163

إذن فمدّعاه(رحمه الله) في باب الاضطرار صحيح دون النسيان. ودليله على مدّعاه غير صحيح.

 

وقفة حول الخطأ والنسيان:

الجهة الخامسة: ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه شذّت في هذا الحديث كلمة (الخطأ والنسيان) ففي مثل ما اضطرّوا إليه ذكر الشيء بصياغة طروّ العنوان الثانوي عليه، ولكن في هاتين الكلمتين ذكر نفس الخطأ والنسيان، لا المخطيّ أو المنسيّ، فهل المرفوع هو المخطيّ أو المنسيّ ـ كما هو الحال في مثل ما اضطرّوا إليه ـ أو نفس الخطأ والنسيان؟ أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ المرفوع هو المخطيّ والمنسيّ لا نفس الخطأ والنسيان؛ إذ لو رفع نفس الخطأ والنسيان كان ذلك خلاف الامتنان وتحميلاً على العبد؛ إذ معنى ذلك أنّ ما ارتكبه من الحرام خطأً أو نسياناً كأنّه ارتكبه عمداً(1).

أقول: هذا أيضاً ممّا لا ينسجم مع مبنى كون الرفع في هذا الحديث رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ، وإنّما ينسجم مع العكس وهو كون الرفع رفعاً تشريعيّاً للوجود


الاضطرار؛ لأنّه من حين نزول الحكم كان مضطرّاً ولم يكن له مناص. وكذلك نقول في النسيان: إنّه لو وجبت المحافظة من ناحية النسيان لإحرازنا لأهمّيّة الموضوع، أو لاقتضاء إطلاق دليل وجوب ذلك الواجب المحافظة عليه في داخل الوقت، أو لأيّ دليل آخر، ثمّ ورّط نفسه في النسيان فقد خالف ـ في ساعة ترك المحافظة ـ الحكم متذكّراً وهو خارج عن حديث رفع النسيان موضوعاً، وإلاّ فهو مشمول للحديث.

(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 127، وأجود التقريرات، ج 2، ص 170.

164

الحقيقيّ؛ إذ عندئذ يقال: إنّ رفع الخطأ والنسيان يعني فرض انتفائهما خارجاً، وافتراض الفعل الصادر بمنزلة الفعل العمديّ الذي لا خطأ فيه ولا نسيان، وهذا خلاف الامتنان. أمّا بناءً على الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ فمعنى رفع الخطأ والنسيان رفعهما عن صفحة التشريع بلحاظ ما يفترض لهما من أحكام ثقيلة على العبد، كوجوب سجدتي السهو مثلاً، وهذا موافق للامتنان.

نعم، مع ذلك نقول: إنّ المرفوع هو المخطيّ والمنسيّ لا نفس الخطأ والنسيان؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: وحدة السياق، حيث إنّك عرفت(1) أنّ العنوان الثانويّ في مثل «ما اضطرّوا إليه» اُخذ بنحو المعرّفيّة ومشيراً إلى ما طرأ عليه الاضطرار. وبما أنّ الخطأ والنسيان أيضاً يصلحان لفرضهما عنواناً مشيراً ومعرّفاً للمخطيّ والمنسيّ باعتبارهما شأناً من شؤونهما، ومقتضى وحدة السياق كونهما ملحوظين كذلك، فهما أيضاً كالاضطرار ونحوه اُخذا جهة تعليليّة.

إن قلت: فكيف نصنع بالحسد والطيرة والوسوسة، حيث إنّ المرفوع نفس هذه الاُمور ولم تؤخذ معرّفاً ومشيراً؟

قلنا: إنّ هذه الاُمور ليست عناوين ثانويّة كالاضطرار والإكراه والخطأ والنسيان، ممّا لابدّ من فرض عنوان أوّلي سابق عليها، فوحدة السياق المقتضية لمشيريّة العنوان الثانويّ إلى الذات الثابتة في الرتبة السابقة تختصّ بغيرها وتؤثّر فيما عداها.

الوجه الثاني: أنّ ظاهر الحديث ـ كما مضى ـ هو كون هذه العناوين رافعة.



(1) بالوجه الإنّيّ الماضي في آخر الجهة الثالثة، وبما اُشير إليه هناك من بعض الروايات.

165

ومقتضى مناسبات الحكم والموضوع والارتكاز العرفيّ هو أنّ مثل الاضطرار(1)والخطأ والنسيان تصلح رافعة لآثار ما تطرأ عليها، لا رافعة لآثار نفسه، وهذه المناسبة العرفيّة تصبح قرينة على أنّ الخطأ والنسيان اُخذا معرّفين ومشيرين إلى ذات المخطيّ والمنسيّ، وجهة تعليليّة لرفعها.

 

ما لا يشمله الرفع:

الجهة السادسة: أنّ هناك آثاراً لا يشكّ فقيه في عدم شمول الرفع لها من قبيل حصول النجاسة بملاقات النجس، والجنابة بتحقّق موضوعها ونحو ذلك، فإنّه لو حصل ذلك ـ ولو اضطراراً مثلاً ـ ترتّبت الآثار من النجاسة والجنابة ونحوهما لا محالة، ويقع الكلام في أنّ خروج ذلك عن الحديث هل هو بالتخصيص أو بالتخصّص؟

ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ خروج ذلك بالتخصيص بالإجماع(2).

وذهب السيّد الاُستاذ إلى أنّ ذلك خارج عن مفاد الحديث تخصّصاً؛ لأنّ الاضطرار في نظر العرف صفة للفعل المضطرّ إليه، فإن كان هناك حكم مترتّب على نفس الفعل، كالكفّارة المترتّبة على الإفطار ارتفع بالاضطرار والإكراه. وأمّا إذا كان الحكم مترتّباً على عنوان الملاقاة مثلاً كما في النجاسة، أو أيّ عنوان آخر غير الفعل، فهو لا يرتفع بحديث الرفع؛ لأنّ ما يتّصف بالاضطرار وهو الفعل ليس هو موضوعاً للحكم، وما يكون موضوعاً للحكم ليس متّصفاً بالاضطرار إليه(3).



(1) هذا هو البيان اللمّيّ الذي وعدناه في ذيل الجهة الثالثة.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 176، وفوائد الاُصول، ج 3، ص 130 ـ 131.

(3) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 269. والعبارة قابلة للحمل على معنىً آخر، وهو الوجه الذي اختاره اُستاذنا الشهيد وإن كان أظهر في المعنى المذكور هنا، ولا يوجد عندي فعلاً تقرير آخر من تقارير بحثه.

166

أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان لا يخلو من وجاهة إلاّ أنّه لا يأتي في النسيان، فلئن كان مثل الاضطرار يتعلّق بفعل المكلّف دون شيء آخر، فالنسيان يتعلّق بالفعل وبغير الفعل، فإذا نسي الملاقاة للنجاسة فقد أصبح موضوع الحكم منسيّاً، ومع ذلك لا يحكم بعدم النجاسة. ولا يمكن التمسّك بوحدة السياق؛ لأنّنا قلنا: إنّ وحدة السياق لا ترتبط بباب التطبيق، وهذا بابه باب التطبيق، فالاضطرار لا ينطبق إلاّ على الفعل، والنسيان ينطبق على غيره أيضاً، نظير أنّ (ما لا يعلمون) كان ينطبق على الحكم الذي هو فعل المولى وغيره لم يكن كذلك.

