473

 

 

 

 

 

 

 

إذا علمنا إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته فإمّا أن يفرض أنّهما توصّليّان، أو أنّ أحدهما تعبّديّ، وأيضاً إمّا أنّ الواقعة واقعة شخصيّةٌ لا تتكرّر، أو أنّها واقعة مكرّرة. فالكلام يقع في مقامات:

 

فرض عدم تكرّر الواقعة في التوصّليّين:

المقام الأوّل: في فرض عدم تكرار الواقعة مع كونهما توصّليّين.

والمفروض أنّنا نعلم إجمالاً بتكليف إلزاميّ ونحتمل احتمالين، احتمال الوجوب، واحتمال الحرمة. أمّا العلم فلا قصور فيه من ناحية البيانيّة؛ إذ من الواضح أنّ العلم أرقى البيانات، ولكنّه قام برهان على استحالة تأثير هذا العلم في التنجيز ـ أي: في إدخال شيء في دائرة حقّ المولويّة ـ وذلك البرهان عبارة عن أنّه هل يفرض تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة، أو يفرض تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة، أو يفرض تنجيزه لأحد الطرفين معيّناً؟

فإن فرض الأوّل قلنا: إنّ الموافقة القطعيّة هنا مستحيلة، فكيف تتنجّز على العبد؟

وإن فرض الثاني قلنا: إنّ المخالفة القطعيّة مستحيلة، فكيف يتنجّز تركها على العبد؟

474

وإن فرض الثالث قلنا: إنّ نسبة العلم إلى الطرفين على حدّ سواء، فتأثيره في تنجيز أحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وهذا البرهان ـ في الحقيقة ـ مركّب من حكمين عقليّين: أحدهما استحالة التنجّز وثبوت حقّ المولويّة فيما هو خارج عن القدرة، وهذا يبطل الاحتمال الأوّل والثاني، والآخر استحالة الترجيح بلا مرجّح، وهذا يبطل الاحتمال الثالث. هذا هو حال العلم، وحاصله: أنّه لا يعقل فيه اقتضاء التنجيز بأيّ وجه من الوجوه.

وأمّا كلّ واحد من الاحتمالين فتارةً يلحظ بما هو طرف من أطراف العلم الإجماليّ ـ أي: بما هو يستمدّ تنجيزه من تنجيز العلم الإجماليّ ـ واُخرى يلحظ بما هو هو:

فإن لوحظ ما هو طرف للعلم الإجماليّ فقد عرفت الحال فيه، فإنّ هذا العلم لم يكن يقتضي التنجيز حتّى يستمدّ هذا الاحتمال تنجيزهُ منه. وإن لوحظ مستقلاًّ، فإن أنكرنا مبدأ البراءة العقليّة، وقلنا بمبدأ منجّزيّة الاحتمال، فهنا كلّ واحد من الاحتمالين لو خلّي ونفسه يقتضي التنجيز؛ لعدم لزوم الترجيح بلا مرجّح؛ إذ كلّ احتمال إنّما ينجّز متعلّقه، لكن هنا يقع التزاحم بين المقتضيين للتنجيز، وتأثيرهما معاً مستحيل، وتأثير أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وإن قلنا بمبدأ البراءة العقليّة فعندئذ يثبت عدم التنجّز بوجهين طوليّين:

أحدهما: أنّ الاحتمال في نفسه لا يقتضي التنجيز.

ثانيهما: أنّه لو سلّمنا اقتضاءه للتنجيز فهنا يتزاحم المقتضيان، ويستحيل تأثيرهما معاً، وتأثير أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وممّا ذكرناه ظهر ما في كلام الأصحاب حيث ذكر بعضهم: أنّه تجري البراءة العقليّة في الطرفين، وذكر بعض آخر: أنّه لا تجري البراءة العقليّة، وإنّما الثابت هنا التخيير العقليّ، فلعلّ الأوّل كان مقصوده النظر إلى الاحتمال بما هو احتمال فأثبت البراءة العقليّة، والثاني كان مقصوده النظر إلى الاحتمال بما هو طرف للعلم

475

الإجماليّ فأنكر البراءة العقليّة وذكر التخيير العقليّ، هذا كلّه في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة الشرعيّة فالصحيح ـ وفاقاً للمحقّق العراقيّ والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)وخلافاً للسيّد الاُستاذ ـ عدم جريانها فيما نحن فيه.

وقد أفاد المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في وجه عدم جريان البراءة(1): أنّه لا يمكن أن تجري إلاّ في المرتبة المتأخّرة عن سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز؛ إذ تنجيزه يمنع عن البراءة، وسقوطه عن التنجيز إنّما يكون بملاك مرخّصيّة المضطرّ ومعذوريّة المُلجَأ واستحالة وجوب غير المقدور، ولا معنى للبراءة في طول المرخّصيّة والعذر.

وهذا الكلام ممّا لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ البراءة الجارية في المرتبة المتأخّرة عن سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز ـ سواء أراد بها البراءة العقليّة، أو أراد بها البراءة الشرعيّة ـ تنفي غير ما نفيناه في المرتبة السابقة بإبطال منجّزيّة العلم الإجماليّ، فإنّه بعد أن أبطلنا منجّزيّة العلم الإجماليّ باستحالة التنجيز لغير المقدور والترجيح بلا مرجّح بقي احتمال منجّزيّة كلّ واحد من الاحتمالين في نفسه، إمّا ذاتاً، وهذا ما تنفيه البراءة العقليّة، وإمّا من باب جعل الشارع الاحتياط، وهذا ما تنفيه البراءة الشرعيّة. وقد ظهر بذلك أنّه لا مانع ثبوتاً من جريان البراءة الشرعيّة فيما نحن فيه.

نعم، أدلّة البراءة قاصرة إثباتاً عن إفادة البراءة فيما نحن فيه؛ لأنّ صورة جريان البراءة المستفادة من أدلّة البراءة تغاير صورة جريان البراءة المتصوّرة في المقام، كما يتّضح ذلك بالالتفات إلى هاتين الصورتين:

أمّا صورة البراءة الممكن جريانها في المقام فتتّضح بالالتفات إلى ما مضى منّا



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 293. وراجع المقالات، ج 2، ص 83.

476

في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، من أنّ حقيقة الحكم الظاهريّ عبارةعن تقديم جانب أحد الغرضين المتزاحمين في عالم المحرّكيّة على الآخر، وبيان نتيجة التزاحم، فإذا اشتبه الواجب أو الحرام بالمباح مثلاً، فقد يحكم ظاهراً بالوجوب أو الحرمة، تقديماً لمصلحة الحكم الإلزاميّ، وقد يحكم ظاهراً بالإباحة تقديماً لمصلحة التسهيل وجعل العبد مطلق العنان، وبعد الالتفات إلى ذلك نقول: إنّه فيما نحن فيه ليس التزاحم بين مصلحة الإلزام ومصلحة الترخيص، وإنّما التزاحم بين مصلحتين إلزاميّتين، فإن فرض رجحان جانب الوجوب عند التزاحم ـ فلا محالة ـ يجعل الحكم الظاهريّ في صالح الوجوب، وإن فرض رجحان جانب الحرمة جعل الحكم الظاهريّ في صالح الحرمة، وإن فرض تساويهما لم يلزم المولى في عالم الظاهر عبده بأحد الجانبين، بل يرخّصه ويطلق عنانه، فظهر أنّ البراءة المتصوّرة في المقام قائمة على أساس تساوي المتزاحمين الإلزاميّين، لا على أساس مصلحة التسهيل، وتقديم جانب التسهيل في الشريعة على جانب الإلزام.

