398

المستحبّات الواقعيّة من دون أن يفرض في نفس هذا العمل بعنوان البلوغ أيّ ملاكومطلوبيّة. هذا بناءً على ما هو المختار في الفرق بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فنفس ذاك الفرق المختار طبّقناه في المقام لتوضيح الفرق بين الوجه الثاني والوجه الثالث. وأمّا على القول بأنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن جعل الحكم المماثل فأيضاً نقول: إنّ أيّ شيء يفترضه صاحب هذا القول فارقاً بين هذا الحكم المماثل الظاهريّ والحكم الواقعيّ يمكن افتراضه في المقام.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الوجه الثاني والثالث يختلف أحدهما عن الآخر ذاتاً.

نعم، أنكر السيّد الاُستاذ وجود ثمرة فقهيّة بينهما؛ إذ على أيّة حال يفتي الفقيه بالاستحباب إمّا لعنوان البلوغ وجداناً، أو لهذا الخبر الضعيف الذي ثبتت حجّيّته تعبّداً، فلا فرق بينهما فيما يهمّ الفقيه، ثمّ ذكر السيّد الاُستاذ: أنّ بعض المحقّقين حاول إبراز الفرق بينهما بأنّه إن ورد خبر ضعيف يدلّ على استحباب شيء كالمشي بعد الطعام مثلاً، وورد خبر صحيح يدلّ على حرمته، فعلى الثالث يكون الخبر الضعيف حجّة ومعارضاً للخبر الصحيح، وعلى الثاني ليس الأمر كذلك، بل يكون الفعل بعنوانه الأوّليّ حراماً وبعنوان بلوغ استحبابه مستحبّاً، فيدخل ذلك في باب تزاحم الملاكين والمقتضيين للحكم لا في باب التعارض. وأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّ أخبار (مَن بلغ) لا تشمل فرض بلوغ الثواب في مورد بلغ العقاب فيه أيضاً، فمثل هذا الفرض خارج عن أخبار (مَن بلغ) رأساً.

 

ثمرات الفرق بين الحجّيّة والاستحباب النفسيّ:

أقول: تظهر بين الوجهين ثمرات عديدة:

الاُولى: أنّه في بعض الفروض يتحقّق التعارض بناءً على الوجه الثالث بخلاف الوجه الثاني، ونذكر تحت هذا العنوان موردين:

1 ـ أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب شيء وخبر صحيح على عدم استحبابه

399

بعنوانه الأوّليّ، فعلى الثالث أصبح الخبر الضعيف حجّة ومعارضاً للخبر الصحيح وتساقطا، فلم يثبت الاستحباب، وعلى الثاني لم يصبح الخبر الضعيف حجّة، وإنّما ثبت استحباب العمل بالعنوان الثانويّ وهو البلوغ، فيحكم بأنّ هذا العمل بعنوانه الأوّليّ ليس مستحبّاً، وبعنوانه الثانويّ مستحبّ، ومثل هذا ما لو دلّ خبر ضعيف على وجوب شيء وخبر صحيح على عدم وجوبه بالعنوان الأوّليّ، فعلى الثالث يتعارضان بناءً على شمول أخبار (مَن بلغ) لما يدلّ على الوجوب، فإنّه إن فرض أنّه بهذا يثبت الوجوب فهذا معارض للخبر الصحيح الدالّ على عدم الوجوب، وإن فرض أنّه بهذا يثبت جامع الطلب، فجامع الطلب القابل للانطباق على الوجوب لا يمكن إثباته لدلالة الخبر الصحيح على عدم الوجوب، والجامع غير القابل للانطباق على الوجوب وهو المساوق للاستحباب لم يدلّ عليه هذا الخبر الضعيف، وعلى الثاني لا يتعارضان، بل يحكم بعدم وجوب ذلك العمل بالعنوان الأوّليّ واستحبابه بالعنوان الثانويّ.

2 ـ أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب شيء وخبر ضعيف آخر على استحباب شيء آخر، وعلمنا إجمالاً بكذب أحدهما، فعلى الثاني يلتزم باستحباب كلا الأمرين بالعنوان الثانويّ، وعلى الثالث يتعارضان، فإنّه وإن لم يكن بينهما تعارض ذاتيّ ـ كما لو دلّ أحدهما على استحباب شيء والآخر على استحباب تركه ـ لكن يوجد بينهما تعارض اتّفاقيّ ويتساقطان بواسطة العلم الإجماليّ بكذب أحدهما. هذا بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله)من أنّ العلم الإجماليّ بالكذب يوجب التعارض الاتّفاقيّ بملاك استحالة جعل الكشف والطريقيّة لأمرين نعلم بأنّ أحدهما مُظلم وكاذب.

وأمّا على مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ وهو المختار ـ من أنّ ملاك التعارض

400

والتساقط في ذلك إنّما هو منافاة الدلالة الالتزاميّة لكلّ منهما الثابتة ببركة العلم الإجماليّ للدلالة المطابقيّة للآخر، فتتساقط كلّ من الدلالتين الالتزاميّتين مع الدلالة المطابقيّة للاُخرى بالتعارض الذاتيّ، فيمكن أن يقال هنا: إنّ أخبار (مَن بلغ) لم تشمل الدلالة الالتزاميّة وإنّما أثبتت الحجّيّة لبلوغ الثواب في أيّ واحد منهما لا لنفي الآخر، فلا تعارض بينهما.

الثانية: أنّ في بعض الفروض يثبت التعارض على كلا الوجهين، لكن يختلف مركز التعارض باختلافهما، وبالتالي تختلف كيفيّة إعمال قوانين باب التعارض، مثاله: أنّنا فرضنا ورود خبر صحيح يدلّ على أنّ ما يوجب الإضرار بالنفس لا يكون مستحبّاً ولو بعنوان ثانويّ، وورود خبر ضعيف يدلّ على استحباب اللطم في عزاء الحسين(عليه السلام)، ونفترض أنّ اللطم أمر مضرّ، فعلى الثالث يقع التعارض بين هذين الخبرين، ويقدّم الثاني على الأوّل بالأخصّيّة، وأخبار (مَن بلغ) ليست طرفاً للمعارضة مع الخبر الصحيح النافي للاستحباب، وإنّما هي دليل على حجّيّة ما يعارضه من الخبر المثبت للاستحباب، ولا منافاة بين عدم استحباب شيء واقعاً وحجّيّة ما دلّ على استحبابه، وعلى الثاني يصبح ما دلّ على عدم استحباب المضرّ بأيّ عنوان من العناوين معارضاً لنفس أخبار (مَن بلغ) الدالّة على استحباب اللطم بعنوان البلوغ، وتعارضهما يكون بالعموم من وجه ويتساقطان.

