بما هو مولى.

والخلاصة: أنّ الفرق بين باب الكلّي والفرد وباب الكلّ والجزء في المقام إنّما


(1) السيّد الخوئي(رحمه الله) ذكر هذا الإشكال في حديث (ما لا يدرك) وعطف عليه في الدراسات حديث (الميسور)، وعلى أيّ حال فهو لم يخصّص الإشكال بالتفسير الثاني، بل عمّمه للتفسير الأوّل والثاني على اختلاف بين التفسير الأوّل والثاني في كلامه عنهما في كلام اُستاذنا الشهيد. فالسيّد الخوئي (رحمه الله) يجعل التفسير الأوّل كون (لا) ناهية حقيقة لا نافية قُصد بها النهي من سنخ قصد الإنشاء بالإخبار في مثل (اسجد سجدتي السهو) كما ذكر اُستاذنا الشهيد، ويكون التفسير الثاني عنده عين التفسير الأوّل عند اُستاذنا الشهيد.

414

هو بكون الخطاب تأكيداً أو تأسيساً لا بالمولويّة والإرشاد، ومن الواضح أنّ التأكيد والتأسيس ليسا من مداليل الألفاظ حتّى يلزم من الجمع بينهما استعمال اللفظ في معنيين مثلاً، وإنّما هما أمران ينتزعان من سبق بيان آخر لهذا الحكم على هذا البيان وعدمه، فلا يلزم من الجمع بين باب المركّب وباب الكلّي أيّ محذور في المقام.

وثانياً: أنّنا لو سلّمنا أنّ الحكم في باب الكلّي والفرد يكون إرشاديّاً، وفي باب المركّب يكون مولويّاً، قلنا: إنّ المولويّة والإرشاديّة ليستا من المداليل المستعمل فيها اللفط، فصيغة الأمر في قوله: (أقم الصلاة)، وفي قوله: (اطع اللّه) مثلاً قد استعملت في معنى واحد وهو النسبة البعثيّة والتحريكيّة، وإنّما المولويّة والإرشاديّة من مقام المدلول التصديقي لا التصوّري، فلا يلزم من الجمع بين باب الكلّي وباب المركّب محذور، ولا يكون استعمالاً للفظ في معنيين، غاية الأمر أنـّه اُريد من هذه الجملة مدلولان تصديقيّان، ولا محذور في ذلك إذا كان بين المدلولين التصديقيّين سنخيّة بحيث يُناسب أن يكون كلاهما معاً مراداً من هذه الجملة.

ومنها: إشكال يبتني على حمل الحديث في المقام على النفي الحقيقي الإخباري، وهو أنّ هذا النفي في باب الكلّي مع أفراده يكون حقيقياً، وفي باب الكلّ مع أجزائه يكون مسامحيّاً؛ لأنّ وجوب الكلّ يسقط بتعذّر أحد الأجزاء، ولو وجب الباقي فهو وجوب جديد، والمسامحة تحتاج إلى قرينة وهي مفقودة في المقام، فيحمل الحديث على باب الكلّي والأفراد.

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما يكون بناءً على التصوير المشهور ـ في وجوب الباقي عند تعذّر أحد الأجزاء ـ من أنّ الوجوب الأوّل تعلّق بالكلّ، وسقط بالتعذّر، وأنّ هذا وجوب جديد. وأمـّا بناءً على التصوير الذي مضى منّا من فرض تعلّق الوجوب بالجامع بين الفرد الكامل عند التمكّن والفرد الناقص عند العجز، فلا يأتي هذا البيان.

