25

الأمارات الترخيصيّة:

ثمّ إنّ موارد الأمارات الترخيصيّة يكون المرجّح الاحتماليّ والمحتمليّ كلاهما ثابتاً فيها، وليس الثابتُ خصوص المرجّح الاحتماليّ الذي أوجب أماريّة الأمارة. والدليل على ذلك اُمور:

أوّلاً: أنّنا لا نحتمل الفرق بين موارد الأخبار المرخّصة وموارد الشبهات التي


واستظهار اُستاذنا الشهيد من مثل قوله: «فاسمع له وأطعه، فإنّه الثقة المأمون» كون موضوع الحجّيّة هو قوّة الاحتمال شاهدٌ ثالث على حمل كلامه على المعنى الصحيح، فإنّ هذا الاستظهار إنّما يتمّ بناءً على إلحاق قوّة المحتمل من ناحية غلبة الصدق بقوّة الاحتمال. أمّا لو جعلت قوّة الاحتمال أمراً في مقابل أكثريّة الأخبار الصادقة من الكاذبة، فهذه العبارة وأمثالها لا تعيّن الاُولى في مقابل الثانية؛ إذ لو كان المقصود أنّ الوثوق أو الأمانة باعتباره سبباً واضحاً في نظر العقلاء لقوّة الاحتمال يكون أخذه في الموضوع دالّاً عرفاً على أنّ المقياس هو قوّة الاحتمال. قلنا: إنّ الوثوق أو الأمانة سببٌ واضحٌ أيضاً لغلبة الصدق في الخبر من حيث الكمّ على الكذب.

ولو كان المقصود: أنّ هذا الحديث يشمل بإطلاقه فرض انحصار خبر الثقة بخبر واحد مثلاً، وفي هذا الفرض ليس الوثوق إلاّ سبباً لقوّة الاحتمال لا للترجيح الكمّيّ بغلبة الصدق. قلنا: لو سلّمنا تماميّة الإطلاق بالنسبة لفروض خياليّة من هذا القبيل بعيدة عن طبيعة وضع العالم من دون وجود ارتكاز خاصّ يتمّم الإطلاق لقلنا في خصوص المقام: إنّ الإطلاق غير تامّ؛ لأنّ احتمال كون الوثوق أو الأمانة إشارة إلى ما يستلزمه في الوضع الحقيقيّ الخارجيّ من الترجيح الكمّيّ بغلبة الصدق يكون صالحاً للقرينيّة على عدم هذا الإطلاق.

26

لم يرد فيها خبر، بأن تكون الأغراض الترخيصيّة في موارد تلك الشبهات أهمّ، ولا تكون في موارد تلك الأخبار أهمّ.

وثانياً: أنّ دليل أصالة البراءة شامل لمورد الأخبار المرخّصة على ما هو مختارنا من أنّ حكومة الأمارة على الأصل إنّما هي في مورد التخالف بينهما لا في مورد التطابق.

وثالثاً: أنّ نفس دليل حجّيّة الخبر ظاهر في أنّه جعل الخبر حجّة لتغيير الوظيفة ـ أي: أنّ الوظيفة بقطع النظر عن حجّيّته وأماريّته تكون هي الرجوع إلى الاُصول الفوقانيّة ـ وإنّما جعل الخبر حجّة لأنّ ذلك قد يغيّر الوظيفة، كما لو كان الأصل ترخيصيّاً والخبر إلزاميّاً، إذن فالوظيفة في الخبر الترخيصيّ بقطع النظر عن أماريّة الخبر وما يشتمل عليه من المرجّح الاحتماليّ هي الرجوع إلى البراءة، وهذا دليل على ثبوت المرجّح المحتمليّ لجانب الترخيص.

ورابعاً: أنّنا إذا استظهرنا من الدليل أنّ مصلحة مّا اقتضت أن يجعل المولى تشريعه وفق حالة مولىً لا يعلم الغيب(1)، ولذا وصلت النوبة إلى جعل الأمارة، إذن فكأنّه غير عالم بأنّه من باب الصدفة وجدت الترخيصات الأهمّ كمّاً أو كيفاً في غير موارد الخبر لا في الأخبار المرخّصة.

 

نتائج الفهم الخاطئ للأمارات والاُصول

المقدّمة الرابعة: أنّ الاتّجاه السائد في العصر الثالث من عصور علم الاُصول الذي دقّق في التفرقة ما بين الأصل والأمارة هو الاتّجاه الذي تمسّك بالقشر وتناسى اللبّ، ففرض أنّ الفرق بين الأمارة والأصل يكون على أساس ما هو



(1) قد مضى في التعليق السابق النقاش في هذا الاستظهار.

27

المجعول في عالم إنشاء الحكم. وقد بيّنّا أنّ الفرق الواقعيّ إنّما هو في طريقة إعمال قوانين باب التزاحم، وأنّ ألسنة الحكم لا تجعل شيئاً أمارة أو أصلاً، غاية الأمر أنّ اللسان قد يختلف بحسب المناسبة نتيجة لما عرفته من الفرق الواقعيّ الثبوتيّ، ومن الممكن أن لا يختلف. وأعلى مراتب هذا الاتّجاه السائد تحقّق على يد المحقّق النائينيّ(قدس سره)ومدرسته، فذكر: أنّ الفرق بين الأمارات والاُصول هو أنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة والعلم والكاشفيّة، وفي باب الاُصول هو الجري العمليّ والبناء العمليّ، فجعل هذه الألسنة روح الفرق، بينما هي مجرّد ألسنة.

