271

المعلوم بالتفصيل قلنا: إنّ هذا اللازم موجود، فهذا الجامع المتخصّص بتلك الخصوصيّة إن كان في هذا الطرف فليس في ذاك الطرف وبالعكس، وإن فرض أنّه لم يكن متخصّصاً بتلك الخصوصيّة فلا محالة يتحتّم الانحلال ويقطع بانطباق المعلوم بالإجمال على هذا الفرد فيتمّ الوجه الثاني.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه إن كان هناك انحلال فلابدّ لإثباته من إثبات تلك النكتة، وهي أنّ الجامع لم يتخصّص بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلاً، فلو أثبتنا ذلك فالانحلال برهانيّ، وإلاّ لم يمكن المصير إلى الانحلال إلاّ بنكتة اُخرى سوف تظهر إن شاء الله.

وقد قرّب في المقام عدم الانحلال بوجوه يرجع حاصلها إلى تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: دعوى أنّ الوجدان حاكم بعدم الانحلال ووجود علمين في النفس.

ومن الغريب أنّ الوجدان ادّعي من قِبل كلتا المدرستين، فمدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)تدّعي الوجدان على الانحلال(1)، ومدرسة المحقّق العراقيّ(رحمه الله) تدّعي الوجدان على عدمه(2).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 14.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى ما جاء في المقالات، ج 2، ص 66 من بيان عدم انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ؛ إذ كلّ واحد من العلمين متعلّق بصورة غير الاُخرى؛ إذ الصورة الإجماليّة مباينة للصورة التفصيليّة ذهناً وإن اتّحدتا أحياناً في الخارج، ومع اختلافهما فكلّ علم متقوّم بمتعلّقه بلا موجب لقلب أحدهما بالآخر، والإجمال في نفس الذات باق على حاله وإن تحقّق علم تفصيليّ بأحدالطرفين كما هو الظاهر. انتهى مع تغيير يسير في التعبير ومع حذف ما لا يعنينا الآن.

272

والصحيح ـ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ هو التفصيل في المقام، فالوجدان في مورد يقتضي البرهان الانحلال شاهد على الانحلال، والوجدان في مورد يقتضي البرهان عدم الانحلال شاهد على عدم الانحلال، وبعد الالتفات إلى برهان الانحلال في بعض الموارد وعدم الانحلال في بعض آخر يُرى أنّ الوجدان أيضاً مطابق للبرهان.

التقريب الثاني: ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) من أنّنا نثبت بقاء العلم الإجماليّ ببقاء لازمه، وهو احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلاً، وهذا الاحتمال موجود وجداناً، فيستكشف من وجود اللازم وجود الملزوم(1).

وهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ مجرّد صدق قضيّتين إحداهما: أنّ الجامع معلوم، والاُخرى: أنّ الجامع محتمل الانطباق على الطرف الآخر لا يبرهن على وجود العلم الإجماليّ، وإنّما يكون العلم الإجماليّ موجوداً لو فرض أنّ الجامع الذي يحتمل انطباقه على هذا محدود بنفس الحدّ الذي به يكون معروضاً للعلم. أمّا لو فرض أنّ الجامع محدود بحدّ يحتمل انطباقه على الطرف



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250، وقد كرّر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نقل ذلك حينما وصل إلى بحث العلم الإجماليّ بفارق جزئيّ في صيغة البيان عمّا بيّنه هنا، ونحن نسجّل هنا تلك الصيغة كي لا نعود إلى ذلك في بحث العلم الإجماليّ، وهي أنّنا نحتمل انطباق الجامع في غير الطرف المعلوم بالتفصيل، وهذا كاشف عن وجود الاحتمال في الطرف المعلوم بالتفصيل أيضاً؛ لأنّ احتمال انطباقه على هذا الطرف يجب أن يكون في قباله احتمال الانطباق على طرف آخر، وإلاّ لقطعنا بالانطباق على هذا الطرف، فالركن الثاني من ركني العلم الإجماليّ وهو احتمال الانطباق موجود، كما أنّ الركن الأوّل وهو العلم بالجامع موجود.

273

الآخر ولكنّه ليس معلوماً بهذا الحد، وإنّما هو معلوم بحدّ آخر غير محتمل الانطباق على ذاك الطرف، فالعلم الإجماليّ غير موجود، وقد يكون ما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو فرض أنّ الجامع المعلوم مجرّد عن الخصوصيّة المحتملة الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، فإنّ الجامع بحدّه الجامعيّ محتمل الانطباق على الطرف الآخر، ولكنّه بهذا الحدّ ليس معروضاً للعلم؛ إذ ـ كما مضى في الوجه الثاني من وجوه تقريب الانحلال ـ قد سرى العلم إلى الحدّ الشخصيّ لا محالة، وهو بحدّه الشخصيّ غير محتمل الانطباق على الطرف الآخر، فيصبح حال العلم بالجامع هنا حال العلم بالجامع في ضمن كلّ علم تفصيليّ عندما احتمل بدواً وجود فرد آخر، فلو فرضنا مثلاً أنّنا علمنا بوجود زيد في المسجد، فإنّنا نعلم بوجود جامع الإنسان في ضمنه أيضاً، ونحتمل في نفس الوقت أن يكون جامع الإنسان موجوداً في المسجد في ضمن عمرو، فكلتا القضيّتين صادقتان في المقام ولا علم إجماليّ فيه(1)، والنكتة في ذلك هي اختلاف الحدود.

إذن فلابدّ من تركيز البحث على أنّ الجامع المعلوم في المقام هل هو متخصّص بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل أو لا.

التقريب الثالث: أن يقال: إنّه لا إشكال في الانحلال في موارد قيام العلم التفصيليّ في مقام تعيين المعلوم بالإجمال، كما لو علمنا إجمالاً بموت ابن زيد المردّد بين بكر وخالد، ثمّ علمنا تفصيلاً أنّ ابن زيد هو بكر، فلو فرض الانحلال حتّى في صورة عدم كون العلم التفصيليّ ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال للزم أن يكون الأثر الوجدانيّ والنفسانيّ للثاني، كالأثر الوجدانيّ والنفسانيّ للأوّل، مع



(1) ولم يكن احتمال الجامع فى أحد الطرفين العارض على الجامع بحدّه الجامعيّ مستلزماً لعروضه عليه في الطرف الآخر على أساس معلوميّة الجامع.

274

أنّنا نرى بالوجدان أنّ هناك فرقاً بين الحالتين.

وفيه: أنّ الفرق بحسب الحالة النفسانيّة ثابت بينهما حتّى على تقدير الانحلال، والسرّ في ذلك أنّ العلم التفصيليّ حينما يكون ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال يثبته في طرف وينفيه عن الطرف الآخر؛ إذ فرض كونه ناظراً إلى ذلك مساوق لثبوت تعيّن واقعيّ للمعلوم بالإجمال، فالعلم التفصيليّ كما يتعلّق بثبوت ذلك الواقع في هذا الطرف كذلك يتعلّق بانتفائه في ذاك الطرف، فيزول احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر، وهذا بخلاف ما لو لم يكن ناظراً إلى تعيينه، فإنّه عندئذ إنّما يزول العلم الإجماليّ بتبدّل احتمال الانطباق في هذا الطرف إلى العلم بالانطباق من دون أن يتبدّل أيضاً احتمال الانطباق في الطرف الآخر إلى العلم بعدم الانطباق، بل يبقى احتمال الانطباق في الطرف الآخر على حاله، ولكنّه لا يستلزم ثبوت العلم الإجماليّ؛ لاختلاف الحدود كما مضى بيانه.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ جميع ما بيّنوه في المقام ليس بحثاً أساساً في الانحلال.