بل التحقيق: أنّ هذا الكلام لا يتمّ حتّى بناءً على التصوّر المشهور من تعلّق الوجوب بالكلّ وسقوطه بتعذّر الجزء؛ وذلك لأنّه لو قدّر في المقام كلمة (الحكم) وكان المعنى: (أنّ حكم الميسور لا يسقط بالمعسور)، تمّ هذا الكلام، وقلنا ـ كما في الدراسات ـ(1): إنّ عدم السقوط هنا عنائي؛ لأنّ وجوب الكلّ قد سقط حتماً، ولكنّ التقدير خلاف الأصل. وظاهر الحديث إسناد السقوط إلى نفس الميسور باعتبار ما له


(1) ج 3، ص 304 - 305، وراجع ـ أيضاً ـ المصباح: ج 2، ص 484 - 485.

415

من نوع ثبوت في العهدة وهو ثبوت استعلائي، فنقول: إنّ هذا الميسور لا يسقط من مكانه بسقوط المعسور، وبحسب النظر الدقّي وإن كان الثبوت في العهدة تابعاً لثبوت الحكم، فيسقط الواجب بسقوط الوجوب، لكن في نظر العرف يُرى الحكم حيثيّة تعليليّة لثبوت الشيء في العهدة لا حيثيّة تقييديّة، من قبيل الشيء الذي يكون ثابتاً في الرفّ لأجل اتّكائه على خشبة مثلاً، فإذا اُستبدلت الخشبة بخشبة اُخرى قيل إنّ هذا الشيء لم يسقط من الرفّ؛ لأنّه اسندته خشبة اُخرى، وكذلك في المقام إذا اُستبدل الوجوب بوجوب آخر متعلّق بالميسور، قيل: إنّ الميسور لم يسقط عن العهدة.

هذا. والمحقّق الاصفهاني(قدس سره) ذكر: أنّ عدم السقوط منسوب إلى نفس الميسور لا إلى حكمه كما ذكرنا، إلّا أنـّه (رحمه الله) ذكر أنّ نسبة عدم السقوط عليه تكون باعتبار موضوعيّتة للحكم فمفاد الحديث: أنّ الميسور لا يسقط عن كونه موضوعاً للحكم بسقوط المعسور(1).

أقول: إنّ هذا ممّا لا يساعد عليه البحث العرفي، فإنّ السقوط يحتاج إلى فرض نحو ارتفاع للساقط بحيث يهوي ويسقط، ومجرّد كون الميسور موضوعاً للحكم لا يوجب نحو ارتفاع له ما لم تكن موضوعيّته لهذا الحكم مساوقة لوجوده في العهدة على المكلّف؛ ولذا لو ارتفعت إباحة شرب الماء مثلاً لا يقال: إنّه سقط شرب الماء، ولو ارتفع وجوب الصلاة قيل: إنّه سقطت الصلاة(2).

وأمـّا حديث «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فلو كنّا نحن وهذه الجملة، لكانت دلالتها على المقصود واضحة، فإنّ ظاهرها أنـّه كلّما وجب شيء ثمّ


(1) نهاية الدراية: ج 2، ص 299.

(2) وكأنّ المتحصّل من هذا البحث: أنّ حديث الميسور عيبه هو ضعف السند، ولو كان تامّاً سنداً لصحّ الاستدلال به على قاعدة الميسور. ولكن لا يبعد القول بأنّ هذا الحديث حتّى لو فرضت تماميّته سنداً فهو غير تامّ دلالة؛ وذلك لأنّ قاعدة الميسور قاعدة مركوزة عقلائيّاً لا في مورد البحث من فرض عدم سقوط الميسور من الأجزاء بالمعسور منها، بل في مورد فرض سقوط الميسور من الأفراد بالمعسور منها، وهذا الارتكاز العقلائي يصرف النصّ إلى مفاده المرتكز، ولا تبقى للحديث دلالة على ما هو خارج من دائرة ذاك الارتكاز، وبهذا تبطل ـ أيضاً ـ دلالة (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه).

416

تعذّر بعضه فلابدّ من الإتيان بالبعض الآخر، وهذا هو تمام المقصود في المقام.