وأمّا صورة البراءة المستفادة من أدلّة البراءة فالظاهر من أدلّتها جعل البراءة بملاك التسهيل، وتقديم جانب التسهيل في الشريعة على جانب الإلزام، ففي حديث الرفع ـ الذي هو أهمّ أدلّة البراءة ـ امتُنّ على العباد بجعل هذا التسهيل، وقد عرفت أنّ البراءة المتصوّرة في المقام ليست قائمة على هذا الأساس، فأدلّة البراءة قاصرة عن إثباتها.

إن قلت: إنّ أدلّة البراءة وإن كانت لا تدلّ بمدلولها الحرفيّ على البراءة فيما نحن فيه إلاّ أنّها تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على البراءة هنا؛ إذ لو فرض أنّ الحرمة عند تزاحمها مع مجرّد الترخيص والإباحة لا يتحفّظ المولى عليها، ويجعل البراءة

477

عنها، فكيف يحتمل أنّه عند تزاحمها مع الوجوب يتحفّظ المولى عليها؟ وكذلك إذا فرض أنّ الوجوب عند تزاحمه مع مجرّد الترخيص والإباحة لا يتحفّظ المولى عليه، ويجعل البراءة عنه، فكيف يحتمل إنّه عند تزاحمه مع الحرمة يتحفّظ المولى عليه؟ فظهر من ذلك أنّ المولى فيما نحن فيه لا يتحفّظ لا على جانب الوجوب ولا على جانب الحرمة، بل يجعل البراءة والترخيص.

قلت: ظهر ممّا مضى أنّ جعل المولى للبراءة في قبال الشبهات الوجوبيّة والشبهات التحريميّة دليل على أنّ مصلحة الترخيص في المباحات أهمّ من المصلحة الإلزاميّة في الواجب والحرام، فاندكاك كلّ من الوجوب أو الحرمة في قبال هذا الأمر الأهمّ لا يستلزم اندكاك كلّ واحد منهما في قبال الآخر، فقد يندكّ الشيء في قبال الأهمّ ولا يندكّ في قبال المهمّ(1).



(1) لا يخفى أنّ هذا البيان بطوله مبتن على القول بأنّ التزاحم بين الملاكات الواقعيّة الإلزاميّة والترخيصيّة الذي أوجب البراءة لتقديم جانب التسهيل إنّما هو عبارة عن التزاحم بين ملاك الإلزام في الإلزاميّات وملاك الترخيص في الترخيصيّات، الذي هو غير مفروض الوجود في الإلزاميّات.

أمّا إذا قلنا: إنّ ملاك التسهيل موجود في تمام الاُمور حتّى فيما قطع فيه بالإلزام، إلاّ أنّ هذا الملاك في مورد القطع بالإلزام مزاحم بملاك الإلزام، ويكون ملاك الإلزام أقوى منه، ولذا نرى أنّ الشارع جعل الحكم الواقعيّ فيه عبارة عن الإلزام لا الترخيص، وفي مورد الشكّ في الإلزام تضعف محرّكيّة ملاك الإلزام، باعتباره ملاكاً احتماليّاً ومزاحماً بملاك قطعيّ، وهو ملاك التسهيل، ولهذا جعل الشارع في المقام البراءة، فهذا البيان بعينه يأتي في مورد دوران الأمر بين المحذورين، بل يتمّ في المقام بطريق أولى؛ إذ لو كانت مصلحة التسهيل مقدّمة على مصلحة الإلزام الاحتماليّة غير المبتلاة بالمزاحمة ـ لاحتمال الإلزام بالنقيض ـ فكيف لا تتقدّم على ما هو مبتلىً بذلك؟

478

فتحصّل: أنّ البراءة الشرعيّة غير جارية في المقام، لمحذور إثباتيّ.

وفصّل السيّد الاُستاذ(1) بين حديث الرفع وحديث (كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام)، فاختار أنّ الأوّل وإن كان شاملاً لما نحن فيه إلاّ أنّ الثاني غير شامل له؛ لمحذور ثبوتيّ وهو عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهريّ الذي هو الشكّ؛ إذ الحلّيّة ـ التي هي عنوان يستخلص من الترخيص في جانب الترك والترخيص في جانب الفعل ـ ممّا نقطع بخلافها، للعلم بأنّ هذا الأمر إمّا واجب أو حرام. وعلى أيّ حال لا يكون حلالاً، ومع العلم بعدم الحلّيّة كيف يعقل جعل الحلّيّة ظاهراً؟ وهذا بخلاف حديث الرفع فإنّه ينفي كلاًّ من الوجوب والحرمة مستقلاًّ، ونفي كلّ واحد منهم محتمل الصدق، غاية الأمر أنّنا نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، وهذا العلم الإجماليّ لا يوجب تعارض البراءتين وعدم جريانهما؛ إذ المفروض أنّه غير منجّز.

أقول: إنّ هذا الكلام مبنيّ على أنّ موضوع الحكم الظاهريّ عبارة عن الشكّ في حكم واقعيّ مماثل للحكم الظاهريّ، وهذا غير صحيح، كما يظهر بالتأمّل فيما نقّحناه في حقيقة الحكم الظاهريّ. وبيان ذلك: أنّنا يجب أن نرجع إلى نكتة موضوعيّة الشكّ للحكم الظاهريّ، ويظهر من الالتفات إلى حقيقة الحكم الظاهريّ بالنحو الذي بيّنّاه: أنّ نكتة ذلك هي أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال الترجيح عند مزاحمة الغرضين في عالم المحرّكيّة، ومع عدم الشكّ لا تعقل مزاحمتهما في عالم المحرّكيّة، وبهذا تعرف أنّ موضوع الحكم الظاهريّ ليس هو الشكّ في حكم واقعيّ مماثل له، وإنّما موضوعه الشكّ بنحو يوجب تزاحم الغرضين في المحرّكيّة، ومن المعلوم أنّ هذا ثابت فيما نحن فيه، فليس في المقام إشكال ثبوتيّ.



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 332.

479

نعم، ما ذكرناه من الإشكال الإثباتيّ ثابت هنا بشكل واضح، حيث إنّ قوله: (كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام) ظاهر في أنّه يكون أحد طرفي الاحتمال هو الحرمة، والطرف الآخر هو الحلّيّة، فرجّح جانب الحلّيّة والتسهيل على جانب الحرمة.

ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذهب إلى أنّه لا تجري البراءة الشرعيّة فيما نحن فيه، لا بلحاظ قوله: (كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام) ولا بلحاظ حديث الرفع(1).

أمّا الأوّل: فلما مضى من عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهريّ للقطع بعدم الحلّيّة(2)، وقد عرفت منّا تحقيق الحال في ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ(3) الرفع يقابل الوضع تقابل العدم والملكة، فالمقصود من حديث الرفع هو رفع شيء يقبل الوضع، والوضع فيما نحن فيه غير معقول؛ إذ لو كان وضعاً للفعل والترك فغير صحيح، لاستحالة الجمع بين النقيضين، وإن كان وضعاً للجامع بينهما بنحو التخيير بين الفعل والترك فأيضاً غير صحيح؛ لضروريّة الجامع.