وهذا الخلط بين مقام الثبوت والإثبات ترتّبت عليه عدّة مطالب في الاُصول، فجعل بعض الأشياء المترتّبة على الفرق الثبوتيّ آثاراً للفرق الإثباتيّ، مع أنّها في الواقع آثار للفرق الثبوتيّ، وبعض الأشياء التي هي آثار لصياغتين للسان دليل الحجّيّة فرض آثاراً للأمارة والأصل بما هما أمارة وأصل. وفيما يلي نذكر نموذجاً من الفوارق التي ذكروها بين الأمارات والاُصول بالشكل المشتمل على ما ذكرناه من الخلط:

 

1 ـ حول المثبتات:

الفرق الأوّل: ما استقرّ عليه بناء الفقهاء في العصر الثالث منذ عصر الشيخ الأعظم(قدس سره)وقُبيله إلى أيّام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)من أنّ مثبتات الأمارات حجّة، ومثبتات الاُصول ليست بحجّة، فجُعِل هذا الفرق في كلام من فلسف ذلك من لوازم فرق بين الأمارة والأصل لا يعدو في واقعه أن يكون من الفوارق الصياغيّة والشكليّة، وأوصل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هذا الاتّجاه إلى آخره، وبرهن على ذلك: بأنّ أماريّة الأمارة تكون بكون المجعول فيها هو العلم، ومن الواضح أنّ العلم بشيء يستلزم العلم بلوازمه. وأمّا في باب الأصل فالمجعول هو الجري العمليّ،

28

ولا يلزم من الجري العمليّ على طبق الأصل الجري العمليّ على لوازمه.

وجاء السيّد الاُستاذ ورأى أنّ هذا البرهان غير صحيح؛ لأنّ العلم التعبّديّ بشيء لا يستلزم العلم التعبّديّ بلوازمه، كما يستلزم العلم الوجدانيّ بشيء العلم الوجدانيّ بلوازمه، وإنّما يكون ثبوت اللوازم وعدمه تابعاً لإطلاق دليل الاعتبار للّوازم وعدمه، فأنكر هذا الفرق بين الأمارة والأصل.

وتحقيق صحّة هذا الفرق وعدمه يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الأصل المثبت في الاستصحاب، وإنّما المقصود هنا: أنّ الفرق ـ بناءً على صحّته ـ مرتبط بجوهر الفرق بين الأمارة والأصل، لا بكون اللسان في الاُولى جعل العلم وفي الثانية جعل الجري العمليِّ مثلاً، فالواقع أنّ إعمال قوانين باب التزاحم من قِبل المولى بين أغراضه في مقام حفظها التشريعيّ بالحكم الظاهريّ إن كان بلحاظ ما للأمارة من حظّ من الكاشفيّة التكوينيّة، فهذه الكاشفيّة نسبتها إلى المدلول المطابقيّ والالتزاميّ على حدّ سواء، فإن تكن هذه الكاشفيّة هي المرجّحة في مقام الحفظ فنسبة هذا الترجيح إليهما على حدّ سواء، فبعد فرض الفراغ عن الإيمان بأنّ الأحكام الظاهريّة طريقيّة محض، وليست ناشئة من مصالح في أنفسها، أو مصالح زائدة على ملاكات الواقع في متعلّقاتها، وإنّما هي وليدة لقوانين التزاحم بين ملاكات الواقع فحسب، وعدم الإيمان بمثل السببيّة، والفراغ عن عدم وجود نكتة نفسيّة أثّرت في جعل الحجّيّة لأمارة مّا، وأنّ ملاك حجّيّة الخبر مثلاً إنّما هو قوّة الكشف، يكون هذا أساساً لحجّيّة مثبتات الأمارات، ويأتي تحقيقه في محلّه إن شاء الله، وهذا بخلاف الاُصول، ففي بعض الشبهات إن كان جانب الإباحة أهمّ بنظر المولى من جانب الحرمة مثلاً، فَجَعَل البراءة لا تلزم من ذلك أهمّيّة لوازم تلك الإباحات من لوازم تلك الحرمات. هذا هو الذي أوجب بحسب الحقيقة ارتكاز حجّيّة مثبتات الأمارات دون الاُصول في العصر الثالث.

29

 

2 ـ الأماريّة عند الشكّ:

الفرق الثاني: ما يقال من أنّه في فرض الشكّ لا يتصوّر جعل الحجّيّة الأماريّة، كما صرّح بذلك الشيخ الأعظم(قدس سره)(1). وصرّح به أيضاً المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(2). وفلسفه أيضاً على طريقته بأنّ الشكّ نسبته إلى الطرفين على حدّ سواء، فكيف يفرض جعله كاشفاً وعلماً بالنسبة لأحد الطرفين دون الآخر؟

وأورد عليه المحقّق العراقيّ والسيّد الاُستاذ: بأنّه لا موجب لاشتراط إفادة الأمارة للظنّ؛ لأنّ الملحوظ في باب الأمارات هو الطريقيّة الاعتباريّة، واعتبار العلم أمر سهل المؤونة.

لكنّ الصحيح: أنّ هذا الفرق إنّما يرتبط بالفارق الجوهريّ بين الأمارة والأصل، حيث إنّه في الأمارة قد فرض الترجيح بواسطة الاحتمال، وإذا كانت نسبة الكاشفيّة إلى الطرفين على حدّ سواء لم يعقل هذا الترجيح، وهذا بخلاف الأصل الذي يكون الترجيح فيه بلحاظ المحتمل(3).



(1) راجع الرسائل، أوّل مبحث الشكّ، ص 190 بحسب الطبعة المحشّاة بتعليقة (رحمت الله).

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 7 و 100، وج 4، ص 224.