والبحث الأساس فيه يقع في نكتتين للانحلال:

الاُولى: ما وصل إليها كلام المثبتين للانحلال والنافين له، ولكن لم يتعرّضوا لها مباشرة بالتحقيق إثباتاً أو نفياً، وهي أنّ الجامع المعلوم هل هو متّصف بخصوصيّة تأبى احتمالاً عن انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فهذه النكتة هي ما حامت كلتا المدرستين حولها ولم يحقّقوها.

والثانية: ما لم يحوموا حولها فضلاً عن أن يحقّقوها، وهي زوال العلم الإجماليّ بزوال سببه في نفسه، وذلك بواسطة العلم التفصيليّ.

فنحن نقول: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ يتصوّر له ملاكان:

الملاك الأوّل: أن ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل بنحو الجزم،

275

فينحلّ العلم الإجماليّ ـ لا محالة ـ كما مضى، والميزان في هذا الانطباق وعدمه، هو كون المعلوم بالإجمال متخصّصاً بخصوصيّة يحتمل إباؤها عن انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل أو غير متخصّص بها.

وهنا يمكن أن يقال في بادئ النظر: إنّ الجامع المعلوم بالإجمال متخصّص دائماً بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق، وذلك بأن نلحظه مقيّداً بوصف العلم الإجماليّ ونقول: إنّ هذا الجامع وإن كان بما هو غير آب عن الانطباق على الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيليّ، لكنّه بما هو معلوم بالإجمال يحتمل إباؤه عن الانطباق عليه؛ إذ لا نعلم أنّ معلومنا الإجماليّ أهو هذا أو ذاك.

إلاّ أنّ هذا التخيّل غير صحيح؛ وذلك لأنّ العلم إذا عرض على جامع يقطع بانطباقه على هذا الفرد سرى ـ لا محالة ـ إلى هذا الفرد، فلابدّ لنفي السريان من خصوصيّة في معروضه ـ أي: في المرتبة السابقة على العلم ـ موجبة لاحتمال الإباء عن الانطباق.

وإن شئت فقل: إنّه لو اُخذت الخصوصيّة من نفس العلم لزم الدور، فإنّ وجود العلم الإجماليّ يتوقّف على هذه الخصوصيّة، فلو فرضت منتزعة من المعروض بلحاظ نفس العلم الإجماليّ لزم الدور.

وقد يخطر بالبال وجه آخر في بيان خصوصيّة للمعلوم بالإجمال موجبة لاحتمال إبائه عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، وذلك بأن يقال: إنّ العلم الإجماليّ وإن تعلّق بالجامع وهو احتراق أحد الكتابين القابل للانطباق في بادئ النظر على هذا الفرد، ولكنّ الجامع لم يؤخذ بما هو في طريق الوجود والتطبيق كما في باب الأمر بالجامع، بل اُخذ بما هو مفروغ عن وجوده، فنستطيع أن نشير إلى ذلك الوجود المفروغ عنه ونقول: أهو نفس المعلوم بالتفصيل أو غيره؟ فالجامع وإن كان بقطع النظر عن مفروغيّة وجوده قابلاً للانطباق على المعلوم

276

بالتفصيل جزماً، لكن بالنظر إلى ذلك يصبح محتمل الإباء عن الانطباق عليه.

وهذا التصوّر أيضاً خاطئ؛ لأنّ الخصوصيّة، وهي الوجود المفروغ عنه لا يكون داخلاً تحت العلم إلاّ بمقدار معرّفيّة هذا الجامع، ومقدار معرّفيّته يلائم كلا الطرفين لا محالة.

والتحقيق: أنّ هناك خصوصيّتين يمكن إبرازهما لجعل الجامع المعلوم محتمل الإباء عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ:

الخصوصيّة الاُولى: توجد في بعض موارد العلم الإجماليّ لا في جميع موارده، وتلك الخصوصيّة مستمدّة من تحديد خارجيّ للمعلوم بالإجمال ـ أي: تكون بلحاظ وجوده الخارجيّ ـ وتوضيح ذلك: أنّ العلم الإجماليّ بلحاظ سبب تكوّن العلم ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن لا تكون نسبة سببه إلى كلّ من الطرفين على حدّ سواء، بخلاف نفس العلم الذي تكون نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، وذلك كما لو رأينا الدخان يتصاعد من جانب أحد الكتابين لا نراه بأعيننا كي نميّزه من الآخر، فعلمنا باحتراق أحدهما بدليل إنّيّ وهو تصاعد الدخان الذي ليست نسبته إلى احتراق الكتابين على حدّ سواء، بل هو معلول لأحدهما المعيّن في الواقع، أو رأى ثقة ـ نقطع بعدم كذبه ـ احتراق أحدهما، فأخبرنا به فعلمنا باحتراق أحدهما بإخبار الثقة الذي هو أيضاً معلول لاحتراق أحدهما المعيّن في الواقع وليست نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، وكما لو رأينا النار توجّهت نحو أحد الكتابين ولم نره بأعيننا كي نميّزه من الآخر فعلمنا باحتراق أحدهما بالدليل اللمّيّ، وهو توجّه النار نحوه الذي يكون علّة لاحتراق أحدهما المعيّن في الواقع وليست نسبته إلى كلا الطرفين على حدّ سواء، فسبب العلم في أمثال هذه الموارد يركِّز في نفسه على فرد معيّن بحسب الواقع صار مجهولاً عندنا لجهة من الجهات، ومردّداً بين فردين فأوجب تحقّق العلم الإجماليّ.

277

الثاني: أن تكون نسبة سبب العلم كنفس العلم إلى جميع الأطراف على حدّ سواء، وذلك بأن لا يكون سبب العلم مركِّزاً على أحد الأطراف، بل يكون مصبّ إثباته في نفسه هو عدم اجتماع أمرين مثلاً، فلا محالة يحصل العلم الإجماليّ بانتفاء أحدهما، وذلك يكون لأحد وجهين:

الأوّل: أن يفرض أنّ سبب العلم هو تجمّع احتمالات في جميع الأطراف ممّا يشكّل كلّ واحد منهما قرينة ناقصة على الجامع بين الأطراف، فحصل العلم بالجامع نتيجة لتكاثف الاحتمالات عليه ممّا يوجب التحوّل إلى العلم وفق ضوابط وقوانين معيّنة، فنسبة سبب العلم إلى جميع الأطراف على حدّ سواء، كما لو علمنا بمساورة الكافر لبعض ما حوله من الأواني في فترة طويلة من الزمن نتيجة تجمّع احتمالات المساورة لهذا الإناء أو ذاك، فسبب العلم هنا لا يركِّز في نفسه على فرد معيّن في الواقع، بل هو يركِّز ابتداءً على نفي اجتماع عدم المساورة في تمام الأطراف.