أقول: إنّ هذا الوجه بهذا المقدار من التقريب قابل للجواب عنه، وذلك بأن يقال: إنّه وإن لم يمكن وضع أحدهما التخييريّ ـ أي: وضع الجامع بينهما ـ ولا وضعهما معاً، ولكنّ كلّ واحد منهما على التعيين قابل لأن يوضع بدون الآخر، أي: أنّ للمولى على سبيل البدل أن يضع أحدهما تعييناً، فله رفعهما.



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 162 ـ 163، وأجود التقريرات، ج 2، ص232.

(2) وذكر غير هذا أيضاً، راجع التقريرين.

(3) وذكر غير هذا أيضاً على ما في أجود التقريرات.

480

ولكن يمكن تصحيح هذا الوجه بإضافة شيء إليه، وذلك بأن يقال: إنّ قوله: (رفع ما لا يعلمون) تارةً يفترض أنّه رفع لكلّ تكليف مشكوك، سواء فرض وجوده في الواقع أو لا في قبال وضعه بجعل الاحتياط، وعليه نحتاج في المقام إلى رفعين، رفع للوجوب، ورفع للحرمة، واُخرى يفترض أنّه رفع لكلّ تكليف مشكوك للعبد من التكاليف الثابتة في لوح التشريع، وعليه فلا تحتاج في المقام إلاّ إلى رفع واحد؛ إذ لا يوجد في لوح التشريع إلاّ حكم واحد فقط ولا يوجد الوجوب والحرمة معاً. فإن فرض الأوّل تأتّى ما ذكرناه من أنّ الوضع ممكن، فيصحّ الرفع أيضاً؛ إذ من الممكن للمولى أن يضع أحد الجانبين معيّناً على العبد، فبالإمكان رفعهما، لكنّ هذا الاحتمال الأوّل في نفسه خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر من العلم في قوله: (رفع ما لا يعلمون) ليس هو مطلق القطع، وإنّما الظاهر منه أنّه لوحظت فيه جهة الانكشاف الصحيح المطابق للواقع، فيتعيّن أن يكون المقصود من الموصول هو الحكم الثابت في الواقع، حتّى تصحّ نسبة العلم إليه ونفيه عنه، وعلى هذا الفرض نقول: إنّ الوضع هنا بطريقةعرفيّة غير متصوّر؛ لأنّه إمّا أن يفرض أنّه وضع للواقع بإجماله على ما هو عليه في الواقع، وإمّا أن يفرض أنّه وضع للموافقة القطعيّة تجاه ذلك الواقع، وإمّا أن يفرض أنّه وضع للموافقة الاحتماليّة تجاهه، وشيء من هذه الاُمور لم يتمّ:

أمّا الأوّل: فلأنّ وضع ذات الواقع على ما هو عليه لا يفيد شيئاً زائداً على نفس ذلك التكليف الواقعيّ، فإنّ موافقته القطعيّة أيضاً غير ممكنة، وموافقته الاحتماليّة أيضاً ضروريّة كأصل ذلك التكليف.

وأمّا الثاني: فلاستحالة الموافقة القطعيّة بالجمع بين الفعل والترك.

وأمّا الثالث: فلضروريّة الموافقة الاحتماليّة.

وإذا لم يتصوّر الوضع بطريقة عرفيّة لم يثبت الرفع، فإنّ المفهوم عرفاً منه هو

481

رفع ما يمكن وضعه بطريقة عرفيّة(1).

بقي في المقام شيء، وهو: أنّه هل يمكن فيما نحن فيه إجراء استصحاب عدم التكليف المنتج نتيجة البراءة أو لا؟

المحذور الإثباتيّ الذي مرّ منّا لا يتأتّى هنا؛ لعدم ظهور دليل الاستصحاب في كونه بملاك التسهيل، لكن ذهب المحقّق النائينيّ(قدس سره)(2) إلى عدم جريان الاستصحاب في المقام؛ لكون الاستصحاب أصلاً تنزيليّاً مطعّماً بشيء من الأماريّة، وذلك يوجب تعارض الأصلين لدى العلم الإجماليّ بالخلاف وتساقطهما.

وهذا الإشكال مبنائيّ، فمن يقول بهذا المبنى في باب الاُصول التنزيليّة فلابدّ له من القول بالتعارض والتساقط في المقام، ومن لا يقبل هذا المبنى فالصحيح عليه جريان الاستصحاب في المقام، فتثبت البراءة في باب دوران الأمر بين المحذورين بالاستصحاب.



(1) نعم، يمكن في المقام الوضع بطريقة غير عرفيّة، كأن يفترض أنّ ذلك الحكم الواقعيّ إن كان في علم الله عبارة عن الوجوب فقد وضع على العبد بإيجاب الاحتياط بالفعل. وأمّا إن كان في علم الله عبارة عن الحرمة لم يوضع على العبد بإيجاب الاحتياط بالترك، أو يفترض العكس، فإيجاب الاحتياط بأيّ شكل من هذين الشكلين منفيّ بالبراءة عن ذاك الحكم الواقعيّ.

والبراءة بهذا المعنى إن لم يمكن فهمها من الدلالة المطابقيّة من دليل البراءة ـ بدعوى أنّ الوضع فيه غير عرفيّ فالرفع فيه أيضاً غير عرفيّ ـ أمكن فهمها بالأولويّة بناءً على احتمال شرحناه في تعليق سابق.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 2، ص 164، وأجود التقريرات، ج 2، ص 232.

482

هذا تمام الكلام في المقام بقطع النظر عن فرض مزيّة في أحد الجانبين من الأقوائيّة احتمالاً أو محتملاً.

وأمّا بالنظر إلى ذلك فإن قلنا بجريان بعض أدلّة البراءة فيما نحن فيه من استصحاب أو غيره فلا إشكال هنا، فإنّ مجرّد تلك المزيّة لا يمنع عن ذلك(1).

وإن لم نقل بجريان بعض الأدلّة، فإن قلنا بمبنى منجّزيّة الاحتمال فلا محالة يقدّم جانب ذي المزيّة على الآخر، فإذا كان احتمال الوجوب مثلاً ستّين بالمئة واحتمال الحرمة أربعين بالمئة، فقوّة الاحتمال بمقدار أربعين بالمئة من كلّواحد من الجانبين تزاحم في اقتضائها لتنجيز الاحتمال الآخر، ولكنّ الزيادة في قوّة احتمال الوجوب لا مزاحم لها في اقتضائها، فكأنّ العقل يحلّل الاحتمال الأقوى إلى حصّتين، ويرى أنّ إحدى الحصّتين وإن كانت مبتلاة بالمزاحم لكنّ الحصّة الاُخرى تؤثّر بلا مزاحم. هذا في فرض أقوائيّة الاحتمال.

وأمّا في فرض أقوائيّة المحتمل، أو احتمال أقوائيّته فأيضاً يكون الاحتمال بلحاظ الدرجة الاُولى من المحتمل مبتلىً بالمزاحم في التأثير، وبلحاظ الدرجة الثانية لا مزاحم له فيؤثّر، فكأنّ العقل يحلّل هذا الاحتمال بلحاظ قوّة المحتمل فيكون احتمال الزائد منجّزاً بلا مزاحم.