(3) قد يقال: إنّ هذا الكلام يتوقّف على فرض كون الحجّيّة للأمارة على أساس قوّة الاحتمال بالمعنى المقابل للترجيح الكمّيّ للصدق على الكذب. أمّا على ما اخترناه من إلحاق الترجيح الكمّيّ للصدق على الكذب بقوّة الاحتمال، وإمكان جعله ملاكاً في حجّيّة الأمارة، فهذا يتصوّر في فرض الشكّ أيضاً؛ وذلك لأنّ المعتبر في الترجيح الكمّيّ إنّما هو الترجيح الكمّيّ عند المولى لا الترجيح الكمّيّ عند العبد؛ لأنّ المولى يلحظ

30

 

3 ـ أخذ الشكّ في موضوع الحجّيّة:

الفرق الثالث: ما ذكر من أنّ الأصل يؤخذ في موضوع حجّيّته الشكّ، بخلاف الأمارة. وهذا إن اُريد به أنّ حجّيّة الأمارة لا يؤخذ في موضوعها الشكّ بحسب عالم الجعل فهذا غير معقول؛ لأنّ فرض عدم أخذ الشكّ في موضوعها هو فرض إطلاقها وشمولها لفرض العلم بخطئها، وهذا محال، فلابدّ أن يكون نظرهم في التفرقة إلى أنّه في دليل الأمارة لم يؤخذ الشكّ، وفي دليل الأصل اُخذ الشكّ. وهذا المطلب إن أردنا أن نعبّر عنه بعبارة واضحة قلنا: إنّ الشكّ اُخذ بنحو القرينة المتّصلة في دليل الأصل، واُخذ بنحو المخصّص اللبّيّ في دليل الأمارة بلحاظ حكم العقل باستحالة شمول الحجّيّة لفرض العلم بالخطأ.

وأنت ترى أنّ مثل هذا مربوط بلسانين لدليل الحجّيّة، وليس مربوطاً بالأمارة


حساب تزاحم أغراضه في الحفظ في نظره لا في نظرنا، فقد تكون الأمارة المفيدة للشكّ نوعاً عندنا أقرب إلى الصدق منها إلى الكذب عند المولى لغلبة صدقها على كذبها في علم المولى.

ولكنّ الواقع: أنّ ما في المتن يتمّ حتّى على إلحاق الترجيح الكمّيّ للصدق بقوّة الاحتمال؛ وذلك لأنّ المولى لو أخبرنا بأنّ هذه الأمارة صدقها غالب في علمه على كذبها، إذن تصبح مورثة للظنّ لنا لا الشكّ، وإلاّ فهذه الحجّيّة لا تفيد فائدة الأمارة؛ لأنّنا لا نعلم أنّ حجّيّتها كانت على أساس الترجيح الكمّيّ كي نتعدّى إلى اللوازم، فالمقصود من الترجيح بقوّة الاحتمال وبالكمّ في الصدق الذي جعلناه مقياساً لأماريّة الأمارة، إنّما هو الترجيح المفهوم لنا لا الترجيح المفهوم عند المولى المخفيّ علينا.

31

والأصل، ولو فرض تماميّة ذلك في دليل الأمارة والأصل فإنّما هو على سبيل الصدفة والاتّفاق، لا أنّ أماريّة الأمارة تكون بعدم أخذ الشكّ في موضوعها، وأصليّة الأصل تكون بأخذ الشكّ في موضوعهِ، فلو فرض أنّ شخصاً لم يثبت حجّيّة خبر الواحد إلاّ بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾ لم ينقلب على هذا الأساس من الأمارة إلى الأصل. نعم هذه الخصوصيّات الاتفاقيّة في لسان الدليل قد تنفع في مقام تقديم أحد الدليلين على الآخر، فلو بُني مثلاً على أنّ دليل الأمارة ودليل الاستصحاب كلاهما متكفّلان لجعل الطريقيّة، لكنّ الأوّل لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، والثاني اُخذ فيه الشكّ، فقد ينفع ذلك في تقديم الأوّل على الثاني.

 

4 ـ حكومة الأمارات على الاُصول:

الفرق الرابع: ما حقّقوه من حكومة الأمارات على الاُصول؛ لأنّ الأصل اُخذ في موضوعه الشكّ، والأمارة ترفع موضوعه لكونها علماً بالتعبّد.

والصحيح: أنّ الأمارة بما هي أمارة ليست حاكمة على الأصل بما هو أصل، وإنّما الحكومة ترتبط بلسان جعل الحجّيّة، فقد يقدّم أحد اللسانين على الآخر لسوقه مساق رفع موضوع الآخر، وقد لا تكون أمارة مّا حاكمة على أصل مّا، كما لو بيّنت الأمارة بغير اللسان المناسب للحكومة كجعل الطريقيّة وإلغاء احتمال الخلاف، ومع ذلك تكون هذه أمارة وذاك أصلاً، وهذه مثبتاتها حجّة بخلاف ذاك.

والخلاصة: أنّ هناك فروقاً بعضها مربوط بجوهر أماريّة الأمارة وأصليّة الأصل، واُضيف اشتباهاً إلى سنخ اللسان، حيث تخيّل أنّ الفارق اللسانيّ هو الفارق الجوهريّ، وذلك كالأوّلين، وبعضها مربوط باللسان، واُضيف إلى الجوهر بتخيّل أنّ اللسان والجوهر شيء واحد كالأخيرين.

32

 

الفرق بين الاُصول العقليّة وغيرها

المقدّمة الخامسة: أنّ الفارق الجوهريّ الذي ذكرناه بين الأصل والأمارة إنّما كان نظرنا فيه إلى الاُصول الشرعيّة، فإنّها هي التي تكون كالأمارة نتيجة لإعمال قوانين باب التزاحم وتفترق عنها في كيفيّة إعمالها، وأمّا الاُصول العقليّة فليست نتيجةً لإعمال قوانين باب التزاحم، وترجيح بعض الأغراض على بعض، فإنّ هذا وظيفة المولى لا وظيفة العقل، والعقل ليس من شأنه التشريع، وإنّما مرجعها إلى دائرة حقّ الطاعة سعةً وضيقاً، وهذا فرق جوهريّ بين الاُصول العقليّة من ناحية، والأمارات والاُصول الشرعيّة من ناحية اُخرى، فالاُولى مردّها إلى دائرة حقّ الطاعة، والثانية مردّها إلى تشريعات مولويّة على أساس إعمال قوانين باب التزاحم في دائرة الحفظ والمحرّكيّة. وهذا الفرق يستوجب تقديم الأمارات والاُصول الشرعيّة ذاتاً على الاُصول العقليّة وورودها عليها، لكون حكم العقل في ذلك معلّقاً على عدم مجيء تقرير آخر من قِبل الشارع، فمجيء ذلك من قِبله يرفع تكويناً موضوع حكم العقل.

