238

ولكن هذا الإشكال إن كان صحيحاً ـ وهو القريب جدّاً ـ كان معنى ذلك أنّ العرف يرى في المقام العدم متعدّداً كما قلنا، فعدم تكليف الصغير شيء، وعدم تكليف الكبير شيء آخر، فإن تمّ هذا لم يضرّ بالنتيجة المطلوبة في المقام؛ لأنّ العدمين كلاهما كانا ثابتين من قبل، وكان أحدهما وهو عدم التكليف الصغير من باب السالبة بانتفاء المحمول، والآخر وهو عدم تكليف الكبير من باب السالبة بانتفاء الموضوع والعدم الأزليّ، ولئن لم يمكن استصحاب الأوّل ـ لما عرفته من إشكال تبدّل الموضوع والقطع بانتهائه ـ فاستصحاب الثاني لا عيب فيه، إذن فنحن نجري استصحاب عدم تكليف الكبير الثابت في حال الصغر بانتفاء موضوعه كما في الكبير الذي يفرض أنّه خلق في ساعته كبيراً، فإنّه يجري فيه استصحاب عدم التكليف عليه الثابت قبل وجوده بنحو العدم ا لأزليّ، ومسبوقيّته بالصغر لا تجعله أسوأ من فرض كونه ابن ساعته.

 

ب ـ بلحاظ ما قبل الشريعة:

الوجه الثاني: استصحاب عدم الجعل الثابت قبل الشريعة.وهنا أيضاً توجد عدّة إشكالات:

الأوّل والثاني: ما مضى من الإشكالين الأوّلين على الوجه الأوّل، وقد عرفت جوابهما أيضاً.

الثالث: ما يشبه الإشكال الثالث على الوجه الأوّل، وهو أنّ المتيقّن هو عدم الجعل بعدم أصل الشريعة، وهذا هو العدم المحموليّ، والمشكوك هو العدم النعتيّ فلا يجري الاستصحاب.

ويرد عليه: أنّه إن اُريد بذلك أنّ استصحاب العدم المحموليّ لا يثبت النعتيّة

239

واستناد العدم إلى الشارع، فهذا مسلّم(1)، لكنّنا لا نقصد إثبات النعتيّة، ويكفي في الأمن ذات العدم بقطع النظر عن نعتيّته وعدمها. وإن اُريد أنّ العدم المحموليّ فرد من العدم حصل القطع بانقطاعه، والعدم النعتيّ فرد آخر نشكّ في أصل ثبوته مقارناً لانقطاع العدم المحموليّ، فيكون الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، ورد عليه ما مضى من أنّ العدم لا يتفرّد بتعدّد الملاك، فعدم الجعل شيء واحد تارةً يكون من باب عدم الشريعة رأساً، واُخرى يكون من باب إقرار الشارع العدم على حاله مع ثبوت الشريعة لعدم تماميّة علّة الجعل.

الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّ استصحاب عدم الجعل في المقام، واستصحاب الجعل في غير المقام مثبت؛ إذ الأثر لا يترتّب على نفس الجعل، وإنّما يترتّب الأثر على الفعليّة والمجعول الذي يتحقّق بتحقّق الموضوع، ولذا لا أثر لجعل وجوب الحجّ على المستطيع بالنسبة للمكلّف، ولا يُلزم بالحجّ إلاّ بواسطة تحقّق المجعول وفعليّة الحكم بالنسبة له بصيرورته مستطيعاً، فإن اُريد باستصحاب الجعل أو عدمه مجرّد إثبات الجعل، أو نفيه من دون استطراق إلى إثبات المجعول أو نفيه لم يكن له أثر، وإن اُريد استصحاب ذلك استطراقاً إلى إثبات المجعول أو نفيه كان مثبتاً(2).



(1) وأمّا ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ نفس الاستصحاب يثبت النعتيّة؛ إذ يجعل العدم منتسباً إلى الشارع(1)، فقد عرفت النقاش فيه في التعليق السابق.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 296، وفوائد الاُصول، ج 4، ص 60.


(1) مصباح الاُصول، ج 2، ص 289.

240

وهذا الإشكال يذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في كلّ موارد استصحاب عدم الجعل، وبه يَحلّ مشكلة معارضة استصحاب المجعول باستصحاب عدم الجعل في باب الاستصحاب في الشبهة الحكميّة (1).

والسيّد الاُستاذ ينكر مثبتيّة استصحاب عدم الجعل(2)فيوقع المعارضة بينهما، ولهذا لا يقول بالاستصحاب في الشبهة الحكميّة.

وقد رأيت في الدراسات هنا(3) في مقام دفع إشكال المثبتيّة فيما نحن فيه، ما حاصله هو القول بما نقول به من أنّ المجعول ليس له وجود زائد على الجعل، وليس عندنا في المقام إلاّ جعل وموضوع، وإذا تمّ الجعل والموضوع ترتّب على ذلك لزوم الامتثال، وإنّما لا يترتّب الأثر العمليّ بمجرّد الجعل؛ لأنّ الأثر بحاجة إلى وجود الموضوع أيضاً، لا لأنّه بحاجة إلى وجود المجعول.

ومن هنا يقع السيّد الاُستاذ في ضيق، حيث إنّه لو التزم بأنّه ليس هناك إلاّ الجعل والموضوع، إذن فما هو استصحاب المجعول الذي يراه في نفسه جارياً وفاقاً للمشهور؟ وإنّمايخالف المشهور في إسقاطه بالمعارضة لاستصحاب عدم الجعل (ومن هنا كنّا نبني فترةً من الزمن على عدم جريان استصحاب المجعول في الشبهات الحكميّة في نفسه) ولو التزم بأنّ هناك جعلاً وموضوعاً ومجعولاً يتحقّق عند تحقّق الموضوع فإشكال المثبتيّة يأتي في المقام، فكيف يجري استصحاب عدم الجعل لأجل نفي المجعول؟ فيحتاج السيّد الاُستاذ إلى مبنىً بحيث يتصوّر فيه جعلاً ومجعولاً حتّى يجري استصحاب المجعول في نفسه، ولكن يقع طرفاً



(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 409، وفوائد الاُصول، ج 4، ص 164.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 3، ص 46.

(3) وهذا موجود أيضاً في مصباح الاُصول، ج 2، ص 290.

241

للمعارضة ويتصوّر جريان استصحاب عدم الجعل بلا مثبتيّة.

