366

 

استصحاب عدم التذكية:

أمّا الكلام في الصغرى التي بحثوها في المقام ـ وهي استصحاب عدم التذكية ـ فنقول: قد ذكروا للشكّ في حلّيّة لحم الحيوان بعد زهاق روحه أربعة فروض:

الأوّل: أن يكون الشكّ فيه من ناحية الشكّ في أنّ ذلك الحيوان محلّل الأكل أو محرّمه، لا من ناحية الشكّ في التذكية، بل نفترض القطع بحصول التذكية، ولكن التذكية في بعض الحيوانات تفيد الطهارة فقط دون حلّيّة الأكل، وهذا قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، بأن يشكّ في حيوان معيّن أنّه هل هو محلّل الأكل أو محرّمه، واُخرى بنحو الشبهة الموضوعيّة، بأن يشكّ في حيوان أنّه هل هو الحيوان الكذائيّ المحلّل الأكل، أو الآخر المحرّم الأكل.

الثاني: أن يكون الشكّ فيه من ناحية الشكّ في قبول هذا الحيوان للتذكية وعدمه في نفسه، وهذا أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، بأن يشكّ في أنّ هذا الحيوان المعيّن يقبل التذكية أو لا؟، واُخرى بنحو الشبهة الموضوعيّة بأن يشكّ في أنّ هذا الحيوان هل هو الشاة مثلاً القابل للتذكية، أو الحيوان الآخر غير القابل لها؟

الثالث: أن نعلم أنّه في نفسه قابل للتذكية، لكنّنا نحتمل عدم قبوله لها لطروّ مانع كالجلل، وذلك إمّا بنحو الشبهة الحكميّة، كالشكّ في مانعيّة الجلل، أو بنحو الشبهة الموضوعيّة، كالشكّ في حصول الجلل المعلوم مانعيّته.

الرابع: أن يكون الشكّ فيه ناشئاً من الشكّ في إجراء عمليّة التذكية عليه وعدمه، وذلك إمّا بنحو الشبهة الحكميّة كما لو شكّ في اشتراط التسمية، أو بنحو الشبهة الموضوعيّة، كما لو شكّ في تحقّق التسمية مع العلم باشتراطها.

أمّا الفرض الأوّل ـ وهو فرض الشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى هل هو محلّل الأكل أو محرّمه ـ: فإن كانت الشبهة حكميّة رجعنا إلى العموم الفوقانيّ إن وجد

367

عامّ فوقانيّ يدلّ على حلّيّة كلّ حيوان عدا ما استثني، أو على حرمة كلّ حيوان عدا ما استثني، وإلاّ رجعنا إلى أصالة الحلّ، ولا يجري استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة بناءً على حرمة أكل الحيوان الحيّ؛ وذلك لما ستعرف إن شاء الله، ولا مورد لاستصحاب عدم التذكية؛ لفرض القطع بالتذكية.

وإن كانت الشبهة موضوعيّة لم يمكن ابتداءً الرجوع إلى العموم الفوقانيّ إن وجد؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. نعم، يمكن استصحاب العدم الأزليّ لتنقيح موضوع العامّ، فإن فرضت دلالة العامّ على الحرمة وخرجت منه عناوين خاصّة جرى استصحاب عدم تلك العناوين، وكان حاكماً على أصالة الحلّ، وإن فرضت دلالة العامّ على الحلّ وخرجت منه عناوين خاصّة جرى استصحاب عدم تلك العناوين، وكان ذلك أيضاً على المباني المشهورة حاكماً على أصالة الحلّ. وأمّا إن لم يوجد عامّ فوقانيّ، أو وجد ولكن لم نقل باستصحاب العدم الأزليّ، أو قلنا به لكن خصّصناه بالخصوصيّات العرضيّة المقارنة لأصل الموضوع، كالقرشيّة، بخلاف الخصوصيّة الذاتيّة، كالشاتيّة والأرنبيّة، وفرضنا أنّ الخصوصيّة المأخوذة في باب قبول الحيوان للتذكية خصوصيّة ذاتيّة وصلت النوبة إلى أصالة الحلّ، ولا مورد لاستصحاب عدم التذكية لفرض القطع بالتذكية.

هذا. وإن جرى استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة قدّم على أصالة الحلّ؛ لما مضى من أنّ الاستصحاب والأصل إذا كانا في رتبة واحدة قدّم الأوّل على الثاني.

والتحقيق: عدم جريان استصحاب الحرمة. بيان ذلك: أنّ حرمة الأكل في حال الحياة تتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يقال بحرمة أكل الحيوان الحيّ بعنوان أنّه حيّ ولو احتراماً له مثلاً، وهذا لا يبعد استظهاره من بعض الروايات، وهذه الحرمة لا يمكن استصحابها بعد

368

الموت لتبدّل الموضوع؛ لأنّ الحياة تكون عرفاً مقوّمة للموضوع لا جهة تعليليّة.

الثاني: أن يقال بحرمة أكله من باب كونه غير مذكّى، كما قيل بذلك بتخيّل الإطلاق في المستثنى منه في آية: ﴿إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾(1)، وعلى هذا يجري استصحاب الحرمة؛ لأنّ هذا الحيوان كان أكله في حال الحياة حراماً جزماً وكانت حرمته مردّدة بين الحرمة من باب كونه غير مأكول اللحم، والحرمة من باب كونه غير مذكّى، فإن فرض الأوّل فالحرمة باقية، وإن فرض الثاني فهي غير باقية، فيجري استصحاب الحرمة على أساس استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني المردّد فرده بين ما يبقى وما لا يبقى. وأمّا اجتماع كلتا الحرمتين فلا يحتمل فقهيّاً(2).

 


(1) سورة 5 المائدة، الآية: 3.

(2) كأنّ هذا دفع دخل في المقام؛ إذ لقائل أن يقول: إنّ استصحاب الكلّيّ هنا يكون من القسم الثالث؛ لأنّ الفرد الحادث يقيناً مقطوع الارتفاع، وهو الحرمة بملاك عدم التذكية، والفرد الآخر وهو الحرمة الذاتيّة مشكوك الحدوث، فكأنّما أراد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أن يجيب على ذلك بأنّ اجتماع الحرمتين غير محتمل فقهيّاً، إذن فهناك حرمة واحدة مردّدة بين ما يقطع بارتفاعه على تقدير حدوثه، وما يكون باقياً على تقدير الحدوث، وهذا هو مورد استصحاب القسم الثاني من الكلّيّ.

ويبدو ممّا ورد في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدل في الدورة المتأخّرة عن هذا الرأي ـ أي: عن القول بأنّ اجتماع الحرمتين غير محتمل فقهيّاً ـ وبناءً على ذلك أشكل على الاستصحاب في المقام، بأنّ الحرمة بملاك عدم التذكية قد زالت يقيناً، والحرمة الاُخرى مشكوكة الحدوث.