 

الاُصول التنزيليّة

المقدّمة السادسة: أنّ الأصحاب قسّموا الاُصول العمليّة الشرعيّة إلى الاُصول التنزيليّة وغير التنزيليّة، وفرّقوا بينهما بعبارات مختلفة. وحاصل ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الفرق بينهما هو: أنّ الاُصول التنزيليّة لوحظ فيها الواقع كما هو الحال في الأمارة لكن لا بلحاظ الحكاية عن الواقع الخارجيّ، بل بلحاظ البناء العمليّ والجري على طبقه، حيث إنّ للعلم شؤوناً أربعة:

1 ـ الكيفيّة النفسانيّة.

2 ـ حكايته عن الواقع الخارجيّ.

3 ـ اقتضاؤه للبناء العمليّ على طبقه، فالعطشان إذا علم بوجود ماء في مكان

33

كذا طبّقَ جريهُ في مقام العمل على طبق علمه.

4 ـ التنجيز والتعذير، فلو كان وجود الماء في مكان كذا موضوعاً لحكم شرعيّ كان علمه بذلك منجّزاً لذلك الحكم مثلاً.

والشأن الأوّل مختصّ بالعلم، ولا معنى لجعله لغير العلم.

والشأن الثاني مجعول تعبّداً في باب الأمارات.

والشأن الثالث مجعول تعبّداً في باب الاُصول التنزيليّة.

والشأن الرابع مجعول في الاُصول غير التنزيليّة لا بمعنى كون المجعول ابتداءً هو المنجّزيّة والمعذريّة، بل المجعول حكم تكليفيّ يترتّب عليه التنجيز والتعذير(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الفرق بين الشأن الثالث والشأن الرابع من شؤون العلم بالنحو الذي يفترض الأصل تارةً ملحقاً بالعلم في ذاك الشأن، واُخرى ملحقاً به في هذا الشأن غير واضح، فإنّه إن كان المقصود بالجري العمليّ وفق العلم هو الجري العمليّ الشخصيّ المستقلّ عن التنجيز والتعذير، والذي قد يكون على خلاف متطلّبات التنجيز والتعذير؛ إذ قد يكون شخص مّا لو علم أنّ المائع الفلانيّ خمر، لكان تأثير العلم في نفسه في مقام البناء والجري العمليّ أنّه سيشربه رغم تنجيز الحرمة عليه، فمن الواضح أنّ المولى لا يجري الأصل مجرى العلم في هذا الشأن الثالث، بأن يقول لشارب الخمر مثلاً: لو شككت في بقاء المائع على خمريّته فاشربه، وإن كان المقصود به الجري العمليّ وفق ما يتطلّبه التنجيز والتعذير، فهذا رجوع إلى الشأن الرابع، ولا يتصوّر قيام الأصل تارةً مقام الشأن الثالث للعلم، واُخرى مقام الشأن الرابع.

أمّا المستفاد ممّا ورد في تقرير بحث المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو أنّ للعلم شؤوناً ثلاثة ـ وهي الشؤون الثلاثة الاُول ـ وأنّ الأمارات جعلها الشارع علماً بلحاظ الشأن الثاني، وأنّ الاُصول التنزيليّة جعلها الشارع علماً بلحاظ الشأن الثالث، وأنّ الاُصول العمليّة غير

34


التنزيليّة أعطاها الشارع أيضاً التنجيز والتعذير، لكن لا بلسان جعلها علماً كما كان الأمر في الاُصول التنزيليّة، وإنّما بمجرّد لسان حكم تكليفيّ طريقيّ يؤدّي إلى التنجيز والتعذير(1)، وأنّ هذا سبب في حكومة الاُصول التنزيليّة على الاُصول العمليّة غير التنزيليّة؛ لأنّ الاُصول التنزيليّة فرضت علماً تعبّداً بلحاظ مستوىً من المستويات، فرفعت موضوع الاُصول العمليّة غير التنزيليّة.

والواقع: أنّ هذا البيان أيضاً لا يرجع إلى محصّل معقول؛ لأنّ الغاية في الاُصول غير التنزيليّة إنّما هي العلم بما لها من مرتبة الكشف، والتي هي حقيقة العلم، كما هو الحال في التنزيليّة، وليست الغاية فيها مجرّد العلم وبلحاظ الشأن الثالث، حتّى إذا فرض إثبات ذلك تعبّداً للاُصول التنزيليّة تصبح حاكمة على الاُصول غير التنزيليّة.

هذا، مضافاً إلى أنّ الدليل على التفريق بين الأمارات والاُصول التنزيليّة بجعل الأمارات علماً في الشأن الثاني ـ وهو الكشف ـ والاُصول التنزيليّة علماً في الشأن الثالث الذي هو اقتضاء الجري العمليّ مفقود، عدا القول بأنّ الأمارات بما أنّ لها حظّاً من الكشف كانت قابلة لتتميم الكشف تعبّداً، بخلاف الاُصول التنزيليّة التي ليس لها حظّ من الكشف.