ونحن في بحث الاستصحاب سوف نتكلّم ـ إن شاء الله تعالى ـ في كيفيّة جريان استصحاب المجعول في الشبهات الحكميّة بنحو يظهر أنّ استصحاب المجعول يجري، وأنّه لا يعارض هناك باستصحاب عدم الجعل، وأنّ استصحاب عدم الجعل هنا ليس مثبتاً(1).

الخامس: ما ذكره السيّد الاُستاذ كما ورد في الدراسات، وهو معارضة استصحاب عدم جعل التكليف باستصحاب عدم جعل الإباحة(2).

وأجاب عليه بوجهين:

الأوّل: أنّه لا مانع من إجراء كلا الاستصحابين؛ لعدم أدائه إلى المخالفة القطعيّة؛ إذ العلم الإجماليّ ليس علماً بالتكليف على كلّ تقدير، بل هو علم بأحد الأمرين: التكليف والإباحة، ويكفي للأمن نفي التكليف، ولا حاجة إلى إثبات الإباحة(3).



(1) لأنّ التنجيز يترتّب عقلاً على ثبوت مجموع أمرين وجداناً أو تعبّداً أو بالتلفيق وهما الجعل وتحقّق الموضوع، وليس المجعول شيئاً وراء الجعل. نعم، نفس الجعل قد ينظر إليه بنظر الحمل الشائع فيُرى جعلاً يمكن استصحاب عدم الجزء الذي شكّ منه، واُخرى ينظر إليه بنظر الحمل الأوّليّ فيُرى مجعولاً يوجد في زمانه في فترة مستمرّة فيجري استصحاب المجعول، ولا معنى لجريان الاستصحابين معاً؛ إذ لا معنى لافتراض أنّ العرف ينظر إلى الجعل بكلا النظرين، فإن كان العرف ينظر إليه بالنظر الدقّيّ الفلسفيّ وبالحمل الشائع جرى استصحاب عدم الجعل دون استصحاب المجعول، وإن كان ينظر إليه بالمسامحة العرفيّة وبالحمل الأوّليّ جرى استصحاب المجعول دون استصحاب عدم الجعل، وبما أنّ الصحيح هو أنّ العرف ينظر إليه بالنظر المسامحيّ وبالحمل الشائع إذن فاستصحاب المجعول يجري من دون معارضته باستصحاب عدم الجعل.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 290.

(3) راجع المصدر السابق، ص 291.

242

ويرد عليه: أنّ هذا لا يتمّ على مبناه من قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعيّ، فالحكم المستصحب يمكن إسناده بعنوان الحكم الواقعيّ إلى المولى؛ إذ موضوع جواز الإسناد هو العلم بكونه منه، والاستصحاب يقوم مقام هذا العلم، إذن فالاستصحابان في المقام يؤدّيان إلى جواز إسناد كلا العدمين إلى المولى وهو غير جائز، لعدم جواز إسناد ما علم بكذبه إليه، وهنا نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، والعلم الإجماليّ كاف أيضاً في الحرمة، ومقدار الجامع واصل إلينا ومنجّز علينا، فيبطل الاستصحاب في كلا الطرفين؛ لأدائهما إلى المخالفة القطعيّة. وأتذكّر أنّ السيّد الاُستاذ كان يقع في ضيق من ناحية أنّه هل يعدّل مبناه، أو يعدّل هذه التفريعات.

ثمّ إنّه لو فرض قطع النظر عن هذه النكتة التي ذكرناها لا وجه لجريان كلا الاستصحابين في نفسه بقطع النظر عن المعارضة، وإنّما يجري استصحاب عدم التكليف فقط دون استصحاب عدم الإباحة؛ إذ لا أثر له، فكان ينبغي له بقطع النظر عن تلك النكتة أن يجيب على الإشكال، بأنّ استصحاب عدم الإباحة غير جار في نفسه ثمّ يقول بعنوان التنزّل: ولو جرى لم يعارض استصحاب عدم الحرمة.

والثاني: أنّ استصحاب عدم الإلزام حاكم على استصحاب عدم الإباحة؛ إذ الإباحة التي وقعت أحد طرفي العلم الإجماليّ ليست هي الإباحة الخاصّة بعنوان خاصّ، بل هي الإباحة العامّة الموضوعة على عنوان (كلّ ما لم يجعل فيه الإلزام)، فإنّ هذه الإباحة تظهر من الأخبار كما ورد من ردعه(صلى الله عليه وآله) أصحابه عن كثرة السؤال في الحجّ وما ورد من قوله(صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)(1).



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 290 و 291 ولم يرد فيه الاستشهاد بقوله(صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، ولا يحضرني كتاب الدراسات.

243

أقول: من المعلوم أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على مقصوده، وأيّ علاقة لقوله: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) بذلك؟! سواء قلنا: إنّ المقصود الإتيان بالأفراد المقدورة أو قلنا: إنّ المقصود الإتيان بالأجزاء المقدورة، وبأيّ نحو فسّرنا هذا الحديث فهو أجنبيّ عمّا نحن فيه، والنهي عن كثرة السؤال لعلّه كان باعتبار أنّ الأغراض المولويّة ما لم تحرّك المولى نحو البيان لا يجب امتثالها، ولا يجب السؤال عنها، وإذا سُئل عنها فقد يكون نفس السؤال موجباً لتتميم ملاك البيان فيبيّن، فيجب عليهم الامتثال، فيتورّطون في المعصية مثلاً، لعدم تعوّدهم بعدُ على الطاعة وعدم انصهارهم بعدُ في الإسلام، فنهاهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن السؤال ولو إرشاداً إلى عدم وجوب السؤال حتّى لا يأتي البيان ويضيق الأمر عليهم.

وكان الأولى أن يستدلّ بحديث: (اسكتوا عمّا سكت الله عنه). وإن كان يرد عليه ـ لو كان قد استدلّ بهذا ـ: أنّ السكوت عنوان ثبوتيّ منتزع لا يثبت باستصحاب عدم الإلزام.

وعلى أيّة حال، فلا داعي لنا للدخول في تفاصيل الكلام هنا؛ إذ أصل هذا البحث مبنيّ على فرض الإباحة أمراً وجوديّاً، لكنّها ليست إلاّ عبارة عن عدم الإلزام، غاية الأمر أنّ عدم الإلزام تارةً يبيّن بإنشاء مستقلّ، واُخرى يبيّن بعدم بيان الإلزام، ولا معنى لفرض استصحاب عدم الإلزام معارضاً لاستصحاب عدم الإباحة.