أقول: إنّ تطبيق استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني على المقام لا يتوقّف على عدم احتمال اجتماع الحرمتين، بل يكفي فيه أنّ الحرمة المعلومة إنّما هي إحدى الحرمتين لا

369

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذه الحرمة من أصلها غير ثابتة، فإنّ المستثنى منه في الآية هو الميتة، لا ما يعمّ الحيّ، وكذلك في الروايات إنّما جعلت التذكية شرطاً للحلّيّة بالنسبة للحيوان الميّت لا مطلق الحيوان.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهوفرض الشكّ في قبول التذكية وعدمه ـ: فإن كانت الشبهة فيه حكميّة بأن شككنا أنّ هذا الحيوان المعيّن هل يكون حاله شرعاً حال الحشرات، أو حال الشاة مثلاً، فجريان استصحاب عدم التذكية فيه وعدمه يبتني على بحثين فقهيّين:

الأوّل: أنّه ما هي التذكية؟ وفي ذلك احتمالان رئيسان: أحدهما كون التذكية أمراً بسيطاً، والآخر كونها عبارة عن تلك العمليّة الخارجيّة المركبّة، وهذا البحث سنخ البحث في الطهارات الثلاث عن أنّ الطهارة هل هي أمر بسيط، أو نفس الأعمال الخارجيّة المركبّة، ولهذين الاحتمالين شقوق:

فإنّه إن فرضت أمراً بسيطاً فتارة يفرض أنّ النسبة بينه وبين الأعمال الخارجيّة نسبة العنوان إلى المعنون المنطبق عليه، نظير القيام المنطبق عليه عنوان التعظيم، واُخرى يفرض أنّ النسبة بينهما نسبة المسبّب إلى السبب. وعلى الثاني تارة يفرض هذا المسبّب أمراً تكوينيّاً، نظير مسبّبيّة الموت عن الذبح، واُخرى يفرض أمراً تشريعيّاً، نظير مسبّبيّة الملكيّة عن الإيجاب و القبول.

 


خصوص ما يقطع بزواله على تقدير حدوثه، والأمر كذلك في المقام؛ لأنّ دليل حرمة غير المذكّى من قبيل الآية الشريفة إنّما ينظر إلى ما هو محلّل الأكل في ذاته ولا إطلاق له لمحرّم الأكل، فنحن لا نعلم هنا إلاّ بإحدى الحرمتين، فهذا الحيوان إمّا محرّم الأكل في ذاته، ولا دليل عندئذ على حرمة أكله بلحاظ عدم التذكية، أو محلّل الأكل في ذاته، وعندئذ يحرم أكله في حال حياته لعدم التذكية.

370

وإن فرضت التذكية عبارة عن نفس الأعمال الخارجيّة فتارة يفترض أنّ تلك الأعمال تذكية ولو اُجريت على الحشرات أو الإنسان مثلاً، واُخرى يفرض أنّ التذكية هي تلك الأعمال المضافة إلى مثل الشاة.

وهذا التشقيق يأتي أيضاً على فرض كون التذكية أمراً بسيطاً بناءً على كونها أمراً تكوينيّاً. وأمّا بناءً على كونها أمراً تشريعيّاً، فلا نحتمل تشريعها بأزيد ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعيّ.

الثاني: أنّ ما هو موضوع الحكم بالحرمة هل هو عدم التذكية بما هو مضاف إلى الحيوان، أو عدم التذكية بما هو مضاف إلى زاهق الروح؟ فعلى الأوّل لابدّ أن يفرض لموضوع الحرمة جزء آخر وهو زهاق الروح؛ لأنّ الحيوان مادام حيّاً لا يكون حراماً من ناحية عدم التذكية، فالموضوع مركّب من جزءين: زهاق الروح وعدم التذكية، وكلاهما مضافان إلى نفس الحيوان، وعلى الثاني لا حاجة إلى جزء جديد، ويكفي الجزء الواحد وهو عدم تذكية زاهق الروح.

وستأتي الإشارة إلى ما هو الصحيح في كلّ من البحثين. والآن نبيّن كيفيّة تأثير هذين البحثين في استصحاب عدم التذكية، فنقول:

إن اختير في البحث الأوّل أنّ التذكية أمر بسيط رجعنا إلى البحث الثاني، فإن كان المختار فيه هو أنّ الموضوع عبارة عن عدم التذكية بما هو مضاف إلى الحيوان فلا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية من دون أن يبتني ذلك على القول باستصحاب العدم الأزليّ، فإنّ موضوع عدم التذكية هو الحيوان، وكان عدم التذكية ثابتاً في هذا الموضوع في حال حياته، وإن كان المختار فيه أنّ الموضوع عبارة عن عدم التذكية بما هو مضاف إلى زاهق الروح فهذا الموضوع ـ وهو زاهق الروح ـ من أوّل وجوده إمّا كان مذكّىً أو غير مذكّىً. وإنّما لم يكن مذكّىً في حال الحياة من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فجريان الاستصحاب هنا

371

يبتني على القول باستصحاب العدم الأزليّ كما هو الصحيح.

وإن اختير في البحث الأوّل أنّ التذكية عبارة عن نفس العمليّة المركبّة، فإن قلنا: إنّ نفس تلك العمليّة بإطلاقها تذكية، سواء اُجريت على مثل الشاة أو على مثل الحشرات مثلاً، فمعنى ذلك أنّ هذا الحيوان نعلم بتحقّق التذكية عليه، فيرجع شكّنا في أنّ هذا الحيوان هل هو عند الشارع كالحشرات أو كالشاة، إلى الشكّ في أنّه محلّل الأكل أو محرّم الأكل مع القطع بالتذكية، وهذا رجوع إلى الفرض الأوّل الذي مضى الكلام فيه.

وإن قلنا: إنّ التذكية إنّما هي تلك الأعمال المضافة إلى حيوان مخصوص، بأن يفرض أخذ خصوصيّة في الحيوان قيداً للتذكية أو جزءاً لها، فعندئذ لا يجري استصحاب عدم تلك الأعمال المضافة إلى تلك الخصوصيّة في فرض أخذ الخصوصيّة قيداً، ولا استصحاب عدم الخصوصيّة في فرض أخذها جزءاً، فلو ذبحنا الخيل مثلاً، وشككنا في أنّ الخصوصيّة المأخوذة في التذكية هل هي خصوصيّة الغنميّة مثلاً، فالخيل غير قابل للتذكية، أو خصوصيّة الأهليّة مثلاً في قبال الوحشيّة، فالخيل قابل لها، فعندئذ نقول: إنّ واقع الخصوصيّة مردّدة بين ما يقطع بثبوته وما يقطع بانتفائه، فلا مجال للاستصحاب بلحاظ واقع الخصوصيّة، وعنوان الخصوصيّة المنتزعة من حكم الشارع ليس هو الجزء أو القيد حتّى يستصحب عدمه، أو عدم المقيّد به.

وليس هذا بدعاً هنا، بل هذا هو الحال في كلّ شبهة حكميّة، فإنّه لا يجري فيها الاستصحاب الموضوعيّ لنفس هذه النكتة، فلو علم إجمالاً بوجوب إكرام مطلق العالم أو خصوص الفقيه، وكان شخص عالماً بغير علم الفقه ولم يكن فقيهاً، لم يصحّ إجراء استصحاب عدم كونه موضوعاً لوجوب الإكرام؛ لأنّ عنوان الموضوعيّة لا أثر له، وواقع الموضوع مردّد بين ما هو ثابت قطعاً وما هو منتف قطعاً.

