220

 

5 ـ أحاديث الحِلّ:

ومنها: حديث (كلّ شيء لك حلال). وهذه الرواية مرويّة في الكتب العلميّة بصيغ ثلاث:

1 ـ ما ورد في أخبار متعدّدة في موارد مختلفة، منها ما عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(عليه السلام): «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1).

2 ـ ما عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى



(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 1، ص 59، ونحوه ما عن معاوية بن عمّار، عن رجل، عن أبي جعفر(عليه السلام)، راجع الوسائل، ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة،ح 7، ص 92، ونحوهما ما عن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر(عليه السلام)، راجع الوسائل،ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة، ح 1، ص 90 و 91، وسند الحديث الأوّل تامّ. وأمّا سند الحديث الثالث فليس فيه من يتوقّف لأجله عدا عبد الله بن سليمان، وقد روى عنه بعض الثلاثة في مشيخة الفقيه، والمقصود به هو الصيرفيّ؛ لأنّه الذي يوجد له كتاب فلا يمكن أن يكون المقصود به في مشيخة الفقيه غيره، فبناءً على أنّ عبد الله بن سليمان في حديثنا منصرف إلى من له الكتاب وللصدوق والنجاشيّ سند إليه لأنّه المعروف يتمّ سند الحديث.

221

يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).

3 ـ «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام». وهذه العبارة لا ترد عليها جملة من الإشكالات الواردة على الاُوليين، لكنّه ليس لها عين ولا أثر في كتب الحديث(2)، وعليه فالمرجع هو الصيغتان السابقتان.

أمّا الصيغة الاُولى: فقد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره) وجملة من سائر المحقّقين بعده: أنّ هذه الرواية تختصّ بالشبهات الموضوعيّة ولا تشمل الشبهات الحكميّة، وتتلخّص من كلامهم لذلك قرينتان في الحديث:

القرينة الاُولى: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) وهو أنّ في هذا الحديث ظهورين:

1 ـ ظهوره في فعليّة تقسيم الشيء إلى الحلال والحرام دون مجرّد الترديد والقابليّة.

2 ـ ظهوره في أنّ هذا الانقسام هو المنشأ للشكّ.

وهذان الظهوران إنّما ينطبقان على موارد الشبهات الموضوعيّة، فاللحم مثلاً ينقسم إلى حلال وهو المذكّى وحرام وهو الميتة، وهذا الانقسام سبب للشكّ في حلّيّة وحرمة الفرد الذي لا ندري أهو مذكّىً أو ميتة. وأمّا الشبهة الحكميّة فلا يكون الأمر فيها كذلك، فمثلاً إذا شككنا في حرمة شرب التتن فهنا ليس التتن مقسّماً بالفعل إلى قسم حلال وقسم حرام، فلابدّ من حمل «فيه حلال وحرام»



(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 4، ص 60، وسند الحديث ضعيف بمسعدة بن صدقة الذي لم يرد توثيق بشأنه.

(2) ولعلّه نقل غير دقيق لنفس المضامين السابقة، أو نقل غير دقيق لما عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله(عليه السلام)في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة». راجع الوسائل، ج 17، ب 16 من الأطعمة المباحة، ح 2، ص 91.

222

على الترديد والقابليّة ـ أي: أنّه قابل لأن يكون حلالاً وقابل لأن يكون حراماً ـ لكونه فعلاً اختياريّاً، وليس من قبيل التنفّس الذي لا يتّصف بالحلّ والحرمة، وهذا خلاف الظهور الأوّل، فإن اُوِّل بإرجاع المطلب إلى الجنس بأن يقال مثلاً: إنّ المشروب فيه حلال وهو الماء، وحرام وهو الخمر، وقد شككنا في أنّ المائع الفلانيّ حلال أو حرام، فهنا يكون الانقسام الفعليّ ثابتاً في المقام، لكن ليس هذا الانقسام منشأ للشكّ، فإنّنا نحتمل حرمة ذاك المائع بقطع النظر عن حرمة الخمر وحلّيّة الماء، ولو لم نكن نعلم بحرمة الخمر مثلاً لعلّنا كنّا نشكّ أيضاً في حرمة كلٍّ من الخمر وذاك المائع كما هو واضح(1).

أقول: إنّ هذا المقدار من البيان يمكن الإيراد عليه بلحاظ الشبهة الحكميّة المفهوميّة بأن نفرض عنواناً كلّيّاً قسم منه حلال وقسم منه حرام، واشتبه القسمان مفهوماً فتردّدنا في فرد مّا من جهة الشبهة المفهوميّة بين دخوله في هذا أو ذاك، فينحفظ فيه كلا الظهورين، كما إذا فرضنا أنّ الماء المطلق حلال والطين حرام وشككنا بنحو الشبهة المفهوميّة في مائع هل هو ماء مطلق أو طين، فانقسام المائع إلى ما هو حلال وهو الماء، وما هو حرام وهو الطين فعليّ، وهذا الانقسام هو الذي جعلنا نشكّ في حكم هذا الفرد باعتبار إجمال مفهومي القسمين.

ولكن يمكن تتميم ما عرفته من التقريب بإضافة شيء عليه، وهو أنّ ظاهر قوله: «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» هو أنّ المراد بالمعرفة في المقام معرفة أمر خارجيّ لا معرفة أمر مربوط بعالم الألفاظ كما في الشبهة المفهوميّة، فالشبهة المفهوميّة خارجة عن مورد الحديث؛ لأنّ معرفة الحرام فيها تكون بمعرفة مدلول



(1) راجع رسائل الشيخ الأعظم(قدس سره)، ص 201 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة (رحمت الله).

223

اللفظ في اللغة، لا بمعرفة أمر في العالم الخارجيّ غير عالَم اللغة والوضع.

القرينة الثانية: ما ذكره السيّد الاُستاذ(1) تبعاً للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)وهي كلمة «بعينه» المذكورة في الحديث، بتقريب(2) أنّ كلمة «بعينه» بلحاظ الشبهات الحكميّة لا يمكن أن تكون إلاّ تأكيداً صرفاً لا تقييداً زائداً؛ إذ لا يتصوّر التقييد الزائد إلاّ في قبال العلم الإجماليّ، وذلك ينافي منجّزيّة العلم الإجماليّ، مع أنّ ظاهر الكلام كونها تقييداً زائداً، وهذا بخلاف موارد الشبهات الموضوعيّة، فإنّ مورد الشبهات الموضوعيّة يكون دائماً طرفاً للعلم الإجماليّ، فنتحفّظ على ظهور القيد في كونه تقييداً زائداً من دون أن يلزم من ذلك إبطال منجّزيّة العلم الإجماليّ، فمثلاً لو شكّ المكلّف في أنّه هل تنجّس الماء الذي يكون أمامه بملاقاة النجس، أو هل صار الخلّ الذي يكون في بيته خمراً أو لا؟ فهو حيث لا يعلم تفصيلاً بالخمور الموجودة في العالم أو المتنجّسات، ويعلم في الجملة بوجود خمور ومتنجّسات في العالم يصبح هذا طرفاً لعلم إجماليّ أطرافه غير محصورة وأكثرها خارج عن محلّ الابتلاء، فكلمة «بعينه» تخرج ذلك عن وجوب الاحتياط من دون أن ينثلم بذلك قانون منجّزيّة العلم الإجماليّ.