 

ج ـ بلحاظ ما قبل الشرائط الخاصّة:

الوجه الثالث: استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقّق الأمر الخاصّ الذي يحتمل تحقّق التكليف به، كأن يستصحب بعد زوال الجمعة عدم وجوب صلاة الجمعة الثابت قبل الزوال.

244

وهذا الوجه أبعد عن الإشكال من الوجهين السابقين؛ لأنّ جملة من الإشكالات المتوهّمة فيما مضى لا تأتي هنا.

ولا بأس بهذا الاستصحاب متى ما لم تكن الخصوصيّة التي زالت من الخصوصيّات المقوّمة للموضوع.

أمّا إذا كانت تلك الخصوصيّة من الخصوصيّات المقوّمة للموضوع فحال هذا الشخص قبل زوال تلك الخصوصيّة حاله قبل البلوغ، ونتمسّك بشأنه باستصحاب العدم الأزليّ.

 

استصحاب البراءة في الشبهات الموضوعيّة:

بقي هنا شيء، وهو: أنّ الاستصحاب المتمسّك به في المقام هل يجري في الشبهات الموضوعيّة كما يجري في الشبهات الحكميّة أو لا؟ مثلاً لو شكّ في وجوب الحجّ للشكّ في الاستطاعة، وفرضنا عدم إمكان التمسّك بالاستصحاب الموضوعيّ الجاري عادةً في الشبهات الموضوعيّة لمانع منع عن الاستصحاب الموضوعيّ فحسب دون الاستصحاب الحكميّ، كما لو تواردت الحالتان على الاستطاعة، فكان مستطيعاً في حين وغير مستطيع في حين آخر، ولم يكن الحكم مصبّاً لتوارد الحالتين، وافترضنا أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الاستطاعة الباقية لا الاستطاعة ولو بوجودها السابق. وبكلمة مختصرة: افترضنا عدم جريان الأصل الموضوعيّ لنكتة تخصّها فاحتجنا إلى الأصل الحكميّ، فهل يجري عندئذ استصحاب عدم الحكم أو لا؟

لا إشكال في تأتّي الوجه الأوّل والثالث من وجوه استصحاب عدم التكليف، فإنّ الشبهة وإن كانت موضوعيّة ولكن الحكم بوجوده في عالم الفعليّة ينحلّ إلى أحكام عديدة بعدد الموضوعات، ويقع الشكّ في هذا الفرد من الحكم فيستصحب عدمه.

245

وإنّما الإشكال في الوجه الثاني الذي اُريد فيه استصحاب عدم الجعل، لا استصحاب عدم المجعول، وقرّب في الدراسات الإشكال، بأنّ جعل وجوب الحجّ على كلّيّ المستطيع لا شكّ في ثبوته، وجعل وجوب الحجّ على خصوص هذا الشخص بعنوان مخصوص لا شكّ في عدم تحقّقه، فأيّ شيء يستصحب؟ وأجاب عنه بأنّ الحكم انحلاليّ ينحلّ بعدد أفراد الموضوع، فالشكّ في فرد زائد يستتبع الشكّ في جعل زائد يستصحب عدمه(1).

ويرد عليه: أنّ التعدّد والانحلال الحاصل بتعدّد الموضوع إنّما هو في عالم المجعول بالعرض وفعليّة الحكم الذي يتحقّق بتحقّق الموضوع. وأمّا الجعل الثابت في نفس المولى على موضوع كلّيّ فهو شيء واحد عرفاً وعقلاً، والمفروض أنّ حدوث الفرد في الخارج إنّما يوجب في ذاته تعدّد المجعول وفعليّة الحكم لا بما هو معلوم للمولى، فقد يتّفق حدوث الفرد من دون علم المولى به، أو مع غفلة المولى عن أصل الجعل ويوجب تكثّر المجعول وفعليّته، في حين أنّه يستحيل أن يؤثّر أمر خارجيّ في ذاته ومن دون علم المولى به في عالم نفس المولى.

والخلاصة: أنّ الانحلال ليس في مرحلة الجعل التي هي عالم المجعول بالذات وإنّما هو في مرحلة التطبيق التي هي عالم المجعول بالعرض.

ومن هنا نقول: إنّ ما يقوله السيّد الاُستاذ من كون استصحاب المجعول دائماً معارضاً باستصحاب عدم الجعل لو تمّ فإنّما يتمّ في الشبهات الحكميّة دون الشبهات الموضوعيّة؛ إذ ليس فيها جعل زائد حتّى يستصحب عدمه.

هذا تمام الكلام فيما ينبغي ذكره من الأدلّة على البراءة بالدرجة النافية لوجوب الاحتياط المنافية لأخبار الاحتياط إن تمّت في نفسها.



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 291.

246

 

7 ـ أحاديث في مستوى البراءة العقليّة:

بقي الكلام فيما يمكن أن يستدلّ من الأخبار على البراءة في درجة قاعدة قبح العقاب بلا بيان المحكومة لأدلّة الاحتياط إن تمّت. وما وجدناه في ذلك أربعة أحاديث:

الحديث الأوّل: ما ذكره الكلينيّ(رحمه الله) في الكافي من حديث حمزة بن الطيّار، وقد روى ذلك بسندين:

فتارةً روى عن محمّد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيّار، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «إنّ الله احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم»(1).

واُخرى روى عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيّار، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال لي: «اكتب»، فأملى عليّ: «إنّ من قولنا: إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ثمّ أرسل إليهم رسولاً وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى، أمر فيه بالصلاة والصيام، فنام رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن الصلاة فقال: أنا اُنيمك وأنا اُوقظك، فإذا قمت فصلّ ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون، ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك، وكذلك الصيام أنا اُمرّضك وأنا اُصحّك، فإذا شفيتك فاقضه»، ثمّ قال أبو عبد الله(عليه السلام): «وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق ولم تجد أحداً إلاّ ولله عليه الحجّة، ولله فيه المشيئة، ولا أقول: إنّهم ما شاؤوا صنعوا»، ثمّ قال: «إنّ الله يهدي ويضلّ»، وقال: «وما اُمروا إلاّ بدون سعتهم، وكلّ شيء اُمر الناس به فهم



(1) اُصول الكافي، ج 1، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة، ح 1، ص 162 و 163.

247

يسعون له، وكلّ شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم، ولكن الناس لا خير فيهم» ثمّ تلا(عليه السلام): ﴿ليْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَج﴾ فوضع عنهم ﴿مَا عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِن سَبِيل وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾قال: «فوضع عنهم لأنّهم لا يجدون»(1).