والثاني: أن يفرض أنّ سبب العلم وإن لم يكن عبارة عن تجمّع الاحتمالات من الأطراف بل كان برهاناً من البراهين، لكن هذا البرهان إنّما يبرهن بالمطابقة على عدم الاجتماع، مثاله: ما لو ادّعى شخصان النبوّة قبل خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله) وكذّب كلّ منهما الآخر، فعلمنا إجمالاً بأنّ أحدهما غير نبيّ ببرهان أنّهما لو كانا نبيّين للزم كونهما نبيّين كاذبين يكذّب كلّ منهما الآخر، ومثال آخر لذلك: أنّه ادّعى كلّ واحد من شخصين أنّه اُرسل نبيّاً بالنسبة لشخص واحد في زمان واحد وفي حكم واحد، فعلمنا بكذب أحدهما بناءً على أنّ البرهان يقتضي عدم صحّة إرسال نبيّين إلى شخص واحد في زمان واحد لحكم واحد.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه في القسم الأوّل، وهو ما لو لم تكن نسبة السبب إلى كلا الطرفين على حدّ سواء يكون المعلوم بالإجمال محدّداً بحدّ خارجيّ وهو عنوان

278

الفرد المنتسب إلى ذلك السبب، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بنكتة الانطباق، فلو علمنا باحتراق كتاب الهندسة بالنار مثلاً، كان علمنا الإجماليّ باحتراق أحد الكتابين ـ الناتج من رؤية تصاعد الدخان من جانب أحدهما، أو من إخبار الثقة باحتراقه، أو من رؤية توجّه النار إليه ـ غير منحلّ بالعلم التفصيليّ بالانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ لأنّ الحدّ الخارجيّ المحرز في المقام محتمل الإباء عن الانطباق عليه. وأمّا في القسم الثاني فلا يوجد هناك تحديد خارجيّ للمعلوم بالإجمال؛ إذ المفروض أنّ نسبة سبب العلم إلى كلا الفردين على حدّ سواء، فلا مورد للقول بأنّنا لا ندري أنّ الفرد المنتسب إلى هذا السبب أهو هذا أو ذاك؟

وقد يقال: إنّ هذا الملاك لعدم الانحلال وإن كان صحيحاً في القسم الأوّل بلحاظ المعلوم بالإجمال المتحصّص بقيد خارجيّ، لكنّه لا يوجب بقاء تنجيز العلم الإجماليّ بلحاظ متعلّق الحكم الشرعيّ وموضعه، فلو رأينا مثلاً توجّه قطرة الدم إلى أحد الماءين فحصل علم إجماليّ بنجاسة أحدهما، ثمّ علمنا تفصيلاً بنجاسة واحد معيّن منهما، فصحيح أنّ العلم الإجماليّ بنجاسة أحدهما المحدّدة بالانتساب إلى تلك القطرة من الدم غير منحلّ بالعلم التفصيليّ لعدم معلوميّة الانطباق، ولكن هذا العلم الإجماليّ لا أثر له في عالم التنجيز؛ لأنّ التكليف إنّما تعلّق بترك شرب المائع النجس بما هو نجس، لا بترك شرب المائع الذي تنجّس بتلك القطرة بما هو كذلك، وتأثير العلم الإجماليّ بالتكليف في تنجيز الأطراف إنّما هو رهين لتردّد الانكشاف في مرتبة الحدّ الذي تعلّق به التكليف، وفي مرتبة هذا الحدّ ـ وهو جامع النجاسة ـ لا تردّد في الانكشاف، بل يعلم بنجاسة هذا الفرد ولا يعلم بنجاسة ذاك الفرد، والتردّد في هذا الانكشاف إنّما هو واقع في مرتبة حدّ آخر غير داخل في دائرة التكليف، وهو كون النجاسة ناشئة من تلك القطرة، فلا

279

تردّد ولا إجمال عندنا بلحاظ ما هو موضوع للتكليف، وإن شئت فعبّر بأنّ العلم الإجماليّ انحلّ بلحاظ معروض التكليف وإن لم ينحلّ بلحاظ عنوان آخر غير معروض للتكليف.

والجواب(1): أنّ الحصّة التوأم لقيد النشوء عن تلك القطرة لها تعيّن ذاتيّ في الواقع، وهي موضوع للحكم الشرعيّ ضمن موضوعيّة جامع النجس، والتردّد ثابت بالنسبة إليها، وما نقوله في باب متعلّق الأحكام من أنّه إمّا مطلق أو مقيّد، ولا يتصوّر خروج القيد والتقيّد من تحت التكليف مع اختصاص الحكم بالحصّة التوأم لا يبطل التفاتنا في المقام إلى الحصّة التوأم؛ وذلك لأنّه في عالم المفاهيم لا يوجد تعيّن مفروض للشيء خارجاً، فإن لم يؤخذ القيد أو التقيّد فيه كان الحكم ـ لا محالة ـ مطلقاً، وإن اُخذ فيه ذلك كان مقيّداً، فلا نتصوّر تعلّق الحكم بخصوص الحصّة التوأم فقط مع خروج القيد والتقيّد عن الموضوع، فالأمر بالصلاة مثلاً، إمّا هو أمر بالصلاة على الإطلاق فينطبق على الصلاة خارج المسجد أيضاً، أو أمر بالصلاة بقيد كونها في المسجد فيكون مقيّداً، ولا نتصوّر اختصاصه بالحصّة التوأم لكونها في المسجد مع خروج القيد والتقيّد عن الموضوع.

أمّا فيما نحن فيه فنحن نتكلّم في العلم والنظر التصديقيّ مع الإجمال والتردّد الموجود فيه، لا في عالم المفاهيم والنظر التصوّريّ البحت، فهناك تعيّن مفروض للشيء خارجاً يمكن افتراض التردّد في المكلّف به بلحاظ ذاك التعيّن رغم أنّ القيد والتقيّد خارجان عن متعلّق التكليف، ففي المثال الماضي نقول: إنّ الحصّة التوأم من النجاسة لقيد النشوء من تلك القطرة لها تعيّن ذاتيّ في الواقع، والتردّد



(1) هذا الجواب ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث العلم الإجماليّ، وقد ثبّتناه هنا كي لا نحتاج إلى تكرار شيء من المطلب في بحث العلم الإجماليّ.

280

ثابت بالنسبة لها، ولا يضرّنا خروج هذا القيد والتقيّد به عن دائرة التكليف، وكذلك لو علم إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين؛ لأنّ الثقة أخبر بوجوب إحداهما معيّناً ولم ندرِ أنّه أخبر بأيّة منهما، وعلمنا تفصيلاً بوجوب إحداهما بالتعيين، فذات الحكم الذي أخبر به الثقة له تعيّن ذاتيّ في عالَمِه، والتردّد ثابت بالنسبة له، وهذا يكفينا في التنجيز وإن كان القيد والتقيّد بإخبار الثقة خارجين عن دائرة التكليف.

الخصوصيّة الثانية: ما يكون ثابتاً في جميع موارد العلم الإجماليّ، وهي وإن كانت دقيقة لا يلتفت إليها تفصيلاً إلاّ بعد الدقّة والتأمّل لكنّها بوجودها الارتكازيّ تحفظ ـ لا محالة ـ العلم الإجماليّ(1) وتوجب عدم الانحلال، وهي في الحقيقة ليست تحديداً خارجيّاً للمعلوم بالإجمال بلحاظ وجوده الخارجيّ كما هو الحال في الخصوصيّة الاُولى، بل هي تحديد ذهنيّ لنفس العلم يوجب عدم الانحلال بملاك الانطباق، ونحن نوضّح المقصود في المقام بذكر أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ المعلوم التفصيليّ هنا محدود بحدّ تقييديّ، والمعلوم الإجماليّ محدود بحدّ إطلاقيّ.

أمّا الأوّل: فبيانه: أنّ العلم بمساورة هذا الإناء بعينه مثلاً وليد لعلمين:

الأوّل: العلم بقضيّة شرطيّة، وهي أنّه لو كان جهازي الإحساسيّ سليماً حينما رأيت المسيحيّ يساور هذا الإناء المعيّن فقد ساور المسيحيّ هذا الإناء.