الثالثة: أنّ بعض أقسام الخبر الضعيف تشمله أخبار (مَن بلغ) على الوجه الثاني، ويثبت بذلك الاستحباب، وأمّا على الوجه الثالث، فإمّا أن يثبت بذلك الوجوب أو لا تشمله أخبار (مَن بلغ) رأساً، وذلك فيما لو دلّ خبر ضعيف على وجوب شيء فإنّه على الثاني يثبت الاستحباب له بعنوان البلوغ، وأمّا على الثالث فشأن أخبار (مَن بلغ) أن يجعل هذا الخبر حجّة، فإن قلنا بأنّه يمكن لأخبار (مَن بلغ) أن يثبت الوجوب فهذا الخبر يصبح حجّة ويثبت به الوجوب، وإن قلنا بأنّها تقصر

401

عن إثبات أزيد من الثواب والاستحباب وجامع المطلوبيّة فهذا الخبر لا تشمله أخبار (مَن بلغ) لا بلحاظ دلالته المطابقيّة من الوجوب؛ إذ هو خلف، ولا بلحاظ دلالته الالتزاميّة من الثواب وجامع الطلب، وذلك على مبنى السيّد الاُستاذ ـ الذي هو المنكر للثمرة في المقام ـ من أنّه يستحيل انفكاك الدلالة الالتزاميّة عن المطابقيّة في الحجّيّة بأن لا تكون المطابقيّة حجّة، ومع ذلك تكون الالتزاميّة حجّة. نعم، على ما هو الصحيح من إمكان التفكيك يمكن الالتزام هنا بثبوت الثواب وجامع المطلوبيّة.

الرابعة: أنّ في بعض الموارد يتعدّد الاستحباب على الثاني بخلافه على الثالث، كما لو دلّ خبر ضعيف على استحباب المشي بعد الطعام مثلاً، ودلّ خبر ضعيف آخر على استحباب المشي في الثوب الأبيض بعد الطعام، بحيث كان هذا الخبر ناظراً إلى تقييد دائرة متعلّق نفس الاستحباب الأوّل لا إلى استحباب مستقلّ عن الاستحباب الأوّل، فبناءً على الوجه الثاني يثبت استحبابان على عنوانين بعنوان البلوغ: أحدهما المشي بعد الطعام، والثاني المشي في الثوب الأبيض بعد الطعام. وكذا إذا فرض الخبران صحيحين، أو فرض أحدهما صحيحاً والآخر ضعيفاً.

وأمّا بناءً على الوجه الثالث ففي بعض الصور لا يثبت في المقام استحبابان، وتوضيحه: أنّه إمّا نفرض الخبر المقيّد صحيحاً والخبر المطلق ضعيفاً، أو بالعكس، أو نفرضهما ضعيفين:

أمّا على الأوّل: فالخبر المقيّد الذي هو حجّة في نفسه يقيّد ـ لا محالة ـ الخبر المطلق الذي صار حجّة ببركة أخبار (مَن بلغ) فلا يثبت إلاّ استحباب واحد، وهو استحباب المشي في الثوب الأبيض لا مطلق المشي.

وأمّا على الثاني: فإن فرض أنّ أخبار (مَن بلغ) تجعل الخبر حجّة بجميع خصوصيّاته، فصار الخبر المقيّد كأنّه خبر صحيح فأيضاً يقيّد ذلك المطلق، ولا

402

يثبت إلاّ استحباب واحد، وإن فرض أنّها إنّما تعطي الحجّيّة بمقدار ثبوت الاستحباب لا أزيد من ذلك فعندئذ نقول: إنّ إطلاق المطلق ينفي ـ لا محالة ـ استحباب المقيّد بما هو مقيّد؛ إذ المفروض أنّهما ينظران إلى استحباب واحد، فإن فرض أنّ ظهور المقيّد أقوى من ظهور المطلق(1) في نفي المقيّد قدّم عليه، وثبت أيضاً استحباب واحد(2)، وإن فرض تساويهما تساقطا، وثبت أيضاً استحباب واحد.

وأمّا على الثالث: فإن فرض أنّ أخبار (مَن بلغ) تجعل الخبر حجّة بجميع خصوصيّاته، فالمقيّد يقيّد المطلق لا محالة ويثبت استحباب واحد، وإلاّ ثبت استحبابان ظاهريّان وإن علم بكذب أحدهما.

الخامسة: أنّه في بعض الموارد يجري الاستصحاب على الوجه الثالث بخلافه على الوجه الثاني، مثاله: ما لو دلّ خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المجلس، وكان مقدار دلالته هو ما قبل الزوال من باب القصور في الدلالة من دون أن يدلّ على نفي الاستحباب فيما بعد الزوال، فبناءً على الوجه الثاني يكون الاستحباب ثابتاً بعنوان البلوغ، وهذا الاستحباب منتف قطعاً بعد الزوال بانتفاء البلوغ فلا مجال للاستحباب، وبناءً على الوجه الثالث يكون الاستحباب ثابتاً



(1) لعلّ المقصود أنّ تقديم المقيّد على المطلق إن كان بنكتة القرينيّة فقد سقطت بسقوط دلالته الالتزاميّة على نفي المطلق، حيث إنّ المفروض عدم حجّيّة هذه الدلالة الالتزاميّة، وإن كان بنكتة الأقوائيّة فهي موجودة في المقام.

(2) إنّما قدّم المدلول المطابقيّ للمقيّد على المدلول الالتزاميّ للمطلق وهو نفي المقيّد لا على المدلول المطابقيّ للمطلق لعدم تعارض بينهما، فيثبت ظاهراً الاستحبابان رغم العلم الإجماليّ بكذب أحدهما.

403

للجلوس في المسجد بعنوانه الأوّليّ، وهذا الاستحباب محتمل الثبوت بعد الظهر وإن لم يعلم ثبوته لأجل القصور في عالم الدلالة، فهنا يأتي دور استصحاب الاستحباب بناءً على جريان الاستصحاب في الأحكام الاستحبابيّة.

السادسة: ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في تنبيهات أخبار (مَن بلغ) من أنّه بناءً على الحجّيّة يحكم الفقيه بالاستحباب حتّى لمقلّديه وإن لم يتحقّق البلوغ بالنسبة للمقلّدين. وبناءً على الاستحباب النفسيّ بعنوان البلوغ لابدّ من تحقّق البلوغ للمقلّدين أيضاً حتّى يتحقّق الاستحباب بالنسبة لهم.

ولعلّه بالتأمّل توجد ثمرات اُخرى أيضاً غير هذه الثمرات.

 

2 ـ تحقيق مفادها إثباتاً:

ولنشرع بعد هذا في بيان ما هو الصحيح من هذه الاحتمالات الأربعة في أخبار (مَن بلغ)، فنقول:

أمّا احتمال الإرشاد فلا نتكلّم عنه مستقلاًّ، بل نتكلّم عمّا عداه، فإن وجدت قرينة على ما عداه اُخذ به، وإلاّ فنفس الإجمال يكفي في صالح نتيجة فرض الإرشاد؛ إذ لا يثبت عندئذ لنا شيء عدا الحكم العقليّ كما هو الحال في فرض الإرشاد.

وأمّا احتمال جعل الحجّيّة فقد أفاد المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1)، والسيّد الاُستاذ(2)وغيرهما(3) في تفنيده أنّ جعل الحجّيّة والكشف عن الواقع ينافيه قول: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله).



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 278.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 319.

(3) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 208.