ويرد عليه: أنّه إن فرض أنّ المراد بالعلم الإجماليّ العلم الإجماليّ بين الأقلّ والأكثر فهذا موجود في الشبهات الحكميّة، فإذا شكّ في حرمة شرب التتن فقد شكّ مثلاً في أنّه هل يحرم الخمر والتتن معاً أو يحرم الخمر فقط، وهذا بحسب الحقيقة ليس علماً إجماليّاً. وإن فرض أنّ المراد به هو العلم الإجماليّ بين



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 273 و 274.

(2) هذا التقريب غير منقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ولكن أصل الاستشهاد بكلمة «بعينه» منقول عنه في أجود التقريرات، ج 2، ص 184، وفي فوائد الاُصول، ج 3، ص 132.

224

المتباينين فلا نسلّم كون هذا الفرد من المائع طرفاً للعلم الإجماليّ بوجود الخمر والمتنجّس في العالم وإن كان لا إشكال في وجود هذا العلم الإجماليّ في نفسه، ولذا لا ينقص عدد المعلوم بالإجمال ولا يزيد بإفراز هذا الفرد وعدمه. نعم قد يقال في الشبهات الموضوعيّة: كون مورد الشبهة طرفاً لعلم إجماليّ بعض أطرافه خارج عن محلّ الابتلاء، كما قد يتّفق ذلك أيضاً في الشبهات الحكميّة.

وأمّا الصيغة الثانية: وهي الموجودة في صدر حديث مسعدة بن صدقة، فقد استدلّ بها أيضاً على جريان البراءة في الشبهات الحكميّة تمسّكاً بإطلاقها، وقد وقع الإشكال في أنّه هل لها إطلاق أو لا؟ ثمّ انجرّ هذا الإشكال إلى الإشكال في فقه الحديث وتصوّر معنى الحديث، ومن هنا ينبغي لنا أن نتكلّم أوّلاً في فقه الحديث وتصوّر معناه وبعد ذلك نرى أنّ هذا المعنى المتعقّل للحديث هل يدلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة أو لا؟

فنقول: قد يستشكل في فهم هذا الحديث في نفسه بقطع النظر عن أنّه اُريد بالحِلّ الحلّيّة في الشبهات الموضوعيّة كما يقول الأخباريّون، أو الأعمّ منها ومن الشبهات الحكميّة، وذلك باعتبار ما يُرى من نوع من التهافت بين صدر الحديث وذيله، حيث إنّ صدر الحديث لو فصل عن ذيله يعطي معنى أصالة الحِلّ، ولكن الأمثلة المذكورة في ذيل الحديث لا علاقة لها بأصالة الحِلّ، فلو قطعنا النظر عن جريان قاعدة اليد واستصحاب عدم الاُختيّة لا يمكن إباحة الثوب والعبد والزوجة بأصالة الحِلّ، وليس ذلك لأجل صناعة يمكن فرض بطلانها حتّى يستكشف من هذه الرواية بطلان تلك الصناعة، بل هذا أمر واضح لا يشكّ فيه فقيه، ولا يوجد فقيه يفتي في هذه المسائل بالحلّ لو قطع النظر عن قاعدة اليد والاستصحاب.

ويمكن تفسير الحديث بنحو ينسجم صدره مع ذيله بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما قد يقال من حمل الأمثلة على التنظير والتشبيه لا على

225

التطبيق، فكأنّ الإمام(عليه السلام) بيّن قاعدة الحلّ، ثمّ ذكر: أنّه توجد في الشريعة الإسلاميّة أشياء اُخرى تشبه قاعدة الحلّ، وهي الحلّيّة الاستصحابيّة والحلّيّة بقاعدة اليد.

وهذا الوجه غير صحيح بعد فرض التحفّظ على كون الكلام الوارد في هذا الحديث بياناً عرفيّاً؛ إذ التنظير يكون بين الحكمين، بأن ينظّر أصالة الحلّ بالحلّيّة الاستصحابيّة والحلّيّة بقاعدة اليد، وليس من المستساغ أن ينظّر بين حكم وأفراد موضوع حكم آخر كما وقع في الحديث.

الوجه الثاني: ما قد يقال أيضاً من أنّ الإمام(عليه السلام) جمع بين حلّيّات متعدّدة، وهي أصالة الحلّ، والحلّيّة الاستصحابيّة، والحلّيّة بقاعدة اليد في عبارة واحدة، وعبّر بالجامع وهو الحلّيّة، فبحسب الحقيقة لم يرد حلّيّة واحدة، بل هي حلّيّات ثلاث يختلف موضوع كلّ واحدة منها عن موضوع الاُخرى، فموضوع أصالة الحلّ عنوان ما لم تعلم حرمته، وموضوع الحلّيّة المجعولة في قاعدة اليد اُخذت فيه قيود عديدة منها اليد، وموضوع الحلّيّة الاستصحابيّة اُخذت فيه قيود عديدة منها الحالة السابقة.

وقد يستشكل في ذلك بأنّ كلّ واحدة من هذه الحلّيّات المتعدّدة موضوعها مغاير لموضوع الاُخرى، فلابدّ من إبراز كلّ جعل على موضوعه، وإبراز الجعول المتعدّدة على موضوع أصالة الحلّ غير صحيح، إلاّ بالالتزام بتقييدات مستترة طبقاً لواقع جعولها، وهذا غير مستساغ عرفاً.

ومن هنا فرض المحقّق العراقيّ(رحمه الله) علاجاً لهذا الاستشكال: أنّ الجمع بين جعول متعدّدة في تعبير واحد في هذا الحديث ليس بمعنى إبراز نفس تلك الجعول، بل بمعنى الإخبار عن نتائج تلك الجعول، وعندئذ لا يلزم التحفّظ على موضوع الجعل، مثلاً لو فرض أنّ المولى جعل قاعدة الفراغ وموضوعها فعل المكلّف،

226

وأصالة الصحّة وموضوعها فعل الغير، ففي مقام الإخبار يمكنه أن يجمع بينهما في عبارة واحدة ويقول: كلّ فعل شكّ في صحّته بعد وجوده فالأصل فيه الصحّة(1).

ولكن التحقيق: أنّ هذا التوجيه أيضاً غير مستساغ عرفاً وإن كان فنّيّاً ودقيقاً بحسب الصناعة العلميّة، وذلك لقوّة ظهور الرواية في أنّ الإمام(عليه السلام) في مقام إعطاء معنىً كلّيّ وضابطة كلّيّة لأجل أن يطبّقها المكلّف على مواردها الخارجيّة، وقد ذكرت الأمثلة لأجل تشريح ذهن هذا السامع في مقام تطبيق هذه الضابطة الكلّيّة، ومن المعلوم أنّنا لو فرضنا أنّنا حملناه على أنّه في مقام الإخبار عن نتيجة جعول متعدّدة على موضوعات متعدّدة ذات قيود مع إسقاط تلك القيود وعدم بيان تلك الموضوعات، لما أمكن للسامع تطبيق الأمر على الصغريات إلاّ إذا فرض ذكر ملازم مساو وانتزاع عنوان مطابق، كما فيما ذكرناه من مثال أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ، دون عنوان أعمّ كما في هذا الحديث.