والثاني: العلم بتحقّق الشرط في هذه القضيّة الشرطيّة، فيتولّد منهما ـ لا محالة ـ العلم بتحقّق الجزاء، لكن ليس هذا علماً على كلّ تقدير، فإنّنا لا نعلم بمساورة هذا الإناء على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس، وإنّما نعلم بها على تقدير سلامته.

وقد تقول: كيف لا أعلم بالمساورة على كلّ تقدير مع أ نّي أعلم بالفعل بالمساورة؟



(1) أو قل: بوجودها الواقعيّ تبرهن على عدم الانحلال بملاك الانطباق.

281

لكنّا نقول: إنّك وإن كنت تعلم بالمساورة إلاّ أنّ هذا العلم إنّما صار فعليّاً من ناحية العلم بفعليّة الشرط، وهذا لا يخرج المعلوم التفصيليّ عن كونه معلوماً بعلم محدود بالحدّ الجزائيّ للقضيّة الشرطيّة، أي: بما هو مقيّد بالشرط ومرتبط به بنحو يستحيل إطلاقه لفرض فقدان الشرط.

وأمّا الثاني: فبيانه: أنّ المعلوم بالإجمال عبارة عن مساورة أحد هذه الأواني على كلّ تقدير ـ أي: سواء كان جهازي الإحساسيّ سليماً أو لا ـ لأنّ سبب هذا العلم لم يكن هو العلم بسلامة جهاز الإحساس، وإنّما كان حساب الاحتمالات المحفوظ على كلا التقديرين.

الأمر الثاني: بعد أن عرفت أنّ المعلوم بالإجمال محدود بحدّ إطلاقيّ، والمعلوم بالتفصيل محدود بحدّ تقييديّ وإن كانا حدّين ذهنيّين قلنا: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بملاك الانطباق على المعلوم التفصيليّ لا يعقل إلاّ بعدم التنافي بين الحدّين، أو بتبدّل أحد الحدّين إلى الآخر حتّى ينطبق أحدهما على الآخر، والتنافي بين الإطلاق والتقييد واضح لا يمكن إنكاره، فلا يعقل الانحلال بملاك الانطباق إلاّ بأن يفقد العلم الإجماليّ حدّه الإطلاقيّ، أو يفقد العلم التفصيليّ حدّه التقييديّ، وكلاهما غير متحقّق في المقام:

أمّا الأوّل: فمعنى فقد العلم الإجماليّ إطلاقه هو أن لا نعلم إجمالاً على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس بمساورة أحد الأواني مع أنّنا نعلم ذلك بالوجدان.

وأمّا الثاني: فمعنى فقد العلم التفصيليّ تقييده هو أن نعلم بمساورة هذا الإناء المعيّن حتّى على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس، مع أنّنا لا نعلم بذلك بالوجدان.

وهذا هو وجه الفرق بين مثل ما نحن فيه وبين ما لو كان مصبّ الدليلين ابتداءً شيئاً واحداً، كما لو قطعنا بأمر تفصيلاً بدليلين، فالقطع به بكلّ واحد من الدليلين

282

وإن كان لولا الدليل الآخر مقيّداً، فلا نقطع بثبوت ذلك على تقدير حصول الغفلة في ذلك الدليل مثلاً، لكنّه بمجموع الدليلين يحصل إطلاق في العلم من كلا الجانبين ويتحقّق علم واحد بذلك الأمر مطلق من ناحية تقدير الغفلة في هذا الدليل، وكذلك من ناحية تقدير الغفلة في ذاك الدليل، ولا يكون مقيّداً إلاّ بلحاظ تقدير الغفلة في كلا الدليلين، فالحدّان الثابت كلّ منهما لولا الدليل الآخر غير ثابتين عند اجتماع الدليلين، وإنّما الثابت حدّ ثالث مقيّد بما عرفت، بينما في المقام يكون الحدّان باقيين على حالهما كما اتّضح لك ذلك.

فيتحصّل ممّا ذكرناه: عدم صحّة انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بملاك الانطباق؛ لما نرى فيما بين العلمين من الاختلاف في الحدود الذهنيّة.

وإن شئت فقل: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بملاك انطباق الحدود يستلزم عدم وجود العلم الإجماليّ على أيّ تقدير، مع أنّ العلم الإجماليّ ـ على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس ـ ثابت بالوجدان لا بمعنى كون العلم تقديريّاً، بل هو فعليّ متعلّق بقضيّة اُخذ فيها هذا التقدير.

إن قلت: إنّنا نلتزم بانحلال أحد تقديري العلم الإجماليّ بالانطباق، فنقول: إنّ العلم الإجماليّ بمساورة أحد الأواني ـ على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس ـ وإن لم ينحلّ بالعلم التفصيليّ؛ لأنّ العلم التفصيليّ ثابت على تقدير آخر لا على هذا التقدير، لكن العلم الإجماليّ بمساورة أحد الأواني ـ على تقدير سلامة جهاز الإحساس ـ قد انحلّ بالعلم التفصيليّ الثابت على هذا التقدير.

قلت: إنّنا نعلم أنّ الفرد المعلوم بالإجمال ـ على التقدير الثاني ـ هو عين الفرد المعلوم بالإجمال على التقدير الأوّل، فإذا احتمل إباء الفرد المعلوم بالإجمال ـ على التقدير الأوّل ـ عن الانطباق على الفرد المعلوم بالتفصيل فلا محالة يحتمل إباء هذا الفرد أيضاً عن ذلك لتقيّده بهذا القيد، وليس حال هذا القيد حال ما مضى

283

من تقييد الفرد المعلوم بالإجمال بواقعه، والذي أبطلناه فيما مضى بأنّ الواقع ليس داخلاً تحت العلم إلاّ بمقدار معرّفيّة الجامع الملائم لجميع الأطراف، أو قل: إن اُريد التقييد بذات الواقع فهو خارج عن دائرة العلم، وإن اُريد التقييد بعنوان الواقع الكلّيّ فهو قابل للانطباق على المعلوم بالتفصيل. أقول: إنّ ما نحن فيه لا يقاس بذلك، فإنّ الفرد في المقام قد قيّد بعنوان داخل تحت العلم محتمل الإباء عن الانطباق وهو كونه ذاك الفرد المعلوم على التقدير الأوّل.

وبكلمة اُخرى: إنّ تقييد هذا الفرد بكونه ذاك الفرد المنكشف ـ على التقدير الأوّل ـ ليس تقييداً خارجيّاً للمعلوم بالإجمال ـ أي: مأخوذاً من الخارج ـ وإنّما مرجع هذا التقييد بحسب الحقيقة إلى أنّ الفرد المنكشف ـ على التقدير الثاني ـ منكشف بنفس الانكشاف الثابت على التقدير الأوّل، وهذا يعني أنّ لدينا علماً واحداً محدوداً بحدّ إطلاقيّ شامل لكلا التقديرين لا يمكن أن ينحلّ بسبب الانطباق على العلم التفصيليّ المحدود بحدّ تقييديّ، لاستحالة الانطباق عند تباين الحدّين.

الملاك الثاني: زوال سبب العلم الإجماليّ بحدوث العلم التفصيليّ، فإذا زال سببه انحلّ العلم الإجماليّ لا محالة، وهذا الملاك ملازم دائماً لعدم وجود التحديد الخارجيّ للمعلوم بالإجمال المحتمل الإباء عن الانطباق.