والخلاصة: أنّه بناءً على مبنى منجّزيّة الاحتمال يتنجّز ذو المزيّة بنفس الاحتمال بلا حاجة إلى الاستمداد من العلم الإجماليّ.



(1) إلاّ إذا قلنا: إنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وإنّه بعد العجز عنها يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة الظنّيّة مع الإمكان، وكانت المزيّة في أحد الجانبين فيما نحن فيه عبارة عن أقوائيّة الاحتمال، فهنا ينسدّ باب الترخيص الشرعيّ في جانب الاحتمال الأقوى.

483

وأمّا بناءً على مبنى البراءة العقليّة فلا تنجيز هنا من ناحية ذات الاحتمال، فلابدّ من ملاحظة حال العلم الإجماليّ في المقام.

وشرح الكلام في ذلك هو: أنّه إن فرضت المزيّة في نفس الاحتمال أمكن التفصيل بين كون العلم الإجماليّ منجّزاً ابتداءً للجامع فلا أثر هنا له؛ إذ الجامع ضروريّ التحقّق، فلا يقبل التنجّز، والعلم لا ينجّز شيئاً آخر غير الجامع، ومبنى كون العلم الإجماليّ منجّزاً ابتداءً للموافقة القطعيّة، فإنّ أصحاب هذا القول يمكن أن يدّعوا أنّه حيث لم تمكن الموافقة القطعيّة تصل النوبة إلى درجة أضعف، وفي غير فرض المزيّة لأحد الاحتمالين لم تكن هنا إلاّ درجتان للطاعة: درجة الموافقة القطعيّة، ودرجة الموافقة الاحتماليّة، والاُولى ضروريّة العدم، والثانية ضروريّة الثبوت، لكن في فرض المزيّة توجد بعد درجة الامتثال القطعيّ درجتان اُخريان: درجة الموافقة الظنّيّة وهي تحصل بالعمل بذي المزيّة، ودرجة الموافقة الوهميّة وهي تحصل بالعمل بالطرف الأضعف، فيمكن لأصحاب هذا المبنى أن يدّعوا أنّ الموافقة القطعيّة إذا استحالت تصل النوبة إلى الموافقة الظنّيّة، ويؤثّر العلم في تنجيزها(1).

وأمّا إن فرضت المزيّة في المحتمل بأن علمنا أو احتملنا أهمّيّة أحد الجانبين على تقدير كونه هو الثابت في الواقع من الجانب الآخر على تقدير كونه هو الواقع، فهنا لا يتأتّى ما عرفته من التفصيل، بل على كلا المبنيين في العلم الإجماليّ



(1) هذا بناءً على الإيمان بالتوسّط في التنجيز في المقام، أمّا لو قيل باستحالة ذلك ـ بدعوى أنّ علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة تكون بمعنىً يشمل ضرورة سقوط التكليف عند العجز عن الموافقة القطعيّة للعلم ـ فالتكليف هنا ساقط من أصله؛ لعدم تعقّل التوسّط في التكليف في المقام كما سيظهر قريباً إن شاء الله.

484

لايؤثّر العلم هنا شيئاً:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو تنجيز العلم ابتداءً لمقدار الجامع فقط؛ لأنّ العلم الإجماليّ ليست بيانيّته أكثر من مقدار الجامع ـ فواضح؛ إذ المفروض ضروريّة الجامع.

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو أنّ العلم الإجماليّ ينجّز واقع المعلوم فيترتّب عليه لزوم الموافقة القطعيّة ـ فلأنّه لايمكن هنا فرض درجات لتأثير العلم الإجماليّ، والتنزّل من الدرجة الاُولى إلى الدرجة الثانية، كما أمكن أن يقال ذلك على تقدير كون المزيّة في نفس الاحتمال، فإنّه إن لوحظت الدرجة بلحاظ كلّ جانب من جانبي العلم الإجماليّ، وقيل: إنّ تنجيز العلم للجانب الأهمّ أو المحتمل الأهمّيّة أعلى درجة من تنجيزه للجانب الآخر، ورد عليه أنّ نسبة العلم في اُفق النفس إلى كلّ من الجانبين على حدّ سواء، وإن لوحظت الدرجة بلحاظ مراتب الموافقة القطعيّة والاحتماليّة تجاه الواقع، فمن المعلوم أنّه لا تتصوّر هنا عدا مرتبتين: إحداهما الموافقة القطعيّة وهي غير مقدورة، والاُخرى الموافقة الاحتماليّة بمقدار خمسين بالمئة، وهي ضروريّة التحقّق، فهذا العلم لا يمكنه أن يؤثّر شيئاً، فنبقى نحن واحتمال مرتبة أهمّ من التكليف في أحد الجانبين، وهذا داخل تحت التأمين؛ لأنّ المفروض عدم منجّزيّة الاحتمال.

هذا، وقياس ما نحن فيه بموارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير على القول بأنّ الأصل هو التعيين، أو بموارد ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر باحتمال الأهمّيّة قياس مع الفارق:

أمّا الأوّل: فلأنّه إن قيل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فوجهه أنّنا علمنا إجمالاً بأحد وجوبين: الوجوب التعيينيّ والوجوب التخييريّ، وهذا العلم الإجماليّ يمكن موافقته القطعيّة، وذلك بالأخذ بجانب التعيين، ويمكن مخالفته القطعيّة وذلك بترك كلا الفردين، فينجّز العلم كلتا المرتبتين، وأين هذا من

485

العلم الإجماليّ فيما نحن فيه الذي لا يمكن موافقته القطعيّة ولا مخالفته القطعيّة؟

وأمّا الثاني: فلأنّ الوجه في تقديم محتمل الأهمّيّة في باب التزاحم هو أنّنا هناك نعلم بواجبين، ونعلم بأنّ إطلاقأحدهما ـ وهو ما لا نحتمل أهمّيّته ـ قد قيّد بفرض عدم الإتيان بالآخر، ونشكّ في تقييد إطلاق الآخر أيضاً بفرض عدم الإتيان بالأوّل؛ إذ من المحتمل أن يكونا متساويين، فإطلاقه أيضاً مقيّد بذلك، ومن المحتمل أن يكون أهمّ من الأوّل ويطلبه المولى حتّى على تقدير الإتيان بالأوّل، فعندئذ لا يكون إطلاقه مقيّداً بذلك، ومع الشكّ في ذلك نتمسّك في طرف محتمل الأهمّيّة بأصالة الإطلاق، وأين هذا من باب دوران الأمر بين المحذورين والعلم بحكم واحد مردّد بين الإلزام بالفعل والإلزام بالترك؟

 

فرض عدم تكرّر الواقعة في صورة التعبّديّة:

المقام الثاني: في فرض عدم تكرار الواقعة مع كون أحدهما تعبّديّاً، ولنفرض أنّ الوجوب مثلاً تعبّديّ، وذلك كما في صلاة محتملة الحيض بناءً على الحرمة الذاتيّة للصلاة على الحائض، ولنفترض أوّلاً عدم مزيّة احتماليّة أو محتمليّة في أحد الجانبين. وهنا العامل الجديد الذي يدخل في المورد هو أنّ المخالفة القطعيّة تصبح ممكنة، وذلك بأن تصلّي لا بقصد القربة. وأمّا الموافقة القطعيّة فهي باقية على عدم المقدوريّة.