الوجه الثالث: هو الذي يقوى في نفسي من احتمال أنّ هذه الرواية ليست في مقام بيان قانون ابتدائيّ، بل في مقام التصريح بإطلاق قوانين الحلّيّة من قبيل الاستصحاب واليد بالنسبة لمرحلة البقاء، بمعنى أنّه إذا ثبتت لك حلّيّة شيء بأمثال هذه القوانين فلا ترفع اليد عن الحلّيّة بوسوسة، وطروّ منشأ جديد للشكّ، وحصول الظنّ بالخلاف ونحو ذلك، بل ابقِ على تلك القواعد المفروغ عنها حتّى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البيّنة، وهذا المطلب تطبيقه على الرواية لا يقتضي في المقام عدا الالتزام بتقييد واحد مستساغ عرفاً، ولا ينافيه إلاّ الإطلاق، ولا يخرج الحديث عن كونه بياناً عرفيّاً، وذلك بأن يقال: (كلّ شيء ثبتت حلّيّته



(1) راجع المقالات، ج 2، ص 61. وراجع نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 234 و 235.

227

بقاعدة من القواعد فهو لك حلال ويبقى حلالاً حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه)،فنظر الحديث إلى مرحلة البقاء لا مرحلة الحدوث.

وإنّما قلنا: إنّنا بحاجة إلى تقييد الإطلاق بناءً على أنّ قوله: (هو لك حلال) خبر لقوله: (كلّ شيء). أمّا إذا افترضنا قوله: (هو لك) صفة لشيء، وقوله: (حلال) هو الخبر، فظاهر الحديث ابتداءً هو النظر إلى مرحلة البقاء بلا حاجة إلى تقييد خارجيّ.

وبعد تفسير الحديث بهذا الوجه يظهر الحال فيما نحن فيه؛ وذلك لبداهة أنّه بناءً على هذا المعنى لا يرتبط هذا الحديث بأصالة الحلّ في الشبهات الحكميّة، ولا بأصالة الحلّ في الشبهات الموضوعيّة، بل هو أجنبيّ عن أصالة الحلّ رأساً، وعليه فلو اُريد التمسّك بحديث أصالة الحلّ في الشبهات الموضوعيّة فلابدّ من التمسّك بالصيغة الاُولى.

 

6 ـ إثبات البراءة بالاستصحاب:

وقد يستدلّ على البراءة بالاستصحاب. إمّا بلحاظ حال الصغر، أو بلحاظ ما قبل الشريعة، أو بلحاظ ما قبل استكمال الشرائط الخاصّة للتكليف، كما لو شككنا في وجوب الحجّ بالبذل فاستصحبنا عدم التكليف الثابت قبل البذل لعدم الاستطاعة، إذن فلإثبات البراءة بالاستصحاب وجوه ثلاثة:

 

أ ـ بلحاظ حال الصغر:

الوجه الأوّل: استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر. واعترض عليه بعدّة إشكالات:

الأوّل: ما حمل عليه المحقّق الخراسانيّ؛ عبارة الشيخ الأعظم (رضوان الله عليه)(1)


(1) عبارة الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) واردة في بحث البراءة لدى الاستدلال على البراءة

228

في المقام من أنّ المستصحب يجب أن يكون حكماً مجعولاً، أو موضوعاً لحكم مجعول، وعدم التكليف ليس كذلك.

واستغرب السيّد الاُستاذ من حمل عبارة الشيخ الأعظم على هذا المعنى باعتبار أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)يقول باستصحاب العدم الأزليّ فضلاً عن العدم المستمرّ إلى حال الصغر، فكيف ينسب إليه في المقام هذا الإشكال؟(1).

 


بالاستصحاب، وكلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بهذا الصدد وارد في التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب، ولعلّ كلام صاحب الكفاية يشعر بأنّ المستفاد من عبارة الشيخ الأنصاريّ هو أنّ كون المستصحب حكماً مجعولاً، أو موضوعاً لحكم مجعول شرط بعنوانه في الاستصحاب، فلو كان هذا هو مقصود الشيخ(رحمه الله) ورد عليه ما سيأتي في المتن، ولكن الظاهر من عبارته أنّ مقصوده شيء آخر، وهو أنّ المستصحب يجب أن يكون حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ لا نفياً له، وذلك لا بدعوى اشتراط ذلك بعنوانه في الاستصحاب، بل بدعوى أنّ استصحاب نفي الحكم لا يؤدّي إلى نفي استحقاق العقاب، فإنّ نفي استحقاق العقاب يكون في حالتين: إمّا لدى نفي الحكم واقعاً على أساس الملازمة العقليّة بين نفيه وعدم استحقاق العقاب، واستصحاب نفي الحكم لا يثبت لازمه العقليّ، وإمّا لدى الترخيص ولو ظاهراً، فإذا ثبت الترخيص ولو ظاهراً قطعنا بعدم استحقاق العقاب، ولكن استصحاب نفي الحكم لا يثبت الترخيص، فإنّ الترخيص والإباحة حكم ثبوتيّ، والثابت في حال الصغر ليس هو هذا، بل هو عدم جعل الإلزام، وعدم جعل الإلزام غير الترخيص المجعول.

ويرد عليه: أنّ نفي استحقاق العقاب يكفي فيه عقلاً نفي الإلزام ولو ظاهراً، ولا يتوقّف على نفي الحكم واقعاً، ولا على الترخيص بمعنى جعل الإباحة ولو ظاهراً.

(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 292.

229

وهذا الاستغراب في غير محلّه؛ إذ الشيخ الأعظم(رحمه الله) إنّما يقول بالاستصحاب في العدم الأزليّ إذا وقع العدم الأزليّ موضوعاً لحكم شرعيّ، فيستصحب مثلاً في المكاسب عدم مخالفة الشرط للكتاب؛ لأنّه موضوع لحكم شرعيّ، وهو نفوذ الشرط ووجوب الوفاء به، وجهة الإشكال فيما نحن فيه هي أنّ عدم التكليف ليس حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً لحكم شرعيّ، ولا علاقة لذلك بمسألة جريان الاستصحاب في العدم الأزليّ، أو عدم جريانه فيه.

وعلى أيّ حال، فلا يهمّنا تحقيق مراد الشيخ الأعظم(قدس سره)، وإنّما المهمّ النظر إلى هذا الإشكال في نفسه سواء كان مقصوداً للشيخ الأعظم أو لا.