372

نعم، توهّم البعض أنّه في خصوص الشبهة الحكميّة المفهوميّة يجري الاستصحاب الموضوعيّ، فإذا تردّد أمر العدالة بين ترك مطلق المعصية، وترك خصوص الكبيرة، أمكن استصحاب عدالة من ارتكب الصغيرة، لكن التحقيق في محلّه هو عدم جريان الاستصحاب في ذلك أيضاً لنفس هذه النكتة، وعليه فلا يجري الاستصحاب فيما نحن فيه حتّى لو كانت الشبهة حكميّة مفهوميّة، كما لو فرض أنّ الخصوصيّة المأخوذة هي الغنميّة، وتردّد مفهومها بين فرض كون كلا أبويه غنماً وكفاية غنميّة أحد الأبوين، فشككنا في قبول هذا الحيوان المتولّد من غنم وغيره للتذكية من هذه الناحية.

وإن كانت الشبهة موضوعيّة، كما لو علمنا أنّ الخصوصيّة المأخوذة هي الأهليّة، وشككنا في أنّ هذا الحيوان المذبوح هل كان غنماً، أو كان من الوحوش مثلاً، باعتبار ظلمة الهواء أو تقطّع هذا الحيوان ونحو ذلك ممّا يوجب الشبهة الموضوعيّة، فإن فرضت التذكية أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدم التذكية بنحو استصحاب العدم النعتيّ أو المحموليّ بحسب التفصيل الماضي في الشبهة الحكميّة، وإن فرضت التذكية نفس الأعمال من دون أخذ خصوصيّة للحيوان فيها، فمعنى ذلك عدم الشكّ في التذكية، فيرجع الشكّ في الحلّيّة إلى الفرض الأوّل، وإن فرضت التذكية نفس الأعمال مع فرض أخذ الخصوصيّة فإن أُخذت الخصوصيّة جزءاً جرى استصحاب عدم تلك الخصوصيّة بنحو العدم الأزليّ، وهنا اختلف الحال عن الشبهة الحكميّة، فإنّ الشكّ هناك كان في موضوعيّة الموجود فلم يكن مورداً للاستصحاب، وهنا في وجود الموضوع، فيستصحب عدمه. نعم، إن فرضت الخصوصيّة ذاتيّة، كالغنميّة دون الأهليّة مثلاً، أشكل الاستصحاب من ناحية الإشكال في استصحاب عدم الخصوصيّة الذاتيّة بنحو العدم الأزليّ، فيبتني على القول بصحّة استصحاب العدم المحموليّ حتّى في الذاتيّات.

373

وأمّا إذا اُخذت الخصوصيّة قيداً، فبالإمكان أن يقال: إنّنا من هذه الناحية لا نحتاج إلى استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ شأن المقيّد هو أنّه ينحلّ إلى ذات المقيّد والتقيّد مع خروج القيد، فلا نحتاج إلى استصحاب عدم القيد الذي هو عدم أزليّ، بل نتمسّك باستصحاب عدم المقيّد بما هو مقيّد، فإنّ ذات المقيّد وإن وقع بحسب الخارج لكنّ التقيّد والنسبة التقييديّة أمر مشكوك الوجود؛ لأنّ وقوعه فرع تماميّة الطرفين معاً، فمع الشكّ في ذلك يشكّ في حصول التقيّد، فيستصحب عدم المقيّد بما هو مقيّد. وعندئذ إن فرض أنّ موضوع الحلّيّة هو التذكية بما هي مضافة إلى ذات الحيوان جرى الاستصحاب من دون إشكال، وإن فرض أنّ موضوع الحلّيّة هو التذكية بما هي مضافة إلى الحيوان الزاهق الروح، فالاستصحاب يكون استصحاباً للعدم الأزليّ، وحيث إنّنا نقول باستصحاب العدم الأزليّ فلا إشكال عندنا هنا في الاستصحاب.

والتحقيق: أنّ ما ذكرناه من أنّ مجرى الاستصحاب في باب المقيّدات هو المقيّد بما هو مقيّد، لا القيد وإن كان صحيحاً كبرويّاً فيما هو مقيّد حقيقة وواقعاً، بأن لا يرجع أمره إلى التركيب بوجه يأتي بيانه في باب الاستصحاب إن شاء الله، لكنّ الفقهاء في الفقه لا يلتزمون في باب المقيّدات باستصحاب المقيّد أو عدمه بما هو مقيّد،بل يستصحبون القيد وجوداً وعدماً، فمن كان طاهراً ثمّ صلّى مع الشكّ في بقاء الطهارة مثلاً، أجروا فيه استصحاب الطهارة لا استصحاب عدم تحقّق الصلاة المقيّدة بالطهارة، مع أنّ الطهارة ليست جزءاً للصلاة، بل هي شرط وقيد لها، في حين أنّه يتراءى للذهن أنّ إثبات التقيّد أو عدمه باستصحاب القيد، أو عدمه تعويل على الأصل المثبت، فإن صحّ هذا فلا محالة نكشف عن ارتكاز وفهم عرفيّ للدليل، بحيث يخرج المقيّد عن كونه مقيّداً بالمعنى المباين للتركيب ويرجع التقييد بوجه من الوجوه ـ يأتي بيانه في باب الاستصحاب إن شاء الله ـ إلى

374

التركيب، فيتعامل مع القيد معاملة الجزء في أنّ مجرى الاستصحاب وجوداً وعدماً هو نفس القيد، وإذن فنحتاج في المقام من ناحية الخصوصيّة إلى استصحاب عدم الخصوصيّة بنحو العدم الأزليّ، ولو فرضت قيداً لا جزءاً، فلابدّ أن يرى أنّ تلك الخصوصيّة هل هي ذاتيّة حتّى يبطل الاستصحاب بناءً على عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ في الذاتيّات، أو عرضيّة حتّى يجري استصحاب العدم الأزليّ بلا إشكال.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) أفاد في المقام: أنّه سواء فرضت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة إن قلنا بأنّ التذكية أمر بسيط متحصّل جرى استصحاب عدم التذكية، وإن قلنا بأنّها مركّب من فري الأوداج مع القابليّة للتذكية لم يجرِ الاستصحاب سواء فرضت القابليّة جزءاً أو قيداً(1)؛ لأنّ هذه القابليّة ليست لها حالة سابقة؛ إذ هي أمر ذاتيّ في الحيوان وثابت بثبوته من أوّل الأمر، ولم يمّر على الحيوان وقت لم تكن فيه هذه القابليّة حتّى يستصحب عدمها، ثمّ أورد على نفسه بأنّكم تقولون باستصحاب العدم الأزليّ، فلماذا لا تستصحبون العدم الأزليّ للقابليّة؟ فأجاب على ذلك: بأنّ هذه القابليّة حيث إنّها ذاتيّة في الحيوان ومن لوازم الماهيّة ـ على حدّ تعبيره(قدس سره) ـ لا يمكن استصحاب عدمها؛ لأنّ استصحاب العدم الأزليّ لا يجري في الذاتيّات.

أقول: أمّا الجانب الإيجابيّ من كلامه(قدس سره) وهو ما أفاده من جريان استصحاب عدم التذكية إذا كانت أمراً بسيطاً، فهو صحيح في ذاته، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّه إن اُضيفت التذكية في موضوع الحكم الشرعيّ إلى الحيوان جرى



(1) التصريح بعدم الفرق في المقام بين فرض القابليّة جزءاً أو قيداً ورد في نهاية الأفكار ولم يرد في المقالات، ولكن قد يمكن استفادته من المقالات أيضاً بالإطلاق.