والصحيح مع هذا: أنّ خروج مثل ذلك يكون بالتخصّص لا بالتخصيص، والوجه في ذلك هو أنّ مقتضى مناسبات الحكم والموضوع والارتكاز العرفيّ، هو أنّ الاضطرار والنسيان ونحوهما من العناوين إنّما تصلح لرفع الأثر الذي يترتّب على ما يسند إلى الشخص، حيث إنّ هذه العناوين تجعل إسناد الشيء إلى الشخص وانتسابه إليه ضعيفاً في نظر العرف، والنجاسة لا تترتّب على الملاقاة باعتبار الإسناد إلى الشخص، بل على ذات الملاقاة ولو من دون توسط فعل الشخص، كأن يقع الثوب على النجاسة بواسطة تحريك الهواء له، فما يكون من هذا القبيل لا يرفع بحديث الرفع.

 

تطبيق الحديث على أقسام الحكم:

الجهة السابعة: في تطبيق حديث الرفع على أقسام الحكم، أعني: التكليفيّ الاستقلاليّ، والتكليفيّ الضمنيّ، والوضعيّ على ضوء النكات الماضية فنقول:

تشترط في إمكان التمسّك بحديث الرفع ـ على ضوء ما مضى ـ اُمور ثلاثة:

1 ـ كون الشيء معروضاً للحكم في عالم التشريع، بأن يكون موضوعاً أو متعلّقاً له.

167

2 ـ كون الرفع توسعة على المكلّف من دون أن يستلزم تحميلاً على غيره.

3 ـ كون الحكم مترتّباً على الشيء بما هو منتسب إلى المكلّف.

فنتكلّم في الأقسام الثلاثة للحكم على ضوء هذه الشروط الثلاثة:

القسم الأوّل: هو الحكم التكليفيّ الاستقلاليّ، ونقسّم ذلك بتقسيمين:

التقسيم الأوّل: أنّ الحكم قد يكون مترتّباً على الشيء بما هو منتسب إلى العبد، وقد يكون مترتّباً عليه بقطع النظر عن الانتساب إليه، فموضوع وجوب الصدقة مثلاً، قد يكون عبارة عن فتح العبد للباب، كأن يقول المولى: (إن فتحت الباب فتصدّق)، واُخرى يكون عبارة عن انفتاح الباب ولو بواسطة الهواء مثلاً، كأن يقول المولى: (إذا انفتح الباب فتصدّق)، ففي الأوّل يجري حديث الرفع، وفي الثاني لا يجري؛ لانتفاء الشرط الثالث.

التقسيم الثاني: أنّ الحكم قد يكون انحلاليّاً، وقد يكون متعلّقاً بصرف الوجود.

أمّا الأوّل: كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) فقد يفرض تعلّق الاضطرار أو الإكراه فيه بترك العمل على وفق هذا الأمر في فرد من الأفراد، واُخرى يفرض الاضطرار أو الإكراه على العمل على وفقه كما لو اُكره على إكرام زيد العالم مثلاً، ففي الأوّل يجري حديث الرفع، وفي الثاني لا يجري؛ لفقدان الشرط الثاني.

وأمّا الثاني: كما لو قال: (أكرم عالماً)، فإن اُكره على العمل بما يوافق الأمر فأيضاً لا يجري حديث الرفع؛ لفقدان الشرط الثاني. وإن اُكره على الترك، فإن فرض إكراهه على ترك الطبيعيّ جرى فيه حديث الرفع، وإن فرض إكراهه على ترك إكرام عالم بعينه لم يجرِ حديث الرفع؛ لانتفاء الشرط الأوّل؛ لأنّ إكرام هذا بالخصوص ليس معروضاً للحكم، وإنّما معروض الحكم طبيعيّ إكرام العالم، وهو لم يكره على تركه ويمكنه إكرام فرد آخر. وقد مضى أنّ الحديث رفع حقيقيّ للوجود التشريعيّ، وليس لترك إكرام هذا الفرد وجود تشريعيّ حتّى يرفع. نعم لو

168

قلنا: إنّه رفع تنزيليّ للوجود الحقيقيّ أمكن أن يقال في المقام بصدور الامتثال تنزيلاً، بأن يدّعى أنّ عدم الترك الذي نزّل الترك منزلته يكون عرفاً عبارة عن الفعل.

وهنا تقسيم ثالث: وهو كون الإكراه على أمر وجوديّ كفتح الباب الموضوع لوجوب التصدّق مثلاً، أو على أمر عدميّ كعدم الفتح مع فرض إيجاب المولى التصدّق عند عدم الفتح. وقد مضى عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)دعوى التفصيل بين القسمين بجريان الرفع في الأوّل دون الثاني؛ لأنّ رفع العدم مساوق للوضع، وهو لا يستفاد عرفاً من حديث الرفع. وقد مضى أيضاً دفعه بأنّه بناءً على المبنى الصحيح من كون حديث الرفع رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ لا صورة لهذا الإشكال؛ لأنّ العدم الموضوع لحكم شرعيّ له وجود تشريعيّ، وبناءً على المبنى الآخر هناك مجال لهذا الإشكال على كلام فيه.

القسم الثاني: وهو الحكم التكليفيّ الضمنيّ كما لو حصل الاضطرار إلى ترك جزء أو شرط أو إتيان مانع، والكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في جريان الرفع في ذلك وعدمه.

والصحيح: أنّ الاضطرار إن لم يكن مستوعباً لتمام الوقت لم يجرِ الرفع، لاختلال الشرط الأوّل؛ لأنّ الفاتحة في الساعة الاُولى مثلاً المضطرّ إلى تركها ليست هي الموضوع، وإنّما الموضوع هو الطبيعيّ، وهو غير مضطرّ إلى تركه، وإن استوعب تمام الوقت جرى الرفع، ولا وجه معتدّ به لعدم الجريان إلاّ من ناحية أنّ رفع العدم وضع، فلا يجري في ترك الجزء أو الشرط، وقد عرفت جوابه.

المقام الثاني: في أنّه بعد جريان الرفع هل يصحّ الباقي أو لا؟

التحقيق: أنّه لا يصحّ كما ذهب إليه مشهور المحقّقين؛ إذ غاية الأمر هو رفع الوجوب الضمنيّ، والوجوب الضمنيّ لا يرتفع إلاّ بارتفاع وجوب المركّب؛

169

للترابط بين الوجوبات الضمنيّة. وعندئذ إن تعلّق الأمر بالباقي صحّ، وإلاّ فلا، وحديث الرفع حياديّ من هذه الناحية.