ولأجل هذا العامل الجديد وهو القدرة على المخالفة القطعيّة ذهب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)إلى أنّ العلم الإجماليّ يؤثّر بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة(1)؛ لأنّ المفروض هنا إمكان التنجيز بهذه المرتبة، فمع استحالة التنجيز بمرتبة الموافقة



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 207 بحسب طبعة المشكينيّ.

486

القطعيّة لا يسقط العلم عن المنجّزيّة رأساً، بل يبقى تنجيزه بلحاظ المخالفة القطعيّة.

وأورد عليه المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) بأنّ هذا لا يتمّ على مباني المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)؛ لأنّه في موارد الاضطرار إلى أحد جانبي المعلوم بالإجمال لا بعينه يبني المحقّق الخراسانيّ على سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً، لمنافاة الترخيص التخييريّ مع التكليف المعلوم بالإجمال، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أنّه لا يقدر على المخالفة القطعيّة، فهو مضطرّ إلى أحد الجانبين لا بعينه.

ويقول المحقّق العراقيّ(رحمه الله): إنّنا نلتزم بما اختاره هنا من التنجيز من دون أن يرد علينا هذا الإشكال؛ لأنّنا لا نقول بسقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز بالاضطرار إلى أحد الجانبين لا بعينه.

أقول: إنّ لنا في المقام كلامين: أحدهما أنّه على تقدير أن يكون ما نحن فيه من موارد الاضطرار إلى أحد الجانبين لا بعينه فهل يتمّ كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، أو لا؟ والآخر في تحقيق أصل دخول ما نحن فيه في موارد الاضطرار إلى أحد الجانبين لا بعينه وعدمه.

أمّا الكلام الأوّل: فالتحقيق أنّه بناءً على دخول المقام في موارد الاضطرار إلى أحد الجانبين لا بعينه يرد على المحقّق العراقيّ(رحمه الله)نفس ما أورده على المحقّق الخراسانيّ من عدم انسجام ما اختاره من التنجيز لمبانيه في العلم الإجماليّ؛ وذلك لأنّ المحقّق العراقيّ وإن كان يقول بحرمة المخالفة القطعيّة في موارد العلم



(1) راجع المقالات، ج 2، ص 83، ونهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 297.

487

الإجماليّ مع الاضطرار إلى أحد الجانبين لا بعينه، لكنّه لا يقول بذلك من باب التوسّط في التنجيز كما هو مبنى المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1)، بمعنى أنّ التكليف الواقعيّ ثابت على حاله، وإنّما طرأ النقص على جانب التنجيز لعدم كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة مثلاً، بل يقول بذلك بنحو التوسّط في التكليف(2)، بمعنى أنّ التكليف الواقعيّ الثابت في أحد الجانبين يتقيّد بفرض مخالفة الجانب الآخر، أو يعبّر بتعبير آخر ورد أيضاً في لسان أصحاب مسلك التوسّط في التكليف، وهو أنّ التكليف يتبدّل من التعيينيّة إلى التخييريّة. ولا يختلف الحال باختلاف التعبيرين في المقام، إلاّ أنّنا نختار هنا التعبير الأوّل؛ لكونه أسهل في مقام بيان المقصود فيما نحن فيه، فنقول:

إنّ المفروض عند أرباب مسلك التوسّط في التكليف هو أنّ الترخيص التخييريّ ينافي بقاء التكليف الواقعيّ على حاله؛ لأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فالتكليف الواقعيّ في أيّ جانب كان يتقيّد بفرض مخالفة الجانب الآخر، وهذا ـ كما ترى ـ لا يتصوّر فيما نحن فيه، فإنّ وجوب الصلاة بقصد القربة لا يمكن أن يتقيّد بفرض مخالفة جانب الترك المساوق للفعل، لما مضى منّا من أنّه مع فرض الفعل في المرتبة السابقة لا تعقل محرّكيّة داعي القُربة، وعليه فلابدّ للمحقّق العراقيّ(قدس سره) من اختيار سقوط التكليف المعلوم بالإجمال رأساً؛ لأنّه بنحو المشروط غير معقول، وبنحو الإطلاق ينافي الترخيص



(1) في فوائد الاُصول ج 4، راجع ص 34 و 35، لا في أجود التقريرات، فإنّه اختار فيه التوسّط في التكليف، راجع ج 2، ص 270 ـ 271.

(2) راجع المقالات، ج 2، ص 91، ونهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 351 ـ 353.

488

بحسب الفرض، إذن فالإشكال الذي أورده على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّه كان عليه القول بسقوط التكليف وارد عليه أيضاً(1)، وإنّما الذي يسلم من هذا الإشكال هو المحقّق النائينيّ القائل بمبنى التوسّط في التنجيز.



(1) لا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على ظاهر عبارة المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، حيث عطف المقام على باب الاضطرار، ولكن كان بإمكانه أن يفصّل بين باب الاضطرار وباب العجز التكوينيّ كما في المقام؛ لأنّ الاضطرار يوجب الترخيص الشرعيّ فيدّعي أنّ الترخيص ينافي العلّيّة التامّة للعلم الإجماليّ للتنجيز، فلا يتصوّر إلاّ مع التوسّط في التكليف.

أمّا العجز التكوينيّ فيسقط التنجيز قهراً، ولا ينبغي أن يكون المقصود بالعلّيّة التامّة للعلم كونه علّة تامّة لتنجيز الموافقة القطعيّة حتّى مع العجز، وإنّما ينبغي دعوى العلّيّة التامّة بعد فرض القدرة العقليّة، بل والشرعيّة، فإنكار التوسّط في التنجيز على أساس علّيّة العلم الإجماليّ لو تمّ فإنّما يتمّ في باب الاضطرار المرخّص لا في باب العجز التكوينيّ عن الموافقة القطعيّة كما في المقام، بل ولا الشرعيّ على أساس الاضطرار المؤدّي إلى تلف النفس مثلاً لو لم يعالجه بالارتكاب.

وهنا وجه آخر للذهاب إلى التوسّط في التكليف ذكره في أجود التقريرات وفي نهاية الأفكار، وهو دعوى انطباق الاضطرار على الفرد الذي يختاره المكلّف، ولو اُريد أن يفسّر ذلك بتفسير معقول نسبيّاً، وهو دعوى الاستظهار العرفيّ من دليل (رفع ما اضطرّوا إليه)؛ لشموله لخصوص الفرد الذي اختاره رغم تعلّق الاضطرار عقلاً بالجامع بين الفردين؛ لأنّ المفروض هو الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فمن الواضح أنّ هذا الوجه أيضاً لا يأتي في المقام؛ لأنّ العجز هنا تكوينيّ، ودليل شرط القدرة عقليّ، وليس لفظيّاً يستظهر منه عرفاً هذا المعنى، وما ورد من الدليل اللفظيّ الدالّ على عدم تكليف العاجز من قبل ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ منصرف إلى نفس مفاد الدليل العقليّ.