إلّا أنـّه استشكل في دلالة الحديث من ناحية أنّ هذه الصيغة طبّقت على مورد الكلّي والفرد؛ إذ وردت في قصة: وهي أنّ صحابيّاً سأله (صلى الله عليه وآله)أنـّه هل يجب الحجّ في كلّ عام؟ فلم يجب (صلى الله عليه وآله) إلى المرّة الثالثة، فانضجر (صلى الله عليه وآله)وضاق بهذا الإلحاح، وقال: «لو قلت: نعم، لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب، لما استطعتم ولو تركتم لكفرتم» ثمّ قال بعد ذلك: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وكلمة ( مِن ) وإن كانت ظاهرة في التبعيض إلّا أنـّه لابدّ من حملها على البيانيّة أو على معنى الباء مثلاً، حتّى ينسجم مع المورد، فكأنّه يقول (فأتوه، أو فأتوا به ما استطعتم)، وحملها على معنيين غير صريح.

وأجاب المحقّق الاصفهاني (قدس سره)عن ذلك بأنّنا لا نسلّم كون ( من ) موضوعة للتبعيض بالمعنى الذي لا يناسب الفرد بالنسبة للكلّي، بل معنى كونها دالّة على التبعيض أنّها دالّة على الاقتطاع والاستخراج والإفراز بنحو من الأنحاء، وهو كما يناسب اقتطاع الجزء من المركّب كذلك يناسب اقتطاع الفرد من الكلّي بحسب النظر العرفي باعتبار أنّ الكلّي له نحو إحاطة وشمول على الأفراد، فيكون إخراج الفرد منه نحو اقتطاع له منه(1). وهذا الذي أفاده (قدس سره) في غاية الوجاهة.


(1) الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) ليس بصدد تصحيح دلالة الرواية على المقصود بهذا البيان، بل بصدد بيان أنّ كلمة (مِن) التبعيضيّة لا توجب اختصاص مفاد الرواية بالمقصود من وجوب الإتيان بالمقدار الممكن من المركّب لدى تعذّر بعض الأجزاء؛ وذلك لأنّ كلمة (مِن) هنا لا تحمل على التبعيض بعنوانه بالمعنى الذي ينسجم مع الكلّ والبعض، ولا ينسجم من الكلّي والفرد؛ إذ لو حملت على هذا المعنى لما أمكن تطبيق النصّ على مورده وهو الكلّي والفرد، بل هي لمجرّد اقتطاع مدخولها عن متعلّقه، وهذا وإن كان يوافق التبعيض في المركّب ولكنّه في نفس الوقت يناسب الكلّي والفرد أيضاً؛ لأنّ الفرد منشعب من الكلّي ويصحّ اقتطاع الفرد المستطاع من الكلّي، فلا تتعيّن إرادة المركّب من الحديث، والمتيقّن بحسب مورد الحديث هو الكلّي دون المركّب. راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 299.

وكأنّه (رحمه الله) يقصد إبطال دلالة الحديث على المدّعى على أساس مسلك كون وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يضرّ بالإطلاق، وبما أنّ القدر المتيقّن بلحاظ مورد الحديث هو الكلّي والفرد، فلا يمكن إثبات المقصود بإطلاق الحديث.

417

إلّا أنـّه لابدّ بعد هذا من التكلّم في فقه الرواية، باعتبار أنّ الرواية لا تخلو من إشكالات قد تؤدّي إلى الالتزام بإجمالها، أو بوقوع سقط فيها، او تفسير للرواية يوجب سقوطها عن الاستدلال بها، والإشكالات التي قد تخطر بالبال هي اُمور:

الأوّل: أنـّه يبدو من الحديث أنّ السؤال كان بنفسه قوّة محرّكة للتشريع، فكان من المحتمل أن يتحرّك التشريع الإسلامي بمنبّهيّة السؤال فيوجب الحجّ في كلّ عام.