ولا يقاس الحديث بدليل تخصيص الجزئيّة، كأن يقول مثلاً: المستعجل لا يقرأ السورة؛ إذ ذلك ناظر إلى مسألة الجزئيّة، فالأمر بالباقي يثبت بنفس الدليل السابق، وحديث الرفع لا ينظر إلى الجزئيّة، وإنّما ينظر إلى الوجود التشريعيّ لموضوع الحكم فيرفعه، والحكم الذي تكون السورة موضوعاً له هو الوجوب الضمنيّ لا الجزئيّة، وإنّما الجزئيّة من منتزعات عالم التشريع، وغاية ما يمكن أن يقال في تصحيح الباقي أو النتيجة المطلوبة من ذلك وجهان:

الوجه الأوّل: ما مضى من فرض كون مفاد الحديث الرفع التنزيليّ للوجود الخارجيّ بضمّ دعوى أنّ العرف يرى رفع العدم مساوقاً للوجود، فيحصل وجود تنزيليّ للسورة المتروكة، وقد عرفت بطلان المبنى.

الوجه الثاني: ما يثبت بحسب الحقيقة نتيجة الصحّة لا نفسها، وذلك في فرض الاستيعاب، وهو أن يقال: إنّ المقصود من إثبات الصحّة رفع وجوب القضاء، ونحن نثبت هذه النتيجة بإجراء حديث الرفع في موضوع هذا الوجوب، فإنّ موضوع وجوب القضاء هو ترك الفريضة الكاملة، وقد تحقّق ذلك عن اضطرار فلا يجب القضاء.

وتحقيق الحال في ذلك: هو أنّه لابدّ أن يرى ما هو الموضوع لوجوب القضاء، هل هو الترك،أو عدم الإتيان، أو الفوت؟ وهي اُمور ثلاثة بعضها غير بعض. فالأوّل هو الترك بنحو العدم النعتيّ، والثاني يكون بنحو العدم المحمولي، والثالث عنوان ثبوتيّ منتزع من الأمر العدميّ. فعلى الأوّل يصحّ التمسّك بحديث الرفع، وعلى الأخيرين لا يصحّ؛ لانتفاء الشرط الثالث، وهو كون الأثر مترتّباً على الشيء باعتبار جهة انتسابه إلى المكلّف.

170

القسم الثالث: هو الحكم الوضعيّ.

فإن ترتّب الأثر الوضعيّ على الشيء في نفسه، كالنجاسة المترتّبة على الملاقاة بقطع النظر عن جهة الانتساب إلى الشخص، فلا يجري حديث الرفع؛ لفقد الشرط الثالث. وإن ترتّب الأثر بالنظر إلى جهة الانتساب، كما في المعاملات جرى حديث الرفع مع ملاحظة الشرطين الآخرين.

وقد ينفقد أحد الشرطين الآخرين فلا يجري حديث الرفع، ولذا لا نقول بالرفع في الاضطرار إلى المعاملة؛ لفقد الشرط الثاني بخلاف الإكراه عليها، وأيضاً لا نقول بالرفع في الإكراه على ترك المعاملة، أو أن يجعلها بشكل فاسد، كإجراء الصيغة بالفارسيّة بناءً على اشتراط العربيّة وإن كان هناك امتنان في تحقّق نتيجة المعاملة الصحيحة، وذلك لاختلال الشرط الأوّل؛ إذ المعاملة الفاسدة أو ترك المعاملة ليس موضوعاً لحكم.

وهنا شبهة، وهي: أنّ ترك المعاملة الصحيحة موضوع لبقاء الملك، فإنّ بقاءه مشروط بعدم إيقاع المعاملة الصحيحة، فلم لايصحّ إجراء حديث الرفع لنفي بقاء الملكيّة بلسان رفع الوجود التشريعيّ لموضوع ذلك؟ فإن لم تتصوّر منّة في نفي هذه الملكيّة نقلنا الكلام إلى نتيجة المعاملة المقصودة للمتعاملين وقلنا: إنّ عدم هذه المعاملة موضوع لعدم تحقّق تلك النتيجة، ورفع هذا العدم وإثبات تلك النتيجة موافق للامتنان.

والاستشكال في ذلك بأنّ عدم تلك النتيجة ليس حكماً شرعيّاً وإنّما هو عدم لحكم شرعيّ، يمكن دفعه بأنّ هذا يشبه ما مضى من ترك الواجب، وقد قلنا هناك: إنّ ترك الواجب وإن لم يكن موضوعاً لحكم شرعيّ بناءً على أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، لكنّ المقصود من عالم التشريع عالم حساب المولى بمعنىً يشمل هذا المورد، ويمكن أن يقال بمثل ذلك فيما نحن فيه.

171

إلاّ أنّ الإنصاف أنّ كون ما نحن فيه مثل ترك الواجب الذي يترتّب عليه العقاب ويعدّ عرفاً حراماً في مساعدة الفهم العرفيّ على عدّ ذلك من عالم التشريع غير معلوم.

ولكن مع هذا لا نتخلّص بذلك عمّا عرفتها من الشبهة، بل يبقى لها مجال في بعض الموارد، فمن فرض مثلاً مبتلى بزوجة مؤذية فاضطرّ إلى طلاقها، لكن ظالماً أكرهه على ترك الطلاق، فانتفاء الزوجيّة يكون امتناناً له بلا إشكال، وبقاء الزوجيّة موضوعه عدم الطلاق، فأيّ مانع من إجراء حديث الرفع ونفي بقاء الزوجيّة بلسان رفع الوجود التشريعيّ لموضوعه؟ وهذه شبهة مستعصية.

وحلّ هذه الشبهة يكون بالالتفات إلى الشرط الثالث وأنّ ترك المعاملة، وكذلك ترك الطلاق بما هو عدم نعتي ليس موضوعاً لبقاء الملكيّة أو الزوجيّة، وإنّما الموضوع لذلك ـ بحكم الجمع بين دليل الملكيّة الاُولى أو الزوجيّة، ودليل نفوذ البيع أو الطلاق ـ هو عدم البيع أو الطلاق بنحو العدم المحموليّ، وعندئذ نقول: إن اُريد تطبيق حديث الرفع على العدم النعتيّ، فالشرط الأوّل مفقود، وإن اُريد تطبيقه على العدم المحموليّ فالشرط الثالث وهو الانتساب إلى المكلّف مفقود.

 

سند الحديث:

وأمّا المقام الرابع: وهو في سند الحديث. فقد أورد صاحب الوسائل في كتاب الجهاد عن الصدوق في الخصال، وعنه في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله(عليه السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لايعلمون، وما لايطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»(1).



(1) الوسائل، ج 11، ب 56 من جهاد النفس، ح 1، ص 295.

172

والظاهر أنّ هذه الرواية بهذا السند هي منشأ الصيغة المعروفة على الألسن، أعني: «رفع عن اُمّتي تسعة»، إلاّ أنّ هذه الرواية إشكالها هو أنّ الصدوق(قدس سره) ينقلها عن أحمد بن محمّد بن يحيى وهو لم يثبت توثيقه إلاّ بناءً على أنّ مشايخ الثلاثة كلّهم ثقات، فأحمد بن محمّد بن يحيى عندئذ يصبح ثقة؛ لأنّه من مشايخ الصدوق(رحمه الله)الذي روى عنه هذا الحديث. وأمّا بناءً على عدم ثبوت مثل هذه القاعدة فتكون هذه الرواية ضعيفة سنداً بقطع النظر عمّا يأتي من بحث نظريّة التعويض، فلابدّ من التفتيش عن طريق آخر لإثبات حديث (رفع ما لا يعلمون).