وتقريب الاستدلال بالجملة المقصودة وهي قوله: «إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم» أنّ ظاهره هو أنّ ميزان الاحتجاج هو الإيتاء والتعريف، ولو احتجّ وعاقب من دون إيصال التكليف، ولا إيصال إيجاب الاحتياط، لكان احتجاجاً من دون إيتاء وتعريف. أمّا لو احتجّ بإيصال إيجاب الاحتياط فهو احتجاج بميزان الإيتاء والتعريف، وإن لم يوصل التكليف فإنّ ما به الاحتجاج واصل وإن لن يصل ما بلحاظه الاحتياط، ودعوى شمول الإيتاء والتعريف في المقام ـ لحكم العقل بأصالة الاحتياط ـ خلاف المتفاهم العرفيّ. هذا إذا لاحظنا هذه الجملة منفردة.

وأمّا إذا لاحظناها ضمن الكلام المفصّل الوارد في سندها الثاني فقد يشكل في المقام الاستدلال بها؛ إذ يقال: إنّه(عليه السلام) عقّب هذه الجملة بقوله: «ثمّ أرسل إليهم رسولاً...»، وظاهر ذلك أنّ قانون عدم المؤاخذة بلا بيان هو قانون ما قبل إرسال الرسل، ونحن نريد تقرير براءة شرعيّة بعد إرسال الرسل لدفع ما يحتمل صدور بيانه من قِبل المولى، دون ما لا يحتمل بيانه لعدم إرسال الرسل مثلاً، فيكون الحديث أجنبيّاً عمّا نحن فيه.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّ احتمال كون المقصود الترتيب الزمانيّ خلاف الظاهر، لما وقع في هذه العبارة من ذكر المرتّب عليه بصيغة المضارع والمرتّب بصيغة



(1) اُصول الكافي، ج 1، باب حجج الله على خلقه، ح 4، ص 164 و 165.

248

الماضي، بل الظاهر أنّ الترتيب هنا يكون بلحاظ البدء بذكر تسهيل عامّ، وهو عدم الاحتجاج بما لم يعرّفهم، وعقّب ذلك بذكر تسهيلات اُخرى خاصّة، كالتسهيل بلحاظ النوم عن الصلاة، والتسهيل بلحاظ المرض الذي يضرّ معه الصوم، فبنكتة كون ذلك تسهيلاً جزئيّاً وما قبله تسهيلاً عامّاً عطف الثاني على الأوّل بـ «ثمّ»، فكأنّ الثاني متأخّر في المرتبة والأهمّيّة من الأوّل(1).

ثمّ إنّ هذا الحديث ينقص مفاده عن نتيجة قبح العقاب بلا بيان في أمرين:

أحدهما: عدم شموله للشبهة الموضوعيّة.

والثاني: أنّه بناءً على قبح العقاب بلا بيان يكون العلم الإجماليّ منجّزاً للجامع فحسب مع بقاء الخصوصيّة تحت الأمن، ولكن هذا الحديث لا يدلّ عرفاً على



(1) قد يحمل الحديث على معنىً يحتفظ فيه على ظهور «ثمّ» في الترتيب الزمانيّ، وهو أن يقال: إنّ قوله: «ثمّ أرسل إليهم رسولاً..» ليس عطفاً على قوله: «يحتجّ على العباد»، بل عطف على النتيجة المفهومة من قوله: «آتاهم وعرّفهم»، أي: ليس عطفاً على «آتاهم وعرّفهم» بما هو صلة الموصول، ولكنّه عطف على مجرّد معنى «آتاهم وعرّفهم»، فيدلّ على أنّ إرسال الرسل كان بعد الإيتاء والتعريف، وهذا يعني أنّ المقصود بالإيتاء والتعريف هو الإيتاء والتعريف العقليّان بلحاظ التوحيد مثلاً ومولويّة المولى، وعليه فالحديث بسنده الثاني يكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه. وأمّا الحديث بسنده الأوّل فإن جزمنا بوحدته مع الحديث الثاني وأنّ المقصود بابن الطيّار فيه هو حمزة فقد خرج أيضاً عن محلّ البحث، وإن احتملنا أنّ ابن الطيّار فيه هو محمّد وهو أبو حمزة، أو احتملنا تعدّد الرواية رغم وحدة الراوي فأيضاً يمكن أن يقال: إنّ الحديث الثاني مفسّر للحديث الأوّل وناظر إليه؛ لما ورد فيه من قوله: «إنّ من قولنا: إنّ إلله يحتجّ على العباد...»، أي: أنّ هذا الكلام الذي يصدر منّا أحياناً المقصود به هذا المعنى المفهوم من هذا الشرح، فيصبح الحديث أيضاً أجنبيّاً عن المقام.

249

الأمن من الخصوصيّة في مورد العلم الإجماليّ، فلا يقال عرفاً: إنّه لم يُؤت بالواقع، وإنّما اُوتي الجامع بينه وبين غيره، بل يقال: اُوتي الواقع إجمالاً. هذا تمام الكلام من حيث دلالة الحديث.

وأمّا من حيث السند فلا إشكال فيه بلحاظ من وقع قبل حمزة بن الطيّار، ولكن حمزة بن الطيّار لم تثبت وثاقته.

الحديث الثاني: ما في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام): مَن لم يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال: «لا»(1).

وتفصيل الكلام في هذا الحديث: أنّ قوله: (مَن لم يعرف) إن حمل على ملاحظة المعرفة بنحو المعنى الاسميّ ـ أي: بلحاظ الآثار المترتّبة على نفس المعرفة ـ كان المقصود المعرفة بالأشياء التي تطلب في الشريعة نفس المعرفة بها من قبيل المعرفة بالله وبالرسول وبالجنة والنار، وعندئذ لابدّ من حمل الحديث على القاصر؛ إذ المقصّر والملتفت الشاكّ في مثل وجود الله أو في الرسول ليس معذوراً في ترك المعرفة قطعاً، ويكون الحديث أجنبيّاً عمّا نحن فيه؛ لأنّ محلّ الكلام ليس هو هذه المعرفة، بل الكلام فيما إذا لم يعرف حكماً عمليّاً تكليفيّاً.

ولكن الظاهر من الحديث ليس هو هذا المعنى، بل الظاهر منه ملاحظة المعرفة بنحو المعنى الحرفيّ والطريقيّة إلى ما تعلّقت به، فإنّ مثل كلمة (المعرفة) متى ما استعملت تكون ظاهرة في معنى الطريقيّة ما لم تكن نكتة أو قرينة تمنع عن ذلك، على الخصوص إنّ الاُمور المطلوب معرفتها قليلة، بخلاف الأحكام التكليفيّة التي تكون المعرفة إليها طريقاً إلى ترتيب آثارها، وإطلاق كلمة (شيئاً) هنا لا يناسب ضيق دائرة تلك الأشياء.