وهذا عجيب، فإنّ الأحكام تتبع المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلو كان ملاك الحكم تامّاً فلابدّ من تشريعه سواء سأل السائل وألحّ على السؤال أوْ لا، وإلّا فلا معنى لتشريعه سواء سأل أو لم يسأل.

الثاني: أنـّه (صلى الله عليه وآله)قال: «لو قلت: نعم، لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب لما استطعتم ولكفرتم ...»، فلو أنّهم لم يستطيعوا فكيف يجب؟! وكيف يكلّفون بما لا يُستطاع؟! ثمّ كيف يُعقل أن يفرضهم كفاراً لأنّهم لم يأتوا بما لا يستطيعون؟!

الثالث: أنّ هذه القاعدة ـ المستفادة من قوله (صلى الله عليه وآله): إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطتعم ـ لو خصّصناها بمورد الكلّ والجزء لم يناسب مورد الحديث، ولو طبّقت على باب الكلّي والفرد، فتصوير تطبيقها عليه يكون بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن تحمل على الأمر بالكلّي بنحو صرف الوجوب، فيصير المعنى: إذا أمرتكم بشيء بنحو صرف الوجود، فأتوا من أفراده بمقدار استطاعتكم، وهذا كما ترى تناقض واضح، فإنّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود لايقتضي أزيد من الإتيان بصرف الوجود.

2 ـ أن تحمل على الأمر المتعلّق بالكلّي بنحو مطلق الوجود، فيقول: إذا أمرتكم بكلّي بنحو مطلق الوجود من قبيل: أكرم العالم مثلاً، فأتوا من أفراده ما استطعتم.

وهذا أوّلاً: لا يناسب المورد؛ لأنّ الحجّ لم يؤمر به بنحو مطلق الوجود.

وثانياً: أنّ هذا هو المحذور الذي كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بصدد تخليص عكاشة والمسلمين منه، فإنّ عكاشة وبقية المسلمين لم يكونوا يحتملون أكثر من هذا المقدار، وهو وجوب الحجّ قدر المستطاع، وظاهر سياق الحديث أنـّه في مقام صيانتهم عن هذا المحذور.

3 ـ أن يكون المقصود ضرب قاعدة في مقام الاستفادة من الأدلّة: وهي أنـّه

418

متى أمرتكم بكلّيٍّ فاحملوا هذا الأمر على مطلق الوجود لا صرف الوجود.

وهذا أيضاً غريب، فإنّه أوّلاً: لا ينطبق على مورد الكلام؛ لأنّ الأمر بالحجّ لا يراد منه مطلق الوجود.

وثانياً: أنّ مثل هذه القاعدة غريبة عن لسان الشارع في مجموع خطاباته؛ لأنّ أغلب الأوامر الشرعيّة مبنيّة على صرف الوجود لا على مطلق الوجود، فتأسيس قاعدة تقتضي حمل كلّ أمر وارد في لسان الشرع على مطلق الوجود غريب.

هذه هي الإشكالات الثلاثة في المقام.

والجواب عن الإشكال الثالث يكون بالحمل على معنى معقول في المقام: وهو أنّ هذه القاعدة مضروبة للحدّ الأقصى للتكاليف الشرعيّة لا للحدّ الأدنى، أي: أنّ كلّ أمر يصدر منّي لا يلزم امتثاله بأكثر من المقدار المستطاع، وأمـّا أنـّه ما هو حدّه الأدنى؟ فهذا يتبع دليله، فقد يكون بنحو صرف الوجود وقد يكون بنحو مطلق الوجود مثلاً، والمقصود من المقدار المستطاع الذي جعل حدّاً أقصى للتكاليف الشرعيّة ليس هو الاستطاعة العقليّة، بل الاستطاعة التي تقابل الحرج والمشقّة، فإنّ بعض مراتب الحرج والمشقّة يوجب بالمسامحة العرفيّة صدق عنوان غير المستطاع، فالمقصود هو أنّ الحدّ الأقصى هو المقدار المستطاع بحسب النظر العرفي الخالي من تلك المرتبة العالية من الصعوبة والمشقّة التي قد تُزيل عنوان الاستطاعة عرفاً.