489

وأمّا الكلام الثاني: فالتحقيق أنّ الاضطرار فيما نحن فيه ـ بحسب الدقّة ـ اضطرار إلى أحد الطرفين بعينه، وبكلمة اُخرى: إنّه في طول الاضطرار إلى مخالفة أحد الحكمين المحتملين لا بعينه يتولّد الاضطرار إلى مخالفة جانب الوجوب معيّناً؛ وذلك لأنّه بعد أن لم يقدر على امتثال كلا الحكمين المحتملين واضطرّ إلى مخالفة أحدهما لا تبقى له القدرة على الإتيان بالعمل بقصد القربة؛ لأنّ داعويّة القربة إلى الفعل تتوقّف على رجحان الفعل على الترك بلحاظ عالم حقّ المولويّة، أو رجحانه عليه بلحاظ أغراض المولى بالمقدار الواصل منها إلى العبد، ومن المعلوم انتفاء كلا الرجحانين فيما نحن فيه، أمّا بلحاظ الغرض، فلأنّ كلّ واحد منهما يوصل إلى غرض المولى إيصالاً احتماليّاً، وأمّا بلحاظ حقّ المولويّة فإن كان هنا حقّ المولويّة فإنّه لا يقتضي إلاّ عدم المخالفة القطعيّة، ونسبة ذلك إلى الفردين على حدّ سواء.

نعم، لو كان جانب الوجوب أقوى احتمالاً أو محتملاً أمكن الإتيان بالعمل بقصد القربة، لكنّ المفروض فعلاً هو المساواة، وعليه فنقطع بسقوط الوجوب على تقدير ثبوته في نفسه، وذلك بعدم القدرة على امتثاله، واحتمال الحرمة يكون شكّاً بدويّاً منفيّاً بالبراءة، فظهر أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أيضاً لا يسلم من هذا الإشكال.

هذا، ويمكن أن يقوّى جانب التنجيز بتقريبين، وهما بالدقّة تعبيران عن مطلب واحد:

الأوّل: أن يقال: إنّ إتيان الفعل بداع آخر غير داعي القربة مقطوع الحرمة بالعلم التفصيليّ؛ لأنّه إمّا حرام بالحرمة النفسيّة، وذلك على تقدير حرمة الفعل، فإنّ الفعل على هذا التقدير حرام بجميع حصصه، ومن تلك الحصص الفعل بداع آخر غير القربة، وإمّا حرام بالحرمة الغيريّة، وذلك على تقدير وجوب الفعل بقصد القربة، بناءً على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، فإنّ الفعل بداع

490

آخر ضدّ الفعل بداعي القربة، غاية الأمر أنّ هذه الحرمة المعلومة محتملة السقوط بالعجز عن تحصيل ملاكها؛ إذ على تقدير كونها حرمة غيريّة يكون تحصيل ملاكها بإتيان الضدّ الواجب، وهو الفعل بقصد القربة الذي مضى أنّ المكلّف عاجز عنه، فيدخل هذا تحت كبرى الشكّ في التكليف من ناحية الشكّ في القدرة على الامتثال الذي يقال فيه بالاشتغال ولزوم الاحتياط دون البراءة، فكم فرق بين هذا المورد وسائر موارد الاضطرار إلى أحد طرفي العلم الإجماليّ معيّناً، ففي سائر الموارد لم يكن هناك حكم واحد نقطع به لولا العجز، ونحتمل سقوطه بالعجز، بل كان أحد الطرفين يقطع بعدم التكليف به للقطع بالعجز فيه، والطرف الآخر يشكّ في التكليف به مع القطع بعدم العجز فيه.

وأمّا هنا فشيء واحد ـ وهو الفعل بداع آخر غير داعي القربة ـ يقطع بحرمته لولا العجز، ويحتمل سقوط حرمته بالعجز.

الثاني: أن يقال: إنّ تحريك الداعي الآخر للفعل غير الداعي القربيّ نقطع بكونه مبعّداً للعبد عن جانب غرض المولى، فإنّه إن تعلّق غرض المولى بالترك فمن الواضح أنّ تحريك هذا الداعي إلى الفعل يبعّدنا عن جانب غرضه، وإن تعلّق غرضه بالفعل بداعي القربة الذي هو ضدّ الفعل بداع آخر فأيضاً تحريك هذا الداعي يبعّدنا عن جانب غرض المولى؛ لأنّ تحريك الداعي نحو شيء كما يقرّب الإنسان نحو ذاك الشيء كذلك يبعّده عن ضدّ ذاك الشيء، ولو قلنا بملازمة فعل أحد الضدّين لترك الآخر لا بمقدّميّته له، وإذا كان تحريك هذا الداعي مبعّداً لنا عن جانب أغراض المولى فلا محالة يستقلّ العقل بقبحه.

والتحقيق: أنّ هذين التقريبين أو التعبيرين لا يفيدان شيئاً، فإنّهما محاولة لتركيز آثار الوجوب والحرمة في مركز واحد حتّى يتنجّز ذاك المركز ويتمحّض الشكّ في القدرة.

491

والصحيح: أنّ هنا غرضين محتملين: أحدهما مقطوع السقوط عن العبد للقطع بالعجز، والآخر يقطع بعدم العجز عنه، لكنّه بالنظر إليه وحده مشكوك بالشكّ البدويّ.

فتحصّل إلى هنا: أنّ هذا الإشكال ـ وهو إشكال جريان البراءة في مورد دوران الأمر بين المحذورين، وكون أحدهما تعبّديّاً ـ مركّز على جميع المباني، ومن هنا تتحقّق المعضلة، حيث إنّنا لو قلنا بأنّ الاضطرار هنا يكون إلى أحد الأطراف لا على التعيين، فيكون العلم الإجماليّ منجّزاً، فقد عرفت أنّ البرهان العقليّ على خلافنا، ولو التزمنا بعدم التنجيز رأساً وجواز المخالفة القطعيّة كان ذلك مستبعداً بحسب الذوق المتشرعيّ، وإن كان لا حجّيّة لهذا الاستبعاد.

والتحقيق: أنّ هذه المعضلة لا جواب عنها اُصوليّاً، ولكن يمكن حلّها فقهيّاً، وذلك بدعوى التوسعة في دائرة القربة المعتبرة في العبادات هنا.

وتوضيح المقصود: أنّه لا ينبغي الإشكال فقهيّاً في أنّه لا يعتبر كون داعي القربة هو المحرّك الفعليّ للعبد نحو العبادة، بل تكفي صلاحيّته للمحرّكيّة بالفعل، بمعنى أنّه لو اجتمع للعبد داعيان إلى عمل عباديّ: أحدهما داعي القربة، والآخر داع دنيويّ بحيث كان كلّ منهما في نفسه علّة تامّة للتحريك وقع عمله عباديّاً، فإنّه وإن لم يكن داعي القربة هو المحرّك بالفعل، بل المحرّك مجموع الداعيين؛ إذ مهما اجتمعت علّتان تامّتان على معلول واحد صار كلّ واحد منهما ـ لا محالة ـ جزء العلّة، لكنّه صالح للداعويّة والمحرّكيّة بالفعل؛ إذ هو في نفسه علّة تامّة للتحريك، ولكنّ الإشكال فيما لو سقط الداعي القربيّ عن التأثير بالمزاحمة بداع آخر قربيّ. بيان ذلك: أنّ الداعي القربيّ نحو عبادة تارةً يفرض عدم مزاحمته بداع آخر نحو أحد أضداده، واُخرى تفرض مزاحمته بداع آخر دنيويّ نحو أحد أضداده، وثالثة تفرض مزاحمته بداع آخر قربيّ نحو أحد أضداده:

أمّا في الفرض الأوّل: فلا إشكال في جعل هذا الداعي العمل عباديّاً وإن فرض

492

عدم كونه علّة تامّة للتحريك، لاقترانه بداع آخر دنيويّ.