375

الاستصحاب بلا إشكال، وإن اُضيفت إلى زاهق الروح ابتنى الاستصحاب على القول باستصحاب العدم الأزليّ.

وأمّا الجانب السلبيّ من كلامه، وهو إنكار جريان الاستصحاب إذا كانت التذكية مركّبة من فري الأوداج والقابليّة سواء اُخذت القابليّة جزءاً أو قيداً، ففيه كلام موضوعاً ومحمولاً:

أمّا من ناحية الموضوع، فلأنّه لا معنى لأخذ قابليّة التذكية في التذكية جزءاً أو قيداً، فإنّ القابليّة للشيء يستحيل أن تكون مأخوذة في نفس ذلك الشيء، فينبغي أن يكون مراده من القابليّة الخصوصيّة التي بها يرى المولى أنّ فري الأوداج يؤثّر في طهارة الحيوان وحلّه، كالغنميّة والأهليّة.

وأمّا من ناحية المحمول، فلأنّه إن كانت الشبهة حكميّة لم يجرِ الاستصحاب ولو قلنا باستصحاب العدم الأزليّ، لما مضى من أنّ الخصوصيّة مردّدة بين مقطوعة الثبوت ومقطوعة الانتفاء، فعدم جريان الاستصحاب في ذلك ليس مربوطاً بمباني استصحاب العدم الأزليّ. نعم، إن كانت الشبهة موضوعيّة فجريان الاستصحاب وعدمه مبتن على مباني استصحاب العدم الأزليّ، فإذا فرضت الخصوصيّة عرضيّة(1) كالأهليّة لا ينبغي الإشكال في جريان استصحاب الأزليّ، وإذا فرضت ذاتيّة كالغنميّة جاء الإشكال على ما يرتئيه من عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ في الذاتيّات.



(1) والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) هو أشار في المقام إلى التفصيل بين ما إذا فرضت القابليّة ذاتيّة أو عرضيّة، وذلك في المقالات (ج 2، ص 73)، وهذا قابل للحمل على الالتفات إلى كون الخصوصيّة المأخوذة هل هي مثل الغنميّة أو مثل الأهليّة، ولكنّ عبارة نهاية الأفكار ـ القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 257 ـ صريحة في فرض القابليّة ذاتيّة.

376

وأمّا عدم التفرقة بين فرض الخصوصيّة جزءاً أو قيداً، فيصحّ بعد الالتفات إلىما أشرنا إليه أخيراً من رجوع التقييد عادة بوجه من الوجوه إلى التركيب في الارتكاز العرفيّ.

ثمّ إنّه ظهر من تمام ما ذكرناه الإشكال فيما أفاده بعض المحقّقين كالمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) من تفريع استصحاب عدم التذكية على سنخ التقابل بين موضوع الحلّيّة وهو التذكية، وموضوع الحرمة، فإن كان التقابل بينهما تقابل التضادّ بأن كان موضوع الحرمة الموت حتف الأنف، فاستصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم الموت حتف الأنف، وإن كان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب جرى استصحاب عدم التذكية بلا إشكال(1)، وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فكان موضوع الحرمة هو عدم التذكية في المحلّ القابل لم يجرِ الاستصحاب؛ لعدم الحالة السابقة؛ إذ في حال الحياة لا تكون القابليّة، ومن أوّل الممات يكون الحيوان مذكّىً أو غير مذكّىً.

أقول: أمّا فرض كون التقابل بين موضوع الحرمة وموضوع الحلّيّة تقابل التضادّ فهو في نفسه غير معقول، وعلى فرض معقوليّته لا يقع التعارض بين الاستصحابين.

أمّا عدم معقوليّته في نفسه، فلأنّه يكفي في الحلّيّة عدم تحقّق ملاكات الحرمة



(1) بل يرى في ذلك تفصيلاً، وهو التفصيل بين ما إذا كان موضوع الحرمة أن لا يكون ما زهق روحه مذكّىً فلا يجري استصحاب عدم التذكية، أو كان موضوعها مركّباً من زهاق الروح وعدم التذكية، فيجري الاستصحاب. راجع نهاية الدراية، ج 2،ص 207.

377

وانتفاء موضوع الحرمة(1)، فإذا كان موضوع الحرمة الموت حتف الأنف فلا محالةيكون موضوع الحلّيّة نقيض ذلك، فلا يجري إلاّ استصحاب عدم الموت حتف الأنف.

وأمّا أنّه على فرض تعلّقه لا يقع التعارض بين الاستصحابين، فلأنّه إذا فرض موضوع الحرمة وموضوع الحلّيّة متضادّين فكانت الحلّيّة والحرمة مضادّتين بتبع تضادّ موضوعهما، فلا أثر لاستصحاب عدم موضوع الحلّيّة؛ إذ لا يثبت موضوع الحرمة بنفي موضوع الحلّيّة إلاّ بالملازمة، ونفي الحلّيّة لا يثبت الحرمة؛ إذ المفروض كونهما متضادّين، فإثبات إحداهما بنفي الاُخرى تعويل على الأصل المثبت، وإذا لم تثبت بذلك الحرمة فلا أثر لهذا الاستصحاب، فإنّ التنجّيز إنّما يترتّب على الحرمة لا على عدم الحلّيّة، ولذا لو فرض في مورد عدم الحرمة



(1) إن اُريد بالحلّيّة جعل الحلّ فقد يقال: إنّه بالإمكان أن يكون في أحد الضدّين ملاك الحرمة فيحرّم، وفي الضدّ الآخر ملاك الحلّيّة الاقتضائيّة فيحلّل مع افتراض عدم وجود ضدّ ثالث، وصحيح أنّه كان بالإمكان أن يجعل موضوع الحلّ نقيض الضدّ الحرام ولو من باب الحلّيّة اللااقتضائيّة ـ أي: الحلّيّة الناشئة من عدم اقتضاء الحرمة ـ لكن بما أنّ الضدّين لا ثالث لهما ليس مجبوراً على جعل هذا الحلّ، وبإمكانه الاكتفاء بجعل حلّيّة الضدّ الآخر الذي كان فيه اقتضاء الحلّيّة، وهذا لا ينافي ظهور أدلّة الأحكام في تبعيّتها لملاكات متعلّقاتها، فإنّ حلّيّة الضدّ قد افترضنا أنّها كانت بتبع ملاك في المتعلّق يقتضي الحلّ، ولا ينافي أيضاً إطلاق (ما من واقعة إلاّ ولها حكم)، فإنّ هذا لا يدلّ على أنّ العنوانين المتلازمين اللذين لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر، كعنوان الضدّ مع عنوان نقيض الضدّ الآخر الذي لا ثالث لهما لابدّ أن يكون كلاهما متعلّقين لحكم مجعول، بل يمكن الاكتفاء بجعل الحكم لأحدهما.

378

والحلّيّة معاً لعدم أصل التشريع لا يكون هناك تنجيز، وإذا كان كذلك فاستصحاب عدم موضوع الحرمة يرفع التنجيز، ولا يعارض باستصحاب عدم موضوع الحلّيّة.