404

أقول: إنّ هذا الكلام بصورته البدائيّة يورد عليه بسهولة بأنّ حديث (مَن بلغ) ليس بلسان فرض الكشف عن الواقع حتّى ينافي ذلك قوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)لم يقله)، فيحتاج هذا الكلام إلى شيء من التنقيح والتشريح، وذلك بأن يقال: إنّ حديث (مَن بلغ) إنّما دلّ بدلالته المطابقيّة على ملازمة بين البلوغ والثواب، والوجه في دلالته على الحجّيّة هو أن يقال: إنّ الثواب مترتّب على الأمر، فيدلّ الحديث بالالتزام على ملازمة اُخرى في رتبة أسبق من هذه الملازمة وهي الملازمة بين البلوغ والأمر، وعندئذ نقول: إنّ الملازمة بين البلوغ والأمر إمّا تكوينيّ، أو عنائيّ.

أمّا دعوى الملازمة التكوينيّة في المقام فكذب محض، فلابدّ أن يكون المقصود هو الملازمة العنائيّة، ودعوى مطابقة البلوغ للواقع مبالغة، وذلك كناية عن الحجّيّة، ومن الواضح أنّ دعوى المطابقة والملازمة بنحو المبالغة والعناية ينافيها فرض عدم المطابقة بقوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله).

والتحقيق مع ذلك: أنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل، فإنّ جعل الاستحباب الطريقيّ في المقام يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن يكون ذلك بجعل الحجّيّة والكاشفيّة على حدّ حجّيّة خبر الثقة، وذلك بالتقريب الذي عرفت.

والثاني: أن يكون ذلك من قبيل جعل وجوب الاحتياط، وذلك بتقريب أنّ المولى ـ لأجل اهتمامه بأغراضه في الأخبار الدالّة على الاستحباب المطابقة للواقع ـ أراد أن يحثّ على العمل بكلّ خبر دلّ على استحباب شيء، تحفّظاً على أغراضه الثابتة في الأخبار المطابقة للواقع، نظير التحفّظ على الواقع المعلوم بالإجمال أو المحتمل بالإجمال بالاحتياط في جميع الأطراف، فحثّ على العمل بكلّ خبر دالّ على استحباب شيء بجعل ثواب عليه كي يكون الربح لدى العبد

405

قطعيّاً، فتشتدّ رغبته في العمل بذلك. وما مضى من الإشكال إنّما يبطل الوجه الأوّل من هذين الوجهين دون الثاني، فإلى الآن لم يظهر مفنّد لهذا الاحتمال، فلنرَ بعد هذا أنّه هل توجد قرينة على احتمال آخر في قبال هذا الاحتمال فيبطل بذلك هذا الاحتمال أو لا؟

وأمّا الاستحباب النفسيّ فيوجد هنا تقريب يثبت الجامع بينه وبين الاستحباب الطريقيّ، وهو ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) واحتمله المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وكلام المحقّق العراقيّ هنا مجمل من حيث إنّه هل كان مقصوده إثبات الاستحباب النفسيّ بذلك، أو الجامع بين الاستحباب النفسيّ والحجّيّة(2). وأمّا كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)فصريح في أنّ هذا التقريب لو خلّي ونفسه لا يثبت إلاّ الجامع بينهما، وذلك التقريب هو حمل قوله في هذه الأخبار: (فعمله) على إرادة الأمر. وتوضيح ذلك: أنّه وإن لم يوجد في أخبار (البلوغ) الأمر بصيغته أو مادّته، لكنّ الجملة الخبريّة في كلام الشارع ظاهرة في كونها بداعي الأمر كقوله: (سجد سجدتي السهو)، فقوله في هذه الأخبار: (فعمله) وإن كان جملة خبريّة، لكنّه يحمل على إرادة الأمر، وبعد استفادة الأمر من ذلك نقول: إنّ الأمر في لسان المولى ظاهر في المولويّة، وحمله على الإرشاد خلاف الظاهر ما لم تقم قرينة عليه، فيثبت بذلك الأمر المولويّ بالعمل بالخبر البالغ، وهو أعمّ من كونه نفسيّاً أو طريقيّاً، فثبت بهذا الجامع بين الحجّيّة والاستحباب النفسيّ.

أقول: إنّ هذا من غرائبهم(رحمهم الله)، فإنّ قوله: (فعمله) قد وقع شرطاً فسقط عن



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 150.

(2) كلامه في نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 277 واضح في إرادة الاستحباب النفسيّ.

406

إفادة أمر يصحّ السكوت عليه، وليس إخباراً ولا إنشاءً، نظير أن يقال: (مَن أجنب فليغتسل)، أفهل يُفهم من ذلك الأمر بالإجناب، وهل يتوهّم أحد أنّ هذا إخبار بالإجناب فيحمل على داعي الإنشاء؟ نعم، لو كان جزاء للشرط صحّت استفادة الأمر منه، فلو قال: (مَن بلغه ثواب عمل به) استفيد من ذلك أنّ من بلغه ثواب فليعمل به، لكن ليس الأمر كذلك.

 

إثبات الاستحباب النفسيّ:

وهنا تقريبان لإثبات خصوص الاستحباب النفسيّ من أخبار (مَن بلغ):

التقريب الأوّل: ما في الدراسات(1) من أنّ احتمال الإرشاد منفيّ بظهور أخبار (مَن بلغ) في كونها في مقام التحريض والترغيب في العمل، واحتمال جعل الحجّيّة منفيّ بمنافاة ذلك لقوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله)، فينحصر الأمر في الاستحباب النفسيّ.

ويرد عليه:

أوّلاً: منع انحصار الأمر في الاستحباب النفسيّ بعد إبطال الإرشاد والحجّيّة، لما عرفت من أنّ ذيل الحديث لا ينافي جعل الحكم الطريقيّ على مستوى الحكم بالاحتياط، وإن كان ينافي جعل الحجّيّة من قبيل حجّيّة خبر الثقة، فيبقى احتمال الحكم الطريقيّ على هذا المستوى.

وثانياً: أنّ ظهور الأخبار في الترغيب إنّما يدفع الاحتمال الرابع الذي كان عبارة عن مجرّد الوعد لملاك في نفس الوعد، ولا يدفع الاحتمال الأوّل، وهو الإرشاد، فإنّ الترغيب ثابت فيه أيضاً كما في الاحتمال الثاني والثالث، إلاّ أنّ



(1) ج 3، ص 189.

407

الترغيب بناءً على الإرشاد ترغيب من الشارع بما هو عاقل، وعلى الاحتمالينالآخرين ترغيب منه بما هو شارع ومولىً.

نعم، لو قال بدلاً عمّا مضى: إنّ ترغيب الشارع ظاهر في كونه ترغيباً منه بما هو شارع كان هذا شيئاً معقولاً كما سيأتي إن شاء الله.

التقريب الثاني: هو التقريب المشهور في المقام، وهو عبارة عن تطبيق كلام عامّ في جميع موارد ترتيب الثواب على شيء على ما نحن فيه، وذلك الكلام العامّ عبارة عن أنّه مهما رتّب ثواب على عمل فقيل: (مَن فعل كذا كان له كذا وكذا من الثواب) كان ذلك دليلاً على مطلوبيّة ذلك العمل واستحبابه؛ وذلك لأنّ الثواب يستلزم الأمر ويترتّب عليه بعد فرض أنّه لا يترتّب الثواب على شيء جزافاً، فنستكشف من ترتيب الثواب على هذا العمل كونه مأموراً به بقانون الدلالة الالتزاميّة العقليّة، والبرهان الإنّىّ، وكشف الملزوم عن لازمه.