وهذا جوابه: أنّ اعتبار الكشف تعبّداً سهل المؤونة، ومادمنا نتكلّم على مستوى ألسنة الدليل لا فرق من هذه الناحية بين الأمارة والأصل التنزيليّ الذي جعل علماً تعبّداً، ولا



(1) راجع فوائد الاُصول، الجزء الثالث، ص 7 بحسب منشورات مكتبة المصطفوي، والجزء الرابع، ص 223 ـ 224 وأيضاً ص 255.

35

أقول: حاصل هذا الكلام هو التفرقة بين الاُصول التنزيليّة وغير التنزيليّة فيما هو المجعول في المقام. وهذه الفكرة في نفسها صحيحة، وهي كون مردّ الفرق إلى عالم الجعل والاعتبار، وليس الفرق بينهما فرقاً جوهريّاً، وإنّما هو فرق عنائيّ، والعناية التي بها يكون الأصل تنزيليّاً أحد أمرين غير ما أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره):

الأوّل: اعتبار الكاشفيّة في الأصل التنزيليّ. ولا أقصد بذلك جعل الكاشفيّة والطريقيّة بالمعنى الذي يقول به المحقّق النائينيّ(قدس سره)، بل أقصد بذلك أنّه كما كان جعل الحجّيّة في باب الأمارة بلحاظ ما لها من الكشف الظنّيّ، كذلك يفرض الشارع أنّ الاستصحاب من هذا القبيل، فاليقين السابق بالرغم من عدم كاشفيّته ولو كشفاً ناقصاً وظنّيّاً يفرض الشارع أنّه كاشف وأمارة، فيجعل له الحجّيّة، فكأنّ نكتة جعل الحجّيّة له كانت هي ما فيه من الكشف، كما هو الحال في الأمارة، والكشف كان ثابتاً في الأمارة حقيقة. أمّا هنا فقد فرضه الشارع ادّعاءً وعنايةً ـ أي: فرضه أمارة فحكم عليه بالحجّيّة ـ ولهذا يقول: (ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ)، فكأنّه يقول: إنّه مع وجود الأمارة على المطلب وهو اليقين السابق لا ينبغي للإنسان ترك هذا اليقين السابق لأجل ما طرأ من الشكّ. وهذا القسم من الأصل التنزيليّ مصداقه الاستصحاب(1).

 


مبرّر لحمل الثاني على إعطاء الشأن الثالث من شؤون العلم إيّاه بخلاف الأوّل.

وقد تحصّل: أنّ التفكيك بين الأصل التنزيليّ والأصل العمليّ غير التنزيليّ بالوجه الذي ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا أساس له.

(1) وقد يترتّب على ذلك تقدّمه على الأصل غير التنزيليّ؛ لأنّه فرض علماً، فرفع بذلك تعبّداً موضوع الأصل العمليّ على نقاش في ذلك موكول إلى بحث الاستصحاب.

36

الثاني: اعتبار كون مؤدّى الأصل هو الواقع فيصبح ذلك الأصل تنزيليّاً، كما هو الحال في أصالة الطهارة في قوله: (كلّ شيء طاهر)، فإنّ الظاهر من قوله: (طاهر) أنّه طاهر بالمعنى الذي يقابل القذر الذي جعل العلم به غاية لذلك في قوله: (حتّى تعلم أنّه قذر) وذلك القذر واقعيّ، فالمقصود بالطاهر هو الطاهر الواقعيّ لا الطاهر الظاهريّ، فهو إنشاءٌ للطهارة الواقعيّة تعبّداً، وهذا أيضاً نحو من العناية لها فائدتها في مقام الاستنباط؛ إذ بناءً على هذا ترتّب آثار الطهارة الواقعيّة على محتمل الطهارة، بخلاف ما إذا كان اللسان لسان جعل طهارة ظاهريّة على محتمل الطهارة، فإنّه عندئذ لا يترتّب عليه إلاّ أثر الجامع بين الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، لا أثر خصوص الطهارة الواقعيّة(1). وكذلك الكلام في أصالة الحلّ في قوله: (كلّ



(1) فمثلاً لو شككنا في نجاسة ذاتيّة لشيء مّا، وأجرينا بشأنه أصالة الطهارة، ثمّ لاقى نجساً بالرطوبة، فعلمنا إجمالاً بأنّه بعد الملاقاة نجس. إمّا بالنجاسة الذاتيّة، أو بالنجاسة العرضيّة، ثمّ غسلناه بالماء، فشككنا في زوال النجاسة؛ إذ لو كان نجساً بالنجاسة الذاتيّة فهو لا زال نجساً، ولو كان نجساً بالنجاسة العرضيّة فقد طهر، فهل نجري هنا استصحاب النجاسة، أو نحكم بطهارته؟ جواب ذلك مبنيّ على أن نرى أنّ أصالة الطهارة هل هي أصل غير تنزيليّ ومجرّد حكم بالطهارة الظاهريّة، أو أصل تنزيليّ وحكم بالطهارة الواقعيّة تعبّداً؟ فعلى الأوّل يجري في المقام استصحاب النجاسة؛ لأنّ أصالة الطهارة كانت مغيّاة بالعلم بالنجاسة، وقد حصلت الغاية فانقطعت أصالة الطهارة، وبعد الشكّ في بقاء النجاسة يجري لا محالة استصحابها، وعلى الثاني نحكم بطهارة هذا الشيء بعد غسله بالماء؛ إذ من آثار الطهارة الواقعيّة أنّ الشيء الطاهر لو لاقى نجساً تنجّس بالنجاسة العرضيّة، ولو غسل بعد ذلك بالماء زالت عنه النجاسة، وقد لاقى هذا الشيء الذي ثبتت طهارته الواقعيّة تعبّداً النجاسةَ، ثمّ غسل بالماء فقد زالت نجاسته.