(1) اُصول الكافي، ج 1، باب حجج الله على خلقه، ح 2، ص 164.

250

هذا وكلمة (شيء) يحتمل أنّها لوحظت بنحو الإطلاق البدليّ ـ أي: من لم يعرف شيئاً واحداً ـ كمن لم يعرف الصلاة وإن عرف باقي الأشياء، أو لم يعرف الصوم وهكذا، ويحتمل أنّها لم تطعّم بمعنى النكرة وأن يحمل الكلام على الإطلاق الاستغراقيّ ـ أي: من لم يعرف جميع الأشياء ـ وسوف يظهر أنّ حمل كلمة (شيئاً) على المعنى الأوّل، أو المعنى الثاني لا يؤثّر سلباً أو إيجاباً في دلالة الحديث على المقصود.

وقوله: (هل عليه شيء؟) يحتمل أن يكون سؤالاً عن الوظيفة العمليّة ـ أي: أنّه هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟ ـ ويحتمل أن يكون سؤالاً عن المرتبة المتأخّرة عن مقام العمل من المسؤوليّة وترتّب العقاب وعدمه، فبما أنّ عدم المعرفة يستبطن ارتكاز عدم ترتيب الأثر، فكأنّه طعّم قوله: (مَن لم يعرف شيئاً) معنى عدم العمل، أي: مَن لم يعرف شيئاً فلم يعمل شيئاً هل عليه شيء؟

فعلى الاحتمال الأوّل يكون الحديث دالّاً على البراءة بالدرجة النافية لإيجاب الاحتياط؛ لأنّ المفروض هو السؤال عن إيجاب الاحتياط، وقد جاء الجواب بالنفي، فهذا دليل على نفي إيجاب الاحتياط حتّى إذا حملنا قوله: (شيئاً) على الإطلاق الاستغراقيّ، فإنّ إيجاب الاحتياط خارج عن هذا الاستغراق بقرينة أنّ السؤال إنّما هو عن إيجاب الاحتياط، فالحديث أجنبيّ عن ما هو المقصود من البراءة التي هي بمستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعلى الاحتمال الثاني يكون الحديث دالّاً على المقصود من البراءة في مرتبة قاعدة قبح العقاب بلا بيان حتّى إذا حملنا قوله: (شيئاً) على الإطلاق البدليّ. أمّا على الإطلاق الاستغراقيّ فالأمر واضح لشمول الإطلاق لنفس إيجاب الاحتياط. وأمّا على الإطلاق البدليّ فأيضاً نقول: إنّ نفي التبعة قد اُخذ في موضوعه عدم وصول وجوب الاحتياط إليه؛ إذ لو كان قد وصله وجوب الاحتياط لم يكن عدم

251

علمه بحرمة شرب التتن مثلاً مستبطناً ارتكازاً لعدم اجتنابه لشرب التتن، وقد فرضنا في المقام أنّ عدم معرفته للشيء قد كنّي به عن عدم ترتيبه للأثر، وهذه الكناية إنّما تصحّ فيما إذا لم يعرف حرمة شرب التتن ولم يصله وجوب الاحتياط؛ إذ لو وصله وجوب الاحتياط لم يصحّ عرفاً القول بأنّه (لم يعرف فلم يعمل).

والظاهر من الحديث هو الاحتمال الثاني، فإنّ كلمة (على) في قوله: (هل عليه شيء) ظاهرة في المقام في إرادة معنى التبعة والمسؤوليّة دون السؤال عن مرحلة العمل(1).

هذا. وفرض شمول الشيء المنفيّ معرفته في الحديث لحكم العقل بأصالة الاحتياط أيضاً خلاف الظاهر، فإنّ هذا السؤال الموجّه إلى الإمام المبيّن للحلال والحرام ظاهره عرفاً هو السؤال عمّن لم يعرف شيئاً من الأحكام دون من لم يعرف ما يحكم به العقل في المقام.

وهذا الحديث أيضاً لا يشمل الشبهة الموضوعيّة(2) ولا الخصوصيّة في أطراف



(1) هذا ما أفاده في البحث. أمّا ما أفاده في خارج البحث في يوم آخر كشاهد على المعنى الثاني فهو تنكير كلمة (شيء) في قوله: (هل عليه شيء)، فإنّه يناسب فرض تصوّر أشياء عديدة في المقام لا تصوّر شيء واحد فقط، ولا يتصوّر في مقام الوظيفة العمليّة أن يكون عليه شيء إلاّ شيء واحد وهو الاحتياط. أمّا التبعة فتتصوّر فيها اُمور كثيرة، كالكفّارة، والإعادة، والتوبة، والعقاب ونحو ذلك.

(2) لأنّ الظاهر من هذا السؤال الموجّه إلى الإمام المبيّن للحلال والحرام هو السؤال عمّن لم يعرف شيئاً من الأحكام الفقهيّة الكلّيّة، خصوصاً إذا حمل قوله: (لم يعرف شيئاً) على الإطلاق الاستغراقيّ، فإنّ عدم المعرفة بنحو الاستغراق لا يتصوّر إلاّ إذا لوحظ الجهل بالأحكام الفقهيّة. أمّا من يعلمها فلا يتصوّر بشأنه الجهل المطلق بنحو الاستغراق بالأحكام الجزئيّة بلحاظ عدم معرفة الموضوعات.

252

العلم الإجماليّ(1).

هذا تمام الكلام في دلالة الحديث.

وأمّا سنده فجميع رواته موثّقون مشهود بوثاقتهم في كتب الشيخ والنجاشيّما عدا عبد الأعلى بن أعين، فإنّه غير مشهود بوثاقته في كتبهما، إلاّ أنّه مشهود بوثاقته وجلالته وعظم شأنه في كلام الشيخ المفيد(قدس سره)(2).

وما قد يناقش به في توثيق الشيخ المفيد وغيره من الفقهاء إذا كان في غير كتب الرجال من عدم حمله على الشهادة عن الحسّ لا يأتي في المقام؛ لأنّ شهادة الشيخ المفيد بشأن هذا الرجل شهادة مفصّلة وموضّحة لكونه من أولئك الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم، وأنّه من الأعلام الذين لا يرتاب في فقههم وعلمهم، وشهادة من هذا القبيل لا يستبعد حملها على الشهادة عن الحسّ(3).