والواقع: أنّ هذا الإشكال غير صحيح؛ وذلك لأنّه لا دليل على اشتراط هذا الأمر بعنوانه وهو كون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً له، وإنّما الشرط هو أن يكون المستصحب قابلاً للتصرّف الظاهريّ من قبل المولى والتعبّد الظاهريّ به نفياً وإثباتاً، ويكفي في قابليّته لذلك أن يكون عدم حكم.

الثاني: ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وهو يتركّب من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الاستصحاب لا يكفي فيه مجرّد كون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ، بل لابدّ من انتهائه إلى أثر عمليّ، فاستصحاب وجوب الحجّ مثلاً على شخص مات قبل خمسمئة عام من دون ترتّب أثر عمليّ لذلك بالنسبة لنا لا معنى له، والتعبّد به لغو صرف وبلا محصّل.

الثانية: أنّ الأثر العمليّ المشترط في الاستصحاب إن كان مترتّباً على الواقع المستصحب صحّح الاستصحاب. أمّا إن كان مترتّباً على الشكّ، أو على كلّ من الواقع والشكّ فلا معنى عندئذ لإجراء الاستصحاب؛ لأنّ ذاك الأثر ثابت بالوجدان لوجود الشكّ، فإثباته بالاستصحاب تحصيل للحاصل، بل من أردَأ

230

أنحاء تحصيل الحاصل؛ إذ هو تحصيل لما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد(1).

أقول: إذا فرض الأثر مترتّباً على الشكّ دون الواقع، فالاستصحاب لا معنى له في نفسه بقطع النظر عن تحصيل الحاصل؛ إذ المفروض أنّ الأثر ليس للواقع، فإثباته باستصحاب الواقع إثبات للشيء بما لا يترتّب عليه و لا يثبت به، ولعلّه(قدس سره)إنّما عبّر بهذا التعبير بالنسبة لكلا القسمين من باب الجمع في العبارة والاختصار، وإلاّ فينبغي أن يقال: إنّ الاستصحاب فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الشكّ لا يثبت لنا شيئاً، وفيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع وعلى الشكّ يثبت لنا بالتعبّد ما هو ثابت بالوجدان(2).

وعلى أيّة حال، فالنتيجة المترتّبة على المقدّمتين هي أنّ الأثر العمليّ في المقام الذي عرفت في المقدّمة الاُولى اشتراطه في الاستصحاب إنّما هو التأمين، وهذا لا يمكن تحصيله بالاستصحاب؛ إذ التأمين يترتّب على الشكّ، أو على كلّ مِنَ الشكّ والواقع، ولا معنى لترتّبه على الواقع فقط؛ إذ هو خلف قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد طبّق المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هذا القانون ـ أعني: عدم جريان الاستصحاب في فرض ترتّب الأثر على الشكّ، أو عليه وعلى الواقع ـ في مورد آخر أيضاً وهو



(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 190 و 191.

(2) الظاهر أنّ نظر المحقّق النائينيّ في كلا القسمين إلى إشكال تحصيل الحاصل. وعلى أيّ حال فهذا الإشكال إن تمّ فمصبّه كلا القسمين؛ إذ حتّى في مورد كون الأثر مترتّباً على الشكّ فقط لو اُريد إثبات الأثر بالاستصحاب كان ذلك تحصيلاً لما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد. نعم، يرد إشكال آخر أيضاً، وهو أنّ الأثر إذا لم يكن للواقع فاستصحاب الواقع لا يثبته، ولا يرد هذا الإشكال عند فرض كون الأثر للواقع وللشكّ معاً.

231

استصحاب عدم الحجّيّة.

وعلى أيّ حال، فالسيّد الاُستاذ سلّم الإشكال في فرض ترتّب الأثر على الشكّ فقط، وجعل ما نحن فيه من باب ترتَّب الأثر على كلّ من الشكّ والواقع، ودفع الإشكال في فرض ترتّب الأثر على الشكّ والواقع بأنّ ظرف الاستصحاب هو ظرف انتفاء الشكّ بالتعبّد الشرعيّ، فالأثر عندئذ إنّما هو ثابت بالتعبّد ومترتّب على الواقع، وليس ثابتاً بالوجدان ومترتّباً على الشكّ، فإنّ الشكّ ملغيّ عندئذ بالحكومة، والاستصحاب كما يتقدّم على أصالة البراءة الشرعيّة ونحو ذلك بالحكومة ويكون الأمن أو الطهارة عندئذ مستنداً إلى الاستصحاب لا القاعدة، كذلك الأمر في قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنّ الاستصحاب حاكم عليها برفع موضوعها(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الحكومة إن صحّت فإنّما تصحّ بالنسبة للقواعد الشرعيّة كالبراءة الشرعيّة وقاعدة الطهارة ونحو ذلك، حيث إنّ موضوعها بيد المولى فله أن يضيّقه تعبّداً بالاستصحاب. وأمّا قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ لو تمّت ـ فهي قاعدة عقليّة ليس موضوعها بيد المولى بما هو مولىً، فلا تعقل حكومة الاستصحاب عليها، وإنّما يجب أن يلحظ ما هو موضوع هذا القبح وملاكه في نظر العقل حتّى نرى أنّ ذلك الموضوع والملاك هل هو باق حتّى بعد الاستصحاب أو لا؟ فإن لم يكن باقياً كان الاستصحاب وارداً عليه، وإلاّ فليس الاستصحاب حاكماً عليه ولا وارداً عليه، ولعلّ مقصوده بالحكومة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الورود على



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 295 و 296.

232

أساس التسامح في مقام التعبير(1).

وعلى أيّ حال، فالصحيح أنّ موضوع القاعدة لا يرتفع بالاستصحاب لا حكومةً ولا وروداً؛ وذلك لأنّ موضوع هذه القاعدة العقليّة إنّما هو عدم بيان التكليف، وليس موضوعها اللابيان من كلا الجانبين.

ومن يفترض أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو اللابيان من كلا الجانبين لا ينبغي أن يكون مقصوده اختصاص قبح العقاب بفرض الشكّ، بحيث يكون العقاب عند العلم بالعدم وجداناً أو تعبّداً غير قبيح، فهذا واضح البطلان، وإنّما المقصود المتعقّل في المقام هو دعوى: أنّ حصّة من قبح العقاب مختصّة بصورة الشكّ واللابيان من كلا الطرفين، وأنّ هذه الحصّة هي المحمول في القاعدة، فيرتفع موضوع القاعدة بالاستصحاب، ويثبت عندئذ قبح آخر مغاير للقبح الأوّل.

والواقع: أنّ هذا الكلام غير صحيح كما يتّضح ذلك بالنظر إلى ما مضى منّا من أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مرجعها في الحقيقة إلى قاعدة قبح العقاب بلا حقّ المولويّة، فملاك هذا القبح إنّما هو عدم حقّ المولويّة، وحقّ المولويّة مخصوص ـ بحسب الفرض ـ بفرض الوصول، فعدم هذا الحقّ ثابت حتّى في فرض وصول العدم، فيثبت نفس القبح الذي كان ثابتاً في فرض اللابيان من كلا الطرفين، غاية



(1) في مصباح الاُصول لم ترد في المقام كلمة الحكومة، ولا يحضرني في الوقت الحاضر تقرير آخر من تقارير بحث السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ولكن تفهم إرادة الحكومة ممّا في مصباح الاُصول من تعبيره بأنّ الاستصحاب رافع للشكّ تعبّداً، زائداً افتراضه أنّ الشكّ أحد موضوعي الأثر، ويؤيّد ذلك تشبيهه للمقام بتقدّم الاستصحاب على البراءة الشرعيّة وقاعدة الطهارة، فراجع.