وأمّا فرض كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فبقطع النظر عمّا عرفت من أنّه لابدّ أن يكون التقابل بينهما تقابل التناقض؛ إذ يكفي في الحلّيّة انتفاء ملاكات الحرمة وعدم موضوعها، نقول: لعلّه(قدس سره)خلط في ذلك بين القابليّة الإمكانيّة والقابليّة الاحتماليّة، فإنّ القابليّة المختصّة بحال الموت إنّما هي القابليّة الاحتماليّة، والقابليّة المأخوذة في اصطلاح تقابل العدم والملكة هي القابليّة الإمكانيّة بمعنى إمكان القبول بحسب نظام الطبيعة، والحياة لا تمنع عن هذه القابليّة، فإنّه إن فرضت التذكية حكماً شرعيّاً فالحيوان الحيّ أيضاً قابل لذلك الحكم الشرعيّ، وإن فرضت أمراً بسيطاً تكوينيّاً فالحيوان الحيّ أيضاً قابل لذلك بالذبح المخصوص، وإن فرضت عبارة عن عمليّة القتل بنحو مخصوص فهذه القابليّة مختصّة بالحيوان الحيّ ولا يقبل الحيوان الميّت ذلك.

وأمّا فرض كون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب فهو فرض معقول. وجريان استصحاب عدم التذكية فيه وعدمه يكون بحسب التفصيل الذي مضى منّا.

وأمّا الفرض الثالث ـ وهو فرض الشكّ في ناحية المانع كالجلل ـ: فالشبهة فيه تارة تكون حكميّة واُخرى موضوعيّة:

فإن فرضت حكميّة كما إذا شكّ في مانعيّة الجلل، فإن كانت التذكية عبارة عن نفس الأعمال المركّبة لم يجرِ استصحاب عدم التذكية؛ لأنّ الشكّ ليس في وجود الموضوع، بل في موضوعيّة الموجود وأنّ عدم الجلل دخيل في التذكية أو لا؟ فتصل النوبة إلى أصالة الحلّ والبراءة إن لم يوجد إطلاق فوقانيّ أحواليّ يتمسّك به في رفع احتمال دخل عدم الجلل في التذكية. وإن كانت التذكية أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدمها نعتيّاً أو محموليّاً بحسب التفصيل الماضي، وفي قبال هذا

379

الاستصحاب يوجد استصحاب تعليقىّ؛ وذلك لأنّ هذا الحيوان قبل الجلل لو ذبح بنحو مخصوص لصار مذكّىً، فتستصحب هذه القضيّة التعليقيّة. فبناءً على أنّ الاستصحاب التعليقيّ حاكم على الاستصحاب التنجيزيّ يقدّم هذا الاستصحاب على ما عرفته من استصحاب عدم التذكية، وبناءً على كونه في عرض الاستصحاب التنجيزيّ ومعارضاً له يتعارضان، وبناءً على إنكار الاستصحاب التعليقيّ رأساً يجري استصحاب عدم التذكية بلا أيّ معارض.

هذا. واستصحاب القابليّة للتذكية قبل الجلل يرجع إلى ما ذكرناه من الاستصحاب التعليقيّ؛ إذ القابليّة أمر انتزاعيّ لا أثر لها، وإنّما العبرة بمنشأ انتزاعها وهو تلك القضيّة التعليقيّة، أي: أنّه لو ذبح لذكّي.

وإن فرضت موضوعيّة كما إذا شكّ في الجلل مع العلم بمانعيّته، فإن فرضت التذكية عبارة عن نفس الأعمال مع دخل عدم الجلل جزءاً أو قيداً، فالأعمال ثابتة بالوجدان، وعدم الجلل يثبت بالاستصحاب، وإن فرضت التذكية أمراً بسيطاً فإن كان ذلك الأمر البسيط حكماً شرعيّاً موضوعه مركّب من تلك الأعمال وعدم الجلل، فأيضاً يستصحب عدم الجلل، وبه يكتمل موضوع هذا الحكم، ويثبت بذلك الحكم وهو التذكية، وإن كان أمراً تكوينيّاً نظير الموت الناشئ من الضرب مع عدم الدرع فلا يجري استصحاب عدم الجلل، كما لا يجري في مثال الموت استصحاب عدم الدرع؛ إذ عدم الجلل ليس موضوعاً لحكم شرعيّ، وإنّما هو ملازم لأمر تكوينيّ وهو التذكية، وإثبات الحكم المترتّب على التذكية باستصحاب عدم الجلل تعويل على الأصل المثبت، والمرجع هنا استصحاب عدم التذكية.

وأمّا الفرض الرابع ـ وهو فرض الشكّ في إجراء تمام عمليّة التذكية على الحيوان ـ: فإن كانت الشبهة حكميّة كما إذا شكّ في اشتراط التسمية، فعندئذ إن

380

فرضت التذكية عبارة عن نفس الأعمال فلا مجال لاستصحاب عدم التذكية؛ لأنّ الشكّ في موضوعيّة الموجود، فنرجع إلى أصالة الحلّ والبراءة إن لم يوجد عموم فوقانيّ، وإن فرضت التذكية أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدمه نعتيّاً أو محموليّاً بحسب التفصيل الماضي، وإن كانت الشبهة موضوعيّة جرى استصحاب عدم التذكية.

هذا تمام الكلام في الفروض الأربعة.

وليعلم أنّه مهما جرى استصحاب عدم التذكية فإنّما يترتّب عليه حرمة الأكل وعدم صحّة الصلاة في جلده، ولا يترتّب عليه نفي الطهارة بناءً على ما هو المختار عندنا في الفقه من أنّ ضدّ التذكية وهو الموت حتف الأنف موضوع للنجاسة، لا أنّ التذكية موضوع للطهارة، واستصحاب عدم أحد الضدّين لا يثبت وجود الضدّ الآخر، فالمرجع في الشكّ في الطهارة إلى استصحاب عدم الموت حتف الأنف وأصالة الطهارة، فنفكّك في ذلك بين الحلّيّة والطهارة، فنقول بحرمة أكله وطهارته. نعم، بناءً على أنّ الطهارة والنجاسة رتّبت على التذكية و عدمها تثبت النجاسة أيضاً.

بقي علينا ما وعدنا من الإشارة إلى ما هو الصحيح في البحثين الفقهيّين اللذين ترتّب عليهما الحكم فيما نحن فيه في جملة من الشقوق، فنقول:

أمّا أنّ التذكية هل اُخذت موضوعاً للحلّيّة بما هي مضافة إلى ذات الحيوان، أو بما هي مضافة إلى زاهق الروح، فالصحيح هو الثاني(1)، فإنّه الذي يظهر من أدلّة



(1) لا يخفى أنّه سيأتي في بحث الأصل المثبت مفصّلاً رجوع التقييد عادة إلى التركيب، ببيان يثبت ببعض جوانبه كون مثل قيد التذكية وزهاق الروح عرضيّين لا طوليّين، وأنّ الطوليّة الموجودة في لسان الدليل في أمثال ذلك ليست عدا مجرّد قالب صياغيّ لا أكثر من ذلك.