 


(1) حتّى لو فرض حمل قوله: (لم يعرف شيئاً) على الإطلاق البدليّ؛ وذلك لأنّ العلم الإجماليّ وإن كان بالدقّة الفلسفيّة معرفة بالجامع دون الخصوصيّات، لكنّه بحسب الفهم العرفيّ يعتبر معرفة بالواقع على سبيل الإجمال.

(2) حيث ذكر عنه في الرسالة العدديّة: (هو من فقهاء أصحاب الصادقين(عليهما السلام)والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، والذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم، وهم أصحاب الاُصول المدوّنة والمصنّفات المشهورة).

(3) على أنّ أصل المناقشة كبرويّاً غير صحيحة وتوضيح ذلك:

إنّه إن قصد بالمناقشة الإشكال في الاعتماد على شهادة علمائنا المتأخّرين باعتبار عدم احتمال كونها شهادة عن حسّ، فيكون معنى جواب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في خصوص المقام هو أنّ شخصاً يفترض من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا

253


والأحكام... يحتمل في شهادة طبقة من المتأخّرين أيضاً بشأنهم كونها شهادة قرينة من الحسّ كما هو الحال في شهادة المتقدّمين؛ إذ كلّما عظم مقام شخص مّا في المجتمع واشتهر وذاع أكثر كانت المدّة التي يمكن للآخرين فيها الشهادة القريبة من الحسّ بشأنه أطول.

ولكنّك ترى أنّ هذا الإشكال بشأن شهادة الشيخ المفيد بالوثاقة غير صحيح في نفسه حتّى في غير مثل المورد، فإنّ الشيخ المفيد ليس من المتأخّرين بل هو أقدم من الشيخ الطوسيّ والنجاشيّ اللذين يعتمد على شهادتهما بوثاقة الرواة، وقد كانت حياته في أوائل عصر الغيبة الكبرى.

وإن قصد بالمناقشة أنّ الشهادة بالوثاقة إذا كانت في الكتب الرجاليّة تحمل على الحسّ، وأمّا إذا كانت في كتب اُخرى فلا، لعدم ظهور لها في الحسّ في تلك الكتب الاُخرى، وأصالة الحسّ إنّما تتّبع كشعبة من أصالة الظهور وليست أصلاً عقلائيّاً مستقلاًّ برأسه؛ لأنّ الاُصول العقلائيّة ليست تعبّديّة، وإنّما هي قائمة على أساس الكشف، فيكون الجواب في خصوص المورد: أنّ هذه الشهادة المفصّلة من الشيخ المفيد لا يحتمل فيها غير الحسّ، ولكن هنا أيضاً يكون أصل النقاش الكبروي في غير محلّه؛ وذلك لأنّه إن قصد به أنّ للكتب الرجاليّة خصوصيّة توجب ظهور الشهادة على الوثاقة فيها في الحسّ؛ لأنّ أصحاب كتب الرجال كانوا بهذا الصدد، وهذا بخلاف غيرها من الكتب، فمن الواضح أنّه لا خصوصيّة في الكتب الرجاليّة بهذا الشأن، وإنّما تنشأ أصالة الحسّ من ظهور خبر المخبر بشكل عامّ في إرادة الشهادة الحسّيّة من دون فرق بين كتب الرجال وغيرها.

وإن قصد به أنّ للكتب الفقهيّة خصوصيّة تمنع عن انعقاد الظهور في إرادة الحسّ في

254


الشهادة على الوثاقة؛ لأنّ الكتب الفقهيّة مبنيّة على استنباط الفتاوى واستخراجها بالحدس والاجتهاد، ومن الواضح أنّ الاجتهاد كما قد يعمل في تشخيص دلالة الحديث مثلاً على المدّعى، أو في كيفيّة الجمع والتعادل والترجيح ونحو ذلك، كذلك قد يعمل في تشخيص صحّة السند ووثاقة الراوي وعدم وثاقته، فكلّ هذا دخيل في الفتوى المستنبطة.

أقول: إن قصد بالنقاش في المقام هذا المعنى ورد عليه:

أوّلاً: أنّ شهادة الشيخ المفيد بوثاقة هذا الرجل وإن لم ترد في كتاب رجالي، ولكنّها لم ترد أيضاً في كتاب فقهيّ مبنيّ على الاستنباط والاجتهاد، وإنّما وردت في رسالته العدديّة، وقد عرفت أنّه لا خصوصيّة للكتب الرجاليّة في جريان أصالة الحسّ، وإن كانت خصوصيّة في المقام، فإنّما هي خصوصيّة للكتب الفقهيّة تمنع عن الأخذ بأصالة الحسّ فيما ورد فيها من الشهادة بالوثاقة، والرسالة العدديّة ليست كتاباً من هذا القبيل.

وثانياً: أنّ هذا النقاش غير صحيح حتّى بالنسبة للكتب الفقهيّة؛ وذلك لأنّ الفتوى وإن كانت قائمة على الحدس والاستنباط وقد يكون أحد مناشئ الحدس والاستنباط فيه إثبات وثاقة الراوي بالحدس، ولكن إذا صرّح بالإخبار بالوثاقة من دون تصريح بكون ذلك حدسيّاً كما يصرّح بالاستنباط الدلاليّ والعلاجيّ مثلاً، فهذا الإخبار ظاهره ـ لا محالة ـ هو الحسّ، وإذا كان الكتاب كتاب فتوىً فقط من دون ذكر الاستنباطات، فالقرينة الارتكازيّة على حدسيّة الفتوى واضحة، ولكن لو صرّح صدفةً في الأثناء بوثاقة راو من رواة الحديث الذي قام إفتاؤه على أساسه لا نكتة في إبطال ظهور هذا التصريح في الحسّ.

255

الحديث الثالث: ما في توحيد الصدوق، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمّد الإصبهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حفص بن غياث النخعيّ القاضي قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): «مَن عمل بما علم كُفي ما لم يعلم»(1).

وهذه الرواية أحسن الروايات دلالة، فمن لم يعلم بحرمة شرب التتن مثلاً، ولا بوجوب الاحتياط، واجتنب باقي المحرمات المعلومة له كُفي من ناحية حرمة شرب التتن، بخلاف ما لو وصله وجوب الاحتياط ومع ذلك ارتكبه، فإنّه عندئذ لم يعمل بما علم؛ إذ من جملة ما علمه هو وجوب الاحتياط ولم يعمل به.