فطبّق هذا الكلام العامّ على ما نحن فيه حيث إنّه رتّب فيه الثواب على العمل بما بلغ الثواب عليه، فيدلّ على استحباب ذلك وتعلّق الأمر به.

واُورِد عليه: بأنّ هناك فرقاً بين ما نحن فيه وسائر الموارد، وهو أنّه لم يكن يوجد في سائر الموارد ملاك آخر للثواب غير الأمر، وهنا يوجد ملاك آخر له وهو الانقياد.

واُجيب على ذلك: بأنّ إطلاق أخبار (مَن بلغ) يشمل فرض العمل بما بلغه الثواب عليه وإن لم يأتِ برجاء المطابقة وداعي الانقياد، وفي فرض عدم إتيانه بهذا النحو لا يوجد ملاك الانقياد.

ومن هنا وقع البحث بين المحقّقين كالمحقّق الخراسانيّ والمحقّق الإصفهانيّ والمحقّق العراقيّ والسيّد الاُستاذ في أنّه هل يشمل إطلاق أخبار (مَن بلغ) صورة الإتيان لا بداعي الانقياد والرجاء حتّى يصحّ الاستدلال بها على المقصود أو لا يشملها حتّى لا يصحّ ذلك؟

408

فذهب بعض كالمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى شمول الإطلاق لذلك، فيتمّ هذا الاستدلال، وبعض آخر كالمحقّق العراقيّ(قدس سره)إلى عدم شموله له فلا يتمّ هذا الاستدلال، فقد اتّفقوا على نقطة وهي أنّه على تقدير شمول إطلاق الأخبار في ذاته لغير صورة الإتيان بداعي الرجاء يتمّ هذا الاستدلال بالأخبار، واختلفوا في نقطة اُخرى وهي أنّه هل يشمل إطلاق الأخبار فرض الإتيان لا بداعي الرجاء أو لا؟

أقول: أمّا النقطة الاُولى التي اتّفقوا عليها فهي غير صحيحة عندنا، ولنا حول هذه النقطة كلامان:

الكلام الأوّل: أنّ ما ذكروه من إثبات الأمر في موارد ترتّب الثواب على عمل بقانون الملازمة العقليّة بين الثواب والأمر وكشف الملزوم عن لازمه غير صحيح، فإنّ الثواب ليس ملازماً لواقع الأمر وإنّما هو ملازم للعلم بالأمر، فلو كان الأمر ثابتاً في الواقع والعبد يتخيّل عدم الأمر لا يترتّب أيّ ثواب على عمله، بل لو تخيّل النهي ترتّب العقاب عليه، ولو تخيّل العبد الأمر ولم يكن أمر ترتّب الثواب على عمله، فالثواب إنّما هو ملازم للعلم بالأمر لا لنفس الأمر، وعليه فنقول: هل المقصود إحراز نفس الأمر من ترتيب ثواب عمل على عمل بالملازمة، أو المقصود إحراز العلم بالأمر من ذلك؟ فإن كان المقصود هو الأوّل لم يصحّ؛ لأنّ نفس الأمر ليس طرفاً للملازمة، وإن كان المقصود هو الثاني لم يصحّ أيضاً؛ إذ لا معنى لأن نحرز من خبر ترتّب الثواب أنّنا عالمون بالأمر، بل نرجع ابتداءً إلى أنفسنا فنرى أنّنا غير عالمين بذلك في المرتبة السابقة على هذا الخبر فكيف يكشف هذا الخبر عن علمنا بذلك؟

وإنّما الصحيح في باب استكشاف الأمر من ترتيب الثواب على العمل أنّ ذلك يستفاد لأحد وجهين:

الأوّل: أن يفرض أنّ قوله: (مَن عمل كذا فله كذا) كناية عرفاً عن ثبوت الأمر،

409

نظير قولك: (زيد كثير الرماد) الذي هو كناية عن كونه كريماً، وتكفي في باب الكناية مناسبات عرفيّة تصحّح ذلك بلا حاجة إلى ثبوت الملازمة بالدقّة بينهما، كما أنّه لا ملازمة دقّيّة بين كثرة الرماد والكرم، فقد يكون كثير الرماد ولا يكون كريماً وبالعكس.

الثاني: أن يقال: إنّ قوله: (مَن عمل كذا فله كذا) يستبطن قيداً ارتكازيّاً، أي: مَن عمل كذا عارفاً بحكمه فله كذا، وعندئذ يستكشف الأمر على أساس الملازمة العقليّة، فإنّ صدق هذه القضيّة الشرطيّة مستلزم لكون حكمه هو المطلوبيّة.

وشيء من هذين الوجهين لا يأتيان فيما نحن فيه، فإنّ الأمر ليس هنا منحصراً في الكناية وتقدير كلمة (عارفاً بحكمه)، بل يتصوّر هنا تقدير آخر ليس بأشدّ من مؤونة الكناية ومؤونة هذا التقدير، وهو تقدير فرض الانقياد وداعي الرجاء، فإنّ هذا أيضاً تقدير عرفيّ ليس التقدير الأوّل أو الكناية بأولى منه.

الكلام الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عمّا مضى، وفرضنا أنّه في موارد ترتيب الثواب على عمل يستكشف الأمر بقانون الملازمة العقليّة بين الثواب والأمر قلنا مع ذلك: إنّ هذا لا ينطبق على ما نحن فيه.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارةً نفترض ـ لأجل الاستظهار من هذه الأخبار أو لجهة اُخرى كحكم العقل ـ أنّ الثواب المذكور في هذه الأخبار ليس ثواباً جزافيّاً، وإنّما هو ثواب استحقاقيّ، واُخرى نفرض عدم استبعاد كون ذلك ثواباً جزافيّاً، وبكلمة اُخرى: ثواباً تفضّليّاً، فإن فرض الثاني انغلق باب بحث استكشاف الأمر من هذا الثواب؛ إذ المفروض عدم استبعاد كون الثواب جزافاً وغير ناشئ من استحقاق بواسطة الأمر وغير ذلك، فلابدّ لفتح باب البحث في ذلك من فرض الأوّل، وهو أنّ الثواب لا يكون جزافيّاً، بل هو على أساس استحقاق العبد على مولاه بمعنىً من

410

معاني الاستحقاق، وعندئذ نقول: إنّ إطلاق قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله كان له ذلك الثواب) بعد فرض كون المراد به الثواب الاستحقاقيّ مقيّد عقلاً بصورة الإتيان بداع قربيّ؛ إذ الإتيان به لا بهذا الداعي لا يوجب الاستحقاق كما هو واضح، وبعد تقييد الإطلاق بهذا المقيّد المنفصل نقول: إنّ التمسّك بهذا المطلق عندئذ تمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد، ولا يجوز التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد المنفصل أصلاً(1)، وفي باب العامّ لا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل إلاّ في بعض موارد مستثناة، ولكن في باب المطلق(2) ليس لعدم الجواز استثناء أصلاً(3)، والوجه في كون التمسّك بالمطلق هناتمسّكاً في الشبهة المصداقيّة هو أنّ للعمل بما بلغه الثواب بداع قربيّ مصداقين: أحدهما مصداق قطعيّ، والآخر مصداق غير قطعيّ.