381

الباب، والأصل في ذلك الآية الشريفة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾(1). فقد ذكرت الآية عدّة أقسام من الحيوان الميّت، وتفهم من ذلك عرفاً الإشارة إلى جامعها،ثمّ استثنت المذكّى، فالمذكّى صار مستثنىً من الميّت وزاهق الروح لا من ذات الحيوان، وذلك ظاهر عرفاً في أخذ التذكية مضافة إلى زاهق الروح. وهكذا الحال في أخبار الباب، كما ورد(2) في فريسة الكلب والصقر والفهد من أنّه إذا أدركت حياته فهو حلال.

وأمّا أنّ التذكية هل هي أمر بسيط أو عبارة عن نفس الذبح؟ فقد ذهب المحقّق النائينيّ(قدس سره)إلى أنّها عبارة عن نفس العمليّة، ولعلّ هذا القول هو مختار المشهور، ويُستشَهد لهذا القول بتفسير اللغويّين للتذكية بالذبح وبنسبة التذكية إلى الذابح في لسان الروايات(3) الظاهرة في أنّها فعل مباشريّ له، وفي قبال ذلك قال بعض: بأنّ التذكية أمر بسيط مسبّب عن العمليّة، وأمّا الاستشهادان للقول الأوّل فقد ردّ أوّلهما بعدم حجّيّة قول اللغويّ، والثاني بأنّ المسبّب التوليديّ أيضاً ينسب عرفاً إلى الشخص حقيقة وبلا أيّ مؤونة وعناية.

والتحقيق: أنّ التذكية لا هي نفس العمليّة، ولا هي أمر بسيط مسبّب عن العمليّة، بل هي أمر بين الأمرين. وتوضيح ذلك: أنّ التذكية نسبت في جملة من الأخبار إلى الذابح(4)، وهذه الطائفة تناسب كون التذكية عبارة عن نفس الأعمال، كما



(1) سورة 5 المائدة، الآية: 3.

(2) راجع الوسائل، ج 16، ب 19 من الذبائح، ص 272 ـ 273.

(3) كما هو الحال في لسان القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾.

(4) من قبيل الحديث الرابع من ب 1 من الذبائح من المجلّد 16 من الوسائل، ص 253.

382

تناسب كونها أمراً بسيطاً، لكن في عديد من الأخبار اُطلقت الذكاة ولا يحتمل في موردها إرادة الذبح، ويعرف منها أنّ التذكية ليست مرادفة لمفهوم الذبح، ونشير بهذا الصدد إلى طوائف ثلاث من تلك الأخبار:

1 ـ ما ورد في كتاب الطهارة في مقام بيان عدم الانفعال بملاقاة اليابس(1) من أنّ اليابس ذكيّ(2)، فإنّ هذا ـ كما ترى ـ لا يحتمل فيه إرادة الذبح، وإنّما المقصود من الذكاة في ذلك: الطيب وملائمة الطبع وعدم التنفّر ونحو ذلك من العناوين.

2 ـ ما ورد في باب الجلود من أنّ الجلد الذكيّ يجوز الصلاة فيه(3)، فإن جعل الذكاة بمعنى الذبح صفة للجلد لا معنى له إلاّ بالتأويل وبلحاظ أنّه جلد الحيوان الذكيّ، وهو خلاف الظاهر، فالمراد بالذكاة فيه هو الطيب والطهارة.

3 ـ ما ورد فيما لا تحلّه الحياة من الميتة(4)، كالصوف والبيض من أنّه ذكيّ،


(1) ليس هذا هو المعنى المتعيّن في الحديث.

(2) راجع الوسائل، ج 1، ب 31 من أحكام الخلوة، ح 5، ص 248. وهو في الوسائل (الطبعة الحديثة) «زكيّ» بالزاء لا بالذال، وكذلك في الاستبصار (الطبعة الحديثة، ج 1،ح 167)، ولكن في التهذيب (الطبعة الحديثة، ج 1، ص 49، ح 141) بالذال، وجاء في لسان العرب (ج 2، بحسب الطبعة المنقسمة إلى ثلاثة مجلّدات، ص 36) عن الباقر(عليه السلام)«زكاة الأرض يبسها»، فهنا أيضاً مذكور بالزاء، ولكن في ج 1، ص 1073، ورد بالذال، وممّا يؤيّد كون الحديث ورد بالزاء لا بالذال أ نّي لم أرَ مورداً لاستعمال الذكاة بمعنى الطهارة في غير باب الحيوان وتوابعه كالبيض.

(3) راجع الوسائل، ج 3، ب 2 من لباس المصلّي، ح 2، ص 251، وح 8، ص252، وب 3، ح 3، ص 252.

(4) راجع الوسائل، ج 16، ب 33 من الأطعمة المحرّمة، ص 365، ح 3 و 4 و5،

383

فإنّ الذكاة بمعنى الذبح هنا لا معنى له حتّى بملاحظة التأويل الذي عرفته في الطائفة السابقة؛ إذ نفس الحيوان أيضاً ليس مذكّىً حتّى تطلق الذكاة على مثل الصوف والبيض بهذا اللحاظ.

ولعلّ المتفاهم عرفاً من الذكاة أيضاً هو الطيب والطهارة لا نفس الذبح. نعم، الذبح مصداق للتذكية وتحصيل للذكاة لا أنّه عين التذكية مفهوماً، والظاهر أنّ تفسير اللغويّين للتذكية بالذبح من باب تفسير المفهوم بالمصداق، لا من باب تفسير المفهوم بالمفهوم(1). والحاصل المستفاد ممّا عرفتها من الأخبار هو أنّ الذكاة عبارة عن أمر بسيط وهو الطيب والطهارة ونحو ذلك من العناوين.

هذا. وفي بعض الأخبار اُطلقت الذكاة على نفس العمليّة، فقيل: التسمية


وج 2، ب 68 من النجاسات، ح 2 و3، ص 1089. وقد اُضيفت في كتاب السيّد الهاشميّ (حفظه الله) على هذه الطوائف طائفة رابعة، وهي ما ورد في الجنين من أنّ ذكاته ذكاة اُمّه، راجع الوسائل، ج 16، ب 18 من الذبائح، ص 270 ـ 271.

(1) هذا الكلام بعيد من ظاهر كلمات اللغويّين جدّاً، فالظاهر منها خلافه. ويشهد لعدم كون الذكاة بمعنى الطيب والطهارة أنّه لم يستعمل في غير الحيوان وتوابعه. وورد في لسان العرب: (أنّ أصل الذكاة في اللغة كلّها إتمام الشيء، فمن ذلك الذكاء في السنّ والفهم، وهو تمام السنّ، قال: وقال الخليل: الذكاء في السنّ أن يأتي على قروحه ـ أي: على خروج نابه ـ سنة وذلك تمام استتمام القوّة).

والظاهر من اللغة أنّ الذكاة نفس العمليّة وهو حجّة، فخصوصيّة الحيوان إمّا شرط شرعيّ للتذكية، وإمّا شرط للطهارة والحلّ، والثاني أظهر. وأمّا استعمال الذكيّ في مثل السنّ والبيض من الميتة فباعتبار أنّ أثر تذكية الحيوان طهارته، وهذه الأشياء هي طاهرة وليس استعمالاً حقيقيّاً.