37

شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام)(1)، وهذابخلاف أصالة البراءة في قوله: (رفع ما لا يعملون)؛ إذ ليست فيها هذه العناية، فلا تكون أصلاً تنزيليّاً.

 

حصر البحث في الاُصول الأربعة

المقدّمة السابعة: أنّهم تعرّضوا في الاُصول العمليّة لاُصول أربعة: البراءة، والاشتغال، والتخيير، والاستصحاب، ومن هنا تكلّم بعضهم في أنّه ما هو وجه اختصاص البحث بهذه الاُصول الأربعة مع وجود اُصول اُخرى غيرها؟ ومحطّ الإشكال على حصر الكلام في هذه الأربعة تارةً هي الاُصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة، واُخرى هي الاُصول الجارية في الشبهات الحكميّة.



(1) ويترتّب على ذلك ـ كما جاء في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول(1) ـ أنّ أصالة الإباحة (بناءً على تنزيليّتها) تثبت طهارة مدفوع الحيوان الذي أثبتنا إباحة لحمه بأصالة الإباحة مثلاً، بخلاف ما لو لم تكن تنزيليّة.

وذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث الاستصحاب تفسيراً ثالثاً للأصل التنزيليّ ـ وهو أن يكون الأصل التنزيليّ هو الأصل الذي لوحظ فيه الترجيح الاحتماليّ والمحتمليّ معاً ـ كما قد يقال بذلك في قاعدة الفراغ، وذكر(رحمه الله) في الحلقة الثالثة(2): أنّه يترتّب على هذا بعض الآثار من قبيل عدم شمول القاعدة لموارد انعدام الأماريّة والكشف نهائيّاً، وبه يثبت شرط الأذكريّة في قاعدة الفراغ، وقد سمّى(رحمه الله) الأصل في الحلقة الثالثة(3) في التفسير الثاني ـ وهو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ بالأصل التنزيليّ، وفي التفسير الأوّل والثالث بالأصل المحرز.


(1) ص 16 و 17.

(2) ص 18.

(3) ص 16 ـ 18.

38

أمّا الاستشكال بلحاظ الاُصول في الشبهات الموضوعيّة كقاعدة اليد، والفراغ، والتجاوز، والفراش، وأصالة الصحّة ـ بناءً على أنّها من الاُصول ـ فالجواب عن ذلك واضح، كما بيّن في كتب الاُصول؛ وذلك لخروجها عن علم الاُصول الدخيل في عمليّة استنباط الحكم الفرعيّ الكلّيّ، فإنّ الأصل الجاري في الشبهات الموضوعيّة ليس كذلك، فإنّه يثبت الأحكام الجزئيّة بحسب جريانه في كلّ واقعة واقعة، بخلاف هذه الاُصول الأربعة. أمّا البراءة والتخيير والاشتغال فواضح. وأمّا الاستصحاب فيكون كذلك بناءً على القول بجريانه في الشبهات الحكميّة.

وأمّا الاستشكال بلحاظ الاُصول الحكميّة فلم يمثّل لها في كلماتهم إلاّ بأصالة الطهارة الجارية في الشكّ بنحو الشبهة الحكميّة، وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّه لعلّ عدم ذكر أصالة الطهارة يكون لأجل اختصاصها بباب، وعدم جريانها في سائر الأبواب، أو لأجل وضوحها وعدم الكلام والخلاف فيها(1).

وصرّح بعض أكابر تلامذته: بأنّ عدم جريان أصالة الطهارة في سائر الأبواب هو الداعي إلى عدم ذكرها وإخراجها من علم الاُصول(2).

أقول: تارةً يتكلّم في كون أصالة الطهارة بحسب الحقيقة من علم الاُصول وعدمه، واُخرى يتكلّم في نكتة عدم ذكرهم للاُصول الحكميّة غير الاُصول الأربعة بناءً على كون غير الاُصول الأربعة أيضاً من علم الاُصول:

أمّا الكلام الأوّل: فقد يقال: إنّه بناءً على كون علم الاُصول هو العلم بالعناصر



(1) راجع الكفاية، ج 2، أوّل بحث الاُصول العمليّة، ص 165 و 166 بحسب الطبعة التي تشتمل على تعليقة المشكينيّ.

(2) لم أعرف بقدر فحصي الناقص من يعلّل إخراج أصالة الطهارة من علم الاُصول بعدم جريانها في سائر الأبواب.

39

المشتركة تكون أصالة الطهارة من علم الاُصول؛ إذ ليست مختصّة بمادّة دون اُخرى، إلاّ في طول ضيق ذاتيّ في نفس الصورة والحكم، وهو الطهارة التي لا تقبل إلاّ التعلّق بالأعيان دون الأفعال. وقد يقال: إنّ مجرّد عدم أخذ التقييد بمادّة مّا لا يكفي في إدخال المسألة في علم الاُصول، بل لابدّ أيضاً من سريان ذلك العنصر في أبواب الفقه، وعدم اختصاصه بباب واحد، وإلاّ أصبح منطق ذلك الباب لا منطق الفقه، وأصالة الطهارة من هذا القبيل لاختصاصها بباب الطهارة.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ أصالة الطهارة معناها التعبّد بترتيب آثار الطهارة التي منها جواز الأكل والشرب، ومنها جواز الوضوء والتيمّم، ومنها جواز الصلاة فيه، ومنها جواز بيعه بناءً على اشتراط الطهارة في البيع، ونحو ذلك، فأصبحت سارية في أبواب الفقه، ولكن مع هذا المناسب جعل أصالة الطهارة منطق كتاب الطهارة لا الفقه.