أمّا الأوّل فهو العمل بداعي الانقياد، وأمّا الثاني فهو العمل بداعي الأمر الموقوف على وجود الأمر، ومع عدمه يلزم التشريع، أو يكون ذلك أمراً غير معقول، والمفروض أنّه بقطع النظر عن أخبار (مَن بلغ) نشكّ في وجود الأمر فنشكّ في هذا المصداق. هذا بعد تنزّلنا عن الإشكال الأوّل، وإلاّ فقد عرفت أنّ وجود الأمر واقعاً لا أثر له أصلاً.



(1) بل قد يقال: إنّ المقيّد هنا متّصل؛ لأنّ اشتراط استحقاق الثواب بالداعي القربيّ عقليّ ارتكازيّ كالمتّصل، ولكن قد يتّضح لك بمراجعة بحث العموم والخصوص أنّ المخصّص اللبّيّ الارتكازيّ يكون في خصوص مسألة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة كالمنفصل لا كالمتّصل.

(2) بمعنى ثبوت الحكم على الطبيعة لا للأفراد.

(3) مضى الوجه في ذلك من قِبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث العموم والخصوص فراجع.

411

وأمّا النقطة الثانية التي اختلفوا فيها وهي أنّه هل تكون أخبار (مَن بلغ) شاملة في ذاتها وبقطع النظر عمّا مضى لغير فرض الانقياد أو لا؟

فنقول: إنّ هذا موقوف على أن نرى أنّه هل توجد قرينة في أخبار (مَن بلغ) على تقييدها بفرض الانقياد أو لا؟

وما يذكر قرينة على الاختصاص بفرض الانقياد أمران:

الأوّل: فاء التفريع في قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله)، حيث دلّ على كون العمل متفرّعاً على البلوغ.

والثاني: التصريح في بعض تلك الأخبار برجاء المطابقة فيحمل غيره عليه حملاً للمطلق على المقيّد.

أمّا القرينة الاُولى: فقد نوقشت باُمور:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) من أنّ البلوغ اُخذ بنحو الجهة التعليليّة لا بنحو الجهة التقييديّة كي يوجب وجهاً وعنواناً للعمل.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يخلو من إجمال، فإن أراد(قدس سره) بذلك أنّه لمّا كان قيد البلوغ بنحو التعليل لا بنحو التقييد فالعمل يبقى على إطلاقه، ولا يختصّ بالحصّة الانقياديّة والمتفرّعة على البلوغ، فمن الواضح أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّه بمجرّد أخذ البلوغ في جانب العمل لا محالة لا يبقى العمل ثابتاً على إطلاقه، بل تضيّق دائرته بذلك سواء فرض البلوغ جهة تعليليّة أو تقييديّة، فإنّ إطلاقه على أيّ حال خلف فرض التفرّع على البلوغ فيه.

وإن أراد بذلك أنّه وإن صار العمل مقيّداً بفرض التفرّع على البلوغ والحصّة



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 197 بحسب طبعة المشكينيّ. ومن المحتمل كون المقصود الحقيقيّ للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) الوجه الثالث أو الرابع.

412

الانقياديّة، لكنّ الثواب قد جعل على نفس هذا العمل المتفرّع على البلوغ والمنقادبه، ويكون البلوغ والانقياد جهة تعليليّة، ولم يجعل الثواب على الانقياد بأن يكون هذا العمل بما أنّه معنون بعنوان الانقياد ويكون الانقياد وجهاً له مثوباً عليه، فيثبت بذلك أنّ الرواية ليست إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الانقياد؛ لأنّ ثواب الانقياد في الحقيقة مترتّب على عنوان الانقياد لا على خصوص ذات الحصّة الانقياديّة من العمل بما هو هو، ورد عليه: أنّه إن صار البناء على هذا التدقيق فعلى فرض الاستحباب وكون العمل من باب الطاعة لا من باب الانقياد أيضاً نقول: إنّه ليس الثواب في الحقيقة مترتّباً على ذات العمل بما هو، بل مترتّب على عنوان الطاعة(1)، فعلى أيّ حال لا يعقل ترتّب الثواب على ذات العمل بما هو سواء فرض ذلك من باب الانقياد أو من باب الطاعة، فلا يكون ما ذكره قرينة على عدم الإرشاد إلى حسن الانقياد، بل يظهر ممّا عرفت أنّه لم يكن المقصود في أخبار (مَن بلغ) فرض العمل موضوعاً للثواب بهذا النحو من الدقّة، وإنّما العمل اُخذ فيها على وجه المورديّة للثواب، ولا ينافيه كون الثواب مترتّباً على عنوان الانقياد أو عنوان الطاعة.

الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(2)، وهو في الحقيقة ليس مناقشة في قرينيّة (الفاء) للاختصاص بفرض الانقياد، ولم يذكره هو(رحمه الله)بهذا الصدد، وإنّما هو دليل مستقلّ على أنّ أخبار (مَن بلغ) لا تنظر إلى حصّة الانقياد ولا تكون إرشاداً



(1) وذلك بعد استظهار كون الثواب استحقاقيّاً، وإلاّ لانسدّ باب استظهار الاستحباب.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 221.

413

إلى حكم العقل، وفي مقام بيان ثواب الانقياد، وهذا الدليل مركّب من مقدّمتين:

1 ـ إنّ الخبر الضعيف المفروض دلالته على ترتّب ثواب على عمل ليس مفاده ترتّب الثواب على العمل بداعي الانقياد، وإنّما مفاده عبارة عن الثواب على نفس العمل.

2 ـ إنّ أخبار (مَن بلغ) قد نطقت بثبوت نفس الثواب الذي ذكر في ذلك الخبر الضعيف، وقد كان ذلك ثواباً على نفس العمل بحكم المقدّمة الاُولى، فيثبت بالجمع بين المقدّمتين أنّ أخبار (مَن بلغ) تثبت الثواب على نفس ذلك العمل.

ويرد عليه: أنّه ما هو المقصود بكون مفاد أخبار (مَن بلغ) هو ثبوت عين الثواب المذكور في الخبر الصحيح؟ فإن كان المقصود هو العينيّة من جميع الجهات فهو مفروض العدم على كلّ حال؛ إذ قد اُخذ ـ لا محالة ـ في أخبار (مَن بلغ) عنوان البلوغ سواء فرض بنحو الداعي للفعل والتقييديّة، أو فرض بنحو الموضوع للحكم بالاستحباب والتعليليّة، فعلى أيّ حال يكون للبلوغ دخل في شخص الثواب الموعود، في حين أنّه لم يكن دخيلاً في الثواب المذكور في الخبر الضعيف.

وإن كان المقصود كون الثواب الموعود في أخبار البلوغ عين الثواب المذكور في الخبر الضعيف كمّاً وكيفاً ـ أي: أنّه يعطى له نفس ما وعد إعطاؤه في الخبر الضعيف ـ فهذا صحيح، ولكنّه لا ينافي فرض كون الثواب على عنوان الانقياد لا على ذات العمل.