والقرينة على حمل الاستطاعة على هذا المعنى قوله: «لو قلت نعم لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب لما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم ...» فإنّ الاستطاعة هنا تكون بالمعنى الذي قلناه؛ لوضوح استحالة التكليف بغير المقدور، وعدم الكفر بترك غير المقدور، وبما أنّ الوضوح يكون كالقرينة المتّصلة بالكلام، فالاستطاعة في هذه الفقرة تكون ظاهرة في إرادة المشقّة الشديدة، فيكون هذا قرينة على أنّ الاستطاعة فى القاعدة ـ أيضاً ـ تكون بهذا المعنى، فيكون هذا الكلام جواباً لعكاشة بحسب الحقيقة، ولا يرد عليه الإشكال الثالث.

وبهذا البيان يظهر اندفاع الإشكال الثاني وهو أنـّه كيف يعقل إيجاب ما لا يستطاع وتكفير من ترك ما لا يستطيع؟ فإنّك عرفت حمل الاستطاعة على ما يقابل المشقّة الشديدة.

وأمـّا الإشكال الأوّل: وهو أنـّه كيف يمكن أن يكون السؤال منبّهاً للتشريع؟

419

فنقول: من المعقول افتراض جملة من الأحكام واجدة للملاك اللزومي في الواقع، مع فرض وجود محذور عن إبداء ذاك الحكم ومصلحة في إخفائه فيقع التزاحم بين ملاك الحكم ومصلحة الإخفاء، وقد تغلّبت مصلحة الإخفاء على ملاك الحكم، والإخفاء له مراتب، فقد تكون المصلحة في بعض مراتبه بالخصوص، ولا توجد في بعضها الآخر مصلحة، فمثلاً يكون شخص عطشاناً لكنّه يخفي عطشه عن أصدقائه لكي لا يكلّفهم بإتيان الماء، ولكن هذه مصلحة في بعض مراتب الإخفاء: وهي أن لا يتصدّى ابتداءً للبيان، أمـّا لو سُئل عن عطشه أو ألحّ عليه لبيّنه، هذا مثال للتقريب إلى الذهن، والمقصود أنـّه يمكن افتراض أنّ وجوب الحجِّ في كلّ عام مثلاً فيه ملاك لزومي، لكن توجد مصلحة في بعض مراتب الإخفاء، فقد يكون السؤال أو الإلحاح ببعض درجاته يوجب البيان؛ لعدم مصلحة في الإخفاء بتلك المرتبة بأن يسكت، أو يجيب بما يُفهم منه العدم عند الإصرار في السؤال بتلك المرتبة، فالسؤال يحقّق موضوع هذه المرتبة من الإخفاء التي ليس فيها مصلحة، ولعلّ هذا هو المشار إليه في الآية الكريمة في سورة المائدة﴿يا أيّها الّذينَ آمَنوا لا تَسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تَسؤكم وإن تَسألوا عنها حينَ يُنزّل القرآن تُبدَ لكم عَفا الله عنها واللّه غَفورٌ حَليم﴾(1) وهذه الآية الكريمة لا تخلو عن إجمال، إلّا أنّ أظهر ما فيها هو حملها على ما ذكرناه من كون السؤال موجباً لإظهار الحكم.

ويوجد في الآية الكريمة احتمال أن يكون المراد من تلك الأشياء المعاجز كما حَمَلَه على ذلك جملة من المفسّرين، فكأنّهم كانوا يقترحون معاجز ويشتهونها، ومن السنن الإلهيّة أنـّه إذا أُبديت المعجزة الاشتهائيّة والمقترحة ولم يؤمنوا؛ ترتّب على ذلك العقاب على المقترحين والمشتهين؛ ولذا تقول الآية: ﴿ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ .

هكذا يفسّر بعض المفسّرين، لكنّ هذا خلاف الظاهر؛ فإنّ الخطاب في لسان الآية متوجّه إلى المؤمنين، وتعدية السؤال بـ( عن ) والتعبير بــ (الإبداء) وربط المطلب بحال تنزّل القرآن كلّ هذه تبعّد هذا الاحتمال، وتقرّب كون تلك الأشياء أشياء يستخبرون عنها، لا أنـّه يطلبون إيجادها، وتلك الأشياء هي أحد أمرين: إمـّا هي الأحكام فهذا هو المقصود، وإمـّا هي اُمور واقعيّة تكوينيّة كانوا يستخبرون عنها


(1) سورة 5، المائدة، الآية 101.

420

كما يوجد في بعض الروايات: أنّ أحدهم سأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) مَن أبي؟ وكان أبوه بحسب الظاهر شخصاً وعيّن النبي (صلى الله عليه وآله)شخصاً آخر غيره(1). وهكذا توجد بعض الحقائق التكوينيّة التي لو تبد لهم تسؤهم، إلّا أنّ حمل الآية على هذا أيضاً خلاف الظاهر؛ وذلك بقرينة ربط المطلب بتنزيل القرآن، وليس من عادة القرآن أن يبيّن مثل هذه المطالب، فلابدّ أن تكون الأشياء سنخ أشياء تبيّن في القرآن.

وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ أقرب المحتملات بالنسبة إلى الآية: هو حملها على السؤال عن الأحكام، وهذه الأقربيّة تكون مؤيّدة ومعزّزة للتغلّب على المشكلة الاُولى في الحديث.

وبذلك نكون قد تغلّبنا على الإشكالات الواردة على الرواية. ولكن سقط الحديث عن الاحتجاج به في المقام؛ إذ غاية ما يستفاد منه بعد هذا هو بيان قاعدة عامّة للحدّ الأقصى للامتثال، وأنّ الامتثال لا يترقّب إلّا بمقدار لا يلزم منه الحرج، فتكون الرواية خارجة عن محل الكلام.

 

الدوران بين (الشرطيّة أو الجزئيّة) و(المانعيّة)

التنبيه الثامن: إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً او جزءاً وكونه مانعاً، فقد ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) أنّه ينفى كلاهما بالأصل، ولا يتعارض الأصلان لعدم لزوم المخالفة القطعيّة، فإنّه إمّا أن يأتي في هذه الصلاة التي يصليها بهذا الجزء أو يتركه، نظير دوران أمر شيء بين الوجوب والحرمة(2).

وأورد عليه المحقّق ا لنائيني (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ بأنّ المخالفة القطعيّة للجزئيّة، أو المانعيّة في المقام تكون بترك الصلاة رأساً، إذن فيتساقط الأصلان، وعليه الاحتياط بتكرار الفعل إن وسع الوقت(3).

أقول:إنّ هذاالكلام غير صحيح؛لأنّه لو ترك أصل العمل فقدخالف شخص الأمر


(1) راجع تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 888 في ذيل الآية 101 من سورة المائدة.

(2) راجع الرسائل: ص 297 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة اللّه.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 90 بحسب طبعة مكتبة المصطفوي، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 316، وراجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 487.

421

المعلوم إجمالاً مخالفة قطعيّة تفصيليّة بتركه للأجزاء الاُخرى المعلومة، والأمر المتعلّق بالجميع واحد، والأجزاء ارتباطيّة حسب الفرض، والأصل لا يرخّص في المخالفة التفصيليّة، ولا تلزم من الجمع بين الأصلين مخالفة قطعيّة إجماليّة؛ لأنّه لو لم يصلِّ كانت المخالفة تفصيليّة، ولو صلّى لم تكن المخالفة قطعيّة.