وقد ذكر الصدوق(رحمه الله) في مَن لا يحضره الفقيه(1) في باب الوضوء: أنّه قال أبو عبد الله(عليه السلام): إنّه قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) وذكر نفس الصيغة(2) الواردة في التوحيد والخصال مع حذف السند، ومن المحتمل قويّاً أنّ نظره إلى ذلك السند الذي سجّله مفصّلاً في الخصال والتوحيد. وعلى أيّ حال فمثل هذا المرسل ـ وإن فرضت نسبة الصدوق(قدس سره) له ابتداءً إلى الإمام ـ لا يمكن الاعتماد عليه بناءً على ما نبني عليه من عدم الفرق في عدم حجّيّة المرسل بين إرساله بعنوان (رُوي) وإرساله بعنوان (قال الإمام)، وأنّ المناط في سقوط المرسل عن الحجّيّة هو وجود واسطة محذوفة لا يعرف حالها.

وروي في الوسائل في كتاب الأيمان بسنده عن كتاب أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «وضع عن



(1) ج 1 من المجلّدات الجديدة، ح 32، ص 36.

(2) هناك فرق مختصر لفظيّ بينهما كتبديل رفع بوضع، والاختلاف في ترتيب ذكر بعض العناوين التسعة، وفرق مختصر معنويّ وهو حذف (ما اضطرّوا إليه) وإضافة (السهو). راجع الوسائل، ج 4، ب 37 من قواطع الصلاة، ح 2، ص 1284.

173

اُمّتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»(1). وهذه الرواية لو تمّت سنداً وغضضنا النظر عن عدم إمكان نقل أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحلبيّ مباشرةً(2) لا تنفعنا في المقام؛ إذ ليس فيها عنوان (ما لايعلمون).

وهناك رواية اُخرى أيضاً في الوسائل في كتاب الأيمان تنتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ربعي، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «عفي عن اُمّتي ثلاث: الخطأ، والنسيان، والاستكراه». قال أبو عبد الله(عليه السلام): «وهنا رابعة وهي: ما لا يطيقون»(3). وهذه الرواية أيضاً لا تنفعنا؛ لعدم وجود عنوان (ما لا يعلمون) فيها.

نعم، هنا رواية اُخرى في الوسائل تنتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، عن إسماعيل الجعفيّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «وضع عن هذه الاُمّة ستّ خصال: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه»(4). وهذا الحديث مشتمل على الجملة المقصودة



(1) الوسائل، ج 16، ب 16 من الأيمان، ح 5، ص 144.

(2) هذا الإشكال يقوى لو حملنا الحلبيّ على الحلبيّ المعروف ـ أعني: محمّد بن عليّ بن أبي شعبة ـ أو على أخيه ـ أعني: عبد الله بن عليّ بن أبي شعبة ـ أمّا لو حمل على يحيى بن عمران الحلبيّ الذي يروي عن الصادق والكاظم(عليهما السلام)فالإشكال يكون أخف، ولكن الإنصاف أنّ نقل أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الصادق(عليه السلام) بواسطة واحدة بعيد في الغاية، وهذا العيب موجود في حديث ربعي أيضاً.

(3) الوسائل، ج 16، ب 16 من الأيمان، ح 4، ص 144.

(4) المصدر السابق، ح 3. وهناك روايات اُخرى في حديث الرفع كلّها غير مفيدة في المقام:

فقد روي في الوسائل في نفس الباب الحديث السادس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى

174


في نوادره، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، ثمّ قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وضع عن اُمّتي ما اُكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا». وهذا الحديث وإن كان تامّاً سنداً إلاّ أنّه غير مشتمل على (ما لا يعلمون).

وروي في الوسائل ـ ج 11، ب 56 من جهاد النفس، ص 295، الحديث الثاني ـ عن عمرو بن مروان بسند فيه معلّى بن محمّد، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي أربع خصال: خطأُها، ونسيانها، وما اُكرهوا عليه، ومالم يطيقوا...». وهذا أيضاً غير مشتمل على (ما لا يعلمون).

وروي في نفس الباب، الحديث الثالث، وهي مرفوعة محمّد بن أحمد النهدي، عن الصادق(عليه السلام)عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «وضع عن اُمّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لا يظهر بلسان أو يد». وهذا وإن كان مشتملاً على (ما لا يعلمون) لكنّه ساقط سنداً.

وخير الروايات المشتملة على (ما لا يعلمون) سنداً هي الرواية التي مضت عن الوسائل عن الخصال والتوحيد، وعيبها السنديّ الوحيد هو أنّ الصدوق رواها عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار الذي لم يرد نصّ على توثيقه.

توثيق (أحمد بن محمّد بن يحيى):

وهنا طريق لإثبات توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار لو تمّ ينتفي بذلك إشكال سند حديث الرفع، وهو أنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) نقل بشكل مكثّف في الجزء الأوّل من

175


الاستبصار ـ بحسب الطبعة الجديدة المطبوعة في أربع مجلّدات ـ روايات يكون المقطع الأوّل من سندها ما يلي: (أخبرنا الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه)(1)، واقتصر على ذكر هذا السند فحسب. ولو لم تكن له شهادة حسّيّة بوثاقة الحسين بن عبيد الله الغضائريّ وأحمد بن محمّد بن يحيى كان من المستبعد إلى حدّ الاطمئنان أن يقتصر في كلّ هذه الروايات على هذا السند مع امتلاكه لما لا شكّ في صحّته من سند إلى محمّد بن يحيى العطّار، وهو سنده إلى الكلينيّ، عن محمّد بن يحيى العطّار كما ورد في المشيخة. ولئن اختصّ هذا السند بكلّ ما رواه في التهذيبين عن كتب محمّد بن يحيى العطّار فإنّنا لا نشكّ أنّ أكثر هذه الروايات أو جميعها قد أخذها من كتب محمّد بن يحيى العطّار؛ إذ لا يوجد قبله عدا الحسين بن عبيد الله الغضائريّ وأحمد بن محمّد بن يحيى، والأوّل قد نقل الشيخ عنه بعنوان (أخبرنا)، وهذا يعني أنّه لم يأخذها من كتابه، على أنّ الحسين بن عبيد الله ليست له كتب روائيّة، والثاني ليس له كتاب. وأمّا مَن بعد محمّد بن يحيى فهو ليس شخصاً معيّناً في جميع تلك الروايات، فإنّ السند من بعد محمّد بن يحيى العطّار يختلف كثيراً باختلاف تلك الروايات، وإنّما القاسم السنديّ المشترك فيما بينهما هو المقطع الأوّل من السند، وهو الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه محمّد بن يحيى العطّار، وهذا يدلّ على أنّه أخذ كلّ تلك الروايات أو جلّها من كتاب محمّد بن يحيى العطّار لا ممّن قبله ولا ممّن بعده، ومن البعيد أن يكون له سند واضح


(1) راجع بهذا الصدد أحمد بن محمّد بن يحيى في تفصيل طبقات الرواة للسيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ج 2، ص 706.