والتحقيق في المقام: أنّ أصالة الطهارة خارجة عن علم الاُصول، لاختصاصها ببعض الموادّ، لا في طول عدم قابليّة الحكم للشمول ذاتاً. وتوضيح ذلك: أنّ الطهارة التي هي حكم وضعيّ إن قلنا بانتزاعها عن الأحكام التكليفيّة، فالطهارة منتزعة عن حلّيّة الأكل والشرب، وجواز الوضوء والصلاة، ونحو ذلك، ومن الواضح أنّ منشأ الانتزاع مختصّ ببعض الموادّ دون بعض لا من باب عدم قابليّته للشمول، فأصالة الطهارة معناها بحسب الروح أصالة حلّيّة خصوص الأكل والشرب، وجواز خصوص الوضوء والصلاة مثلاً، وهذا يعني أنّها ليست من قبيل دلالة الأمر على الوجوب عنصراً مشتركاً، بل تختصّ ببعض الموادّ دون بعض.

وإن قلنا بتأصّلها قلنا: إنّ روح أصالة الطهارة ليست عبارة عن ثبوت ذاك الأمر الواقعيّ المسمّى بالطهارة حقيقة، وإنّما هي عبارة عن التعبّد بآثار تلك الطهارة، وهي حلّيّة الأكل والشرب، وجواز الوضوء والصلاة مثلاً، فالكلام هنا هو الكلام

40

على الفرض الأوّل، إلاّ أنّه على الفرض الأوّل تكلّمنا في منشأ انتزاع الطهارة، وهنا نتكلّم في آثار الطهارة.

وأمّا الكلام الثاني: فليس الإشكال في الحقيقة منحصراً بالنقض بما ذكروه من أصالة الطهارة التي عرفت عدم ارتباطها ببحث الاُصول، بل يمكن إضافة أصالة عدم النسخ التي نقل الشيخ الأعظم(قدس سره) في مبحث الاستصحاب (على ما أتذكّر) دعوى الإجماع عليها بعنوانها في قبال استصحاب عدم النسخ(1)، أو أصالة الإطلاق في لسان الدليل.

والظاهر أنّ الذي يطّلع على تأريخ المسألة بالنحو الذي حقَّقناه يعرف النكتة في الاقتصار على هذه الاُصول الأربعة في تأريخ علم الاُصول، فإنّ فكرة الأصل العمليّ لم تنشأ بهذا النحو الكامل منذُ وجد علم الاُصول، وإنّما الاُصول العمليّة نشأت شعبة من شعب الأدلّة العقليّة، وفقهاء الشيعة الذين كانوا يتمسّكون بالأصل العمليّ كانوا يتمسّكون بالاُصول العمليّة العقليّة، ويعتبرونها من الأدلّة العقليّة، حتّى أنّ الاستصحاب كانوا يحكمون بحجّيّته من باب العقل، ولم يذكر أحد منهم الاستدلال بالأخبار على حجّيّة الاستصحاب إلاّ المتأخّرون، وأوّل من ذكر الاستدلال بها على ذلك والد الشيخ البهائيّ(رحمه الله). فالعقل في نظرهم تارةً يستقلّ بالبراءة، واُخرى بالاحتياط، وثالثة بالتخيير، ورابعة بالاستصحاب، ومن الواضح أنّ أصالة الطهارة وأصالة عدم النسخ ونحو ذلك ليست من الأحكام العقليّة، ولم يتوهّم أنّها أحكام عقليّة حتّى تذكر أيضاً تحت عنوان الدليل العقليّ، وحتّى حينما حقّقت فكرة الأصل وميّز ما بينها وبين فكرة الأمارة على يد الاُستاذ الوحيد(قدس سره)بقي أيضاً تصنيف علم الاُصول بهذا النحو، وكانت تذكر الاُصول الأربعة تحت



(1) لم أجد شيئاً من هذا القبيل في الرسائل في فحصي الناقص.

41

عنوان الدليل العقليّ، وأوّل من غيّر تصنيف الاُصول وأقامه على أساس هذه الفكرة الجديدة للأصل هو الشيخ الأعظم(رحمه الله). ولمّا غيّر التصنيف لم يكثّر في العدد، بل اتّبع نفس طريقتهم، فالاقتصار على هذه الأربعة مرتبط بتأريخ المسألة وتطوّر الفكر العمليّ للمسألة، وغير مربوط بنكتة من النكات الدقيقة لنبحث عنها إلى أن نكتشفها.

هذه تمام المقدّمات التي ينبغي أن تذكر في المقام، وبعد ذلك ندخل في صميم المطلب، ونبدأ بأصالة البراءة، والكلام فيها يقع في مقامين:

الأوّل: في البراءة العقليّة.

والثاني: في البراءة الشرعيّة.

 

43

الاُصول العمليّة

2

 

 

أصالة البراءة

 

 

○ البراءة العقليّة.

○ البراءة الشرعيّة.

 

 

 

 

45

أصالة البراءة

1

 

 

البراءة العقليّة

 

○ نظريّة قبح العقاب بلا بيان.

○ نظريّة حقّ الطاعة.

○ تأريخ البراءة العقليّة.

○ مناشئ الالتزام بالبراءة العقليّة.

 

 

 

 

47

 

 

 

 

أمّا المقام الأوّل: فيقع فيه البحث عن البراءة العقليّة.