384

ذكاة(1)، أو إخراج السمك من الماء ذكاة(2)، ونحو ذلك، ومن هنا نعرف أنّ ذلك العنوان البسيط عنوان منطبق على نفس العمليّة، وعنوان الطيب والطهارة وإن كان في الحقيقة عنواناً اعتباريّاً يعرض على نفس الحيوان وتتّصف به نفس الحيوان لا الذبح وباقي خصوصيّات العمليّة، لكنّنا نعرف من إطلاق الذكاة في لسان الأخبار على نفس العمليّة أنّ الذبح جعل بالاعتبار فرداً للطيب والطهارة.

نعم، يمكن توجيه الأخبار بنحو آخر أيضاً، وهو أن يكون المقصود من كون التسمية مثلاً ذكاة، كونها سبباً للذكاة، لكنّ العناية الاُولى، وهي إيجاد الفرد الاعتباريّ للطهارة والذكاة أقرب عرفاً من العناية الثانية، ويكون الكلام ظاهراً في الأوّل.

فتحصّل: أنّ الذكاة عنوان بسيط منطبق على الأعمال ومنتزع منها لا نفس الأعمال مفهوماً ولا أمر مسبّب عنها، وهذا هو مختارنا أيضاً في باب الطهارات الثلاث.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ في أخبار الباب ما يوافق مضموناً استصحاب عدم التذكية وفيها ما يخالفه ولو بدواً:

أمّا ما يوافقه مضموناً، فكما ورد فيما اُرسِل إليه الكلب المعلَّم ثمّ رأى المُرسِل ذلك الحيوان مفترساً ولا يدري هل افترسه ذلك الكلب المعلَّم، أو افترسه حيوان آخر؟ من أنّه لا تحلّ تلك الفريسة ولا يؤكل منها حتّى يعلم أنّه هو الذي



(1) الوسائل، ج 16، ب 1 من الصيد، ح 4، ص 208، وورد أيضاً في الصيد الذي يصيده الكلب: (قتله ذكاة)، راجع الوسائل، ج 16، ب 2 من الصيد، ح 1، ص 209.

(2) الوسائل، ج 16، ب 31 من الذبائح، ح 8، ص 297، وب 34 من الذبائح، ح 2، ص 302.

385

افترسها(1)، وكما ورد في من رمى طائراً فقتل الطائر وشكّ في أنّه هل قُتل بهذه الرمية أو بشيء آخر؟ من أنّه لا يحلّ ذلك الطائر(2). والصحيح أنّ هذه الأخبار وإن كانت موافقة مضموناً للاستصحاب لكنّها مع ذلك ليست شاهدة للقول باستصحاب عدم التذكية؛ إذ لا قرينة فيها على أنّ حكمها بالحرمة يكون بملاك الاستصحاب، فلعلّها حكمت بالحرمة على مستوى الحكم بالحلّيّة في أصالة الحلّ والبراءة وبقطع النظر عن الحالة السابقة(3).

وأمّا ما يخالفه مضموناً ولو بدواً، فكما ورد من سؤال الراوي عن أنّه رمى طائراً ليصطاده، ثمّ شكّ في التسمية، فأجاب(عليه السلام): بأنّه يأكله(4)، فحكمه بالحلّ هنا ينافي استصحاب عدم التذكية، فيمكن الاستيناس بذلك لإنكار استصحاب عدم التذكية.

والتحقيق: أنّ هذا أيضاً ليس شاهداً على خلاف استصحاب عدم التذكية، وذلك لإبداء احتمالين آخرين في المقام:

الأوّل: أن يكون حكمه(عليه السلام) بالحلّ بملاك قاعدة الفراغ، وقد ثبت في محلّه تقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب.

والثاني: ما يبطل الاحتمال الأوّل أيضاً، وهو أن تكون الحلّيّة المذكورة في هذا الحديث حلّيّة واقعيّة، وتوضيح ذلك: أنّ المنصرف من هذا الحديث أنّ التسمية على فرض كونها متروكة إنّما تركت نسياناً لا عمداً، كما هو مورد قاعدة الفراغ



(1) راجع الوسائل، ج 16، ب 5 من الصيد، ص 215.

(2) راجع الوسائل، ج 16، ب 18 و 19 من الصيد، ص 230 ـ 232.

(3) فلا يمكن مثلاً التعدّي إلى موارد الشكّ في القابليّة.

(4) راجع الوسائل، ج 16، ب 25 من الصيد، ص 237.

386

أيضاً، فإنّ موردها فرض دوران الأمر بين الفعل والترك عن نسيان لا بين الفعل والترك العمديّ، وقد وردت روايات(1) تدلّ على أنّ التسمية شرط ذكري وتسقط بالنسيان، وعلى هذا فحلّيّة هذا الطائر تكون واقعيّة؛ إذ الأمر دائر بين أنّه سمّى أو لم يسمِّ نسياناً، فإن سمّى فقد حصلت التذكية قطعاً، وإن نسي فقد حصلت التذكية أيضاً؛ لأنّ التسمية ليست شرطاً في حال النسيان.

وقد تحصّل: أنّه ليس في أخبار الباب ما يؤيّد استصحاب عدم التذكية ولا ما يفنّده.

 



(1) راجع الوسائل، ج 16، ب 15 من الذبح، ص 267، وب 12 من الصيد، ص 225 ـ 226.

387

 

بحثان حول الاحتياط

التنبيه الثاني: في حال الاحتياط بعد أن فرغنا من إبطال قول الأخباريّ بوجوبه في الشبهات البدويّة. والكلام هنا يقع في مقامين:

أحدهما: في حكم الاحتياط في الشبهات البدويّة شرعاً.

وثانيهما: في البحث عن صغرىً من صغريات الاحتياط وهي الاحتياط في العبادات.

 

1 ـ استحباب الاحتياط

أمّا المقام الأوّل ـ وهو في البحث عن حكم الاحتياط في الشبهات البدويّة ـ: فيقال في المقام باستحباب الاحتياط شرعاً، ولعلّ هذا ما ذهبت إليه جمهرة الاُصوليّين، ويستدلّ على ذلك بالأخبار الآمرة بالاحتياط بعد صرفها عن الوجوب بواسطة أخبار البراءة، أو بقرائن اُخرى إن لم نقل ـ كما مضى منّا ـ بأنّ بعض أخبار الاحتياط يدلّ ابتداءً على الاستحباب.

وذهب جملة من المحقّقين ومنهم المحقّق النائينيّ(رحمه الله)إلى أنّ أخبار الأمر بالاحتياط محمولة على الإرشاد إلى حكم العقل، لعدم معقوليّة تعلّق الأمر المولويّ به. والوجه في عدم معقوليّة استحبابه شرعاً أحد تعبيرين:

التعبير الأوّل: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وهو عبارة عن تطبيق قانون على ما نحن عليه نقّحه(قدس سره) في اُصوله، وذلك القانون عبارة عن أنّ الحسن والقبح العقليّين إذا تعلّقا بشيء بقطع النظر عن الحكم الشرعيّ، كحسن العدل وقبح الظلم يعقل صيرورتهما منشأً للحكم الشرعيّ، وإذا تعلّقا بشيء في طول الحكم الشرعيّ وكانا في سلسلة معلولات الأحكام، كحسن الطاعة وقبح المعصية استحالت صيرورتهما منشأً للحكم الشرعيّ، فطبّق(قدس سره)هذا القانون على ما نحن فيه لأجل أنّ

388

الاحتياط يكون في طول الأوامر الواقعيّة وبلحاظها، فتستحيل صيرورة حسنه العقليّ منشأً لاستحبابه الشرعيّ.