نعم، بما أنّنا لا نشترط في تساقط الاُصول لزوم المخالفة القطعيّة، نبني هنا على التساقط ولزوم الاحتياط بتكرار الفعل مع سعة الوقت.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ أورد نقضاً على الشيخ الأعظم (رحمه الله)، فقال: العجيب من الشيخ أنّه ذهب الى ذلك! مع أنّه في موارد دوران أمر الصلاة بين القصر والتمام يفتي بوجوب الاحتياط في حين أنّه بالدقّة داخلٌ تحت هذه المسألة؛ إذ قد دار أمر السلام بعد تشهّد الركعة الثانية بين الجزئيّة والمانعيّة(1).

أقول: إنّ هذا النقض غير وارد على الشيخ الأعظم (قدس سره) بمعنى أنّه يوجد فرق ظاهري بين المثال والمقام يمكن أن يوجب لمن يلتفت إليه التفصيل بينهما، والشيخ الأعظم (رحمه الله) فرّق بين فتوييه على هذا الأساس؛ وذلك لأنّه وإن دار الأمر في هذا المثال بين وجوب فعل السلام بعد الركعتين ووجوب تركه، لكنّه ليس الترك المحتمل الوجوب مطلق الترك، بل ترك تعقبه ركعتان اُخريان، فهنا يتصوّر شقّ ثالث، وهو أن يترك السلام ولا يأتي بركعتين اُخريين، فهو قد أتى بالأجزاء المعلومة تفصيلاً ولم تصدر منه إلّا مخالفة قطعيّة إجماليّة. فهذا هو الفرق الموجود في المقام الذي يجعلنا نقول: إنّ الشيخ (رحمه الله) لم يقع في تهافت وتناقض في كلامه كما كان يقصده السيّد الاُستاذ.

نعم، الصحيح عندنا أنّ هذا الفرق ليس فارقاً سواءٌ فرض العمل عباديّاً أم توصّليّاً؛ لأنّ المخالفة الإجماليّة في ذلك مقترنة بالمخالفة القطعيّة التفصيليّة دائماً.

فأمّا في فرض العباديّة فلأنّه لا يتمشّى منه قصد القربة فيما يأتي بها من أجزاء؛ لقطعه بأنّها لا تحقّق غرض المولى، إذن فقد ترك الواجب الضمني المعلوم تفصيلاً أيضاً.

وأمّا في فرض التوصّليّة فقد يقال فيه: إنّه لم تلزم مخالفة قطعيّة؛ لأنّه قد أتى بذات الأجزاء المعلوم وجوبها تفصيلاً، ولايشترط قصد القربة حسب الفرض، وإنّما


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 487.

422

خالف علمه الإجمالي بأنّه إمّا يجب عليه السلام، أو يجب عليه ترك السلام مع الإتيان بركعتين اُخريين.

إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّه يعلم تفصيلاً بأنّ ما أتى به ليس مسقطاً للواجبات الضمنيّة المعلومة تفصيلاً؛ ومن هنا يعتبر عاصياً للتكليف المعلوم تفصيلاً بالحصّة المعلومة؛ لأنّ مجرّد الإتيان بعمل مع القطع بأنّه لا يُسقط ذلك المعلوم تفصيلاً لا يكون مخرجاً للمكلّف عن عهدة ذلك التكليف المعلوم تفصيلاً عقلاً؛ ولا يكون محقّقاً لقيامه بحق المولويّة.

وعليه فهذا يعتبر مخالفة وعصياناً للتكليف المعلوم تفصيلاً، فأيضاً أصبحت المخالفة العمليّة الإجماليّة مقترنة بالمخالفة التفصيليّة.

والعمدة ما قلناه من أنا لا نشترط في تعارض الاُصول لزوم المخالفة القطعيّة، فنقول بالتنجيز في كلّ هذه الموارد.

 

423

 

 

خاتمة

 

في شرائط الاُصول

 

 

 

1 ـ شرط الفحص

2 ـ شرط انتفاء الضرر

3 ـ قاعدة لا ضرر