233

الأمر اشتداد القبح بالعلم بعدم التكليف؛ لأنّه عند الشكّ يكون الحقّ الاستحبابيّ ثابتاً، وعند العلم بالعدم ينتفي كلا الحقّين الوجوبيّ والاستحبابيّ.

ولو فرضنا أنّ ملاك عدم الحقّ في الشكّ غير ملاك عدم الحقّ في العلم بالخلاف لم يكن هذا محصّصاً للعدم، فإنّ العدم إنّمايتحصّص بتحصّص ما يضاف إليه، لا بتعدّد الملاك.

وإذا ظهر أنّ موضوع القاعدة هو عدم وصول التكليف الثابت حتّى عند وصول العدم عرفت أنّه لا معنى لتقدّم الاستصحاب عليها.

وثانياً: أنّ فرضه لما نحن فيه من قبيل ترتّب الأثر على الواقع وعلى الشكّ غير صحيح، فإنّ الواقع لا أثر له أصلاً لا نفياً ولا إثباتاً، فإنّ العبد إن شكّ في التكليف قبح عقابه ولو كان التكليف ثابتاً حقيقة لفرض قبح العقاب بلا بيان. وإن علم بالتكليف وخالف استحقّ العقاب ولو لم يكن التكليف ثابتاً حقيقة على ما هو التحقيق عندنا وعنده من استحقاق المتجرّي للعقاب، فالتأمين فيما نحن فيه غير مربوط بعدم التكليف واقعاً، فكان ينبغي له أن يبدّل فرض ترتّب الأثر فيما نحن فيه على الشكّ وعلى الواقع، بفرض ترتّبه على الشكّ وعلى العلم ولو تعبّداً.

وثالثاً: أنّه إن لم يفرض أنّ الشارع جعل في الاستصحاب الطريقيّة، فلا وجه لحكومة الاستصحاب على قاعدة الشكّ حتّى في الآثار المترتّبة على الشكّ وعلى الواقع. وإن فرض جعل الطريقيّة فيه ينبغي له أن يسلّم الحكومة حتّى في الآثار المترتّبة على الشكّ فقط، وأثر الاستصحاب عندئذ هو رفع أثر الشكّ.

نعم، فيما يكون ذلك الأثر أثراً للعلم التعبّديّ أيضاً لا للشكّ فقط، كما نحن فيه يترتّب الأثر لا محالة ولو بلحاظ العلم التعبّديّ بالعدم.

وليته كان يجيب على كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّه ما هو المقصود بالأثر

234

العمليّ الذي ذكره شرطاً في الاستصحاب؟ فإن كان المقصود به الحكم الشرعيّ المرتبط بمقام العمل في قبال حكم شرعيّ غير مربوط بمقام العمل بالنسبة لهذا المكلّف، فهذا موجود في المقام بعد فرض تعميم الأمر على إثبات التكليف ونفيه وعدم اختصاصه بجانب الإثبات كما مضى، فإنّ التكليف في المقام مربوط بعمله؛ لأنّه يؤثّر في ضيق العنان عليه في ظرف وصوله، وكذلك عدم التكليف مربوط بعمله؛ لأنّه يؤثّر في إطلاق العنان في ظرف عدم وصول التكليف، أي: كما أنّ التكليف قد يصير سبباً للعلم به الموجب للضيق في العمل كذلك عدم التكليف رفع لهذا السبب المؤدّي إلى الضيق.

وإن كان المقصود به التنجيز والتعذير فلا إشكال في اشتراط انتهاء الاستصحاب إلى هذا الأثر، فقد يقال: إنّ الاستصحاب فيما نحن فيه غير جار؛ لثبوت التعذير بدونه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والمفروض اعتراف الأخباريّ بهذه القاعدة وإن ادّعى وصول البيان وهو أخبار الاحتياط.

ولكن الواقع: أنّ الاستصحاب يظهر أثره في المقام في مقابل رأي الأخباريّ القائل بورود البيان وهو أخبار الاحتياط، فإنّه بناءً على هذا الرأي تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بقطع النظر عن الاستصحاب ـ منتفية بانتفاء موضوعها، وعندئذ يفيدنا في المقام استصحاب نفي التكليف، وهو حاكم على أخبار الاحتياط التي يكون موضوعها فرض احتمال التكليف، أو مخصّص لها.

نعم، لو قصد التمسّك بالاستصحاب التمسّك به رغم فرض عدم تماميّة أخبار الاحتياط وتماميّة موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان فليكن إشكال المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وارداً على التمسّك بالاستصحاب في هذا الفرض والذي هو في الحقيقة عمل صبيانيّ لا قيمة له، وإنّما تظهر قيمة التمسّك بالاستصحاب عند فرض الإيمان بأخبار الاحتياط، ومعه لا يرد إشكال المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

235

هذا هو الجواب الذي كنّا نتمنّى للسيّد الاُستاذ أن يذكره في المقام.

أمّا نحن ففي مقام الجواب لا نجيب حتّى بهذا البيان، بل نقول: إنّ هذا الكلام كلّه مبنيّ على الانشغال بالألفاظ عن المعاني، فإنّنا قلنا فيما سبق: إنّ الخطابات الظاهريّة على اختلاف ألسنتها والتفنّن في التعبير عنها يكون جوهرها ومدلولها التصديقيّ أحد أمرين: إبراز شدّة الاهتمام بالواقع المشكوك، وإبراز عدم شدّة الاهتمام به بحيث يرضى بترك الاحتياط، فاستصحاب عدم التكليف في المقام هو بحسب الحقيقة إبراز لعدم شدّة اهتمام المولى بتكاليفه الواقعيّة ورضاه بتركها، فالمبرز بهذا الخطاب الاستصحابيّ نفس المبرز بخطاب (رفع ما لا يعلمون) مع فرق من ناحية التفنّن في العبارة، فكأنّ دليل الاستصحاب هو رواية اُخرى من روايات البراءة، فكما أنّه لم يستشكل أحد في التمسّك بحديث الرفع على عدم وجوب الاحتياط بأنّه تحصيل للحاصل، كذلك لا ينبغي الاستشكال في التمسّك بهذا الخطاب الاستصحابيّ على ذلك بلزوم تحصيل الحاصل، والوجه في عدم الاستشكال في كلا الموردين هو أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان يرتفع موضوعها بالبيان، سواء كان بياناً للواقع، أو بياناً لإيجاب الاحتياط حقيقة، بأن يصل من المولى واقعاً بيان إيجاب الاحتياط، أو توهّماً، بأن يتوهّم العبد أنّ المولى أوجب الاحتياط، وأيّ لغويّة أو إشكال يرد على المولى لو صرّح بعدم شدّة اهتمامه بتكاليفه المشكوكة وعدم إيجابه الاحتياط سدّاً لباب وصول إيجاب الاحتياط إلى العبد خطأً وتوهّماً، وهذا قد يبيّنه ببيان واحد وقد يبيّنه ببيانات متعدّدة وألسنة مختلفة، ومنها لسان الاستصحاب.