وتوضيح ذلك: أنّك قد عرفت أنّ المعلوم بالإجمال تارةً يوجد له تحديد خارجيّ، وذلك فيما لو كانت نسبة سبب العلم إلى الأطراف لا على حدّ سواء، واُخرى لا يوجد له حدّ خارجيّ وهو ما لو كان الدليل مركّزاً بالمباشرة على نفي اجتماع أمرين مثلاً، فيعلم إجمالاً بعدم أحدهما سواء كان ذلك على أساس تجمّع الاحتمالات، أو على أساس البرهان، ونقول في المقام: إنّ القسم الأوّل لا يوجد فيه وجه لزوال سبب العلم الإجماليّ بحدوث العلم التفصيليّ، فمهما لم تكن نسبة

284

سبب العلم إلى الأطراف على حدّ سواء فلا سبيل إلى الانحلال، والقسم الثاني يوجد فيه وجهان لزوال سبب العلم الإجماليّ بحدوث العلم التفصيليّ:

الوجه الأوّل: يختصّ بما لو كان سبب العلم الإجماليّ تجمّع الاحتمالات في الأطراف، وهو أنّه مع حصول القطع في أحد الأطراف سقط عدد الاحتمالات المتجمّعة والمتكاتفة لإثبات الجامع بحدّه الجامعيّ عن النصاب المفروض لتوليد العلم، فلا محالة ينحلّ بذلك العلم الإجماليّ، ففي مثال المساورة الماضي لا نعلم بعد العلم التفصيليّ بمساورة أحد الأواني إجمالاً إلاّ على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس؛ إذ على هذا التقدير لم ينقص عدد الاحتمالات المتكاتفة في إثبات الجامع(1).

 


(1) لا يخفى أنّ كلّ احتمال من احتمالات الأطراف كان منصبّاً على أحد الأفراد بحدّه الفرديّ لا على الجامع بحدّه الجامعيّ، وإنّما تولّد العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ بنكتة أنّ الجامع هو القدر المشترك بين هذه الأفراد التي انصبّت عليها الاحتمالات، فلم تتكاتف الاحتمالات في الإثبات إلاّ بقدر الجامع بحدّه الجامعيّ، وعندئذ يبقى هنا سؤال، وهو أنّ العلم التفصيليّ الذي تعلّق بأحد الأفراد حاله حال الاحتمالات المتعلّقة بباقي الأفراد في التعلّق بالفرد بحدّه الفرديّ دون الجامع بحدّه الجامعيّ، وفي أنّ القدر المشترك بين ما يكشفه هذا العلم وما يكشفه باقي الاحتمالات إنّما هو الجامع، فلماذا لا يتكاتف هذا العلم مع باقي الاحتمالات في إثبات الجامع بحدّه الجامعيّ؟ ولماذا سقط من الحساب فاختلّ النصاب المفروض لتوليد العلم الإجماليّ؟ هل سقط من الحساب لأجل أنّ الانكشاف الموجود في العلم أقوى منه في الاحتمالات؟ ولماذا تكون الأقوائيّة موجبة للسقوط من الحساب؟ نعم، لو تعلّق العلم التفصيليّ بعدم المساورة في إناء معيّن كان سقوط ذلك الاحتمال من الحساب أمراً مفهوماً؛ لأنّ الاحتمال هنا مات بزوال الكشف

285

الوجه الثاني: يعمّ مطلق موارد نفي السبب لعنوان الاجتماع سواء كان ذلك بحساب الاحتمالات أو بالبرهان، وهو أنّه لو قام برهان مثلاً على عدم اجتماع هذين المدّعيين للنبوّة في الصدق، فعلمنا إجمالاً بعدم نبوّة أحدهما، فسبب حصول العلم الإجماليّ مركّب في الحقيقة من أمرين، وتوضيح ذلك: أنّ الممكنات العقليّة ـ بقطع النظر عن هذا البرهان ـ أربعة: نبوّتهما معاً، وعدم نبوّتهما معاً، ونبوّة هذا دون ذاك، وبالعكس، فهذه الاُمور الأربعة تستنفد عالم الإمكان في هذا المطلب، فإذا قام البرهان على بطلان أحد هذه الشقوق اضطرّ النفس ـ لا محالة ـ إلى التوجّه إلى شقّ آخر غير هذا الشقّ، فإن لم يرَ مرجّحاً لبعضها على بعض في عالم التوجّه توجّه ـ لا محالة ـ إلى الجميع على حدّ سواء وتولّد العلم الإجماليّ بينها، فعلمه الإجماليّ بعدم نبوّة أحدهما يكون بسبب مركّب من أمرين: أحدهما البرهان على عدم نبوّتهما معاً، والثاني عدم الترجيح في عالم توجّه النفس بين


الناقص وانقلابه إلى النقيض لا بتصاعد مستوى الكشف ووصوله إلى حدّ العلم، فالكشف الذي زال يسقط عن القدرة على التكاتف مع باقي الكشوف الناقصة لإثبات الجامع بحدّه الجامعيّ، ولكن الكشف الذي تقوّى إلى حدّ العلم لماذا يسقط عن التأثير في المقام؟

وجواب هذا السؤال هو عبارة عن أنّ العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ كان وليد عدم المرجّح في النفس للتوجّه في عالم الانكشاف القطعيّ إلى طرف دون طرف، وهذا العامل مختلّ في العلم التفصيليّ المتعلّق بطرف معيّن، فإنّ الانكشاف القطعيّ توجّه هنا إلى طرف خاصّ فلم يكن ترجيح بلا مرجّح.

وبهذا يتّضح أنّ هذا الوجه لبيان زوال سبب العلم يجب إرجاعه إلى مايأتي من الوجه الثاني الناظر إلى إبراز عامل الترجيح بلا مرجّح وتأثيره في العلم الإجماليّ.

286

عدم نبوّة هذا وعدم نبوّة ذاك، وإذا حصل العلم التفصيليّ بعدم نبوّة أحدهما المعيّن فقد حصل المرجّح وزال أحد جزءي سبب العلم الإجماليّ، فينحلّ ـ لا محالة ـ العلم الإجماليّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الصياغة الفنّيّة لما ينبغي أن يكون مقصوداً بهذا البيان هي أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ وليد لعاملين: الأوّل هو العامل الذي أثبت الجامع من برهان أو حساب احتمالات، والثاني هو عامل عدم المرجّح لاتّجاه العلم إلى بعض الأطراف واستحالة الترجيح بلا مرجّح، فهذا هو الذي منع العلم والانكشاف عن توسّعه بأكثر من مقدار الجامع وشموله لحدود اُخرى أخصّ من الحدّ الجامعيّ، فباجتماع هذين العاملين يتمّ العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ وهو حقيقة العلم الإجماليّ، فمتى ما زال العامل الثاني وحصل الترجيح في عالم الانكشاف زال سبب العلم الإجماليّ بزوال سبب الإجمال الذي هو لزوم الترجيح بلا مرجّح، وإذا علمنا بكذب أحد المدّعيين للنبوّة بالخصوص فقد زال العامل الثاني، وهو عدم المرجّح في عالم الانكشاف، وبالتالي انحلّ العلم الإجماليّ بزوال سببه، وهذا في الحقيقة تعميق لما مضى من البرهان الثاني من براهين الانحلال الذي نسبه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إلى مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره).