176


الصحّة إلى كتاب محمّد بن يحيى العطّار ثمّ يترك ذكره صدفة في كلّ تلك الروايات المكثّف وجودها في الجزء الأوّل من الاستبصار، ويقتصر فيها جميعاً على ذكر سند يوجد فيه من ليست له شهادة حسّيّة بوثاقته، أفلا يعني هذا أنّ الشيخ الطوسيّ يشهد بوثاقة الحسين بن عبيد الله الغضائريّ وأحمد بن محمّد بن يحيى؟ فلو لم يكن يشهد بوثاقتهما فلماذا هذا الإصرار على ذكر سند غير صحيح وترك السند الصحيح؟ ولو كان يشهد بوثاقتهما عن حدس فلماذا هذا الإصرار على ذكر سند يكون صحيحاً عنده عن حدس واجتهاد وترك سند يكون صحيحاً عنده بالشهادة الحسّيّة أو ما يقرب من الحسّ؟ على أنّه من البعيد جدّاً كون وثاقتهما ثابتة عند الشيخ بالحدس لا بالحسّ، فإنّ أحدهما شيخه، والثاني قريب من زمانه؛ لأنّه شيخ شيخه.

ويؤيّد المطلوب: أنّ السند الوحيد الذي ذكره الشيخ في مشيخته إلى كتاب عليّ بن جعفر هو الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه محمّد بن يحيى العطّار، عن العمركي بن عليّ النيسابوريّ البوفكي، عن عليّ بن جعفر، مع أنّ له سنداً تامّاً إلى كلّ من محمّد بن يحيى العطّار وعليّ بن جعفر.

وبإمكاننا أن نثبت أيضاً بنفس هذا المنهج وثاقة أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد؛ لأنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) أكثر في الجزء الأوّل من التهذيب والجزء الأوّل من ا لاستبصار روايته عن محمّد بن الحسن بن الوليد بواسطة المفيد عن أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه(1)


(1) راجع بهذا الصدد أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد في تفصيل طبقات الرواة للسيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ج 2، ص 627.

177

ـ أعني: (رفع ما لا يعملون) ـ فإن أمكن تصحيح سنده نفعنا في المقام.

والإشكال في سند هذا الحديث يكون من جهتين:

الجهة الاُولى: أنّ الراوي عن الإمام في هذا الحديث هو إسماعيل الجعفيّ. وتحقيق الحال بلحاظ هذا الراوي ما يلي:

ذكر النجاشيّ في فهرسته: إسماعيل بن جابر الجعفيّ روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله(عليهما السلام)، وهو الذي روى حديث الأذان(1)، له كتاب ذكره محمّد بن الحسن بن الوليد في فهرسته أخبرنا أبو الحسين عليّ بن أحمد قال: حدّثنا محمّد بن الحسن، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عنه.

وذكر الشيخ الطوسيّ في فهرسته إسماعيل بن جابر من دون توصيف له بالجعفيّ أو بغيره، وقال: له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن الصفّار، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن صفوان، عن إسماعيل بن جابر، ورواه


مقتصراً على ذكر هذا السند مع أنّ له في الفهرست سنداً لا شكّ في تماميّته إلى محمّد بن الحسن بن الوليد الذي أخذ تلك الاحاديث من كتابه أو من كتاب من قبله، لا من كتاب أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد؛ إذ لم يعرف له كتاب، ولا من كتاب المفيد؛ إذ نقل عنه بعنوان (أخبرني) مع أنّ أكثر كتب المفيد ليست روائيّة، ومع أنّ القاسم المشترك في هذه الأسانيد الكثيرة إذا كان عبارة عن المفيد، عن أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه فهذا دليل على أنّ كلّ تلك الروايات أو جلّها مأخوذة من كتاب محمّد بن الحسن بن الوليد.

(1) إشارة إلى الحديث المذكور في الكافي، ج 3 بحسب الطبعة الجديدة، باب بدء الأذان والإقامة من كتاب الصلاة، ح 3، ص 302 و 303.

178

حميد بن زياد، عن القاسم بن إسماعيل القرشيّ عنه.

وذكر الشيخ الطوسيّ في رجاله عنوان (إسماعيل بن جابر) من دون توصيف في أصحاب موسى بن جعفر(عليه السلام)وقال: (روى عنهما ـ يعني الباقر والصادق(عليهما السلام) ـ أيضاً).

وذكر أيضاً في رجاله عنوان (إسماعيل بن جابر الخثعميّ الكوفيّ) تارةً في أصحاب الصادق(عليه السلام) من دون توثيق له، واُخرى في أصحاب الباقر(عليه السلام)قائلاً عنه: (ثقة ممدوح، له اُصول رواها عنه صفوان بن يحيى).

وقد ظهر بهذا العرض أنّ النصّ على التوثيق إنّما ورد بشأن إسماعيل بن جابر الخثعميّ، بينما راوي الحديث في المقام إنّما ذكر بعنوان إسماعيل الجعفيّ، فلو استبعدنا خروج إسماعيل الجعفيّ من دائرة هذه العناوين الثلاثة التي نقلناها عن النجاشيّ والشيخ فهو ينطبق على إسماعيل بن جابر الجعفيّ لا على إسماعيل بن جابر الخثعميّ، فكيف نثبت وثاقته؟

وطريق حلّ هذا الإشكال هو تبعيد احتمال التعدّد في المقام بافتراض انطباق الجعفيّ على الخثعميّ، كما لو فرض أنّ خثعم حيّ من الأحياء وأنّ الجعفيّ نسبة إلى رأس تلك القبيلة مثلاً، أو فرض أنّ كلمة الخثعميّ تصحيف لكلمة الجعفيّ(1).

والواقع: أنّ استبعاد احتمال التعدّد في المقام في محلّه، فإسماعيل بن جابر الخثعميّ مع إسماعيل بن جابر الجعفيّ منطبقان على شخص واحد وليسا شخصين؛ لأنّنا لو بنينا على تعدّدهما فلا يخلو الأمر من أحد فرضين:

الأوّل: أن يفترض أنّ مراد الشيخ من إسماعيل بن جابر الخثعميّ الذي ذكره



(1) أو أنّ كلمة الجعفيّ هي الخطأ، والصحيح هو الخثعميّ، كما اعتقده الشيخ التستريّ في قاموس الرجال.

179

في رجاله وإسماعيل بن جابر الذي ذكره في فهرسته واحد، وأنّ إسماعيل بن جابر الجعفيّ الذي ذكره النجاشيّ شخص آخر.