الثالث: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) أيضاً(1)، وهو أنّ تفريع العمل على البلوغ لا يقتضي اختصاصه بالحصّة الانقياديّة؛ وذلك لأنّ تفريع العمل على شيء



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 221.

414

تارةً يكون من باب تفريعه على داعيه، كما تقول: (وجب عليّ كذا ففعلت)، حيث إنّ الوجوب داع للفعل، واُخرى يكون من باب تفريعه على موضوع داعيه، كما تقول: (دخل الوقت فصلّيت)، حيث إنّ الداعي إلى الفعل هو الأمر به ووجوبه، ويكون الوقت موضوعاً لذلك الأمر والوجوب، ففيما نحن فيه أيضاً نقول: تارةً يتفرّع العمل على البلوغ من باب تفريع الشيء على داعيه بأن يكون نفس هذا البلوغ داعياً إلى العمل، وهذا هو الحصّة الانقياديّة، واُخرى يتفرّع على البلوغ من باب تفرّع الشيء على موضوع داعيه بأن يكون الداعي إليه هو الاستحباب الذي يكون موضوعه البلوغ.

ويرد عليه: أنّه وإن كان الأمر كما ذكره ـ أي: أنّ تفرّع العمل على شيء يتصوّر له فردان ـ لكنّ الفرد الثاني لا يمكننا إحرازه بنفس أخبار (مَن بلغ)، وتوضيح ذلك: أنّ أخبار (مَن بلغ) جعلت العمل المتفرّع على البلوغ موضوعاً لترتّب الثواب، حيث قال: (مَن بلغه ثواب فعمله)، ففرّع العمل بالمعنى الحرفيّ على البلوغ، ولنقلب ـ لأجل التوضيح ـ المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ، فلنفترض أنّ الحديث هكذا: (العمل المتفرّع على البلوغ يترتّب عليه الثواب)، وعندئذ نقول: إنّ العمل المتفرّع على البلوغ له فردان: فرد يقينيّ وهو العمل الانقياديّ وبداعي البلوغ، وفرد مشكوك وهو العمل بداعي حكم البلوغ الذي هو الاستحباب، وهذا الفرد مشكوك بقطع النظر عن أخبار (مَن بلغ) بمشكوكيّة أصل الاستحباب، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إثبات ذلك بنفس هذه الأخبار بالتمسّك بإطلاقها، فإنّ ثبوت الإطلاق لها فرع ثبوت هذا الفرد، فكيف يثبت ذلك بالإطلاق؟ فذلك من قبيل أن يتمسّك بإطلاق قول: (أكرم العالم) في فرد شككنا في كونه عالماً زائداً على الأفراد المعلومة، وهذا غير ما مضى من الإشكال على النقطة الاُولى من لزوم التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة

415

للمخصّص المنفصل، فإنّ هذا أسوء من الأوّل، ولو سلّم الأوّل لا يسلّم الثاني وهو التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة لنفس المطلق، فإنّ الإطلاق هنا من أوّل الأمر غير ثابت(1).

الرابع: ما قاله بعض من أنّه لم يفرّع العمل في هذه الأخبار على داعويّة احتمال الأمر حتّى يختصّ بالحصّة الانقياديّة، وإنّما فرّع على داعويّة الثواب، حيث قيل: (مَن بلغه ثواب فعمله)، فيكفي في المقام كون ذلك الثواب المحتمل داعياً إلى الفعل، وحيث إنّنا نعلم أنّ الثواب إنّما يترتّب على العمل القربيّ، فهذا الثواب يدعونا إلى أن نأتي بهذا العمل قربيّاً، وقربيّته لا تختصّ بكونه بداعي احتمال الأمر، بل تشمل فرض كونه بداعي الأمر الجزميّ.

والجواب على ذلك: هو سنخ الجواب على المناقشة الثالثة. وتوضيحه: أنّ روح المطلب يرجع بالآخرة إلى أنّ الثواب رتّب في هذه الأخبار على العمل القربيّ، والعمل القربيّ له فردان: أحدهما قطعيّ وهو العمل بداعي احتمال الأمر. وأمّا العمل بداعي الأمر الجزميّ فلا يمكن إثباته بإطلاق هذه الأخبار؛ لأنّ ثبوت



(1) لا يخفى أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) لم يكن مقصوده بهذا البيان التمسّك بإطلاق أخبار (مَن بلغ)، بل كان مقصوده مجرّد هدم قرينيّة فاء التفريع للاختصاص بفرض الانقياد للواقع المحتمل، كي يثبت بعد سقوط هذه القرينة الاستحباب النفسيّ بالبيان السابق، وهو الوجه الثاني من الوجوه الماضية، وإذن فمجموع الوجه الثاني والوجه الثالث في نظر المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) وجه واحد.

نعم، يمكن الإيراد عليه: بأنّ التفريع على ما يصلح داعياً مباشراً يكون ظاهراً في إرادة الداعويّة المباشرة وهي الفرد الأوّل، دون موضوعيّته للداعي المباشر وهي الفرد الثاني، فظاهر هذه الأحاديث هو أنّ الدافع المباشر إلى العمل كان هو الثواب الموعود به.

416

إطلاق لها فرع ثبوت هذا الفرد(1).

وأمّا القرينة الثانية(2) ـ وهي حمل المطلق على المقيّد ـ: فتحقيق الحال فيها: أنّ لحمل المطلق على المقيّد ملاكات ثلاثة:

1 ـ أن نعلم ـ صدفة من الخارج ـ وحدة الحكم المقصود بيانه تارةً بلسان المطلق، واُخرى بلسان المقيّد، فيقع ـ لا محالة ـ التعارض بينهما، ويقدّم المقيّد على المطلق بحكم قوانين التعارض المذكورة في بحث التعادل والتراجيح.

2 ـ أن يكون للمقيّد مفهوم ينفى به الإطلاق كما إذا كان بنحو القضيّة الشرطيّة،



(1) وقد جاء في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) ـ ج 5، ص 130 ـ جواب آخر بدلاً عن هذا الجواب، وهو أنّ الثواب على المستحبّ النفسيّ بعنوان البلوغ ثواب آخر غير ثواب الواقع، فإن كان العمل بداعي هذا الاستحباب لا بداعي الواقع المحتمل كان هذا خلف داعويّة الثواب البالغ.

وهذا بظاهره يرد عليه ما مضى من أنّ المقصود بعينيّة الثواب ليست هي العينيّة من كلّ الجهات، بل هي العينيّة في كمّيّة الثواب وكيفيّته، فكون الثواب معلولاً للأمر الأوّل أو احتماله تارةً، ومعلولاً للأمر الثاني تارةً اُخرى لا يضرّ بالعينيّة المقصودة في المقام. نعم، ينبغي أن يقال في المقام ـ ولعلّه المقصود وإن قصر عنه التعبير ـ: إنّ (الفاء) قد فرّع العمل على بلوغ الثواب، ويوجد في المقام بلوغان: أحدهما البلوغ الثابت بالخبر الضعيف، والآخر البلوغ الثابت بنفس أخبار (مَن بلغ). ومن الواضح أنّ الفاء قد فرّع العمل على البلوغ الأوّل لا الثاني ومحرّكيّة البلوغ الأوّل تختصّ بالحصّة الانقياديّة، والقول بأنّ البلوغ الأوّل قد يكون موضوعاً للمحرّك لا محرّكاً مباشراً رجوع إلى نكتة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله).