وهذا البرهان لا يقف أمامه ما مضى من برهان تباين حدّي العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ بالإطلاق والتقييد؛ لأنّ ذاك البرهان إنّما ينفي الانحلال بملاك الانطباق، ولا ينفي الانحلال بملاك زوال سبب الإجمال.

وهذا البرهان إنّما يثبت الانحلال في العلوم الإجماليّة التي تكون نسبة سبب العلم فيها إلى الأطراف على حدّ سواء، كما في موارد كون سبب العلم تجمّع احتمالات الأطراف، أو كون سببه البرهان على نفي اجتماع أمرين المؤدّي إلى العلم بانتفاء أحدهما، ولا يثبت الانحلال في العلوم الإجماليّة التي يكون سبب العلم ذا علاقة خاصّة بأحد الأطراف

287


المعيّن عند الله والمجهول لدينا، كما في مثال تصاعد الدخان من احتراق أحد الكتابين بالخصوص، أو إخبار الثقة الناتج من رؤيته لاحتراق أحدهما بالخصوص ونحو ذلك. والوجه في عدم الانحلال في مثل ذلك هو أنّ ما مضى من بيان تحدّد المعلوم بالإجمال في موارد عدم تساوي نسبة سبب العلم إلى الأطراف بحدّ خارجيّ وهو حدّ انتسابه إلى ذاك السبب، كما يقف أمام الانحلال بملاك الانطباق كذلك يقف أمام الانحلال بملاك زوال سبب العلم الإجماليّ. أمّا وقوفه أمام الانحلال بملاك الانطباق فواضح كما مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فإنّ المعلوم الإجماليّ المحدود بحدّ غير محرز في المعلوم التفصيليّ يستحيل العلم بانطباقه عليه. وأمّا وقوفه أمام الانحلال بملاك زوال السبب، فلأنّ المعلوم بالإجمال إذا تقيّد بقيد الانتساب إلى ذاك السبب ولم يتعلّق العلم التفصيليّ به بهذا القيد فعامل لزوم الترجيح بلا مرجّح لم يَزُل في المقام، ولا زالت النفس لا ترى ترجيحاً للتوجّه في عالم الانكشاف إلى طرف بالخصوص بلحاظ المعلوم المنتسب إلى ذاك السبب، فالترجيح وإن حصل بلحاظ الجامع بحدّه الأوسع من ذاك القيد، ولكنّه لم يحصل بلحاظ ذاك القيد؛ لعدم معلوميّة انطباقه على ما فيه الترجيح.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ زوال سبب العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ الموجب للانحلال يعني زوال كون الترجيح ترجيحاً بلا مرجّح في عالم الانكشاف؛ إذ كان هو عامل الإجمال، وبزواله يزول الإجمال، ومعنى زواله وجود المرجّح في المقام في طرف المعلوم بالتفصيل، وقوام هذا الترجيح يكون بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل بلحاظ القيود الخارجيّة، فإذا حصل الانطباق بهذا اللحاظ كان هذا ترجيحاً مبطلاً لسبب الإجمال، واختلاف حدود العلمين لا يمنع عن الانحلال؛ لأنّ برهان

288

فتحصّل: أنّ العلم الإجماليّ لا ينحلّ في موارد وجود التحديد الخارجيّ للمعلوم بالإجمال المحتمل الإباء عن الانطباق، وكون نسبة السبب إلى الأطراف لا على حدّ سواء، وينحلّ في الموارد التي تكون نسبة سبب العلم فيه إلى الأطراف على حدّ سواء.

هذا. ويقوى في النفس جدّاً أنّ السبب في تعاكس دعوى الوجدان من قبل المدرستين هو أنّ الوجدان في كلّ من الجانبين كان في بعض الموارد فعمّم وهماً.

والصحيح: أنّ الوجدان يختلف باختلاف الموارد طبقاً للبرهان.

فلو أخبرنا مثلاً كلّ واحد من عشرة أشخاص بنجاسة إناء معيّن غير الأواني التي أخبر بها الآخرون، وكنّا نظنّ بشأن كلّ واحد منهم الوثاقة بالدرجة المانعة من الكذب في مثل هذه القضيّة مئة بالمئة، فحصل العلم الإجماليّ بسبب تجمّعالظنون العشرة بوثاقة واحد من هؤلاء بهذه الدرجة، وبالتالي حصل العلم


اختلافهما إنّما يثبت عدم انطباق العلم على العلم، ولا ينفي زواله بزوال السبب المرتبط بمدى انطباق المعلوم بحدوده المستمدّة من الخارج على المعلوم.

وبهذا اتّضح أنّه لا يوجد في الحقيقة ملاكان للانحلال حام الأصحاب حول أحدهما ولم يحوموا حول الآخر، وإنّما يوجد ملاك واحد للانحلال وهو انطباق المعلوم بالإجمال بلحاظ الحدود الخارجيّة على المعلوم بالتفصيل انطباقاً قطعيّاً موجباً لزوال مشكلة الترجيح بلا مرجّح التي هي سبب الإجمال في العلم الإجماليّ.

وهذا الملاك يؤدّي إلى التفصيل بين ما إذا كان سبب العلم نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء، وما إذا لم يكن كذلك، فينحلّ العلم الإجماليّ في الفرض الأوّل ولا ينحلّ في الفرض الثاني.

289

الإجماليّ بنجاسة أحد الأواني العشرة، فإن حصل بعد ذلك العلم التفصيليّ بوثاقة واحد منهم بهذه الدرجة انحلّ العلم الإجماليّ بالوثاقة لزوال السبب، وبالتالي انحلّ العلم الإجماليّ بالنجاسة، وإن لم يحصل العلم التفصيليّ بوثاقة واحد منهم، ولكن حصل العلم التفصيليّ بنجاسة إناء معيّن من تلك الأواني لم ينحلّ شيء من العلمين الإجماليّين، أمّا العلم الإجماليّ بالوثاقة فلعدم تحقّق علم تفصيليّ في أحد أطرافه كي ينحلّ به، وأمّا العلم الإجماليّ بالنجاسة فلأنّ نسبة سببه وهو إخبار الثقة إلى أطراف العلم الإجماليّ ليست على حدّ سواء، وعندئذ لا يرتفع سبب العلم الإجماليّ، والوجدان حاكم في الأوّل بالانحلال وفي الثاني بعدم الانحلال، كما أنّ البرهان كذلك كما عرفت.

 

الانحلال الحكميّ:

وأمّا ا لجهة الثانية: وهي البحث عن الانحلال الحكميّ بالعلم التفصيليّ في موارد عدم الانحلال الحقيقيّ فنقول:

مقصودنا من الانحلال الحكميّ هو بطلان منجّزيّة العلم الإجماليّ رغم وجوده.

والانحلال الحكميّ تارةً يكون بلحاظ القواعد العقليّة من تنجيز العلم الإجماليّ من ناحية، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بناءً على الإيمان بها ـ من ناحية اُخرى من دون إدخال الاُصول الشرعيّة المؤمّنة في الحساب، واُخرى يكون بلحاظ الاُصول الشرعيّة المؤمّنة:

 

1 ـ بلحاظ القواعد العقليّة:

أمّا باللحاظ الأوّل: وهو قصر النظر على حكم العقل، فلعلّ أشهر ما بيّن في المقام ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وهو أنّ الجامع المعلوم بالإجمال الذي تعلّق

290

العلم التفصيليّ بأحد اطرافه يستحيل أن يتنجّز بالعلم الإجماليّ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الإطلاقيّ القابل للانطباق على كلّ من الطرفين، أي: ما نعبّر عنه عرفاً بقولنا: الجامع سواء كان هذا أو ذاك، وهذا يستحيل تنجّزه بالعلم الإجماليّ، فإنّ قابليّته للتنجّز به فرع قابليّة كلا الطرفين لذلك، والطرف المعلوم بالتفصيل غير قابل لذلك؛ لأنّه تنجّز بالعلم التفصيليّ، ويستحيل أن يتنجّز مرّتين. نعم، الجامع المقيّد بالانطباق على خصوص الطرف الآخر يمكن أن يتنجّز لكنّه غير معلوم بالإجمال، فما هو المعلوم بالإجمال لا يقبل التنجيز، وما يقبل التنجيز غير معلوم بالإجمال(1).