ولو صار القرار على الإشكال، يجب الإشكال حتّى في حديث الرفع وغيره من روايات البراءة وآياتها؛ إذ يقال أيضاً: إنّ البراءة الشرعيّة أصل عمليّ لابدّ لها

236

من الانتهاء إلى أثر عمليّ من التعذير، والتعذير ثابت هنا بدونها بالوجدان لقاعدةقبح العقاب بلا بيان، فإحراز ذلك بالبراءة الشرعيّة تعبدّاً إحراز للشيء الثابت بالوجدان بالتعبّد، وهو من أردَأ أنحاء تحصيل الحاصل.

الثالث: أنّ عدم التكليف في حال الصغر كان من باب اللاحرجيّة العقليّة وهو مقطوع الانتفاء، وعدم التكليف في حال الكبر هو النفي الشرعيّ بمعنى عدم جعل الشارع للتكليف عليه مع فرض قابليّته لجعل التكليف عليه، وهذا ليس هو المتيقّن سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال ـ لو تمّ في نفسه ـ لم يتمّ على إطلاقه، فإنّ الصبيّ في الغالب يمرّ قبل البلوغ بمستوىً من الوعي بحيث لا يبقى مانع من قِبل العقل من إيقاع حرج التكليف عليه، ويكون نفي التكليف عنه نفياً شرعيّاً. نعم، يتأتّى هذا الإشكال في المجنون إذا أفاق، وفي الصبي إذا استمرّ معه عدم التمييز وكان بحكم المجنون.

والتحقيق: أنّ هذا الإشكال في نفسه غير صحيح؛ وذلك لأنّ العدم إنّما يتحصّص بتعدّد ما اُضيف إليه ذلك العدم، ولا يتحصّص بمجرّد تعدّد الملاك، مثلاً لو كانت الورقة مرطوبة فقطعنا بعدم احتراقها بالنار المجاورة لها لرطوبتها، ثمّ جفّت الرطوبة واحتملنا عدم احتراقها بعدُ لانطفاء النار جرى بلا إشكال استصحاب عدم الاحتراق، فإنّ الاحتراق الواحد لا يتعدّد أعدامه بتعدّد الملاك، فعدم الاحتراق لو كان باقياً فهو عدم واحد مستمرّ رغم كونه ابتداءً بملاك عدم قابليّة القابل وانتهاءً بملاك عدم فاعليّة الفاعل، فإنّ هذه الحيثيّات إنّما هي حيثيّات تعليليّة للعدم، وليست حيثيّات تقييديّة ومحصّصة للعدم، وما نحن فيه من هذا القبيل، فعدم التكليف وإن كان تارةً بملاك عدم قابليّة المورد عقلاً للتكليف، واُخرى بملاك عدم تماميّة المبادئ في نفس المولى، لكن هذا لا يفرّد العدم ولا

237

يجعل المشكوك غير المتيقّن(1).

الرابع: دعوى تغيّر الموضوع عرفاً، فإنّ العرف من باب مناسبات الحكم والموضوع يرى أنّ الصبا مقوّم لموضوع رفع القلم في تلك الحالة، ويحكم بأنّ العدم الثابت في حال الصغر لصغره عدم معنون بعنوان العفو للصغر والقصور المحدود من قبل الشارع بحدّ معيّن، وبمجرّد وصول ذلك الحدّ يتبدّل الموضوع ولو كان التكليف بعد هذا الحدّ معدوماً أيضاً، فكأنّ هذا عدم آخر في نظر العرف، والحاصل أنّ حيثيّة الصغر في نظر العرف حيثيّة تقييديّة ومقوّمة للموضوع، فعدم تكليف الكبير يعتبر مغايراً لعدم تكليف الصغير، ولا يفترض أحدهما بقاءً للآخر، واستصحاب عدم تكليف الصغير غير جار لانقطاعه القطعيّ.



(1) وهذا الجواب أدقّ من الجواب الذي ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله)من أنّ عدم التكليف إن كان أزليّاً غير منتسب إلى الشارع كفى انتسابه إليه بنفس الاستصحاب(1)؛ وذلك لأنّ المشكلة لم تكن مشكلة مجرّد عدم انتساب العدم إلى الشارع، وإلاّ لكان جوابها: أنّ عدم التكليف حتّى لو لم ينتسب إلى الشارع يكفي في الأمن، وإنّما المشكلة مشكلة تفرّد العدم وتعدّده بانتسابه وعدم انتسابه إلى الشارع، فالعدم الأوّل انتهى يقيناً، والعدم الثاني مشكوك الحدوث، وهذا كما ترى لا تعالجه نسبة العدم الأوّل إلى الشارع ببركة الاستصحاب.

أمّا لو فرض أنّ المشكلة هي مشكلة عدم انتساب العدم إلى الشارع، فلابدّ أن نرى أنّه هل المدّعى اشتراط انتساب العدم إلى الشارع ولو ظاهراً، أو اشتراط انتسابه إليه واقعاً وإن كفى لنا ثبوت الانتساب الواقعيّ ظاهراً، فإن فرض الأوّل صحّ جواب السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ الاستصحاب صحّح الانتساب. وإن فرض الثاني لم يصحّ هذا الجواب؛ لأنّ الاستصحاب إنّما أثبت الانتساب الظاهريّ واقعاً، ولم يثبت الانتساب الواقعيّ ظاهراً.


(1) مصباح الاُصول، ج2، ص 294.

238

ولكن هذا الإشكال إن كان صحيحاً ـ وهو القريب جدّاً ـ كان معنى ذلك أنّ العرف يرى في المقام العدم متعدّداً كما قلنا، فعدم تكليف الصغير شيء، وعدم تكليف الكبير شيء آخر، فإن تمّ هذا لم يضرّ بالنتيجة المطلوبة في المقام؛ لأنّ العدمين كلاهما كانا ثابتين من قبل، وكان أحدهما وهو عدم التكليف الصغير من باب السالبة بانتفاء المحمول، والآخر وهو عدم تكليف الكبير من باب السالبة بانتفاء الموضوع والعدم الأزليّ، ولئن لم يمكن استصحاب الأوّل ـ لما عرفته من إشكال تبدّل الموضوع والقطع بانتهائه ـ فاستصحاب الثاني لا عيب فيه، إذن فنحن نجري استصحاب عدم تكليف الكبير الثابت في حال الصغر بانتفاء موضوعه كما في الكبير الذي يفرض أنّه خلق في ساعته كبيراً، فإنّه يجري فيه استصحاب عدم التكليف عليه الثابت قبل وجوده بنحو العدم ا لأزليّ، ومسبوقيّته بالصغر لا تجعله أسوأ من فرض كونه ابن ساعته.