والثاني: أن يفترض أنّ إسماعيل بن جابر الخثعميّ الوارد في رجال الشيخ مغاير لإسماعيل بن جابر الوارد في فهرسته، ولإسماعيل بن جابر الجعفيّ الوارد في فهرست النجاشيّ، ولكلّ من هذين الفرضين مبعّدات إلى حد يحصل الظنّ الاطمئنانيّ بعدمه.

أمّا الفرض الأوّل: وهو اتّحاد إسماعيل بن جابر وإسماعيل بن جابر الخثعميّ الواردين في كلام الشيخ مع مغايرته لإسماعيل بن جابر الجعفيّ الوارد في كلام النجاشيّ، فيبعّده اُمور:

الأوّل: أنّه ـ بناءً على التعدّد ـ يلزم افتراض أنّ النجاشيّ لم يذكر في المقام إسماعيل بن جابر الخثعميّ الذي شهد الطوسيّ بوثاقته وممدوحيّته، وله اُصول، ويروي عنه المشايخ من قبيل صفوان. وعدم ذكر النجاشيّ لشخص من هذا القبيل مع تمام تتبّعه واهتمامه بعيد، خصوصاً ـ على ما يقال ـ من أنّ النجاشيّ أوسع وأدقّ من الشيخ باعتبار اختصاصه بهذا الفنّ.

والثاني: أنّه يلزم ـ على التعدّد ـ أنّ الشيخ أهمل في كلا كتابيه الفهرست والرجال مثل إسماعيل بن جابر الجعفيّ الذي ذكره النجاشيّ، وهو كثير الرواية جدّاً، وكان الشيخ(رحمه الله)معاصراً للنجاشيّ، وعلى علاقة به، فكيف لم يطّلع على إسماعيل بن جابر الجعفيّ، وقد تعهّد في مقدّمة كلّ من كتابيه ببذل قصارى جهده وطاقته في الاستقصاء، خصوصاً أنّ إسماعيل بن جابر الجعفيّ مذكور في رجال الكشّي الذي لخّصه الشيخ الطوسيّ وذكر عنه بعض الروايات، ولا يوجد في رجال الكشّي إسماعيل بن جابر الخثعميّ. وحينما نلاحظ التهذيب والاستبصار للشيخ الطوسيّ نرى أنّه يروي فيهما عن إسماعيل الجعفيّ تارةً، وعن إسماعيل

180

بن جابر اُخرى، ولا يذكر ولا مرّةً واحدة عن إسماعيل الخثعميّ في حدود فحصي لهذين الكتابين، وكيف نحتمل أنّ الشيخ ذكر في كتابيه في الرجال الخثعميّ الذي لم يروِ عنه ولا مرّة واحدة، ولا يذكر الجعفيّ الذي روى عنه روايات كثيرة؟!

والثالث: أنّ طريق النجاشيّ إلى إسماعيل بن جابر الجعفيّ، وطريق الشيخ إلى إسماعيل بن جابر متّحد في جميع رجاله، فمن البعيد جدّاً تعدّدهما، واتّحاد الطريقين في جميع رجاله صدفةً.

وهنا وقع سقط في كتاب الشيخ المامقانيّ(1) حيث نقل سند النجاشيّ إلى إسماعيل بن جابر الجعفيّ هكذا: أخبرنا أبو الحسين عليّ بن أحمد قال: حدّثنا محمّد بن الحسن، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عنه. ونقل سند الشيخ إليه هكذا: أخبرنا به ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن الصفّار، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن صفوان، عنه. فيتراءى أنّ السندين يختلفان في وجود الصفّار وعدمه، لكن الواقع أنّ المذكور في رجال النجاشيّ هكذا: (محمّد بن الحسن عن محمّد بن الحسن) والأوّل هو ابن الوليد، والثاني هو الصفّار، وفي كلام الشيخ حيث لم يذكر بالاسم فلم يقع تكرار في اللفظ لم تبتلِ عبارة كتاب الشيخ المامقانيّ بالسقط، ولكن ابتلت بالسقط عند نقل كلام النجاشيّ.

وأمّا الفرض الثاني: وهو فرض كون الخثعميّ غير الجعفيّ وغير إسماعيل بن جابر الذي جاء في كلام الشيخ مطلقاً ـ أي: من دون توصيف ـ فهذا أيضاً يبعّده اُمور:

الأوّل: نفس المبعّد الأوّل في الفرض الأوّل.



(1) راجع رجاله، ج 1، ص 130.

181

والثاني: أنّ الشيخ لماذا لم يذكر الخثعميّ في فهرسته مع كونه صاحب أصل مع اطّلاعه عليه، وتعّهده في مقدّمة الكتاب بالاستيعاب بقدر الإمكان.

والثالث: وحدة الراوي المباشر عن جابر بعناوينه الثلاثة المذكورة في كتاب النجاشيّ وكتابي الشيخ، وهو صفوان.

وقد نقل الشيخ المامقانيّ(رحمه الله) في رجاله عن جملة من المدقّقين أيضاً الجزم بالوحدة(1).

وهناك طريق آخر لتوثيق إسماعيل بن جابر الجعفيّ بقطع النظر عن اتّحاده مع الخثعميّ، وهو أنّ سند النجاشيّ إليه ينتهي بصفوان كما عرفت، وصفوان أحد الثلاثة الذين شهد الشيخ الطوسيّ(رحمه الله)بأنّهم لا يروون إلاّ عن ثقة.

بقي في المقام احتمال أن يكون إسماعيل الجعفيّ الذي روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى شخصاً آخر غير إسماعيل بن جابر، وإسماعيل بن جابر الجعفيّ أو الخثعميّ، فلعلّ إسماعيل الجعفيّ في المقام عبارة عن إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ(2).

وما ذكره النجاشيّ في ترجمة إسماعيل بن جابر الجعفيّ من أنّه (هو الذي روى حديث الأذان) مشيراً بذلك إلى حديث عن الأذان مرويّ عن (إسماعيل الجعفيّ) لا يدلّ على أنّه متى ما ذكر عنوان (إسماعيل الجعفيّ) كان المقصود به إسماعيل بن جابر الجعفيّ، بل لا يبعد أنّ النجاشيّ إنّما نبّه على كونه هو راوي



(1) راجع رجال الشيخ المامقانيّ، ج 1، ص 131.

(2) ويوجد أيضاً في أصحاب الباقر(عليه السلام) إسماعيل بن عبد الخالق الجعفيّ، إلاّ أنّه قد يقال باستبعاد حمل إسماعيل الجعفيّ عليه، حيث لم تعرف رواية لهذا الاسم إلاّ رواية واحدة.

182

رواية الأذان بنكتة أنّ المقصود من عنوان (إسماعيل الجعفيّ) في الروايات عادةً هو إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ، فلمّا كان المقصود في خصوص هذه الرواية ابن جابر احتاج ذلك إلى التنبيه عليه حتّى لا يحمل على ما هو المتعارف، فنبّه النجاشيّ على ذلك.