والظاهر من الحديث أنّ المقصود هو أنّ الله ـ تعالى ـ يكتفي من عبده بالعمل بما علمه، وأنّه لا تبعة عليه من ناحية ما لا يعلمه، لا بيان أنّ كفاية ما لم يعلم متفرّعة على العمل بما علم، بحيث لو أتى ببعض المحرمّات لم يُكفَ المحرّم الآخر الذي لا يعلمه ولا يعلم إيجاب الاحتياط بشأنه.

 


نعم، في الكتب الفقهيّة المتأخّرة تعارف توثيق وتضعيف الأسانيد بالحدس والاستنباط من دون تعرّض في كثير من الأحيان إلى مدارك هذا الحدس والاستنباط، فيقال مثلاً: صحيحة فلان، أو موثّقة فلان، أو رواية فلان من دون ذكر نكتة الصحّة والوثوق والضعف، ولكن كُتُب المتأخّرين خارجة أساساً من هذا البحث؛ لعدم احتمال الحسّ عادةً في شهادتهم على الوثاقة.

(1) وقد رواها المجلسيّ(رحمه الله) في البحار، ج 2 بحسب الطبعة الجديدة باب ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرّقات مسائل اُصول الفقه، ح 49، ص 280 و 281 نقلاً عن كتاب التوحيد.

256

وإدخال حكم العقل بأصالة الاحتياط فيما قصد به من عنوان (ما علم) في هذا الحديث أيضاً خلاف المتفاهم العرفيّ.

وهذا الحديث أيضاً لا يشمل الشبهة الموضوعيّة(1)، ولا الخصوصيّة في أطراف العلم الإجماليّ(2).

هذا تمام الكلام من حيث دلالة الحديث.

وأمّا من حيث السند، ففيه قاسم بن محمّد الإصبهانيّ المعروف بـ (كاسولا) ولم يثبت توثيقه، بل ضعّف في بعض الكتب.

الحديث الرابع: ما عن عبد الصمد بن بشير، قال: جاء رجل يلبّي حتّى دخل المسجد وهو يلبّي وعليه قميصه، فوثب إليه ناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شقّ قميصك وأخرجه من رجليك، فإنّ عليك بدنة وعليك الحجّ من قابل، وحجّك فاسد، فطلع أبو عبد الله(عليه السلام)على باب المسجد فكبّر واستقبل القبلة، فدنا الرجل من أبي عبد الله(عليه السلام)وهو ينتف شعره ويضرب وجهه، فقال له أبو عبد الله(عليه السلام): اسكن يا عبد الله، فلمّا كلّمه وكان الرجل أعجميّاً فقال أبو عبد الله(عليه السلام): ما تقول؟ قال: كنت رجلاً أعمل بيدي واجتمعت لي نفقة فحيث أحجّ لم أسأل أحداً عن شيء، وأفتوني هؤلاء أن أشقّ قميصي وأنزعه من قبل رجلي، وأنّ حجّي فاسد، وأنّ عليّ بدنة، فقال له: «متى لبست قميصك، أبعد ما لبّيت أم قبل؟» قال: قبل أن



(1) لأنّ من خالف الحكم الذي علم به لأجل الشكّ في الموضوع وكان الموضوع ثابتاً في الواقع، فقد ترك ما علمه من الحكم، فلا يدلّ الحديث على كونه مكفيّاً عنه. وظاهر الحديث، أو متيقّنه هو كفاية ما لم يعلمه حتّى بهذا المستوى.

(2) لما عرفت من أنّ العلم الإجماليّ يعتبر عرفاً علماً بالواقع على سبيل الإجمال، لا علماً بالجامع دون الواقع.

257

اُلبّي، قال: «فأخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحجّ من قابل، أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، طف بالبيت سبعاً، وصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم(عليه السلام)، واسع بين الصفا والمروة، وقصّر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل، وأهلّ بالحجّ، واصنع كما يصنع الناس»(1).

وهذا الحديث من حيث السند معتبر. وأمّا من حيث الدلالة، فلو كنّا نحن والجملة المقصودة فحسب، أعني: قوله: «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» لكانت دلالتها على البراءة المساوقة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان تامّة، وتقريب ذلك يتأ لّف من عدّة مقدّمات:

الاُولى: أنّ الجهالة في الحديث كما تشمل فرض الغفلة عن الحرمة نهائيّاً كذلك تشمل بإطلاقها فرض الشكّ في الحرمة والتردّد فيها، والثاني هو مصبّ بحثنا في المقام، إذن فالحديث يشمل مصبّ البحث بالإطلاق.

الثانية: أنّ المقصود بقوله: «فلا شيء عليه» ليس هو عدم ثبوت شيء عليه في مقام الوظيفة العمليّة؛ إذ قد فرض ركوب الأمر بجهالة، فهو ينظر إلى المرحلة المتأخّرة عن العمل وهي التبعة، فالحديث يدلّ على نفي التبعة ويشمل بإطلاقه التبعة الدنيويّة، كالكفارة والإعادة، والتبعة الاُخرويّة من العقاب الذي هو المقصود نفيه في بحثنا.

الثالثة: أنّ المستفاد من قوله: «ركب أمراً بجهالة» هو فرض كون الجهالة سبباً لركوب الأمر؛ وذلك لمكان باء السببيّة، وسببيّة الجهالة التصديقيّة ـ أعني: الشكّ والتردّد لركوب الأمر ـ تكون لأحد وجهين:

الأوّل: مركوزيّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الأذهان ولو بلحاظ الموالي العرفيّة.



(1) الوسائل، ج 9، ب 45 من تروك الإحرام، ح 3، ص 126.

258

والثاني: أنّ محرّكيّة العلم للامتثال أشدّ وأقوى من محرّكيّة الاحتمال للامتثال،ومحرّكيّة الاحتمال أضعف درجةً من محرّكيّة العلم، فمن لا تكفيه تلك الدرجة من المحرّكيّة تكون الجهالة سبباً لركوب الأمر من باب مساوقتها لفقدان الدرجة الأعلى من التحريك.

وشيء من هذين الوجهين لا يأتيان في فرض وصول إيجاب الاحتياط. أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان مع العلم بإيجاب الاحتياط. وأمّا الثاني، فلأنّه إن كان هناك فرق بحسب التفكير الاُصوليّ بين العلم بالخطاب الواقعيّ والعلم بالخطاب الظاهريّ في المحرّكيّة فلا فرق بينهما من هذه الناحية بحسب التفكير العرفيّ، فمن لم يعلم بالخطاب الواقعيّ بترك شرب التتن وعلم بالخطاب الظاهريّ بتركه ومع ذلك خالف الخطاب وركب شربه لا يقال عنه: إنّه ركب أمراً بجهالة، بل يقال عنه: إنّه ركبه بعصيانه وتمرّده، وبهذا ظهر أنّ الموضوع لنفي الشيء عليه الشامل للعقاب الاُخرويّ في هذا الحديث هو الجهل بالحكم مع عدم وصول إيجاب الاحتياط.