نظريّة قبح العقاب بلا بيان:

والمعروف بين محقّقي العصر الثالث من عصور علم الاُصول عدم الخلاف في حكم العقل بالبراءة، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذه القاعدة بحسب الحقيقة تحتلّ مركزاً أساساً في التفكير الاُصوليّ في هذا العصر الثالث، بل يمكن أن نعتبر هذه القاعدة أحد الركنين الأساسين اللذين قام عليهما التفكير الاُصوليّ في هذا العصر في باب الأدلّة العقليّة، والركن الآخر مضايف هذه القاعدة وهي قاعدة حسن العقاب مع البيان التي مرجعها إلى حجّيّة القطع، فإنّ الفكر الاُصوليّ في هذا العصر افترض أوّلاً: أنّ مولويّة المولى شيء مفروغ عنه، وأنّ المولويّة سنخ حقيقة واحدة لا زيادة فيها ولا نقصان مفروغ عن ثبوتها لمولانا تبارك وتعالى. وبعد فرض ذلك يتكلّم في أنّ هذا المولى هل يكون القطع بتكاليفه وأحكامه حجّة أو لا، فأجابوا بالإيجاب، وفرضوا أنّ هذه الحجّيّة من اللوازم الذاتيّة ـ بالمعنى الذي يذكر في كتاب البرهان ـ للقطع بما هو كشف تامّ وإن اختلفوا في أنّه هل هي من لوازم الماهيّة كالزوجيّة بالنسبة للأربعة، أو من لوازم الوجود كالحرارة بالنسبة للنار؟

 

48

وترتّب على ذلك منطقيّاً القاعدة المضايفة لقاعدة حجّيّة القطع ـ وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ إذ لمّا كانت الحجّيّة من ذاتيّات القطع بما هو كاشف تامّ، فبانعدام الكشف التامّ تنعدم الحجّيّة لا محالة، ولا معنى لكون ذاتيّ شيء ثابتاً في ذات شيء آخر، ومعنى انعدام الحجّيّة هو كون العقاب قبيحاً؛ لأنّ العقاب بلا حجّة قبيح، فبهذا ترتّبت القاعدة الثانية، وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومن هنا التزموا بأنّ الظنّ يستحيل أن يكون حجّة من دون جعل؛ لأنّ حجّيّته بنفسه خلف قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتخصيص لها، وتخصيص القانون العقليّ غير معقول، وحصول غير الذاتيّ بلا سبب أيضاً غير معقول.

وتفرّع على ذلك في تفكيرهم الاُصوليّ أنّهم حاروا في أنّه كيف تصبح الأمارات منجّزة مع أنّها ليست إلاّ ظنوناً، واللابيان الذي فرض موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ثابت عندها. وتخصيص القاعدة العقليّة محال. وثبوت غير الذاتيّ بلا سبب محال. ومن هنا التزموا بأنّ الأمارات قد جعلت فيها البيانيّة والطريقيّة، ونشأت من هنا مباني جعل الطريقيّة والكاشفيّة بعرضها العريض الذي تكلّم عنه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وغيره من المحقّقين، كلّ ذلك لأجل أن يقولوا: إنّ منجّزيّة الأمارة تكون من باب رفع موضوع القانون العقليّ، ومن باب التخصّص لا التخصيص؛ لأنّ الشارع جعل الأمارة كاشفاً تامّاً، وعلماً، فلا محذور في تنجّز الواقع به. وتحيّروا بنحو أشدّ في باب الاُصول التي لا يقال فيها بجعل العلم والبيان(1)، حتّى أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)ذهب إلى أنّ العقاب عند وجوب الاحتياط



(1) نعم، قال المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الاُصول التنزيليّة: إنّها جعلت علماً بلحاظ الشأن الثالث من شؤون العلم، فلو كفى هذا لرفع اللابيان، وقلنا بأنّ المستفاد من (لا تنقض اليقين) التعبّد بالكاشفيّة، فماذا يقال في الاُصول العمليّة غير التنزيليّة؟!

49

الشرعيّ يكون على نفس ترك الاحتياط لا على ترك الواقع؛ لعدم بيان الواقع.

ونشأ من فكرة جعل الأمارة علماً وكاشفاً تامّاً تخيّل أنّ التفرقة بين الأمارات والاُصول إنّما هي في اللسان. ورتّبت على هذا ما رتّبوها على الفرق بين الأمارات والاُصول كحكومة الأمارات على الاُصول إلى غير ذلك من الآثار المنبثّة في المباحث العقليّة.

 

نظريّة حقّ الطاعة:

وهذا المنهج لتحقيق هذه المطالب باطل أساساً، فإنّنا بحسب الحقيقة يجب أن نتكلّم في الرتبة السابقة في حدود نفس المولويّة التي فرضوها غير قابلة للزيادة والنقصان، وأمراً محدّداً غير مشكّك، فقالوا: إنّه متى ما ثبتت هذه الحقيقة غير المشكّكة ترتّب على ذلك قانونان: حجّيّة القطع، وعدم حجّيّة الاحتمال، ونحن نقول: إنّ المولويّة أمر مشكّك، وتحقيق حالها هو الذي يتحكم في كلّ هذه الاُمور، فإنّ معنى المولويّة إنّما هو ثبوت حقّ الطاعة، وحقّ الطاعة قد يفرض ثبوته في الأحكام المقطوعة والمشكوكة معاً، فلا يبقى مجال لقبح العقاب بلا بيان؛ إذ ترك التكليف المشكوك عندئذ مخالف للحقّ، والعقاب على مخالفة الحقّ ليس قبيحاً، وقد يفرض اختصاصه بقسم خاصّ من الأحكام المقطوعة ـ وهو ما يهتمّ بها المولى اهتماماً شديداً، أو ما تتوقّف عليه حياة المولى مثلاً ـ فلو حصل القطع بحكم ليس في تلك الدرجة من الأهمّيّة لا يكون حجّة. ولا يصحّ أن يقال: إنّ الحجّيّة ذاتيّة للقطع فلا تنفكّ عنه، فإنّ هذا قلب لجوهر المسألة، وإنّما المسألة مسألة المولويّة، فلا حجّيّة القطع قاعدة برأسها، ولا قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة برأسها فضلاً عمّا تفرّعت عليهما من الآثار المنبثّة في التفكير الاُصوليّ.

وخلاصة الكلام: أنّ المولويّة تتصوّر بأنحاء كثيرة ودرجات مختلفة، فلو اُريد