أقول: إنّ التكلّم في أصل هذا القانون كبرويّاً قد مضى في بحث التجرّي، وأثبتنا هناك بطلانه، وهنا نغضّ النظر عن بطلانه كبرويّاً ونتكلّم في تطبيقه صغرويّاً على ما نحن فيه، فنقول: إنّ تطبيقه على ما نحن فيه غير صحيح لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه إنّما هو الاحتياط بداعي المولى بأن يطلب بالاحتياط إحراز الواقع بقصد القربة وامتثال الأمر الاحتمالىّ، والاحتياط الذي أمر به في الأخبار لم يؤخذ فيه قصد القربة، فإنّ قصد القربة خارج عن مفهوم الاحتياط، وإنّما الاحتياط عبارة عن ملاحظة أطراف الشبهة بالفعل أو الترك والتخلّص عن مخالفته، سواء كان ذلك لله وبداعي إطاعة الأمر الاحتماليّ، أو لشيء آخر، كأمر الوالد أو إعطاء شخص مالاً له بإزاء ذلك، فما أمرت به الأخبار غير ما حكم بحسنه العقل، حيث إنّ الأخبار أمرت بذات الاحتياط، وما حكم العقل بحسنه هو الاحتياط بداعي المولى، حيث إنّ العقل يرى كلّ تقرّب إلى المولى حسناً، فليس المأمور به في الأخبار داخلاً في دائرة القانون الذي نقّحه(قدس سره)في موارد حكم العقل بالحسن والقبح.

الوجه الثاني: أنّ حسن الاحتياط وإن كان ـ على ما نقّحه من القانون ـ يستحيل أن يكون ملاكاً للحكم بالاستحباب، لكن لنا أن ندّعي استحباب الاحتياط لا بمعنى الاستحباب النفسيّ بملاك حسنه، بل بمعنى الاستحباب الطريقيّ(1) الذي



(1) والذي أنكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المقام ـ بناءً على قاعدته ـ إنّما هو الاستحباب الطريقيّ. أمّا فرض الاستحباب النفسيّ فلم يمنع عنه. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 204، ومصباح الاُصول، ج 2، ص 317.

389

يكون ملاكه عين ملاكات الأحكام الواقعيّة، فيحكم المولى باستحباب الاحتياط من باب مطلوبيّته الطريقيّة لأجل التحفّظ على ملاكات الواقع بمقدار ما يؤدّيه الاستحباب من التحفّظ، بل لو قطع النظر عن مطلوبيّته الطريقيّة وفرضت ملاكات الواقع ضعيفة إلى درجة لا تقتضي أيّ تحفّظ عليها في حال الشكّ لما حكم العقل بحسنه، وإنّما يحكم العقل بحسنه عند ترقّب مطلوبيّته واحتمالها على الأقلّ.

وخلاصة الكلام: أنّه يمكن أن يدّعى في المقام أنّ أخبار الاحتياط تحمل على الاستحباب المولويّ الطريقيّ. أمّا كونه مولويّاً، فلأنّ ظاهر أوامر الشارع هو المولويّة، وحملها على الإرشاد يحتاج إلى قرينة، ولا قرينة في المقام. وأمّا كونه طريقيّاً فتدلّ عليه نفس مادّة الاحتياط التي اُخذ في مفهومها التحفّظ على الواقع.

التعبير الثاني: أنّ جعل الاستحباب للاحتياط لغو؛ إذ يكفي في تحريك العبد نحو الاحتياط احتمال الأمر الواقعيّ؛ لحكم العقل عندئذ بحسن الاحتياط، ومن لم يتحرّك بذلك لا يتحرّك باستحباب الاحتياط أيضاً.

والجواب: أنّ استحباب الاحتياط إمّا يفرض نفسيّاً، وإمّا يفرض طريقيّاً:

فإن فرض نفسيّاً: فلا مجال لإشكال اللغويّة؛ لأنّ الاستحباب النفسيّ للاحتياط يوجب تأكّد المحرّكيّة نحوه؛ لاجتماع ملاكين فيه للمحرّكيّة، أحدهما ملاك الواقع، والآخر ملاك نفس الاحتياط، كما هو الحال في جميع موارد اجتماع ملاكين وأمرين في شيء واحد، فإنّه يحصل التأكّد في الملاك والحكم، وبالتالي يتأكّد حكم العقل بالانبعاث.

وإن فرض طريقيّاً: فأيضاً لا مجال لإشكال اللغويّة، وتوضيحه: أنّ ملاك الأمر بالاحتياط هو عين ملاك الواقع، فتارةً يفرض ملاك الواقع في غاية الأهمّيّة، بحيث لا يرضى المولى بفوته حتّى في حال الشكّ، فيبرز إيجاب الاحتياط، واُخرى يفرض في غاية الضعف، بحيث لا يفرّق في حال المولى بين الاحتياط

390

في حال الشكّ وعدمه، فيبرز عدم مطلوبيّة الاحتياط ولو استحباباً، وثالثة يفرض اهتمامه به بدرجة استحباب الاحتياط، وعندئذ يبرز استحباب الاحتياط. وفائدة هذا الإبراز هي المنع عن أن يصل إلى العبد عدم مطلوبيّة الاحتياط وصولاً جزميّاً من باب الاشتباه فلا يبقى له محرّك بالنسبة للاحتياط، أو وصولاً احتماليّاً فيضعف تحريكه بالنسبة للاحتياط.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: عدم محذور في جعل استحباب الاحتياط، وقد مضى استظهار الاستحباب الطريقيّ للاحتياط من الأخبار. نعم، يظهر من بعض الأخبار الاستحباب النفسيّ كقوله: «مَن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومَن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك»، فإنّ هذا يدلّ على أنّ ملاك ترك شرب التتن المحتمل حرمته مثلاً، هو حصول ترك المحرّمات وأن لا يقع بالتدريج في ارتكاب المحرّمات القطعيّة، لا التحرّز عن الحرمة الواقعيّة لشرب التتن، ولا بأس بالالتزام بكلا الاستحبابين لكلتا الطائفتين من الأخبار لو صحّت أسانيد تلك الأخبار.

 

2 ـ تصوير الاحتياط في العبادات

وأمّا المقام الثاني ـ وهو البحث الصغرويّ ـ: فقد وقع الإشكال في تصوير الاحتياط في العبادات بعد الفراغ عن تصويره في المعاملات من ناحية أنّ الاحتياط لابدّ فيه من حصول الغرض المقصود من الواقع المحتاط لأجله، والغرض في باب العبادات لا يحصل إلاّ مع قصد الأمر، وقصد الأمر مع الشكّ فيه لا يمكن إلاّ بالتشريع الفعليّ، ولا فرق في حرمة التشريع الذي هو إسناد ما لا يعلم أنّه من المولى إلى المولى بين التشريع القولي بأن يسند بالقول شيئاً إلى المولى لا يعلم أنّه منه والتشريع الفعليّ بأن يعمل عملاً بقصد أنّه مأمور به من قِبل المولى وهو لا يعلم بذلك، وبهذه الحرمة تبطل العبادة. هذا هو التصوير الابتدائيّ للإشكال.