أقول: إنّ دعوى خروج الجامع عن قابليّة التنجيز بخروج أحد طرفيه(2) عنها


(1) راجع المقالات، ج 2، ص 66 و67، ونهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 251 و 252.

(2) ولا يخفى أنّ خروج الجامع عن قابليّة التنجيز بخروج أحد طرفيه قد يكون بمعنى أنّ أحد طرفيه في ذاته خارج عن دائرة حقّ مولويّة المولى، من قبيل ما لو علمنا إجمالاً إمّا بوجوب الصلاة علينا، أو بأنّ عدد السماوات سبع، وهذا خارج عن بحثنا في المقام.

وتحقيق الكلام فيه: أنّه بناءً على أن يكون المقصود بالجامع الجامع بحدّه الجامعيّ فمن الواضح أنّ الجامع بحدّه الجامعيّ بين ما يكون داخلاً في دائرة حقّ المولويّة وما لا يكون داخلاً فيها لا يمكن أن يكون داخلاً في دائرة حقّ المولويّة، وبناءً على أن يكون المقصود به الواقع المردّد بين أمرين باعتبار افتراض تعلّق العلم بالواقع قد يدّعى أنّ العلم ينجّز الواقع على تقدير انطباقه على ما يقبل التنجّز، وعندئذ يتنجّز علينا وجوب الصلاة؛ لأنّ احتمال التنجيز منجّز ولا تجري البراءة العقليّة، ولكن قد يقال بصحّة النكتة الثانية

291

مبنيّة على نكتة، وهي دعوى أنّ التنجيز الذي عرض على الجامع الملحوظ هنا على نحو مفاد النكرة وصِرف الوجود يسري منه إلى الأفراد على هذا النحو، وذلك سنخ ما يقال في الوجوب الشرعيّ المتعلّق بصرف الوجود من أنّه يسري إلى الأفراد على سبيل البدل، فإذا وجب إكرام عالم كان كلّ فرد من أفراد العالم واجب الإكرام بدلاً عن باقي الأفراد، وكذلك في المقام حينما علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الأواني، وكان الجامع هو نجاسة أحد الأواني ملحوظاً بنحو النكرة التي يكون انطباقها على الأفراد بدليّاً، فتنجّز الجامع كان لابدّ من سريان هذا


التي سيشير إليها اُستاذنا الشهيد من إمكانيّة دعوى أنّ العلم إنّما ينجّز بشرط إحراز قابليّته للتنجيز، أو قل: بشرط أن نعلم تفصيلاً بكون متعلّقه قابلاً للتنجيز، وإلاّ لكان الشكّ البدويّ كافياً في حصول التنجيز؛ لأنّه يساوق العلم الإجماليّ بأحد النقيضين وهما التكليف وعدمه، وهذا العلم متعلّق بالواقع فنحن نحتمل العلم بالتكليف.

وقد يكون بمعنى أنّ أحد الطرفين قد تنجّز بمنجّز آخر فلا يقبل التنجيز، وهذا هو مورد بحثنا في المقام، والتحقيق فيه عدم إمكان تطبيق قاعدة أنّ الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يقبل التنجيز سواء قصد الجامع بحدّه الجامعيّ، أو قصد به الواقع المردّد، أمّا على الأوّل فلمنع سريان التنجيز من الجامع إلى الأفراد أوّلاً، ولعدم المانع ثانياً من كون سريانه إلى أحد الفردين بالعلّيّة التامّة وإلى الفرد الآخر بالتحوّل إلى جزء العلّة على أساس اجتماع علّتين على معلول واحد، على أنّ المسألة أجنبيّة عن باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة كما سيشير إلى ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وأمّا على الثاني فأيضاً لعدم المانع من تنجّز الطرف المنجّز بمنجّز سابق بهذا العلم بقاءً إمّا بتحوّل كلّ من العلّتين بلحاظ هذا الطرف إلى جزء العلّة، أو بلحاظ كون المسألة أجنبيّة عن باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة.

292

التنجّز إلى تمام الأطراف بدليّاً، فإذا لم يمكن ذلك لتنجّز بعض الأطراف بالعلم التفصيليّ سقط العلم الإجماليّ عن تأثيره في تنجيز الجامع(1).

 


(1) لا يخفى أنّ هذه النكتة لا يمكن أن تكون توجيهاً لكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إذا أردنا أن نحمل كلامه على ما ينسجم مع مبانيه المشروحة في بحث العلم الإجماليّ في المقالات، ج 2، ص 84 ـ 87، وفي نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 299 و ص 309. بل فيما ذكره في المقام ما لا ينسجم مع تفسير كلامه بالتفسير الذي يتحمّل هذه النكتة حتّى مع غضّ النظر عن مبانيه في العلم الإجماليّ.

وتوضيح المقصود: أنّه قد يتراءى لمن يراجع كلام المحقّق العراقيّ في المقام في بحث البراءة والاحتياط أنّ مقصوده بالجامع الذي تعلّق به العلم الإجماليّ هو الجامع بين الطرفين، أو الأطراف الذي تكون نسبته إليها نسبة الكلّ إلى أفراده، وعليه فهو يقصد في المقام: أنّ العلم الإجماليّ لو نجّز الجامع لسرى التنجيز إلى كلّ الأطراف بدليّاً، بينما لا يمكن سريانه إلى الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيليّ، وهذا التفسير لكلامه تكون النكتة المناسبة له ما جاء في المتن من دعوى أنّ أعراض الجامع لابدّ أن تسري إلى أفراده.

إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا ليس هو مقصود المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، ويشهد لذلك أمران:

الأمر الأوّل: أنّ هذا لا ينسجم مع مبانيه المشروحة في بحث العلم الإجماليّ، فهو لا يرى أنّ العلم الإجماليّ قد عرض على الجامع الذي نسبته إلى الأطراف نسبة الكلّيّ إلى الأفراد فنجّز الجامع، ويسري التنجّز من الجامع إلى الأفراد بدليّاً، ثمّ تجب الموافقة القطعيّة على أساس تعارض الاُصول مثلاً، وإنّما يرى أنّه قد عرض العلم على الجامع بمعنىً آخر، وهي الصورة الإجماليّة المنطبقة على الواقع ـ على شرح وبيان يأتي في محلّه إن شاء الله ـ ومن هنا يرى أنّ العلم الإجماليّ ينجّز الواقع ابتداءً، ولا يقتصر تنجيزه على قدر الجامع بمعنى الكلّيّ الملحوظ على نحو صرف الوجود، وعلى هذا يبني فكرته

293

ويرد على التسليم بهذه النكتة ما بيّناه في بحث الأوامر والنواهي من أنّ ما يعرض على الجامع المأخوذ بنحو صرف الوجود لا يسري إلى الأفراد لا بنحو العرضيّة، ولا بنحو البدليّة. نعم، ما يعرض على الجامع المأخوذ بنحو مطلق الوجود ـ أي: بمفاد اسم الجنس ـ يسري إلى الأفراد بنحو العرضيّة.