وأمّا في الفرض الثاني: فلا إشكال في عدم كفاية هذا الداعي لعباديّةالعمل بخصوصيّته؛ لعدم صلاحيّته للداعويّة الفعليّة، لابتلائه بالمزاحم الذي يدعو نحو ضدّه، فلو اقترن هذا الداعي القربيّ بداع آخر دنيويّ، فصار ذلك موجباً لترجيح العبد لهذه العبادة على ذلك الضدّ لم يقع عمله بخصوصيّته عباديّاً؛ لأنّ الداعي القربيّ لم يكن صالحاً للمحرّكيّة بنحو العلّة التامّة، وإنّما هو جزء العلّة.

وقد يُتوهّم أنّ هذا الداعي القربيّ وإن لم يصلح فعلاً لسدّ باب العدم المساوق لذلك الضدّ الذي وجد داع آخر إليه؛ لابتلائه بالمزاحمة بذاك الداعي، لكنّه صالح فعلاً لسدّ سائر أبواب العدم المساوقة لسائر الأضداد؛ لعدم ابتلائه بالمزاحم بلحاظ تلك الأبواب.

لكنّ الصحيح: أنّه ليست له صلاحيّة فعليّة حتّى لسدّ سائر أبواب العدم؛ لأنّ داعويّته لسدّ كلّ باب من أبواب العدم تكون ضمنيّة ومرتبطة بداعويّته لسدّ سائر الأبواب، فإنّ ملاك الداعويّة قائم بالمجموع، وليس في كلّ واحد منها ملاك مستقلّ، وبكلمة اُخرى: أنّ الداعي القربيّ إنّما يوجب سدّ تمام أبواب العدم باقتضائه للوجود، فإذا شُلّ هذا الاقتضاء بالمزاحمة بلحاظ سدّ باب من أبواب العدم سرت المزاحمة ـ لا محالة ـ إلى سدّ سائر أبواب العدم.

وقد تحصّل: أنّ هذا الداعي القربيّ لا يصلح لوقوع هذا الضدّ بخصوصيّته عبادة.

وأمّا الجامع بين الضدّين المدعو إليه بداع متحصّل من الداعيين الموجودين في الطرفين فأيضاً لا يقع عباديّاً بذلك؛ لأنّ الجامع بين العباديّ وغير العباديّ

493

ليس عباديّاً، هذا إذا كان الضدّان لهما ثالث. وأمّا إن لم يكن لهما ثالث فلا يصلحذلك داعياً إلى الجامع؛ لأنّ الجامع ضروريّ الوجود.

وأمّا في الفرض الثالث: فلو اقترن الداعي القربيّ في أحد الضدّين العباديّين بداع دنيويّ فرجّحه العبد على الضدّ الآخر، فهنا لا إشكال في عباديّة الجامع المدعوّ إليه بداع متحصّل من الداعيين القربيّين في الضدّين إن كان لهما ثالث، فلم يكن الجامع ضروريّ الثبوت، وإنّما الكلام في أنّ هذا الضدّ بخصوصيّته هل يقع عباديّاً أو لا يقع عباديّاً؛ لأنّ الداعي القربيّ كان ناقصاً في التأثير، ولم يكن وحده صالحاً للتأثير، فأثّر بانضمام الداعي الدنيويّ إليه، فحاله حال الداعي القربيّ في الفرض الثاني.

والصحيح هو: أنّه لمّا كانت ناقصيّة هذا الداعي القربيّ إنّما نشأت من المزاحمة بداع قربيّ لا تضرّ ذلك بعباديّة العمل، فإنّ دليل اشتراط الداعيّ القربيّ في العمل العباديّ لا يدلّ على اشتراط أزيد من ذلك.

وإذا عرفت هذا قلنا في المقام: إنّه يوجد فيما نحن فيه داعيان إلهيّان: أحدهما احتمال الوجوب الداعي إلى الفعل، والآخر احتمال الحرمة الداعي إلى الترك، فإذا فرضنا أنّ كلاًّ من الداعيين علّة تامّة في نفسه لتحريك العبد، لكنّه مبتلىً بالمزاحمة بمثله، فعندئذ إن لم يوجد مرجّح آخر لأحد الطرفين فلا محالة يقع الترك من العبد؛ إذ يكفي في وقوع الترك عدم الداعي إلى الفعل، وإذا وقع الفعل منه باعتبار انضمام داع دنيويّ إلى ذاك الداعي القربيّ كان ذلك داخلاً في الفرض الثالث، وقد ذكرنا فيه عدم مضرّيّة هذه المزاحمة بوقوع الفعل عباديّاً، إذن فهو قادر على إتيان الفعل عباديّاً فيؤثّر العلم الإجماليّ بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة.

إن قلت: لعلّه لم يوجد له داع آخر يضمّه إلى الداعي الإلهيّ في جانب الوجود، فهو عندئذ غير قادر على إتيان الفعل بداعي القربة.

494

قلت: هو قادر على ذلك بقدرته على التفتيش عن داع ينضمّ إلى ذاك الداعي، فإنّ تحصيل الداعي داخل تحت القدرة(1).

هذا كلّه إذا فرضنا عدم مزيّة في أحد الجانبين.

أمّا إذا فرض وجود مزيّة احتمالاً أو محتملاً في أحد الجانبين، وفرض الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه، لا إلى طرف معيّن، إمّا لما ذكرناه من الحلّ الفقهيّ، وإمّا لفرض المزيّة في جانب الوجوب، فإنّه عندئذ يمكن إيقاع الفعل على وجه عباديّ قطعاً، فالاضطرار يكون ـ لا محالة ـ إلى أحد الطرفين لا بعينه. وعندئذ إذا كان مختارنا في باب الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه هو التوسّط في التنجيز تأتّى فيما نحن فيه القول بتأثير العلم الإجماليّ بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة.

ويأتي هنا عندئذ كلام، وهو: أنّه هل يكون الترخيص هنا تخييريّاً، أو يتعيّن الترخيص بجانب غير ذي المزيّة، ويبقى الجانب الآخر تحت منجّزيّة العلم، أو منجّزيّة الاحتمال بحيث لا تسوغ مخالفته حتّى عند موافقة الجانب الآخر؟ هذا بحث سبق تنقيحه في مبحث الانسداد.

وخلاصة الكلام فيه: أنّ الترخيص في جانب غير ذي المزيّة على تقدير موافقة ذي المزيّة مسلّم، والترخيص ـ زائداً على هذا ـ غيرُ معلوم، فيرجع في الجانب الآخر إلى منجّزيّة الاحتمال، أو منجّزيّة العلم الإجماليّ.

إن قلت: قد مضى في فرض دوران الأمر بين المحذورين مع كون كليهما توصّليّين: أنّ كون أحد الجانبين ذا مزيّة من حيث المحتمل لا يوجب تعيّنه بناءً



(1) ولو لم نقبل ذلك فلا أثر علميّ لهذا الإشكال، فإنّه لو لم ينضمّ مرجّح دنيويّ إلى الداعي الإلهيّ في جانب الفعل، فسيختار الترك لا الفعل بلا قربة.