 

ب ـ بلحاظ ما قبل الشريعة:

الوجه الثاني: استصحاب عدم الجعل الثابت قبل الشريعة.وهنا أيضاً توجد عدّة إشكالات:

الأوّل والثاني: ما مضى من الإشكالين الأوّلين على الوجه الأوّل، وقد عرفت جوابهما أيضاً.

الثالث: ما يشبه الإشكال الثالث على الوجه الأوّل، وهو أنّ المتيقّن هو عدم الجعل بعدم أصل الشريعة، وهذا هو العدم المحموليّ، والمشكوك هو العدم النعتيّ فلا يجري الاستصحاب.

ويرد عليه: أنّه إن اُريد بذلك أنّ استصحاب العدم المحموليّ لا يثبت النعتيّة

239

واستناد العدم إلى الشارع، فهذا مسلّم(1)، لكنّنا لا نقصد إثبات النعتيّة، ويكفي في الأمن ذات العدم بقطع النظر عن نعتيّته وعدمها. وإن اُريد أنّ العدم المحموليّ فرد من العدم حصل القطع بانقطاعه، والعدم النعتيّ فرد آخر نشكّ في أصل ثبوته مقارناً لانقطاع العدم المحموليّ، فيكون الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، ورد عليه ما مضى من أنّ العدم لا يتفرّد بتعدّد الملاك، فعدم الجعل شيء واحد تارةً يكون من باب عدم الشريعة رأساً، واُخرى يكون من باب إقرار الشارع العدم على حاله مع ثبوت الشريعة لعدم تماميّة علّة الجعل.

الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّ استصحاب عدم الجعل في المقام، واستصحاب الجعل في غير المقام مثبت؛ إذ الأثر لا يترتّب على نفس الجعل، وإنّما يترتّب الأثر على الفعليّة والمجعول الذي يتحقّق بتحقّق الموضوع، ولذا لا أثر لجعل وجوب الحجّ على المستطيع بالنسبة للمكلّف، ولا يُلزم بالحجّ إلاّ بواسطة تحقّق المجعول وفعليّة الحكم بالنسبة له بصيرورته مستطيعاً، فإن اُريد باستصحاب الجعل أو عدمه مجرّد إثبات الجعل، أو نفيه من دون استطراق إلى إثبات المجعول أو نفيه لم يكن له أثر، وإن اُريد استصحاب ذلك استطراقاً إلى إثبات المجعول أو نفيه كان مثبتاً(2).



(1) وأمّا ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ نفس الاستصحاب يثبت النعتيّة؛ إذ يجعل العدم منتسباً إلى الشارع(1)، فقد عرفت النقاش فيه في التعليق السابق.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 296، وفوائد الاُصول، ج 4، ص 60.


(1) مصباح الاُصول، ج 2، ص 289.

240

وهذا الإشكال يذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في كلّ موارد استصحاب عدم الجعل، وبه يَحلّ مشكلة معارضة استصحاب المجعول باستصحاب عدم الجعل في باب الاستصحاب في الشبهة الحكميّة (1).

والسيّد الاُستاذ ينكر مثبتيّة استصحاب عدم الجعل(2)فيوقع المعارضة بينهما، ولهذا لا يقول بالاستصحاب في الشبهة الحكميّة.

وقد رأيت في الدراسات هنا(3) في مقام دفع إشكال المثبتيّة فيما نحن فيه، ما حاصله هو القول بما نقول به من أنّ المجعول ليس له وجود زائد على الجعل، وليس عندنا في المقام إلاّ جعل وموضوع، وإذا تمّ الجعل والموضوع ترتّب على ذلك لزوم الامتثال، وإنّما لا يترتّب الأثر العمليّ بمجرّد الجعل؛ لأنّ الأثر بحاجة إلى وجود الموضوع أيضاً، لا لأنّه بحاجة إلى وجود المجعول.

ومن هنا يقع السيّد الاُستاذ في ضيق، حيث إنّه لو التزم بأنّه ليس هناك إلاّ الجعل والموضوع، إذن فما هو استصحاب المجعول الذي يراه في نفسه جارياً وفاقاً للمشهور؟ وإنّمايخالف المشهور في إسقاطه بالمعارضة لاستصحاب عدم الجعل (ومن هنا كنّا نبني فترةً من الزمن على عدم جريان استصحاب المجعول في الشبهات الحكميّة في نفسه) ولو التزم بأنّ هناك جعلاً وموضوعاً ومجعولاً يتحقّق عند تحقّق الموضوع فإشكال المثبتيّة يأتي في المقام، فكيف يجري استصحاب عدم الجعل لأجل نفي المجعول؟ فيحتاج السيّد الاُستاذ إلى مبنىً بحيث يتصوّر فيه جعلاً ومجعولاً حتّى يجري استصحاب المجعول في نفسه، ولكن يقع طرفاً



(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 409، وفوائد الاُصول، ج 4، ص 164.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 3، ص 46.

(3) وهذا موجود أيضاً في مصباح الاُصول، ج 2، ص 290.

241

للمعارضة ويتصوّر جريان استصحاب عدم الجعل بلا مثبتيّة.

ونحن في بحث الاستصحاب سوف نتكلّم ـ إن شاء الله تعالى ـ في كيفيّة جريان استصحاب المجعول في الشبهات الحكميّة بنحو يظهر أنّ استصحاب المجعول يجري، وأنّه لا يعارض هناك باستصحاب عدم الجعل، وأنّ استصحاب عدم الجعل هنا ليس مثبتاً(1).

الخامس: ما ذكره السيّد الاُستاذ كما ورد في الدراسات، وهو معارضة استصحاب عدم جعل التكليف باستصحاب عدم جعل الإباحة(2).

وأجاب عليه بوجهين:

الأوّل: أنّه لا مانع من إجراء كلا الاستصحابين؛ لعدم أدائه إلى المخالفة القطعيّة؛ إذ العلم الإجماليّ ليس علماً بالتكليف على كلّ تقدير، بل هو علم بأحد الأمرين: التكليف والإباحة، ويكفي للأمن نفي التكليف، ولا حاجة إلى إثبات الإباحة(3).



(1) لأنّ التنجيز يترتّب عقلاً على ثبوت مجموع أمرين وجداناً أو تعبّداً أو بالتلفيق وهما الجعل وتحقّق الموضوع، وليس المجعول شيئاً وراء الجعل. نعم، نفس الجعل قد ينظر إليه بنظر الحمل الشائع فيُرى جعلاً يمكن استصحاب عدم الجزء الذي شكّ منه، واُخرى ينظر إليه بنظر الحمل الأوّليّ فيُرى مجعولاً يوجد في زمانه في فترة مستمرّة فيجري استصحاب المجعول، ولا معنى لجريان الاستصحابين معاً؛ إذ لا معنى لافتراض أنّ العرف ينظر إلى الجعل بكلا النظرين، فإن كان العرف ينظر إليه بالنظر الدقّيّ الفلسفيّ وبالحمل الشائع جرى استصحاب عدم الجعل دون استصحاب المجعول، وإن كان ينظر إليه بالمسامحة العرفيّة وبالحمل الأوّليّ جرى استصحاب المجعول دون استصحاب عدم الجعل، وبما أنّ الصحيح هو أنّ العرف ينظر إليه بالنظر المسامحيّ وبالحمل الشائع إذن فاستصحاب المجعول يجري من دون معارضته باستصحاب عدم الجعل.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 290.