(2) لا يخفى أنّ الوجه الرابع من وجوه الجواب على القرينة الاُولى لو تمّ يأتي على هذه القرينة أيضاً.

417

كما لو قيل: (أكرم العالم)، وقيل: (أكرم العالم إن كان عادلاً).

3 ـ دعوى استحالة اجتماع حكمين متماثلين أحدهما على المطلق والآخر على المقيّد على خلاف في سعة دائرة هذا الملاك، هل يختصّ بالواجبات أو يعمّ المستحبّات، وذلك نظير استحالة اجتماع الحكمين المتماثلين على موضوع واحد، وهذه الاستحالة قال بها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)ومدرسته، وقال بها المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)على اختلاف بينهما في طريقة إثباتها. والصحيح عندنا بطلان هذه الاستحالة، وتنقيح ذلك موكول إلى محلّه.

هذه هي الملاكات الثلاثة لحمل المطلق على المقيّد، فلنرَ أنّه هل يوجد شيء منها فيما نحن فيه أو لا؟ فنقول:

أمّا الملاك الأوّل: فقد ذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في المقام أنّ الفقيه بتأمّله في تمام أخبار الباب يعرف أنّ المقصود من جميعها بيان حكم واحد(1).

أقول: إنّ من حصل له القطع بوحدة الحكم في المقام ـ ولو بقرينة اشتراك أخبار الباب في بعض التعبيرات وتقاربها(2) ونحو ذلك ـ تمّ لديه هذا الملاك، ومن


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): أنّ المقصود كونها في مقام بيان حكم واحد في قبال كون المطلقات في مقام بيان الحكم الشرعيّ والمقيّدات في مقام الإرشاد. وأمّا على تقدير كون الجميع في مقام بيان الحكم الشرعيّ فقد أخذوا وحدة الحكم أمراً مفروغاً عنه، فإنّ حالها عندئذ حال جميع المطلقات والمقيّدات الموجودة في الشريعة التي تحمل على بيان حكم واحد، فيقيّد الأوّل بالثاني من قبيل (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة).

(2) أفاد (رضوان الله عليه) في مقام تقريب ذلك: أنّه بعد فرض كون المطلقات في مقام بيان الحكم الشرعيّ لو فرض أنّ المقيّدات أيضاً في مقام بيان ذلك، فاشتراكهمامع

418

لم يحصل له هذا القطع لا يفيده هذا الملاك، وبكلمة اُخرى: أنّ هذا ليس أمراً فنّيّاً، وإنّما هو أمر يرتبط بالذوق وسليقة المستنبط، فمن حصل له القطع هنا بوحدة الحكم حمل المطلق على المقيّد، ومن لم يحصل له القطع بذلك لم يمكنه حمل المطلق على المقيّد عن هذا الطريق.

وأمّا الملاك الثاني: فهو موقوف في المقام على فرض كلمة (مَن) في الأخبار المقيّدة شرطيّة لا موصولة، وفرض دلالة أمثال هذه الأداة من أدوات الشرط على المفهوم، فيدلّ قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله رجاء ذلك الثواب كان له ذلك) على انتفاء ذلك الثواب بانتفاء الشرط سواء كان بانتفاء أصل البلوغ، أو بانتفاء العمل، أو بانتفاء كون العمل برجاء المصادفة.

لكنّنا قد أثبتنا في بحث مفهوم الشرط أنّ المفهوم يختصّ بأداة الشرط المتمحّضة في معنى حرف الشرط ـ أي: ربط هيئة الجزاء بهيئة الشرط من قبيل (إن) ـ ولا يثبت لما يدلّ على حصّة معيّنة من الشيء ويجعلها موضوعاً للحكم من قبيل كلمة (مَن)، فهذا الملاك الثاني في المقام منتف.

 


المطلقات في ذكر كلمة (البلوغ)، وكذا تحديد مقدار الثواب بالمقدار البالغ لا يحتاج إلى مؤونة زائدة ونكتة اُخرى غير النكتة التي من أجلها ذكر ذلك في المطلقات. أمـّا لو فرض أنّ المقيّدات للإرشاد فعلى هذا التقدير كان من المحتمل أن لا يذكر فرض البلوغ، بل يذكر مطلق فرض الاحتمال سواء كان منشؤه البلوغ أو غير ذلك، وكان من المحتمل أن لا يحدّد الثواب بهذا النحو، فبحساب الاحتمالات يستبعد تعدّد الحكم، فقد يحصل بذلك لأحد الاطمئنان بأنّهما في مقام بيان حكم واحد إمـّا مولويّ أو إرشاديّ، فيقيّد الأوّل بالثاني.

419

وأمّا الملاك الثالث: فهو غير ثابت فيما نحن فيه، فإنّ الأخبار المقيّدة المختصّة بفرض داعي الرجاء تكون بحسب عقليّة هذا التقريب المشهور لإثبات الاستحباب من أخبار (مَن بلغ) غير دالّة على الاستحباب ومحتملة الإرشاد إلى حكم العقل، فلم يثبت كونها بصدد بيان مثل الحكم الذي بيّن في الأخبار المطلقة، فلا وجه لتقييد المطلقات بها.

ثمّ لو قطعنا النظر عن جميع ما مضى حتّى الآن في هاتين النقطتين من المناقشات، قلنا أيضاً: إنّ من المحتمل كون أخبار الباب بصدد بيان الحكم الطريقيّ لا بمعنى الحجّيّة، بل بالمعنى الذي مضى منّا من كونه من قبيل إيجاب الاحتياط، ولا ينفي هذا ما مضى من فرض استبعاد جزافيّة الثواب في المقام، وأنّ الثواب الاستحقاقيّ يكشف عن الأمر؛ وذلك لأنّنا نمنع كون الثواب منحصراً في هذين القسمين، وهما الثواب الجزافيّ والثواب الاستحقاقيّ، بل هنا قسم ثالث وهو الثواب الترغيبيّ، وقد جعل حتّى يكون الربح جزميّاً، فيرغب المكلّفون في العمل بتمام الأخبار الدالّة على استحباب عمل مّا، فيتحفّظ ضمناً على الأغراض الواقعيّة الموجودة في ضمن مفاد تلك الأخبار.