والحديث مطلق يشمل الشبهة الحكميّة والموضوعيّة. ولكن لا يمكن أن تُنفى به الخصوصيّة في أطراف العلم الإجماليّ.

هذا كلّه لوكنّا نحن وهذه الجملة.

وأمّا بالنظر إلى مورد الحديث فإن فرض هذا الشخص قاصراً وغير ملتفت أمكن تطبيق تلك القاعدة الكلّيّة ـ أعني: نفي الشيء عن الجاهل بالمعنى الدالّ على ما يساوق في الرتبة البراءة العقليّة ـ على المورد، وقلنا: إنّ هذه القاعدة تشمل الجهل بالموضوع والجهل بالحكم سواء كان قبل الفحص أو بعد الفحص، غاية الأمر أنّه خرج منه الجهل التقصيريّ من الشبهة الحكميّة قبل الفحص بحكم ما دلّ على عدم معذوريّة الجاهل في هذا الفرض، وعدم صحّة اعتذاره بعدم العلم.

259

ولكن من المستبعد جدّاً في مورد الحديث قصور هذا الشخص، فإنّه وإن لم يكن عارفاً باللسان لكنّه كان يعيش مع المسلمين، وقد كان بلغ في سنّه إلى حدّ استطاع للحجّ تدريجاً بكسبه، فلا أقلّ من الالتفات الإجماليّ إلى أحكام الحجّ وإن لم يلتفت تفصيلاً إلى كلّ واحد منها، بل الظاهر أنّه جاء مع الحجّاج إلى المسجد فقد رأى الحجّاج في الميقات نزعوا قميصهم ولبسوا ثياب الإحرام وكانوا بهذا الزي معه إلى المسجد، فبكلمة مختصرة: أنّنا نطمئن بأنّ هذا الشخص كان مقصّراً والشبهة شبهة حكميّة قبل الفحص، وصاحبها يستحقّ العقاب على المخالفة جزماً، فإن فرضنا أنّ قوله: «لا شيء عليه» شامل للعقاب الاُخرويّ لزم كون المورد خارجاً عن إطلاق الوارد، ولا يحتمل عقلائيّاً أنّ هذا الشخص لم يكن يعلم أنّ مشرّع هذه الشريعة بما له من الاهتمام بشريعته لا يرضى بترك السؤال عن أحكام شريعته وفوت أغراضه بهذا السبب، ومن هنا يشكل الأمر من حيث إنّه هل خروج المورد عن إطلاق الوارد يكون من قبيل خروج المورد عن أصل الكلام الذي لا يساعد عليه العرف، بحيث لو ورد ما يخصّص المورد يجعل معارضاً للعام رأساً أو لا؟

هذا تمام الكلام في أدلّة البراءة.

261

 

 

 

 

 

 

 

أدلّة الاحتياط

وننتقل بعد هذا إلى أدلّة الاحتياط، ويقع الكلام في ذلك في مقامين:

أحدهما: في الاحتياط بحكم العقل.

والثاني: في الاحتياط عن طريق النقل.

 

الاحتياط العقليّ

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر لإثبات الاحتياط عن طريق العقل وجهان:

 

أصالة الحظر:

الوجه الأوّل: ما ذكر في كلمات المتقدّمين بشكل مشوّش، وذكر في كلمات المتأخّرين كالشيخ الطوسيّ(قدس سره) باسم أصالة الحظر فيما لا يعلم جوازه.

والمظنون أنّ مقصودهم بذلك كان هو ما ذكرناه من أنّ حقّ المولويّة لا يختصّ بالتكاليف المعلومة، بل يشمل كلّ تكليف محتمل ما لم يعلم بعدم اهتمام المولى به في مورد الشكّ وإن عبّر عن ذلك بتعبيرات مشوّشة وفقاً لمستوى اللغة العلميّة وقتئذ.

والشيخ الطوسيّ(رحمه الله) أنكر أصالة الحظر وقال بأصالة الوقف، وبالنتيجة التزم في

262

مقام العمل بالاحتياط والحظر. وقال: إنّما نخرج عن هذا الاحتياط بسببالترخيصات الواردة عنهم(عليهم السلام).

والظاهر أنّ هذا مجرّد خلاف لفظيّ بين الشيخ الطوسيّ ومن قال بأصالة الحظر، نشأ من الخلط بين مقام الفتوى ومقام العمل، فكلاهما معترفان بأنّ الوظيفة العمليّة هي الحظر، وبأنّ الحكم الإلهيّ غير معلوم، فلا يمكن الإفتاء به.

هذا. ويظهر من قوله بالخروج عن الاحتياط بما ورد عنهم(عليهم السلام) من الترخيص: أنّه لولا الترخيص الوارد من الشارع لكان يقول بأصالة الاحتياط، وهذا يشهد لما قلناه من أنّ المقصود هو ما ادّعيناه من كون القاعدة العقليّة الأوّليّة هي الاحتياط، وأنّ من حقّ المولى ـ تعالى ـ الطاعة حتّى في تكاليفه الاحتماليّة ما لم يعلم برضاه بالمخالفة.

وعلى أيّة حال، فهذا الوجه لبيان الاحتياط العقليّ وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّه لا يقاوم الأدلّة التي أقمناها على البراءة بكلا المستويين؛ لأنّ موضوع الحكم العقليّ بالاحتياط هو التكليف المحتمل الذي لم يعلم عدم اهتمام الشارع به في ظرف الشكّ بوصول الترخيص بأحد المستويين، فيرتفع موضوعه بدليل البراءة، ولو دلّ على البراءة في مستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

 

العلم الإجماليّ بالأحكام:

الوجه الثاني: العلم الإجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة في الشريعة الإسلاميّة، وهو يمنع عن الرجوع إلى البراءة و يوجب الاحتياط.

وقد اُجيب على ذلك بجوابين أساسيّين:

 

انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير:

الجواب الأوّل: دعوى انحلال العلم الإجماليّ في جميع الشبهات بعلم أصغر في دائرة الأمارات المعتبرة الإلزاميّة مشتمل على مقدار المعلوم بالإجمال في