(3) راجع المصدر السابق، ص 291.

242

ويرد عليه: أنّ هذا لا يتمّ على مبناه من قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعيّ، فالحكم المستصحب يمكن إسناده بعنوان الحكم الواقعيّ إلى المولى؛ إذ موضوع جواز الإسناد هو العلم بكونه منه، والاستصحاب يقوم مقام هذا العلم، إذن فالاستصحابان في المقام يؤدّيان إلى جواز إسناد كلا العدمين إلى المولى وهو غير جائز، لعدم جواز إسناد ما علم بكذبه إليه، وهنا نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، والعلم الإجماليّ كاف أيضاً في الحرمة، ومقدار الجامع واصل إلينا ومنجّز علينا، فيبطل الاستصحاب في كلا الطرفين؛ لأدائهما إلى المخالفة القطعيّة. وأتذكّر أنّ السيّد الاُستاذ كان يقع في ضيق من ناحية أنّه هل يعدّل مبناه، أو يعدّل هذه التفريعات.

ثمّ إنّه لو فرض قطع النظر عن هذه النكتة التي ذكرناها لا وجه لجريان كلا الاستصحابين في نفسه بقطع النظر عن المعارضة، وإنّما يجري استصحاب عدم التكليف فقط دون استصحاب عدم الإباحة؛ إذ لا أثر له، فكان ينبغي له بقطع النظر عن تلك النكتة أن يجيب على الإشكال، بأنّ استصحاب عدم الإباحة غير جار في نفسه ثمّ يقول بعنوان التنزّل: ولو جرى لم يعارض استصحاب عدم الحرمة.

والثاني: أنّ استصحاب عدم الإلزام حاكم على استصحاب عدم الإباحة؛ إذ الإباحة التي وقعت أحد طرفي العلم الإجماليّ ليست هي الإباحة الخاصّة بعنوان خاصّ، بل هي الإباحة العامّة الموضوعة على عنوان (كلّ ما لم يجعل فيه الإلزام)، فإنّ هذه الإباحة تظهر من الأخبار كما ورد من ردعه(صلى الله عليه وآله) أصحابه عن كثرة السؤال في الحجّ وما ورد من قوله(صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)(1).



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 290 و 291 ولم يرد فيه الاستشهاد بقوله(صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، ولا يحضرني كتاب الدراسات.

243

أقول: من المعلوم أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على مقصوده، وأيّ علاقة لقوله: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) بذلك؟! سواء قلنا: إنّ المقصود الإتيان بالأفراد المقدورة أو قلنا: إنّ المقصود الإتيان بالأجزاء المقدورة، وبأيّ نحو فسّرنا هذا الحديث فهو أجنبيّ عمّا نحن فيه، والنهي عن كثرة السؤال لعلّه كان باعتبار أنّ الأغراض المولويّة ما لم تحرّك المولى نحو البيان لا يجب امتثالها، ولا يجب السؤال عنها، وإذا سُئل عنها فقد يكون نفس السؤال موجباً لتتميم ملاك البيان فيبيّن، فيجب عليهم الامتثال، فيتورّطون في المعصية مثلاً، لعدم تعوّدهم بعدُ على الطاعة وعدم انصهارهم بعدُ في الإسلام، فنهاهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن السؤال ولو إرشاداً إلى عدم وجوب السؤال حتّى لا يأتي البيان ويضيق الأمر عليهم.

وكان الأولى أن يستدلّ بحديث: (اسكتوا عمّا سكت الله عنه). وإن كان يرد عليه ـ لو كان قد استدلّ بهذا ـ: أنّ السكوت عنوان ثبوتيّ منتزع لا يثبت باستصحاب عدم الإلزام.

وعلى أيّة حال، فلا داعي لنا للدخول في تفاصيل الكلام هنا؛ إذ أصل هذا البحث مبنيّ على فرض الإباحة أمراً وجوديّاً، لكنّها ليست إلاّ عبارة عن عدم الإلزام، غاية الأمر أنّ عدم الإلزام تارةً يبيّن بإنشاء مستقلّ، واُخرى يبيّن بعدم بيان الإلزام، ولا معنى لفرض استصحاب عدم الإلزام معارضاً لاستصحاب عدم الإباحة.

 

ج ـ بلحاظ ما قبل الشرائط الخاصّة:

الوجه الثالث: استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقّق الأمر الخاصّ الذي يحتمل تحقّق التكليف به، كأن يستصحب بعد زوال الجمعة عدم وجوب صلاة الجمعة الثابت قبل الزوال.

244

وهذا الوجه أبعد عن الإشكال من الوجهين السابقين؛ لأنّ جملة من الإشكالات المتوهّمة فيما مضى لا تأتي هنا.

ولا بأس بهذا الاستصحاب متى ما لم تكن الخصوصيّة التي زالت من الخصوصيّات المقوّمة للموضوع.

أمّا إذا كانت تلك الخصوصيّة من الخصوصيّات المقوّمة للموضوع فحال هذا الشخص قبل زوال تلك الخصوصيّة حاله قبل البلوغ، ونتمسّك بشأنه باستصحاب العدم الأزليّ.

 

استصحاب البراءة في الشبهات الموضوعيّة:

بقي هنا شيء، وهو: أنّ الاستصحاب المتمسّك به في المقام هل يجري في الشبهات الموضوعيّة كما يجري في الشبهات الحكميّة أو لا؟ مثلاً لو شكّ في وجوب الحجّ للشكّ في الاستطاعة، وفرضنا عدم إمكان التمسّك بالاستصحاب الموضوعيّ الجاري عادةً في الشبهات الموضوعيّة لمانع منع عن الاستصحاب الموضوعيّ فحسب دون الاستصحاب الحكميّ، كما لو تواردت الحالتان على الاستطاعة، فكان مستطيعاً في حين وغير مستطيع في حين آخر، ولم يكن الحكم مصبّاً لتوارد الحالتين، وافترضنا أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الاستطاعة الباقية لا الاستطاعة ولو بوجودها السابق. وبكلمة مختصرة: افترضنا عدم جريان الأصل الموضوعيّ لنكتة تخصّها فاحتجنا إلى الأصل الحكميّ، فهل يجري عندئذ استصحاب عدم الحكم أو لا؟

لا إشكال في تأتّي الوجه الأوّل والثالث من وجوه استصحاب عدم التكليف، فإنّ الشبهة وإن كانت موضوعيّة ولكن الحكم بوجوده في عالم الفعليّة ينحلّ إلى أحكام عديدة بعدد الموضوعات، ويقع الشكّ في هذا الفرد من الحكم فيستصحب عدمه.