والتحقيق: أنّ هذا المنهج منهم في البحث كان تبعيداً للمسافة، وإثبات الأمر المولويّ في المقام لا يحتاج إلى اللفّ والدوران. والصحيح في المقام أن يقال ـ مقتنصاً ممّا مضى ـ: إنّ الاحتمال الرابع من الاحتمالات التي ذكرناها في أوّل البحث منفيّ بظهور الأخبار في الترغيب والحثّ على العمل، وهي ظاهرة في ذلك ظهوراً لا يقبل الإنكار، والاحتمال الأوّل من تلك الاحتمالات وهو الإرشاد لا يحتاج في مقام نفيه إلى مثل افتراض أنّ قوله: (فعمله) إخبار بداعي الأمر الظاهر في المولويّة، بل نقول في مقام نفيه: إنّ الترغيب الصادر من المولى ظاهر في المولويّة كالأمر الصادر منه، ولا خصوصيّة للأمر في ذلك،

420

فمطلق الحثّ والترغيب الصادر من الشارع ظاهر في كونه صادراً منه بما هو شارع، سواء أبرز هذا الترغيب بلسان الأمر، أو بلسان آخر، فإنّ كونه بلسان الأمر لا تتصوّر له خصوصيّة في المقام، وإنّما النكتة في هذا الظهور أنّ المولى في مقام حثّه وطلبه لشيء يكون الغالب فيه تقمّصه قميص المولويّة، فينعقد لكلامه ظهور في المولويّة(1)، وهذه النكتة نسبتها إلى كلا اللسانين على حدّ سواء، واحتمال جعل الحجّيّة منفيّ بما في ذيل الأخبار من قوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله) فيبقى في المقام احتمالان: أحدهما الاستحباب النفسيّ، والآخر الحكم الطريقيّ على مستوى جعل الاحتياط، ومجرّد ظهور الأخبار في الحثّ والترغيب لا يعيّن الاستحباب النفسيّ لملائمة ذلك مع الحكم الطريقيّ أيضاً.

وهنا نتكلّم في مقامين:

أحدهما: في عقد الموازنة بين هذين الاحتمالين، وأنّ أيّاً منهما يعيّن في قبال الآخر أو يكونان متساويين؟

والآخر: في أنّه بناءً على الاستحباب النفسيّ لفرض دلالة الترغيب عليه مثلاً، فهل المستحبّ ذات العمل أو العمل بداعي الانقياد ورجاء الموافقة للواقع؟



(1) لا يخفى أنّ الإرشاد حينما يتّصل باُمور الآخرة من الثواب والعقاب ـ كما في الإرشاد بالأمر بإطاعة الله والرسول ـ ليس خلاف شأن المولى، أو قل: إنّ ترغيب المولى في مثل هذا المورد بما هو عاقل ليس شاذّاً بالقياس إلى ترغيبه فيه بما هو مولىً، فمثل قوله: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾(1) يحتمل بلحاظ الأهل المولويّة، ويحتمل الإرشاد، وليس أحدهما أولى من الآخر.


(1) السورة 66 التحريم، الآية: 6.

421

 

إجمال الدلالة:

أمّا المقام الأوّل: فالتحقيق أنّ الحديث مجمل مردّد أمره بين الحكم الطريقيّ والاستحباب النفسيّ(1).

ويمكن أن يقال في مقام تعيين الثاني في قبال الأوّل: إنّه لو كان ذلك حكماً طريقيّاً بداعي التحفّظ على الأغراض الواقعيّة الثابتة في موارد الأخبار الدالّة على استحباب جملة من الاُمور لم يكن وجه لمؤونة تقييد العمل في هذه الأخبار بكونه بداعي القربة(2)، فإنّ هذا القيد ليس له أيّ دخل في المطلب، بل مع عدمه يوجب التحفّظ على الأغراض الواقعيّة بنحو أشدّ؛ لأنّ ثبوت الثواب على العمل



(1) والأثر العمليّ بينهما يظهر في مثل ما إذا قلنا بكفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء وكان الخبر الدالّ على استحباب غسل مّا ضعيفاً، فعلى الاستحباب النفسيّ يجزي عن الوضوء، وعلى الحكم الطريقيّ الاحتياطيّ لا يجزي عنه، وما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء وقلنا بكفاية استحباب ذلك في جواز المسح ببلّته، فيجوز المسح بها على الاستحباب دون الحكم الطريقيّ الاحتياطيّ، وما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية كقراءة القرآن، ولم نقل باستحباب الوضوء في ذاته، فعلى الاستحباب يرتفع الحدث، وعلى الحكم الطريقيّ الاحتياطيّ لا يثبت ارتفاع الحدث.

أمّا الثمرات التي مضت بين القول بجعل الحجّيّة والقول بالاستحباب النفسيّ فلا ترد فيما بين القول بجعل الاحتياط الطريقيّ والقول بالاستحباب النفسيّ، ما عدا الثمرة الأخيرة لو تمّت في نفسها، وسيأتي البحث ـ إن شاء الله ـ عن تماميّتها وعدم تماميّتها.

(2) وهذا التقييد مستفاد من تفريع العمل على داعي الثواب بـ (الفاء)، أو بقوله: (رجاء ذلك الثواب) بناءً على كون الثواب في المقام استحقاقيّاً لا يتمّ إلاّ بالقربة.

422

على الإطلاق يوجب تحرّك العبد نحوه ولو لم يوجد في نفسه داع قربيّ، بأن أتى بذلك العمل لأجل الثواب صِرفاً، نظير عمل الأجير من دون داعي القربة أصلاً. نعم، في خصوص المستحبّات التعبّديّة لابدّ من قصد القربة. وأمّا في المستحبّات التوصّليّة وهي أكثر المستحبّات فيتحقّق الغرض بالعمل بها ولو بدون القربة.

ولكنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنّ أصل الاستحباب النفسيّ الذي بلغ بالخبر الضعيف مثلاً لم تكن له محرّكيّة بهذا النحو؛ لما هو محقّق في الفقه من عدم ترتّب الثواب على المستحبّات ولو كانت توصّليّة، إلاّ إذا اُتي بها بداعي القربة، فالمحرّكيّة المولويّة في نفس تلك المستحبّات الواقعيّة ليست بأزيد من هذا المقدار. وأمّا المصلحة التكوينيّة المترتّبة على العمل بذاك المستحبّ ولو من دون قربة لو كانت مصلحة شخصيّة لا نوعيّة، فليست محرّكيّتها من المحرّكيّات المولويّة، ومن المعلوم أنّ الحكم الطريقيّ ليس شأنه التحفّظ على الأغراض الواقعيّة الثابتة في الأحكام النفسيّة بأزيد ممّا تقتضيه نفس تلك الأحكام من التحفّظ والتحريك، وإنّما شأنه تدارك نقص التحريك المولويّ الثابت في ذلك الحكم النفسيّ الحاصل بواسطة الشكّ فيه.

ثمّ لو فرضنا أنّ الثواب في تلك المستحبّات الواقعيّة يترتّب على العمل ولو من دون قربة، فعندئذ لا وجه لدعوى أنّ الثواب في أخبار (مَن بلغ) مختصّ بفرض القربة، فيصبح تقييد العمل في هذه الأخبار بكونه بداعي القربة أوّل الكلام(1).

فالمتحصّل من البحث: أنّ أخبار (البلوغ) عندنا باقية على إجمالها بين الاستحباب النفسيّ والحكم الطريقيّ، وإنّما الثابت لنا إجمالاً هو أنّ الشارع قد



(1) وبكلمة اُخرى: لو لم يكن الثواب في مفاد خبر الضعيف استحقاقيّاً فكذلك لا نكتة لحمل الثواب في أخبار (مَن بلغ) على الثواب الاستحقاقيّ.