495

على مبدأ قبح العقاب بلا بيان، فما الفرق بين ذاك وبين فرض تعبّديّة أحدهما، حيث قلتم هنا بتعيّن جانب ذي المزيّة؟

قلت: الفرق هو أنّ العلم الإجماليّ هناك لم يكن قابلاً للتنجيز حتّى بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة لفرض استحالة المخالفة القطعيّة. وأمّا هنا فالمفروض أنّ العلم الإجماليّ نُجّز بمقدار المخالفة القطعيّة، فتساقطت الاُصول المؤمّنة في الأطراف، فصار احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على أيّ طرف من الطرفين منجّزاً لذلك الطرف، إلاّ أنّه جاء الترخيص بملاك الاضطرار، والقدر المتيقّن من هذا الترخيص هو الترخيص في جانب غير ذي المزيّة على تقدير موافقة جانب ذي المزيّة، ففي الجانب الآخر يجب الرجوع إلى منجّزيّة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما عباديّاً والآخر توصّليّاً.

وأمّا إذا كان كلاهما عباديّاً فلا يأتي إشكالنا الأوّل على المحقّق العراقيّ(قدس سره)؛ إذ من المعقول إيجاب الفعل بقصد القربة على تقدير عدم صدور الترك القربيّ منه، وبالعكس.

نعم، يأتي إشكالنا الثاني في كلا الجانبين، فيصبح مضطرّاً إلى مخالفة كلا الجانبين، إلاّ إذا كان أحدهما ذا مزيّة، فيكون مضطرّاً إلى مخالفة الجانب الآخر معيّناً، ويرتفع الإشكال هنا أيضاً بما ذكرناه من الحلّ الفقهيّ لذلك.

 

فرض تكرّر الواقعة في التوصّليّين:

المقام الثالث: فيما إذا تعدّدت الواقعة، ولنفرض فعلاً كون كلّ من الفعل والترك توصّليّاً، ولأجل التسهيل نفرض أنّ الواقعة إنّما تتكرّر مرّة واحدة، كما لو علمنا إجمالاً بوجوب فعل معيّن في يوم الخميس والجمعة، أو حرمته فيهما، فعندئذ

496

نقول: إنّ العلم الإجماليّ بذلك في اليوم الأوّل، وكذا العلم الإجماليّ به في اليوم الثاني، لا يمكن موافقته القطعيّة، فحاله حال ما لو لم تتكرّر الواقعة ولا يقبل التنجيز، وإنّما الذي يثير البحث هنا من جديد هو أنّ هنا علمين إجماليّين آخرين: أحدهما العلم بوجوب هذا الفعل في اليوم الأوّل أو حرمته في اليوم الثاني، وهذا يمكن مخالفته القطعيّة بأن يترك في اليوم الأوّل ويفعل في اليوم الثاني، ويمكن موافقته القطعيّة بأن يعكس الأمر، والثاني العلم بحرمة هذا الفعل في اليوم الأوّل أو وجوبه في اليوم الثاني، وهذا يعاكس الأوّل، أي: أنّ الموافقة القطعيّة للأوّل مخالفة قطعيّة لهذا العلم، والمخالفة القطعيّة للأوّل موافقة قطعيّة له.

وهنا قد يقال: إنّ الموافقة القطعيّة لكلا هذين العلمين غير ممكنة، فتصل النوبة إلى موافقتها الاحتماليّة، بأن يفعل في كلا اليومين أو يترك في كليهما.

ونحن نعقد الكلام هنا في أمرين:

الأوّل: في أنّ كلّ واحد من العلمين بنفسه هل هو صالح للتنجيز أو لا؟

والثاني: في أنّه بعد صلاحيّتهما للتنجيز وعدم إمكان موافقتهما القطعيّة معاً ماذا يصنع؟

أمّا الأمر الأوّل: فليس المقصود هنا التكلّم في تنجيز العلم بوجوب الفعل في اليوم الأوّل أو حرمته في اليوم الثاني مثلاً، وعدمه من ناحية كونه علماً إجماليّاً في التدريجيّات، فإنّ هذا ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في مباحث العلم الإجماليّ، وهنا نفرض تنجيز العلم الإجماليّ في التدريجيّات أصلاً موضوعيّاً، فنقول: هل يكون حال هذا العلم هنا كحال سائر العلوم المتعارفة، فيكون قابلاً للتنجيز أو لا؟

ذهب المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) إلى أنّ هذا العلم هنا ليس قابلاً للتنجيز؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال تكليفان فقط: أحدهما التكليف في اليوم الأوّل الذي فرغنا عن عدم قابليّته للتنجيز، لعدم إمكان موافقته القطعيّة ولا مخالفته القطعيّة. وثانيهما

497

التكليف في اليوم الثاني الذي فرغنا أيضاً عن عدم قابليّته للتنجيز؛ لعدم إمكان موافقته القطعيّة ولا مخالفته القطعيّة. وأمّا العلم الإجماليّ بوجوب الفعل في اليوم الأوّل، أو حرمته في اليوم الثاني فليس إلاّ علماً منتزعاً من العلمين السابقين لا يصنع شيئاً في المقام، والمخالفة القطعيّة المتصوّرة في المقام تكون في الحقيقة حصيلة مخالفة احتماليّة للتكليف الأوّل التي فرغنا عن جوازها، ومخالفة احتماليّة للتكليف الثاني التي فرغنا عن جوازها، وليس في المقام تكليف جديد حصل العلم به وراء ذينك التكليفين حتّى يتنجّز ذلك التكليف وتحرم مخالفته القطعيّة(1).

أقول: يرد عليه:

أوّلاً: أنّه كما يمكن أن يفرض هذا العلم الإجماليّ في طول العلمين الإجماليّين الأوّلين، كما لو علمنا بتعلّق النذر في اليوم الأوّل بالفعل أو الترك، وعلمنا أيضاً بتعلّقه في اليوم الثاني بالفعل أو الترك، ثمّ أخبرنا نبيّ مثلاً بمماثلة النذرين فعلاً وتركاً، فتولّد من العلمين بانضمامهما إلى إخبار النبيّ علم ثالث، كذلك يمكن أن يفرض هذا العلم الإجماليّ في عرض ذينك العلمين، كما لو علمنا ابتداءً بأنّه إمّا



(1) الظاهر من عبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) يختلف عن هذا العرض كما يتّضح بمراجعة نهاية الدراية ـ ج 2، ص 236 ـ فإنّ الذي يفهم من عبارته هو أنّه غفل رأساً عن العلم الإجماليّ بوجوب أحد الفعلين في أحد اليومين، وحرمته في اليوم الآخر، وقصر النظر على العلم بالوجوب أو الحرمة في اليوم الأوّل، والعلم بالوجوب أو الحرمة في اليوم الثاني، ولا ينظر إلى علم آخر يفترض انتزاعه من العلمين الأوّلين، ولكن ينظر إلى طبيعيّ العلم، فيقول: إنّه بعد أن كان العلمان غير قابلين للتنجيز، فالمخالفة القطعيّة لطبيعيّ العلم المنتزع من العلمين، وطبيعيّ التكليف المنتزع من التكليفين لا قيمة لها.