ويشهد لكون المقصود من إسماعيل الجعفيّ حينما يطلق هو إسماعيل بن عبد الرحمن أنّه لا توجد رواية ـ بعد التتبّع في الكتب الأربعة ـ لإسماعيل الجعفيّ يروي عن غير الإمام الباقر(عليه السلام). نعم، إسماعيل بن جابر يروي في المئة خمساً وتسعين عن الإمام الصادق(عليه السلام)، فلو ضممنا هذه الملازمة الاتّفاقيّة إلى ما نعرفه من أنّ ابن عبد الرحمن هو من أصحاب الإمام الباقر(عليه السلام)، وأنّه بقي إلى حياة الإمام الصادق(عليه السلام)، ولا يذكر في تأريخه أنّه روى شيئاً عن الإمام الصادق(عليه السلام)بخلاف ابن جابر، فإنّه من أصحاب الصادق(عليه السلام)لاستبعدنا هذه الصدفة. فلو فرض أنّ إسماعيل الجعفيّ هو ابن جابر فكيف اتّفق صدفةً أنّه متى ما عنون بعنوان إسماعيل الجعفيّ يروي عن الإمام الباقر(عليه السلام)، ومتى ما عنون بعنوان إسماعيل بن جابر ففي المئة خمساً وتسعين يروي عن الإمام الصادق(عليه السلام)وتكون روايته عن الباقر(عليه السلام) قليلة جدّاً. وحلّ هذه الصدفة هو إبداء احتمال أن يكون المراد بإسماعيل الجعفيّ عادةً هو إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ الراوي عن الباقر(1). وفي خصوص رواية الأذان يعرف أهل الخبرة أنّ إسماعيل الجعفيّ


(1) قد يكون هذا قرينة ناقصة على صحّة حدس الشيخ التستريّ الذي ادّعى في رجاله أنّ إسماعيل بن عبد الرحمن هو الجعفي. وأمّا إسماعيل بن جابر فهو خثعميّ وليس جعفيّاً، وأنّ السبب في هذا الاشتباه أنّ جابر الجعفيّ مشهور فتخيّل أنّ إسماعيل بن جابر

183

هو ابن جابر، فنبّه النجاشيّ على ذلك.

فإذا احتملنا أنّ إسماعيل الجعفيّ الراوي لحديث الرفع هو ابن عبد الرحمن فقد سقط الحديث عن الاعتبار؛ لأنّ ابن عبد الرحمن لم يوثّق من قبل أحد ممّن يكون توثيقه حجّة(1)، ولا طريق إلى توثيقه إلاّ رواية صفوان عنه، حيث شهد الشيخ الطوسيّ بأنّ صفواناً لا يروي إلاّ عن ثقة، لكن رواية صفوان عنه إنّما وقعت في سند الصدوق في مشيخته إلى إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ، وقد وقع في السند قبل صفوان من لم يثبت توثيقه.

 


هو ابن لجابر الجعفيّ. ولو صحّ هذا الكلام فقول النجاشيّ(رحمه الله): «هو الذي روى حديث الأذان» اشتباه. ويبعّد ذلك أنّ هذا الكلام عناية خاصّة من النجاشيّ بالموضوع، فيستبعد خطأُه، ففرق بين أن يعبّر صدفة عن الخثعميّ بالجعفيّ خطأ وبين أن يتقصّد حديثاً لإسماعيل الجعفيّ كي يوضّح أنّه إسماعيل بن جابر. هذا وللشيخ الصدوق(رحمه الله) رواية عن إسماعيل بن جابر الجعفيّ، راجع الفقيه، ج 3، ح 1615. وممّا يؤيّد كون الخثعميّ تصحيفاً للجعفيّ أنّ ما ورد في رجال الشيخ بعنوان (إسماعيل بن جابر الخثعميّ) قد ورد في كتاب المولى القهبائيّ نقلاً عن رجال الشيخ بعنوان (إسماعيل بن جابر الجعفيّ) فيحتمل أنّ النسخة التي كانت من رجال الشيخ لدى المولى القهبائيّ كانت بعنوان الجعفيّ لا الخثعميّ.

ولكن يحتمل أيضاً أن يكون هذا تصحيحاً من قبل نفس المولى القهبائيّ. والظاهر أنّ أقوى الاحتمالات كون الخثعميّ تصحيفاً للجعفيّ ولو على أساس التشابه بينهما في الخطّ الكوفيّ.

(1) ذكر النجاشيّ في ترجمة بسطام بن الحصين بن عبد الرحمن الجعفيّ بن أخي خثيمة: (وإسماعيل كان وجهاً في أصحابنا، وأبوه وعمومته، وكان أوجههم إسماعيل، وهم بيت بالكوفة من جعفي.....) فقد تدّعى دلالة ذلك على وثاقته.

184

ولكن يمكن أن يقال في المقام: إنّ رواية أحمد بن محمّد بن عيسى، عن إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ غير محتملة؛ لأنّه قد نصّ في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ على أنّه مات في حياة الإمام الصادق(عليه السلام)، وأحمد بن محمّد بن عيسى وإن كنّا لم نضبط تأريخ وفاته، ولكن ورد في ترجمته أنّه حضر جنازة أحمد بن محمّد بن خالد حافياً حاسراً(1). وقد جاء في ترجمة أحمد بن محمّد بن خالد أنّه توفّي في سنة 274، إذن فأحمد بن محمّد بن عيسى كان حيّاً في سنة 274 ـ أي: بعد وفاة الإمام الصادق(عليه السلام)بمئة وستّ وعشرين سنة ـ فلو فرض أنّه كان يروي عن إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ الذي توفّي في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) للزم أن يكون عمره ـ على الأقلّ ـ مئة وخمساً وأربعين سنة مثلاً، وهذا مضافاً إلى بعده في نفسه مطمأنّ بعدمه بلحاظ عدم النصّ عليه في كتب الرجال، وهم ينصّون عادةً على المعمّر كي لا يقع الاشتباه من هذه الناحية. فنحن وإن كنّا نميل ميلاً قويّاً بلحاظ ما مضى إلى أنّ إسماعيل الجعفيّ متى ما يطلق يراد به إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ، لا إسماعيل بن جابر الجعفيّ(2) لكن في خصوص حديث الرفع قد يجعل ما ذكرناه من عدم إمكان رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عنه قرينة على كون المقصود به ابن جابر الجعفيّ لا ابن عبد الرحمن.



(1) هذا غير ثابت؛ إذ لم يرو إلاّ من قِبل العلاّمة(رحمه الله) في الخلاصة نقلاً عن كتاب مجهول.

(2) وإن كان يطلق أيضاً نادراً على إسماعيل بن جابر الجعفيّ كما في رواية الأذان على ما قاله النجاشيّ، وكما فيما رواه الكلينيّ في الكافي ـ ج 6، الباب 20، من كتاب الطلاق، ح 1 و 3 ـ عن إسماعيل الجعفيّ، ورواه الصدوق بعينه في الفقيه ـ ج 3،ح 1615 ـ عن إسماعيل بن جابر الجعفيّ.