نعم، بالإمكان الاستغناء عن هذه النكتة لو وافقنا على نكتة اُخرى بدلاً عنها، إلاّ أنّ التقريب عندئذ يصبح أجنبيّاً عمّا أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، وتلك النكتة الاُخرى هي أن نقول: إنّنا وإن سلّمنا أنّ الجامع في ذاته ليس ممّا يجزم بعدم قابليّته للتنجّز بعد أن كان أحد أطرافه منجّزاً بالعلم التفصيليّ، ولكن يبقى في المقام احتمال عدم قابليّته للتنجّز؛ إذ المعلوم بالإجمال لا يُعلم أنّه هل هو بحسب الواقع منطبق على المعلوم بالتفصيل، أو منطبق على الطرف الآخر، فإن كان منطبقاً على المعلوم بالتفصيل استحال تنجّزه؛ لأنّه منجّز بالعلم التفصيليّ، فيلزم اجتماع


عن علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، حيث يرى أنّه بعد أن تنجّز الواقع أصبح احتمال التكليف في كلّ واحد من الطرفين احتمالاً للتكليف المنجّز، واحتمال التكليف المنجَّز منجِّز، ولا يمكن رفع هذا التنجيز بتأمين شرعيّ.

إذن فالتفسير المنسجم مع هذه المباني لكلامه الوارد في بحث البراءة والاحتياط، والذي لا تأبى عنه عبارته هو أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ في المقام لا يمكنه أن ينجّز تلك الصورة الإجماليّة؛ لأنّ تنجيزه إيّاها يعني تنجيزها على كلّ تقدير، في حين أنّه ليس بالإمكان تنجيزها على تقدير انطباقها واقعاً على الطرف المعلوم بالتفصيل؛ لأنّه قد تنجّز بالعلم التفصيليّ.

الأمر الثاني: يأتي بيانه ـ إن شاء الله ـ فيما بعد هذا التعليق بتعليقين فانتظر.

294

المثلين، وإن كان منطبقاً على الطرف الآخر كان قابلاً للتنجّز، وعندئذ إن قلنا: إنّه تكفي في منجّزيّة العلم القابليّة الواقعيّة للتنجيز فهنا احتمال التنجّز موجود، واحتمال التنجّز بنفسه منجّز. وإن ادّعينا أنّه يشترط في منجّزيّة العلم إحراز قابليّته للتنجيز، فبضمّ دعوى هذه الكبرى: وهي النكتة البديلة في المقام إلى صغرى عدم إحراز القابليّة للتنجيز فيما نحن فيه يثبت عدم التنجيز(1).

وعلى أيّة حال، فهنا تساؤلان قد يطرحان بوجه المحقّق العراقيّ(رحمه الله):

الأوّل: أنّه لماذا تفرضون أنّ منجّزيّة العلم التفصيليّ مفروغ عنها، ثمّ بعد هذا يقع العول والنقصان على العلم الإجماليّ، ولماذا لا تفرضون العكس، بأن يكون العلم الإجماليّ منجّزاً ويقع العول والنقصان على العلم التفصيليّ؟

والثاني: أنّه لماذا لا تفرضون المقام من قبيل اجتماع علّتين مستقلّتين على



(1) إنّ هذه النكتة وإن كانت غير مذكورة في كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) كما أنّ النكتة الاُولى أيضاً غير مذكورة فيه، ولا يفهم من كلام المحقّق العراقيّ أكثر من دعوى أنّ تنجيز العلم للواقع مشروط بقابليّة المعلوم بالإجمال للتنجيز على كلّ تقاديره المحتملة، ولكن هذه النكتة أنسب بكلام المحقّق العراقيّ من النكتة الاُولى، فإنّ النكتة الاُولى إنّما تناسب فرض منجّزيّة العلم الإجماليّ للجامع بدليّاً، والقول بسريان الحكم الثابت للجامع بدليّاً إلى الأفراد كما اتّضح فيما سبق، وهذا أجنبيّ عن مبنى المحقّق العراقيّ، في حين أنّ هذه النكتة إنّما تناسب فرض منجّزيّته للواقع كما هو مختار المحقّق العراقيّ(رحمه الله).

فيقال عندئذ: إنّ الواقع إن كان منطبقاً على المعلوم بالتفصيل فهو غير قابل للتنجيز، وإن كان منطبقاً على الطرف الآخر فهو قابل للتنجيز، فبناءً على دعوى اشتراط منجّزيّة العلم بإحراز القابليّة للتنجيز يقال في المقام: إنّ العلم سقط عن التأثير مثلاً، إذن فهذه النكتة أكثر انسجاماً مع مباني المحقّق العراقيّ من النكتة الاُولى.

295

معلول واحد، فيصير مجموعهما علّة واحدة كما هو الحال في الظواهر الطبيعيّة؟(1).

 


(1) وفي كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات، وفي نهاية الأفكار ما يفترض أن يكون جواباً على كلا السؤالين، فإنّ المفهوم من الكتابين: أنّ العلم التفصيليّ أثره تنجيز الفرد، والعلم الإجماليّ أثره تنجيز الجامع، أو الصورة الإجماليّة الذي لا يكون إلاّ بتنجيز تمام الأفراد، فقد اجتمع العلمان على تنجيز الفرد المعلوم تفصيلاً، فيصبح كلّ منهما جزء علّة لتنجيزه. وإذا تحوّل العلم الإجماليّ إلى جزء علّة للتنجيز لم يمكنه تنجيز الجامع وبالتالي تنجيز الفرد الآخر؛ لأنّ جزء العلّة غير كاف في التأثير.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ شأنه الإجابة على كلا هذين السؤالين، وهو في نفس الوقت هو الأمر الثاني الذي وعدنا فيما سبق بتعليقين بذكره هنا والذي يكون شاهداً على أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) لا يقصد في المقام تنجّز الجامع بالعلم ثمّ سريان التنجّز إلى الأفراد من باب سريان أعراض الكلّيّ إلى أفراده؛ وذلك لأنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) وغيره معترفون في موارد سريان أعراض الكلّيّ إلى أفراده بأنّ تحوّل العلّة إلى جزء علّة بلحاظ بعض الأفراد، لا لنقص في العلّة، بل للالتقاء صدفة بعلّة اُخرى انصبّت على ذاك الفرد مع بقائه في حدّ ذاته علّة تامّة لا يمنع عن تماميّة التأثير بالنسبة لفرد آخر، ولذا لم يناقش أحد في أنّه لو اجتمع حكمان متماثلان، كوجوب إكرام العالم، ووجوب إكرام الهاشميّ على مادّة الاجتماع، وهو العالم الهاشميّ، وأصبح كلّ منهما جزء علّة لوجوب مؤكّد في هذا الفرد، أو قل: أصبح كلّ من الملاكين جزء علّة للحبّ في الفرد الذي كان مادّة للاجتماع لم يضرّ ذلك بتماميّة التأثير بلحاظ الأفراد الاُخرى غير مادّة الاجتماع؛ لأنّ العلّة لم تبتلِ بنقص في ذاتها.

فالظاهر: أنّ مقصود المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ كما مضى فيما قبل هذا التعليق بتعليقين ـ هو أنّ العلم الإجماليّ ينجّز الواقع أو الصورة الإجماليّة، والواقع إنّما يكون قابلاً للتنجيز إن