185

ولكن الواقع: أنّ هذا لا يشفع لتصحيح سند الحديث في المقام، فإنّ رواية أحمد بن محمّد بن عيسى، عن إسماعيل بن جابر الجعفيّ الذي هو من أصحاب الباقر والصادق(عليهما السلام) من دون واسطة يطمأنّ بخلافه، فإمّا أنّ إسماعيل الجعفيّ هنا شخص آخر لا نعرفه، وإمّا أنّ الواسطة بينه وبين أحمد بن محمّد بن عيسى محذوف. ويؤيّد عدم كون أحمد بن محمّد بن عيسى هو الراوي المباشر لحديث الرفع عن إسماعيل بن جابر الجعفيّ المعروف اُمور:

الأوّل: أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى روى في روايات عديدة عن إسماعيل بن جابر بواسطة البرقيّ.

الثاني: أنّه لم ينقل عن أحمد بن محمّد بن عيسى في الفقه كلّه في غير المقام أنّه روى عن الإمام الصادق(عليه السلام)بواسطة واحدة، بل في جميع رواياته ـ بمقدار تتبّعي في الكتب الأربعة ـ يروي إمّا بواسطتين أو بثلاث وسائط عن الإمام الصادق(عليه السلام). وفي هذه الرواية يروي بواسطة واحدة وهي إسماعيل الجعفيّ، وتأريخ أحمد بن محمّد بن عيسى يقتضي أن يروي بأكثر من واسطة؛ لأنّ الإمام الصادق(عليه السلام) توفّي سنة 148 وأحمد بن محمّد بن عيسى كان حيّاً إلى سنة 274، فالفارق بينه وبين الإمام الصادق(عليه السلام) يكون 126 سنة، فمن المستبعد جدّاً وحدة الواسطة بينه وبين الإمام الصادق(عليه السلام)، إلاّ أن يفرض طول عمر مهمّ في الواسطة.

الثالث: أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى ينقل في كتاب النوادر الذي أخذ عنه صاحب الوسائل هذا الحديث ينقل فيه حديث الرفع أيضاً بصيغة اُخرى عن الحلبيّ، وهذا أشكل؛ فإنّنا إن لم نعثر على تصريح بزمان وفاة إسماعيل بن جابر فقد صرّح بعض علماء الرجال بأنّ الحلبيّ توفّي في أيّام الإمام الصادق(عليه السلام)، فالحلبيّ يكون من قبيل إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفيّ الذي لا نحتمل رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عنه، وقد نقل حديث الرفع عن الحلبيّ وعن إسماعيل

186

الجعفيّ في سياق واحد، فكون هذه الرواية مردفة برواية اُخرى يقطع فيها بالإرسال، وإسقاط الواسطة يقوّي احتمال إسقاط الواسطة في المقام(1).

الرابع: أنّ الشيخ والنجاشيّ طريقهما إلى إسماعيل بن جابر يمرّ بمحمّد بن عيسى بن عبيد، عن صفوان، عن إسماعيل بن جابر، ومحمّد بن عيسى بن عبيد من مشايخ أحمد بن محمّد بن عيسى، فإذا كان شيخه يروي عن إسماعيل بن جابر بالواسطة فكيف أصبح هو يروي عنه بلا واسطة؟

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ الحديث ساقط سنداً.

الجهة الثانية: أنّ هذا الحديث يرويه صاحب الوسائل بسنده إلى أحمد بن محمّد بن عيسى. ومن هنا يتوجّه الإشكال الثاني، وهو أنّ سند صاحب الوسائل إلى أحمد بن محمّد بن عيسى إنّما يكون بواسطة سند الشيخ إليه، وسند الشيخ إلى كلّ روايات أحمد بن محمّد بن عيسى ليس سواء، فله عدّة أسانيد كلّ منهما سند إلى طائفة من رواياته، بعضها تامّ، وبعضها غير تامّ؛ لوجود أحمد بن محمّد بن



(1) لا يخفى أنّنا لو كنّا نقبل رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عن الإمام الصادق(عليه السلام)بواسطة واحدة، وكانت المشكلة في روايته عن الحلبيّ منحصرة في مشكلة التصريح بوفاة الحلبيّ في زمان الأمام الصادق(عليه السلام)أمكن أن يدّعى أنّ انصراف كلمة (الحلبيّ) إلى الحلبيّ المشهور وهو محمّد بن علي بن أبي شعبة إنّما يكون حينما يرد على لسان من ينقل عنه ممّن أدركه، أمّا حينما يرد على لسان من ينقل عنه ممّن لم يدرك محمّد بن علي بن أبي شعبة فهو محمول على غيره، فليحمل في المقام على يحيى بن عمران الحلبيّ، وهو أيضاً ثقة وهو يروي عن الصادق وعن الكاظم(عليهما السلام)، وحديث الرفع الذي رواه الحلبيّ مرويّ عن الصادق(عليه السلام). وعلى أيّ حال فالمهمّ في المقام أنّ فرض نقل أحمد بن محمّد بن عيسى عن الصادق(عليه السلام)بواسطة واحدة يطمأنّ بخلافه.

187

يحيى فيه(1)، وهو لم يثبت توثيقه إلاّ بناءً على قاعدة أنّ مشايخ الثلاثة ـ أعني: مشايخ الصدوق والكلينيّ والشيخ ـ ثقات، وهذه القاعدة غير تامّة عندنا، فمن هنا يقع الإشكال.

والكلام في رفع هذا الإشكال يقع على مستويين:

الأوّل: رفعه على مستوى هذا الحديث الموجود فيه (رفع ما لا يعلمون).

والثاني: رفعه على مستوى مطلق ما ينقله الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى.

أمّا على المستوى الأوّل: فهذا الإشكال مرفوع في المقام؛ لأنّ صاحب الوسائل



(1) يوجد في أحد تلك الأسانيد الحسين بن عبيد الله عن أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنّه ـ بناءً على ما مضى منّا في ذيل حديث الرفع المنقول في الخصال والتوحيد من بيان لتوثيق أحمد بن محمّد بن يحيى والحسين بن عبيد الله الغضائريّ ـ يكون الإشكال محلولاً بلحاظهما، لكنّه يبقى الإشكال من ناحية وجود ابن أبي جيد في سند آخر له. وهذا أيضاً يمكن حلّه بأنّ الشيخ الطوسيّ ذكر في الفهرست سندين له إلى جميع كتب وروايات أحمد بن محمّد بن يحيى:

أحدهما: عدّة من أصحابنا منهم الحسين بن عبيد الله وابن أبي جيد، عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن أبيه و سعد بن عبد الله، عنه.

والثاني: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن محمّد بن يحيى، والحسن بن محمّد بن إسماعيل، عن أحمد بن محمّد. وقد مضى منّا في ذيل حديث الرفع المنقول في الخصال والتوحيد توضيح وثاقة الحسين بن عبيد الله، وأحمد بن محمّد بن يحيى، وأحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد. ولو وسوسنا في السند الثاني ـ لعدم معرفتنا للعدّة التي نقلت عن أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد ـ كفانا السند الأوّل.